fbpx .
سليكباك | مراجعة ألبوم أتريشن

أتريشن | سليكباك

رامي أبادير ۲۰۲۵/۰۷/۳۱

مر سليكباك منذ بدايته في ٢٠١٨ بمراحل عدة وقرارات فنية مدروسة مثيرة للتأمل. شق طريقه وسط مشهد الموسيقى الراقصة بهجين من جنرات عدة مع تسجيلات هاكونا كولالا، أعقبها سريعًا بإقامة فنية في الصين وتعاونات مع فنانين من تسجيلات سبكالت. كانت فترة ضاربة للمنتج الكيني بلا شك، شارك فيها في العديد من المهرجات الإلكترونية، وإن كان هناك تراك يلخص تلك الفترة، فهو ريمسكه لتراك بلاك بيبر لـ هايفي الذي يمكن اعتباره الآن كلاسيكيًا.

أغلق سليكباك سريعًا هذا الفصل من مسيرته باستراحة، مصرحًا لي في مقابلتي معه: “الناس تعرفني بنوع موسيقى واحد فلم أحظ بالفرصة لأريهم جانبًا آخر لي. هذا لا يعني أن أكف عن إنتاج موسيقى الكلَب، لكنني سأجرّب بقدر المستطاع في أي شيء، حتى الهاوس والجُم المباشر. أتمنى في المستقبل أن أنتج موسيقى مخصصة للاستماع لجمهور جالس، موسيقى للاستماع وليست للرقص.”

لم يستغرق الأمر طويلًا، ففي خريف ٢٠٢٢ ولمدة عام تعاون مع الفنان البصري ويردكور في عرض فويد. تأكدت عند مشاهدتي للعرض في مهرجاني أنساوند وريواير أنه نجح بالفعل فيما أقدم عليه؛ ففي حين كان الكل يتصوّرون أنه بصدد عرض راقص مطابق للفصل الأول من مسيرته، فاجأ الجميع بشحنة مركزة من الضجيج والسب بايس والأصوات الإلكترونية اللادغة. وصلة حية حافلة بالديناميكية ومحملة بمشاعر غاضبة، تلك المشاعر وذلك الصوت الحاد الذي يحب أن يصفه البعض، متكاسلًا، بالديستوبيا والمستقبلية. كشف سليكباك في ذلك المشروع عن ولعه بالنويز وإن ظهرت ملامحه قليلًا في إصدار تومو في تراك ريج.

أثناء تلك الفترة وقبلها، بدأ سليكباك الفصل الثاني من مسيرته بإصدارات تجاوز عددها الثلاثين، تخللها العديد من التعاونات. تميّزت هذه الفترة بفطرة وتلقائية إنتاجية، كنا بصدد إصدار شهريًا. كما ركّز على الضجيج وموسيقى مخصصة للاستماع ذات ألحان متناسقة على حساب ما هو راقص، وإن تخللها الأخير أيضًا.

هناك شيئان ملفتان في هذه الفترة؛ ابتعاده عن شركات التسجيل وتنزيل موسيقته على حساب باندكامب الشخصي متبعًا أسلوبًا ذاتيًا في الترويج. لم يعبأ كثيرًا بما سيُكَتب عنه ووصول صوته للمنصات الصحفية عن طريق شركات ترويج تفرض عادةً تكاليف باهظة جدًا قلما تأتي بثمارها. مع ذلك انتشرت موسيقته وتهافت جمهور المشهد على شرائها. معادلة ناجحة حقًا تنقلنا إلى النقطة الثانية؛ أن سليكباك يفعل ما يحلو له، لا يتبع توقعات الجمهور والقيمين، على مستوى الموسيقى والترويج، يقوده فقط حسه الإبداعي وتفرض جودة موسيقته وشراهته الإنتاجية نفسها على الجميع، ذلك بأقل تواجد ممكن على السوشال ميديا، ما أقدره بشدة.

تبينت حسه التلقائي عن قرب حين تعاوننا في تراك مونيومنت ضمن ألبومه كوندنس، حيث استغرق العمل على التراك يومين، وحين قلت له أن التراك قصير ويمكن مطه، كان رده أنه من الأفضل تركيز كل شيء في وقت قليل وأعجبني ذلك التوجه.

إذا ركزنا في مزج تراكات تلك الفترة سنتبين أن هناك مساحة للوصول لما هو أفضل، كذلك بنية التراكات. كان سليكباك يدرك هذه الثغرات جميعًا ويعلم بشكل مسبق أن هذه فترة مؤقتة، يطلق العنان لأفكاره ويتمرس إنتاجيًا كمن يتدرّب لبطولة ما، فليس هناك ما يتطلب تفريغ الطاقة كلها أثناء فترة الإعداد. أرى أن ذلك التوجه الإنتاجي مفيد ومنجز عامةً؛ فللأسف هناك العديد من المنتجين ينشغلون كثيرًا بتفاصيل التفاصيل والتي لا يعبأ لها أحد سوى المنتجين أنفسهم، ما يعرقل تدفق الإبداع، والتوفيق بين الكم والكيف.

يمكن اعتبار هذا الفصل سلسلة سكيتشات من الأفكار المتماسكة، أغلقها صيفَ العام الماضي بإصدار يحمل اسمه ومكوّن من تجميع ٢٢ تراكًا من فترة ٢٠٢١ لـ ٢٠٢٣.

بعد فترة انقطاع عن العروض خارج بلد إقامته، بولندا، وانشغاله بابنه حديث الولادة، عاد سليكباك نشيطًا متعاونًا مع آيشا ديفي في مشروعهما هكس. قدما بعض العروض، وإن كان المشروع في طور التبلور ويبدو غير مكتمل، كما لاحظنا من الإصدار القصير على تسجيلات دانس نوار، بدا أن سليكباك يخطو نحو مرحلة جديدة.

في مطلع العام أنعش سليكباك تسجيلات تمبا من جديد بألبوم قصير، داتا، معتمدًا الدبستِب بشكل ملفت، إذ زاد من قدر أنسجة الجنرا الصوتية وتنويعاتها الإيقاعية موظفًا الضجيج لبث مزيد من الحماس إلى طابع الجنرا المسترخي. كما اتبع نفس الوصفة في تراك داتا ليأخذ الجانغل مهجنًا إياه مع الهاردستايل إلى منحى جديد وشديد المرونة. تجريب مطلق عوّدنا عليه منذ أول إصدار له.

حين التقينا في حزيران الماضي في برلين وسألته عن توجهه لإصدار ألبوماته على شركات تسجيل من جديد وكفه عن الإصدارات الذاتية، أكد لي أنه بصدد فصل جديد من مسيرته، أي الفصل الثالث. تختلف هذه المرحلة كما أشار في حديثنا عن ما قبلها، فالآن بات ينتج موسيقى تلائم صوت شركات تسجيل تابعها على مدار السنين، لكن بلمسته الخاصة كما في إصدار تمبا وإصداره الحالي على بلانت ميو، أتريشن. 

سليكباك
سليكباك، تصوير ميكولايتس

إن دققنا السمع سنرى في أتريشن وجهًا جديدًا لـ سليكباك، هناك تركيز أكثر في التفاصيل، مزج كل تراك أكثر عناية، بنية التراكات مرتّبة وتأخذ مساحتها للتطوّر، تراكات أعلى جودة على المستوى الإنتاجي مقارنةً بالفصل الثاني الذي كان بمثابة فترة إعداد.

يحتفظ الألبوم بمعالم سينمائية أو كما يصفها سليكباك “خيال علمي للآذان” نتبينه من الخامات الإلكترونية المجرّدة والسنثات العريضة والتنقل من فكرة إلى أخرى كمن يتنقل من مشهد لعبة فيديو إلى آخر. 

يظهر خيال سليكباك الصوتي هنا أكثر تماسكًا من أي مرحلة سابقة، فالألبوم تجميع الفصل الأول والثاني بقدرات تقنية وخبرة أوسع وإعادة تشكيلها لإنتاج تراكات هجينة ضاربة تتدفق بشكل موفّق. نحن بصدد ألبوم متكامل ذو صوت واحد، وليس مجرد تجميعة تراكات.  

يغلب على الألبوم حس مظلم، محمّل بطاقة عالية تنفّس عن الغضب. يترجم سليكباك ذلك صوتيًا بالضجيج والخامات المعدنية وسيل من الكيكات والكراشات ومدى منخفض نابض، كما نتبين من تراك نوت الذي يحتوي أطيافًا من الدبستب والجوم والتراب.

يقبع في مزيج الجنرات الذي يتكرر في تراكات أخرى حث مرح ومفاجئ، فليس هناك ما يرسم ابتسامة على وجه المستمع بقدر صهر هذه التأثيرات بطريقة تلقائية. في تراكات أخرى نجد أسلوبًا إيقاعيًا مفككًا يغازل الجرايم من بعيد كما في سيكلي وجيريلا، من أفضل ما في الألبوم وأكثرهم جنونًا وحماسًا؛ لينتقل إلى مزيج من الفوتوورك والدانسهول في تيبد. 

أعتقد أن ليس هناك جدوى حقيقية في الاستمرار في فك رموز الجنرات المستترة في كل تراك، حيث لا أظن أن هذا تناول أو هدف سليكباك أثناء عمليته الإنتاجية “الآن سأمزج هذا بذاك مع لمسة من ذلك في هذا التراك.” فقط يستقبل كل ما يقع في طريقه من موسيقات ويتأثر بها ليولّفها جميعًا بأسلوب شخصي، فلا تشبه موسيقته منتجًا آخر، إذ يعد مرآة لنفسه. قليلًا ما أجد هذا المنتج الاسفنجة، المنتج المستمع، الذي يمتص كل شيء خالطًا إياه ليخرج بمنتج أوحد يستحيل فصل مكوّناته. لعل دي جاي سكوتش إج واحد من هؤلاء القلائل.

يوفّق الألبوم بين ما هو لحني وضوضائي، هناك روح نغمية تطل من حين لآخر في التراكات، ليأتي ديواليتي من أكثر التراكات النغمية التي أنتجها سليكباك، شديد الجاذبية ويضيف بعدًا دراميًا ومزيدًا من التنوّع على الألبوم. يعد سمبلانس أُف كومبوجر كنقطة فاصلة، تراك محيط يمهد لجرعة الضجيج التي تتركز في النصف الثاني من الألبوم. يذكرنا نمط السيل الإيقاعي في شلترد بتراك أوترانس لـ زولي، متعاملًا مع الأنسجة الصوتية الضجيجية والكيك وبقية العناصر الإيقاعية ككتلة موحّدة تسدد لكمات في كيس من الرمل بإيقاع ثابت ليصل الألبوم إلى أقصى لحظاته نشوةً.

يسير تراك ترارز على نفس الخط، حيث نمط إيقاعي كلكمات مع تركيز على المدى المنخفض وضجيج أبيض يحاول أن يجد لنفسه مساحة للتنفس وسط الكيكّات المتوالية. لكن يأتي سبند غير متناغمًا مع النصف الثاني من الألبوم الأكثر خشونة، ويفتقر إلى الترابط بالمقارنة بباقي التراكات، كأنه مجموعة بارات غير معشّقة في بعضها البعض. يختتم الألبوم بتراك فراكتشر، خاتمة مثالية حافلة بالضوضاء والديناميكية، حيث تؤكد أجواءه على حس الألبوم السينمائي.

أتريشن ألبوم قوي، أكثر أعمال سليكباك تكاملًا وخلاصة سنوات من التجريب والشغف عليه. يقف سليكباك في مناطق بينية تجمع بين ما هو مخصص للرقص والاستماع، وبين الضجيجي واللحني، وبين الغاضب المظلم والمرح الآمل، وأخيرًا بين ما هو مألوف وغريب. بذلك ينجح في ما رسمه لنفسه كما في وصفه للألبوم “أردتُ أن أخلق رحلة داخل كل مقطوعة، وكأن شيئًا غريبًا ينشأ من الفراغ – جمال ينبثق من الفوضى.” حيث لا تخلو أي رحلة من تلك التقلبات الجمالية والمزاجية. 

الأبرز في ألبوم أتريشن، وسليكباك بشكل عام، أنه يستمر في قلب توقعات المستمعين، حيث لا يتبع أحدًا سوى حدسه، ليعد واحدًا من أكثر المنتجين تلقائية، وإن كانت جميع قراراته الفنية مدروسة وفي توقيتها الأنسب.

المزيـــد علــى معـــازف