.
على سور كنيسة مار يوسف في حارة حريك، قبالة فسيفساء ضخمة لآية الله الخميني تغطّي واجهة مبنى تجمع العلماء المسلمين، اختار أحدهم أن يخلّد ذكرى أبو ليلى الزير بسبراي أسود وخط رديء على الجدار RIP ABO LAYLA LZIR. وددت تصويرها ولكني عرفت أن ذلك سيصعب خروجي من الحي قطعةً واحدة.
بين صاحبنا أبو ليلى الزير والزير الأصلي، أبو ليلى المهلهل، قرونٌ طويلة ومسافات أوسع من الأرض، لكن يجمع بينهما ما هو أهم وأكبر، إنّها صنعة اللغة والبراعة الفطرية في تطويع الكلمات. إذا كان عدي بن ربيعة أول من هلهل الشعر عند العرب، فحسن المحمد هو أوّل من هلهل الراب عندنا في لبنان، أي أطلقه على السليقة دون تنقيح.
قضى عدي بن ربيعة حياته في نعي شقيقه كليب وفي طلب الثأر من بكر، أمّا أبو ليلى فلم تمنحه الحياة وقتًا ليبكي على أحد. سطع نجمه سريعًا وتربّع ملكًا متوّجًا على عرشه، لكن جسده انطفأ بسرعة. رغم ذلك، ومع مرور قرابة خمسة أعوام على وفاته إلّا أن ذكرى أبو ليلى الزير ما زالت حاضرةً بين الناس، ولم يزل ذكره جاريًا على ألسنتهم.
ولد حسن المحمد، المعروف بـ أبو ليلى الزير، في بيروت عام ١٩٩١، لأبٍ سوري وأم لبنانية، وتوفي في الثالث من تموز عام ٢٠١٣ في ظروف غامضة. في تسجيل رفعه على يوتيوب في آب من العام ٢٠١٢ يقول: “ما صرلي سنة بغني راب، يعني ما قبعت ضراسي باللعبة، وشفت إنه بالراب ما في أصحاب.” يعني ذلك أنّ كلّ نتاجه الذي لم يزد عن عشرين أغنية أنجز بين عامَي ٢٠١١ و٢٠١٣ على أبعد تقدير. تنوّعت ثيمات هذه الأغاني وموسيقاها لكن بقيت روحٌ واحدة غالبةً عليها، إذ تقوم معظمها على استعراض الفحولة والمقدرة المنقطعة النظير على إغواء النساء مع الإفراط في تعاطي المخدرات والحضور الدائم للسلاح. يعبّر عن كلّ ذلك بمعجم واسع من المصطلحات والعبارات البذيئة التي تتدرّج في تركيباتها إلى مستويات لا تخطر على البال.
تعتبر أغنية نيك إخت رومية أشهر أغاني أبو ليلى، مع قرابة مليون وثمانمئة ألف مشاهدة على يوتيوب، وهي على ذلك أفضل نموذج عن أغانيه لاحتوائها على معظم الثيمات التي تقوم عليها أغنيته. يأخذنا أبو ليلى الزير هنا إلى عالم الجريمة في الضاحية وبيروت، معلنًا عن عدم اكتراثه بالقانون. يلوّح أبو ليلى بقضيبه في وجه الدولة والأجهزة الأمنية، لا يكترث بالبرلمان ولا بالحكومة ولا يخشى أن يهدّدهم “حتى لو كنت الرئيس رصاصة بألف وخمسمية سعرك.”
من الرؤساء إلى المتشردين، يتساوى الجميع تحت أبو ليلى، فهو القائل: “بمشي ع رقابكم كلكم متل ما بمشي ع البيت.” من هنا يصير كلّ شيء مباحًا أمام إسكوبار الضاحية، من عدم دفع ضبط السير، إلى إطلاق النار، وصولًا لأخذ الخوّات وبيع المخدرات، فهو “المافيات كلن معاشرها” ولا يخشى السجن فلديه “غرفة برومية (السجن) كل سنة بسنة بأجّرها”، وهو يردّد الشائعات التي تدور حوله: “عم يطلع عني أخبار إني بقوص بلا ما لقم.” على المنوال نفسه تجري بقية الأغنية إلى أن تصل إلى ذروتها مع تكراره عبارة: “نيك إخت رومية نيك إخت الدولة.”
في هذه الأغنية، كما في أغانيه الأخرى، يكرّس أبو ليلى الزير قضيبه كرمز أوحد لسلطته وقوّته وقدراته الجنسية، ويصير من الممكن استبدال أيّ شيءٍ به، فخلف قضيبه الذي يقتل برأسه، كما يقول، تجري أجهزة المخابرات، وبه أيضًا “سكّس نصّ الشي موريس” بيت الدعارة الذي اشتهر العام الماضي إثر الكشف فيه عن واحدة من أكبر شبكات الإتجار بالنساء في لبنان. من خلال هذه الأغنية وغيرها يتّضح مقدار حضور الجنس وأهميته في حياة الزير.
على درب محمد عبد الوهاب في حكيم عيون، يفتتح أبو ليلى الزير أغنيته روميو وجولييت بحوار مع الطبيبة المعالجة، بحثًا عن علاج لمرضه، فـ “العالم بتتنفس هوا” بينما يتنفس أبو ليلى “نسوان” وهو لهذه الغاية جاء يبحث عن “دوا ليوقف هالإدمان.” ينطلق الزير بعد ذلك في وصف حادثة تتكرّر معه يوميًا: تثير فتاة “تيابها شيك ولابسة تنورة سكسي” إعجابه في الشارع، وبعد أن ترفضه في البداية، تستسلم له سريعًا. سقطت “الفتاة الشيك” و”لزقت فيي متل خيالي.” لكن وككل مرّة “شي أنجق فليت من عندا عزفت لواحدة تانية. اللي دوختني بالساعات نسيتا بأقل من ثانية.” تبدو الأغنية “ذمًّا في مقام المدح” بالنسبة لأبو ليلى، فهو حتّى بعد تعبيره عن رغبته بالتغيّر: “بدي اتغيّر لصير شاب بحس بطعم الحب، ما بقى بدي كون الزير”، يعود سريعًا إلى تصوّره الأوّل: “أنا بفوش عـ الحريم، هي بتغرق بغرامي، صاروا يعيطولي حكيم قد ما بيرتاحوا عـ كلامي، عيني بيضا متل قلبي، قربي شوفي تعي لاقيني بالتلاجة لأنّك دغري رح بتدوبي…”
لا يجد أبو ليلى الزير صورة للفحولة خارج علاقاته النسائية المتعدّدة التي يكون فيها دائمًا موضوعًا للعشق بدل أن يكون عاشقًا، لذا يسخر في أغنيته من روميو وعنترة وقيس، ليبدو أشبه بنسخة معاصرة من الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة. حتى أن شعر ابن أبي ربيعة “الإباحي” سيبدو طفوليًا مقارنةً بأغنية أبو ليلى الزير الثانية زير نسوان. في هذه الأغنية يكسر أبو ليلى محظورات عديدة بكلمات متهتكة منفلتة من أي ضوابط. لا يكتفي أبو ليلى هنا بالتلميح بل ينتقل إلى التصريح والشرح.
لا تنجو أنثى على سطح الكوكب من أبو ليلى الزير في هذه الأغنية، فهو “ما بصاحب غير أربعة أربعة”، و”كل ما بصف السيارة بلاقي بحبك عـ القزاز.” حتّى النجمات وقادة الدول لم ينجين منه، فـ “مادونا تركت قصرها، كلينتون عطيتني الفيزا.” وكلّ ذلك عائد إلى قلبه الكبير فهو “لو راكض ورا الجمال ما ترك ميغان فوكس” ولا يعير فارق السنّ اهتمامًا وإلّا لما “صاحب نجاة الصغيرة.” بعد ذلك نجده يوجه واحدة من دساته إلى إمينم.
على الرغم من كلّ ذلك، وعلى الرغم من قوله “إبن شارع بدي موت، إبن شارع هيدا صيتي”، إلّا أنّه في أغنية أخرى هي أنا الواقع، يصوّر أبو ليلى الزير الظروف التي أوصلته إلى ما هو عليه، كاشفًا عن الجانب العاطفي والحساس في شخصيته، “من يوم اللي وعيت ع الدنيا فقت عـ كذب اللي حوليي / بلا إيد افتكروني تركوني وحيد / حتى بين اللي بيقربوني صرت عم لاقي حالي غريب.” مع ذلك عندما يسأله أحد رفاقه عمّا سيفعله لو كان غنيًّا يقول إنّه سيركب أفخم السيارات ويرافق “أطيب بنات”، و”يطلع عـ الإم.تي.في.” لكنّه سرعان ما يراجع نفسه ويختار مسارًا طهرانيًا بعيدًا عن كلّ ما سبق، فيقول “كنت من جوا قلبي بساعد كل فقير/ كنت عملت إشيا كتير مش للدنيا لآخرتي / كنت بعالج رفقاتي من الإدمان والتعاطي/ كنت وقتها بس بقرر اختار شريكة حياتي.”
لا يخرج أبو ليلى في هذه الأغنية من عالمه السفلي الذي لا نعرف إلى أيّ درجةٍ كان متورّطًا في نشاطاته، لكنّه يقدّم وجهة نظرٍ مختلفة. إذ أنّ صورة فحولته المنقطعة النظير وبطولته المطلقة التي يهتزّ لها العالم كلّما هزّ قضيبه تضمحل بمجرّد تصوّره إمكانية حياة أخرى أكثر عاديةً وبلا مشاكل، عندها “كنت إسمي ما بخبي وببطّل أبو ليلى الزير.”
لم تتوقّف الشائعات حول الزير مع وفاته بل تضخمت. فهناك مثلًا قصة اغتياله على يد الماسونية لفضحه لها. عزّز هذه الفرضية إطلاق أبو ليلى أغنية ضد الماسونية قبل أقلّ من شهر على موته برصاصة انطلقت من سلاح كان بحوزته. في ضدّ الماسونية يكشف الزير، حسب اعتقاده، دور المنظمة الماسونية في حرف الربيع العربي عن مساره، ملقيًا عليها المسؤولية عن كلّ الفظائع والمشاكل الموجودة في العالم، ومعلنًا بوضوح أنّه لا يخشى الموت.
اليوم هناك الكثير من الصفحات والحسابات الشخصية على فايسبوك التي تحمل اسم أبو ليلى الزير، فيها صورٌ له يقف في الكثير منها عاري الصدر وبيده سلاح، أو يحتضن فتياتٍ لا تظهر وجوههن، أو يجلس مع أصدقاءٍ له في سيارة مكشوفة. على هذه الصفحات، كما على فيديوهاته على يوتيوب يتواصل النقاش بين محبيه عن أيّ الفرضيات هي الأصح. دفع ذلك أحد المواقع المحليّة لتصوير تقرير عن “القضية الغامضة التي شغلت المجتمع اللبناني”، يظهر في نهايته راقص الهيب-هوب سانتو، أحد أصدقاء أبو ليلى الذي يظهر معه في أحد الكليبات، ليؤكّد أنّه قتل نفسه عن طريق الخطأ أثناء تنظيفه لسلاحٍ كان بحوزته.
لا يمكن عزل هذا الحضور المستمرّ لأبو ليلى عن البيئة الاجتماعية التي جاء منها. هو الذي جاء من الأحياء الأكثر فقرًا في الضواحي، تكلّم بلسان شبّانها، لم يهذّب لغته خوفًا من أن تخدش حياء أبناء الطبقة الوسطى، ولم يراع أي خطاب حقوقي أو إنساني. نقل أبو ليلى الزير في أغانيه كلامًا من الممكن أن نسمعه في الشارع أو على القهوة أو خلال ركوبنا الباص أو سيارة أجرة، ومن هنا تأتي شعبيته الجارفة. قد لا يخصّص الكتاب والمثقفون وقتًا من حياتهم ليكتبوا سيرته أو مسلسلات تحمل اسمه مثل قريبه الزير سالم، إلّا أنّه سواء أحببنا أغانيه أم لا، ستظل أسطورة أبو ليلى الزير حاضرة في الحارات الشعبية، تتغذى وتتوسّع على قصصٍ تتناقل وتنمو على ألسنة المنسيين.