.
لا تسعفني يداي وقلبي المكلوم على كتابة مقدمة هذه القائمة مع كل ما نعيشه ونشهده من حولنا في غزة وفلسطين ولبنان، إذ لم يكتف الصهاينة بالقتل والتنكيل والمحو لمدة عام كامل، بأعنف الطرق وأكثرها إجرامًا، بل يبدو أن كل هذا الدمار لم يعد يُشبع عطش الشر المطلق المسمّى إسرائيل وأعوانها.
فرض العدو الحصار القاتل على أهالي مخيم جباليا في شمال غزة منذ أسبوعين تقريبًا، ليبدأوا تفعيل مخططهم العسكري ومساعيه في تحويل الشمال إلى منطقة منكوبة، مفرغة من السكان والبنى التحتية. هذا المخيم العنيد الذي لطالما وقف كالشوكة في حلق العدو منذ الانتفاضة الأولى، يعيد بناء نفسه في كلّ مرّة من الردم، ويجمع شظاياه ليخرج للعالم بصورة أشد ضراوة واستبسالًا من سابقتها.
يحاول الاحتلال الانتقام من هذه البقعة الجغرافية بأعنف الطرق، ظانًّا أنه بذلك قد يعلّم أصحاب الأرض درسًا رادعًا يقضي على نهج المقاومة، لكنه يتجاهل بعنجهيته وغطرسته أن المقاومة في منطقتنا تستمد منابعها من عقيدة الجهاد، التي تنص على أن لا صوت يعلو فوق صوت الحق.
يحاصر الاحتلال الأهالي والمسعفين وطواقم الدفاع المدني، ويأمرهم بالإخلاء بعد أن جرّدهم من كافة عناصر العيش، ويحفر لهم حفر الموت ليعذبهم ويقتلهم فيها، ويردم تراب أرضهم فوق أشلائهم، ضاربًا بعرض الحائط كل القوانين الدولية والمواثيق والأعراف.
لم يحترم هذا العدو الحق الفلسطيني في العيش، كما انتهك أيضًا حرمة الموت. أغلب الشهادات والرسائل التي سمعناها من أهلنا في غزة كانت تقول: “لم نستطع توديع أحبابنا، لم نستطع دفنهم، لم نستطع إخراجهم من تحت الركام أو تجميع رفاتهم.” حرمت إسرائيل شعبًا كاملًا حقه في الحزن والمواساة، ونحن شعوبٌ مؤمنة، لنا طقوسنا وتقاليدنا التي لا تنضب، وحتى عند الموت نرثي أحبابنا بكل عناية وخشوع، فما بالكم إن كانوا شهداء.
قبل يومين، قال الصحفي الصامد أنس الشريف الذي يتعرض إلى تهديد حقيقي من قوات الاحتلال: الآن يُدْفَن عشرات الشهداء بدون أكفان. مشهد قاهر عصي على الوصف، نقرأ دعوات الأهالي للتبرّع بالأغطية والأقمشة والستائر؛ لأن الأكفان قد نفذت.
كما رأينا المدير العام لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة الدكتور منير البرش، وهو يناشد بإرسال الأكفان قائلًا: “لا يجد الأطباء والمرضى لقمة خبز أو شربة ماء في مستشفيات شمال غزة، وبدل أن يجد المريض العلاج في المستشفى، أصبح يموت ويدفن داخلها، لتتحول إلى مقابر جماعية.” بعد هذا الإعلان، توقفت كل مستشفيات الشمال عن الخدمة، وفي فجر هذا اليوم فجّر العدو محطة الأكسجين التي يقتات عليها مستشفى كمال عدوان، ما أدّى إلى استشهاد مجموعة من الأطفال؛ إذ تحوّلت غرفة الخداج إلى قبرٍ كبير يجمع كل هؤلاء الملائكة الذين لم تتجاوز أعمارهم بضعة أيام.
عقيدة الصهيونيّة وركيزتها الأساسيّة هي الإبادة، ونحن أمّة تحبّ الحياة وتدعو إليها؛ ففي حين يأسرون ويعذبون ويقتلون، يضحّي الجميع بأنفسهم وأجسادهم، من أصغر رضيع وحتّى أكبر شيخ أو امرأة، يتسامى موتانا ليصبحوا شهداء أحياء. حتى القادة الأبطال ممن كرّس العدو كامل أجهزة استخباراته في تتبعهم لمحاولة اغتيالهم، كانوا على رأس الجبهة عندما استشهدوا، يقاتلون حتّى الرمق الأخير، ولم يفهم العدو الغاشم أنّ تسريب صورهم في لحظاتهم الأخيرة، إنّما يرسّخ في قلوبنا معنى التضحية والبطولة.
جمعت في هذه القائمة العديد من الأناشيد والأغاني العذبة التي لم تفارق مسامعي مؤخرًا، والتي تتناول في معظمها مفهوم الشهادة، بشقيه الديني والشعبي بكل خصوصية وحساسية، منذ لحظة كتابة الشهداء لوصاياهم، إلى لحظة الاستشهاد، وحتّى وصول الخبر إلى أمهاتهم المناضلات وبدء تشييعهم.
لا شك أن فرقة غرباء للفن الإسلامي التي تأسست عام ٢٠١٣، وتكوّنت من عدة متطوعين فنانين منهم من كانوا جزءًا من فرقة الوعد، من أهم الفرق الفلسطينية الإسلامية التي تنتج أناشيد تدعم المقاومة وخاصة حركة حماس.
عاودت هذه الأنشودة الظهور عندما سمعناها مؤخرًا من المنشد عبدالله زكي، بعد أن فقد ١٨ فردًا من عائلته، بينهم أطفاله بلال وريتال، بقصف إسرائيلي على مخيم النصيرات في غزة. أدّى فريق غرباء أنشودتين تخاطبان أقمار المقاومة؛ قصيدة قمري الشهيد التي نظمها الشاعر محمود عيّاد، ابن مخيم الدهيشة الذي يلقّب نفسه بالمرابط، وهو أسير محرر قضى ثماني سنوات في سجون الاحتلال. أما الأنشودة الأخرى فهي قمري السجين، والتي كتبها الأسير محمد شحادة لخطيبته وهو في الأسر، وبعد أن اعتقلته قوات الاحتلال أكثر من مرة، كانت آخرها قبل مراسم زفافه. كم كثرت أقمار فلسطين التي تعلو بين شهيد وأسير وجريح كل يوم.
قبل عدة أيام كنا قد رثينا المنشد الغزاوي العزيز على قلوبنا صاحب الابتسامة الدافئة حمزة أبو قينص، الذي كرّس حياته في رثاء الشهداء، ممن عرفهم شخصيًا وممن لم يعرفهم. تعددت أناشيد حمزة التي كانت بمثابة مواساة لنا جميعًا، خاصة في السنة الأخيرة. لم يترك حمزة أحدًا إلا نعاه، ابتداءً من أنشودة مع السلامة التي كتبت لشهيد هبة الكرامة محمد كيوان، وصولًا إلى أنشودة شيلوه يا أحبابه، والتي رثى فيها أبناء نابلس عبود صبح ومحمد العزيزي، المقاومين البارزين في صفوف جماعة عرين الأسود:
بدري يا محمد العزيزي بدري يا أصيل
بدري يابو صالح بدري لسا الدرب طويل
عبود يا صبح لأحباب مشتاقة
للقعدة معك للضحكة يا خوي تواقة
شيلوه يا حبابه يلا، شيلوه يا أصحابه
دماته على كتاف الرفقة تزيّن وجناته
تعد أنشودة ودعتك يما واحدة من عدة أناشيد وأغان شعبية قدّمت في ألبوم كامل للمجاهدة والسياسية الفلسطينية أم نضال فرحات (مريم محيسن)، والتي عُرِفت بلقب خنساء فلسطين، إذ حمل الألبوم الاسم نفسه.
انضمت أم نضال إلى صفوف حركة حماس في نهاية الثمانينات في غزة، وكانت تؤوي في منزلها في حيّ الشجاعيّة كبار القادة القساميين عندما كانوا لا يزالون شبابًا مطاردين، أمثال محمد الضيف وعماد عقل. قدّمت أم نضال ثلاثة من أولادها، وهم محمد ونضال ورواد شهداء في سبيل الله والأرض، كما قتل العدو ابنها الرابع الشهيد وسام بعد أسر دام ١١ سنة.
كانت أم نضال نموذجًا للمرأة الفلسطينية الجبّارة والمضحية، فقد جاهدت بنفسها وأبنائها، ولم تترك بابًا إلا وطرقته في سبيل دعم المقاومة والحفاظ على الوطن، ولم يوقفها تدمير بيتها على رأسها ورأس عائلتها، بل زادها ذلك ثباتًا وإصرارًا بأنها على الطريق النضالي الصحيح، إذ كانت تقول لأبنائها “أرضكم مدنسة وأنتم تنظرون، أريدكم منتصرين أو على الأعناق محمولين.”
يتذكر جيدًا معظم الذين عاصروا الانتفاضة الثانية هذه الأنشودة التي قدّمها المنشد والفنان أحمد حلاق عام ١٩٩٩، المقيم في مدينة العقبة الأردنية والمنحدر من أصول فلسطينية، وأعاد تأديتها العديد من المنشدين بعد ذلك.
جدير بالذكر أن كلمات قصيدة فتنت روحي يا شهيد كانت تجمع بين قصيدة الشهيد للشاعر الفلسطيني والثوري المقاوم عبدالرحيم محمود، ومطلعها من كتابة ماهر عبد الله، وتم دمجها والتعديل عليها من قبل أحمد نفسه، ليمنحنا أنشودة خالدة تتجاوز حتى الظروف التي أُنشدت فيها، ما أدى إلى انتشارها عبر الأجيال وفي كافة أنحاء الوطن العربي.
فتنت روحي يا شهيد علمتها معني الخلود
شوقتها إلى الرحيل علمتها معنى الصمود
ونفس الشريف لها غايتان ورود المنايا ونيل المُنى
بقلبي سأرمي وجوه العداة فقلبي حديدٌ وناري لظى
غنّت الفنانة الراحلة ريم بنا بصوتها الحنون عام ٢٠٠٩ ألبوم مرايا الذاكرة، والذي قدمّت فيه أغنيتين للطفلين الشهيدين فارس عودة وسارة عبد العظيم، الذين قتلهما الاحتلال وهم في عمر الورد. شاعت صورة فارس عودة ذي الأربعة عشر عامًا وهو يمسك حجرًا ليرجم به الدبابة قرب معبر المنطار في غزة، واعتُبِرت الصورة وقتها رمزًا تاريخيًا للانتفاضة.
قالت أم فارس في واحد من لقاءاتها: “كان فارس يحب الدبكة، وحين يعود من المدرسة يفتح التلفاز على الأغاني الوطنية والشعبية ويشعل البيت بدبكته. ابن ابني وأشقائي والعائلة بأكملها سمت مواليدها الجدد باسم فارس.”
ستحملك رائحة الخبز والحليب
شهيدًا إلى حضن أمك
قالت له النجمة
على نفس لحن الأغنية التراثية بيا ولا بيك، قدّمت تيريز سليمان أغنية كتاب وبارودة في رثاء الشهيد باسل الأعرج في آذار عام ٢٠١٧، الذي لاحقه الاحتلال وطارده شهورًا عدة، قبل أن يُحاصروه في منزل في محيط مخيم قدورة، حيث اشتبك الباسل معهم على مدار ساعتين، ثم دمّروا المنزل بقذيفة، ومن ثم تأكد الجنود أن يطلقوا ٢١ رصاصة لتخترق جسده. حقق الباسل المعادلة التي كان يدعو إليها، والتي تنص على إلزامية الاشتباك والثقافة معًا، فلا ثقافة بدون اشتباك مباشر مع العدو.
تعتبر هذه الأغنية جزءًا من التراث الشعبي الفلسطيني، وتروي قصة المناضلين الذين كانوا يتصدون للاستعمار البريطاني في الثلاثينيات، لم أستطع إيجاد مرجع واضح نظرًا لكثرة الحكايات المتداولة، فمنها ما ترجّح أن السبع كان وصفًا يطلق على كل المقاومين، والحكاية الأخرى، وهي الأكثر شيوعًا، تروي قصة مقاوم معروف يلقّب بالسبع، وبعد إحدى المواجهات عام ١٩٣٦، لم يعد أهل القرية يرون السبع على حصانه حاملًا سلاحه ومحاطًا برفاقه بعد المواجهات كما اعتادوا، فعرفوا بذلك أنه استشهد، لتصرخ زوجته: طلت البارودة والسبع ما طل.
انتشرت أنشودة إمي الحنونة والألبوم الذي يحمل الاسم نفسه في الانتفاضة الأولى، إذ يخاطب الشهيد أمه ويدعوها لعدم البكاء عليه والتحلي بالصبر، لأن هذا ما سيحرر الأرض في النهاية. يقول الشهيد إن الطريق طويل جدًا، ولكن الأرض ستزهر نوارًا بعد أن يرويها الشهداء بدمائهم. تتميز فرقة اليرموك بإلقاء الأناشيد مع ألحان مستمدة من التراث الشعبي.
يعد أبو راتب ابن مدينة حلب من أهم المنشدين في الوطن العربي، خاصة في فترة صباه وقبل انتقاله إلى أمريكا، فقد أسس أسلوبه في الأناشيد الهادئة الأشبه بالتهويدات، والتي أدّاها بصوته الوديع. استمعت إلى هذه الأنشودة عدة مرات، وفي كل مرة أقول في نفسي: لم يتغير علينا شيء بالرغم من توحش العدو، وما زالت غزة ودمشق والقدس ومعظم مدننا العربية تعاني من فتك القريب قبل الغريب.