أم كلثوم عن أحمد رامي
عربي قديم

أم كلثوم عن أحمد رامي

معازف ۰۵/۰٦/۲۰۱۸

مجموعة روحانية من الإحساس الملهم، والثورة العميقة المكبوتة، والهدوء الرزين، مع ظرف نادر، وخيال محلق، وخاطر سريع، وإخلاص لذات الإخلاص. ذلك هو أحمد، شاعر الشباب، والفنان الذي جدد شباب الأغاني المصرية، وخرج بها من الأفق الضيق المحدود الذي كانت تضطرب حائرةً فيه، إلى آفاق فسيحة عديدة تسرح فيها وتمرح وتحلق، وتغوص إلى أعماق النفوس، وتثير شتى الأحاسيس.

عرفته قبل أن أراه، من قصيدته الرقيقة التي يقول فيها:

الصب تفضحه عيونه / وتنم عن وجد شجونه

أنا تكتمنا الهوى / والداء أقتله دفينه

كان يؤمئذِ في باريس، مقيمًا بها منذ عامين، فلما أطلعني عليها أستاذي الكبير المرحوم الشيخ أبو العلا محمد، أعجبت بخفه وزنها ورقة ألفاظها ومعانيها، فطلبت إليه أن يلحنها. وأخذت أغنيها في الحفلات العامة والخاصة، وكلما رأيت شدة الإقبال على سماعها، ازداد إعجابي بها وبناظمها الموفق المجيد.

إلى أن رأيته لأول مرة … كان قد حضر ليسمعني في حفلة بحديقة الأزبكية عقب عودته من باريس، وجلس في الصف الأول متتبعًا غنائي بعناية ملحوظة وإصغاء تام. فلما انتهت الوصلة كان في أوائل من تقدموا لتهنئتي، وعرفني بنفسه فكان سروري عظيمًا بلقياه، وأجبت طلبه فغنيت في الوصلة التالية قصيدته المذكورة، ووفقت في أدائها توفيقًا لم أظفر بمثله قبل ذلك.

كانت تلك الحفلة خاتمة الموسم بالقاهرة، وسافرت بعدها إلى رأس البر حيث بقيت هناك طوال مدة الصيف، ثم عدت لأبدأ غنائي في تياترو البوسفور، وهناك، في الحفلة الأولى، رأيت أحمد رامي قد أخذ مكانه في الصف الأول، فسررت لرؤيته وغنيت قصيدته دون أن يطلبها. فلما جاء لتحيتي في فترة الاستراحة، كان معه بعض إخوانه، فقالوا إنه نظم لي قصيدة جديدة مطلعها:

صوتك: هاج الشجو في مسمعي / وأرسل المكنون من أدمعي

وأسمعني هو أبياتًا أخرى منها، ووعد بأن يزورني بعد أيام في منزلي بحي عابدين، ليقدمها لي بعد أن يتمها، وقد كان. منذ ذلك الحين، والود والتقدير بيننا متصلان، على أني لم أغنِّ هذه القصيدة الجديدة، بل غنيت قطعة أخرى، هي أولى ما نظمه باللغة الدارجة، وتلك هي أغنية:

خايف يكون حبك ليّا / شفقة عليّا

وإنتي اللي في الدنيا ديه / ضي عينيّا

وتوالت بعد ذلك أغنياته التي نظمها لي، وكلها حافلة بروائع الصور، وبدائع المعاني والخواطر، ودقائق الإحساس، ومناجاة الأفئدة، والتغني بالجمال … الجمال في كل ما هو جميل، حتى ذل الهوى وتباريح الذكريات!

***

يعجبني في كل ما ينظمه رامي ترجمته الدقيقة الصادقة عن مكنونات العواطف وخلجات القلوب وسبقه دائمًا إلى التجديد والابتكار والتلوين، والافتتان في انتقاء الألفاظ والأوزان. فهو يجمل فلسفة الحل فيقول:

كيف مرت على هواك القلوب / فتحيرت من يكون الحبيب؟

وهوى الغانيات مثل هوى الدنيا / تلقاه تارة، وتخيب!

من بدائع صوره في خواطره الجديدة قوله:

من كثر شوقي سبقت عمري / وشفت بكره والوقت بدري

رامي، بعد ذلك، يدين في حياته بالجمال الحنون والحنان الجميل، ومن أخص صفاته: الوداعة، والابتسام على الدوام، والوفاء لذات الوفاء … ثم هو محدث ظريف، لا يخلو مجلسه من نكتة طريفة يبتدعها أو فكاهة لطيفة يرويها.

كان مع بعض إخوانه في وليمة، فطاب له أن يأكل من المحشي المطبوخ بالزيت من غير لحم، تاركًا ما عداه من ألوان الطعام. فقال له أحد إخوانه:

  • كل فراخ أحسن، وسيبك من الضولمه الكدابة دي.

فأجاب رامي على الفور قائلًا:

  • يا سيدي إنت مالك، كدابة كدابة، أنا مصدقها!

ولا أزال أضحك كلما ذكرت الفكاهة التالية التي رواها لي منذ حين:

مر رجلٌ بباب منزل، فناداه صبي كان يقف هناك، ورجاه أن يدق له جرس الباب لأنه لا يطوله. وسارع الرجل إلى إجابة الرجاء، وما كاد يدق الجرس، حتى جذبه الصبي وهو يجري قائلًا:

  • يللا نجري بقى قبل ما يمسكونا!

وكم لرامي من نوادر وفكاهات اهتزت لها مجالس الأنس والسمر. وكم له من لفتات جميلة وطرائق عمرت بها الليالي الملاح.

أم كلثوم إبراهيم


كتبت أم كلثوم هذا المقال، وظهر في مجلة الهلال، العدد الأوَّل، يوم ١ كانون الثاني / يناير ١٩٤٨

المزيـــد علــى معـــازف