.
نقولها بأحسن معنىً ممكن للكلمة: كلاي بي بي جي إرهابي، تتعدى أغانيه الاحتفال بجماليات العنف إلى الاحتفال بجماليات التنمر. ورغم أن بضعًا من أغانيه الأخيرة قد خففت نبرتها المواجهاتية، إلا أن هذا، سنكتشف، لا يتناقض مع مشروعه الاحتلالي، بل يعززه.
انتقل كلاي من الملاكمة إلى الراب بعد نجاح الثورة في تونس، وبعد أن اكتشف أنه رغم تأتأته في الكلام يستطيع إلقاء الراب كشاعر جاهلي في سوق عكاظ. ركَّب اسمه الفني من محمد علي كلاي، ومن حي باب الجديد (بي بي جي) الشعبي الذي انتقل إليه طفلًا وشبّ فيه. اضطر كلاي في بداية مشروعه إلى التركيز على الكتابة والإلقاء كونه لم يمتلك الخلفية الإنتاجية، إذ سجل أغانيه الأولى بالمجَّان أو بكلف بسيطة مستفيدًا من عروض مساعدة ودعم منتجين جذبهم أسلوبه. منطلقًا من الكتابة، تعامل كلاي بوعي مع إشكاليات كالفصحى مقابل العامية، السائد مقابل المناطقي، الالتزام بصوتيات اللغة / اللهجة مقابل التصرف بها لصالح الإيقاع والتدفق. انتهى به الأمر إلى تبني العامية المناطقية، وصولًا إلى استخدام التنويعات اللغوية التي تميز أحياء دون سواها في تونس، والمعروفة بالـ قمجي، مستفيدًا من فيض الإمكانيات الصوتية والإيقاعية التي قدمها له هذا الخيار.
بعد أن حدد كلاي أدواته اللغوية، كان بحاجة لكيس رمل يتدرب عليه، وكانت الحكومة والشرطة التونسية هذا الكيس. جاءت أغاني كلاي الأولى كسيول من الوحل: قاتمة، خطرة، كثيفة؛ صوت خشن وإصبع أوسط مرفوع كسارية علم لا تنكسه سوى جنازة. أخذ هذا السيل ملامحه من المجاري التي مر بها، فكان أسلوب كلاي بالإلقاء عنيفًا كخلفيته في الملاكمة، كلماته ناقمة ومواجهاتية كالثورة والحي الشعبي الذي انطلق منهما، وإيقاعاته مباشرة وأساسية، نتجت على الأغلب من إعطاء المنتجين الأوائل لأغانيه الأولوية للراب.
لهذه الأسباب بدت أغاني المرحلة الأولى من مسيرة كلاي كترجمة تونسية للمدرسة القديمة في الراب الأمريكي. لكننا عندما نفهم مصادر هذا الأسلوب والظروف التي نحتته، يتضح أن تقارب أسلوب كلاي مع الأولدسكول هو صدفوي (نظرًا لتشابه الظروف التي شكلت الاثنين)، لا وليد ترجمة كسولة.
مع تبلور أسلوبه، بدأ كلاي بالعمل على إتقان لكماته وأسطره اللاسعة، وكان دور كيس الرمل قد بدأ يصبح مؤلمًا للحكومة والشرطة التونسيين. تعرض كلاي للاعتقال للمرة الأولى في ٢٠١٣، ثم مجددًا في ٢٠١٥، وبدأت سلسلة تضييقات على حفلاته. عرف كلاي أن الملاكمة تنفع في شجار شخصي، لكن تحدياته كانت أكبر من ذلك، كان في مواجهة توباكية: أنا ضد الحكومة والشرطة، وكان أمام تحديات ضخمة على مستوى الخطاب والجماليات، إذ أن “غرامه” بالموسيقى كان اعترافًا متكررًا في أغانيه، وأراد أن يكون وفيًا لهذا الغرام بتقديم صوت جديد يكتسح في تونس.
في ٢٠١٥ إذًا، بدأ كلاي بتطوير ترسانته. أصدر الأغنية المصورة آر بي جي، بفيديو يجعلك تخاف من كلاي حتى لو كنت على صفه، وسمعنا قفزات إنتاجية واسعة مع تمكن التراب في إيقاعاته دون أن يغير أسلوبه في الإلقاء. في منتصف الأغنية، أعرب كلاي عن إحباطه من الحكومة التونسية التي بدأت تخاف وترد بلكمات مبالغ بها بينما المباراة لا تزال في جولات الإحماء، فقرر خلق جامعة عربية مضادة في بحثه عن ندٍ أكثر مكافأةً: “دوا جيب إنيك السيسي / ما هو رخيص كل زيئ رخيصي / كس أم الرؤساء العرب وعلى رأسهم رئيسي.”
استمر كلاي بين ٢٠١٥ و٢٠١٧ بتطوير إنتاجه بحذر وذكاء، مستضيقًا المزيد من إيقاعات التراب ومستكشفًا تدفقات وسرعات وطبقات صوت أكثر يمكنه إتقانها. في آب / أغسطس من ٢٠١٧ أصدر كلاي إحدى أفضل أغانيه لوقتها، النووي. تطوير فاحش في الترسانة عندما لم تعد تكفي كافة الأسلحة الصغيرة والمتوسطة: إيقاعات تراب لا غبار عليها من مونتا بيتس، تعاون في الإنتاج الفني مع الدي جاي إس پي آي الذي أصبح لاحقًا اليد الإبداعية اليمنى لـ كلاي، وفي نهاية الفيديو شاشة سوداء بأسماء العاملين على الأغنية، في سطرها الأوَّل: إنتاج كلاي بي بي جي. حققت الأغنية نجاحًا جماليًا وشعبويًا يفوق قمم مسيرة معظم الرابرز. أسابيع وتعرّض كلاي لاعتقاله الثالث.
بعد الاعتقال الثالث عرف كلاي أن الوضع لا يمكنه أن يستمر على هذا المنوال. كانت ثقته بأسلوبه قد بلغت مرحلة متقدمة، وجاء الاعتقال ليشجعه على أن يبني على هذه الثقة ويضع خطة احتلال تونس قيد التنفيذ. أخفى كلاي قناته القديمة على خلفية خلاف مع منتجه القديم خالد بوقطفة، وظهرت قناة جديدة باسم كلاي فقط، كذلك اختفى أسلوبه القديم. مع تمكنه في الإنتاج، وتجربته الناجحة في النووي على وجه التحديد، بدأ كلاي أخيرًا بتملك موسيقاه بالكامل، وأقدم بحذرٍ غير مبالغ وشجاعة غير قليلة على تجربة أصوات يبدو أنها تخمرت في رأسه لفترة.
https://youtu.be/ZrTXB_yl854
أولى أغاني القناة الجديدة، وهي مفضلتنا حتى الآن، كانت من الصفر. تعاون مثالي مع راتشوبر (سهيل غصمي)، عازف البيانو والمؤلف التونسي الآخر الذي تأثرت مسيرته جوهريًا بالثورة. أرست الأغنية جمالياتٍ جديدة بصوتها المحيط المصقول والأنيق، ونبرة الإحباط التي استبدلت الغضب في صوت كلاي، وسمحت له بالتحرك في طبقات صوتية وتدفقات مختلفة، كما فتحت له مهربًا جزئيًا من فخ تكرار الخطاب، واستكشاف قدرته في كتابة أغانٍ أكثر شخصية وحميمية.
تُبِعت من الصفر بتعاون كلاي مع المغني اليافع ريان في أغنية ديما لابَس الدائرة حول اضطرار الشباب إلى الهجرة غير الشرعية، والتي تخلق مقابل تونسي محلي لبنية أغاني الراب ذات لوازم الآر آند بي. ديناميكية الغناء والراب بين كلاي وريان دفعت الأغنية إلى تحقيق انتشارٍ كاسح، أكثر من ١٣ مليون مشاهدة لمغنٍ من بلد سكانه ١١ مليون، نجاح ديكتاتوري في انتخابات شعبية. قبل وبعد إصدار ديما لاباس، نشر كلاي ثلاثة أداءات حرة، يظهر في فيديو الأوَّل مع عصابته في الحومة حاملًا بندقية، في فيديو الثاني مع عصابته في نادي ملاكمة حيث يتدرب الجميع، في الفيديو الثالث مع عصابته في وكر ليلي مشبع برائحة التمهيد. ثلاثة مشاهد من استعراضه العسكري السابق للاحتلال، حصدت مجموعةً عشرة ملايين مشاهدة. ثم كانت احتلال أخيرًا، تعاون كلاي مع سانفارا الذي تصدَّر المشاهدات في تونس ودخل قوائم الأكثر مشاهدة في المغرب والجزائر والسعودية، مقدمًا كلاي كمعلِّم في الراب التونسي، يحافظ على مستواه في ست أغانٍ متتالية من شأنها قلب المشهد وتغيير الموازين.
صحيح، قد يكون كلاي في أغانيه الأخيرة الأكثر نجاحًا شعبيًا قد خفف في بعض المواضع من نبرته المواجهاتية، خفف من الغضب والحدة الجارحين في صوته، وبدأ حتى يتقبل تمدد الفصحى أو العامية البيضاء على حساب القجمي بشكلٍ سهَّل من رواجه خارج تونس. لكن هل هناك حاجة حقًا للتمسك بالمواجهاتية والصدامية في هذه المرحلة؟ لم نعد نتحدث عن معارضة مهزومة: احتلال كلاي بي بي جي قد اكتمل، واليوم هو الرئيس.