fbpx .

اسماعيل وأوبرا النص | دقيقتان من سورة يوسف

يوسف رخا ۲۰۱٤/۰۸/۰٤

“فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا”

سورة الجن، ١

١

النص في الإسلام هو النص المقدّس وربما الوحيد. كلام يقلب حياة الناس بنقلهم إلى وعي جديد كل مرة، مكرّرًا بذلك لحظة التنزيل؛ إنّه السحر والجنون قبل أن يكون لفظة الخلق ذاتها. وبما أن القرآن قوام العقيدة، فلابد للنص من أن يُتداوَل؛ وبما أن المجتمع لم يُقبل أبدًا على القراءة الصامتة (وحتى النص نفسه كان في تجلّيه صوتًا)، فقد ظل يُتداوَل مسموعًا بعد أن كُتب. تلاوة القرآن إذن أمر واقع: ثمّة صوت يردّد كلامًا، وثمّة أحد إن لم ينصت إلى الكلام فإلى الصوت. ولهذا، فضلًا عن الترتيل، ثمة تجويد – بتعريفه: تنغيم واحدة من عشر قراءات معتمدة للنص بدلًا من الاكتفاء بنطقها بصوت مستساغ، بهدف ما يقال له تصوير المعنى – فحوى التلاوة التي نادرًا ما يذكرها أحد في السياق.

صحيح أن القارئ يقوم بالمهمة لوحده، لكن تصوير المعنى حين يحوّل كلامًا مغنى إلى صراع حواري ودرامي يتملك الوعي، يكون أقرب إلى الأوبرا من أي فن سواها. فعبر ثلاث أدوات بمثابة طبقات موازية للأوركسترا والمغنين والمشهد المسرحي – القراءة القرآنيّة التي يختارها القارئ وُيفترض أن يَلتزم بها من أول الجلسة إلى آخرها؛ المقام الموسيقي الذي يدوزن عليه قراءته تلك؛ ومساحة الصراع داخل المعنى الذي يريد تصويره – على القارئ أن يحوّل النص الساكن إلى تمثيليّة تستحوذ حركتها على رأس المستمع. كيف يفعل؟ أعتقد أن الإجابة عند مصطفى اسماعيل.

مستعينًا في البداية بكيوف تستحضر الوجد بإذابة الزمن وسط جموع خبيرة، تعلّمت أن أصغي إلى التنزيل وقد استُحضر بكامل طزاجته – بكامل سحره وجنونه وطاقة خلقه أيضًا – في الأداء المعجز لقارئ بعينه. الأداء المعجز (تمامًا كما يقال عن القرآن إنه معجز، إنه من الإعجاز بحيث أقنع نفر من الجن ما إن سمعوه، فما بالك بالإنسان): لقد ظل معجزًا حين جربته بلا كيوف. وفيما بعد أمضيتُ سنين أستمع إلى تسجيلات الشيخ مصطفى اسماعيل ١٩٠٥ - ١٩٧٨، ملاحظًا تعليقات المستمعين المنفلتة من فرط طربهم. صرخات جماعيّة ما إن تفسر منها عبارة حتى تدرك أنها في ذاتها إيماءات فنية: “يا فقي يا فكهاني” مثلًا، أو (بنبرة من لا يصدق أنه حقًا يسمع شيئًا بهذه الروعة) “ده بيحصل ده يا ناس”، وحتى “الله يخرب بيتك يا شيخ مصطفى”.

لم يخطر لي مرة أن صانع المعجزات (الميت خلال سنتين من مولدي) يكسر أي قاعدة في تقليد قديم وثابت، الأمر الذي حيّرني: كيف يصل أحد إلى هذه العبقريّة وهو لا يجرؤ على كسر القواعد، حتى انتبهت إلى أن الشيخ مصطفى يرتكب خطيئة واضحة وإن لم تكن من الكبائر، هي الانتقال من قراءة إلى أخرى في الجلسة بل وفي الآية الواحدة، متعاملًا مع القراءات العشر وكأنها نص واحد متصل يتحرك فيه كما يشاء في حدود السورة أو مجموعة الآيات (الدراما) التي يؤديها، وكذلك يفعل مع المقامات الموسيقيّة وحتى التأويلات المحتملة للمعنى: إنه يستعمل كل أدواته بحرية؛ وبهذا، رغم أنه لا يخرج عمليًا على التقليد، فهو لا يكف لحظة عن محاورته.

٢

(عن تسجيل غير مؤرخ للآيات ١١-٢٤ من سورة يوسف طوله ١٢ دقيقة و١٣ ثانية أستمع منه هنا إلى الآيات الثلاث الأولى في حوار الأب مع الإخوة، حيث لا يتغير المقام الموسيقي، حتى الدقيقة ٢:٤٠)

“قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ”

لا يلغي الشيخ مصطفى كلمة “قالوا” لكنّه يكاد، بجعلها رمّانة ميزان لا تؤدي دورًا أكبر من تعيين “يا أبانا” نقطة انطلاق لتلبُّس صوت الإخوة المتحمّس بوصفهم طرفي حوار هدفه إقناع الأب بالسماح لهم باصطحاب يوسف إلى المرعى في اليوم التالي. ولكي يكون الطلب مقنعًا، فإن صوت الأخوة لا يكتفي بتوجيه السؤال على نحو صادق في تساؤله المستاء (وإن كنا نعرف أنها تمثيليّة من جانبهم) – “ما لك لا تأمنا” – وإنما أيضًا يلغي الفاصل بين الآية الأولى والثانية ليأتي الأمر – “أرسله” – بعد العبارة المقصود منها إراحة بال الأب مباشرة: “إنا له لناصحون أرسله معنا”؛ وذلك من أجل أن يُحدث تأثيره المرجو بردع مقاومة الطلب.

بالتزامن مع ذروة الطرب المتراكم منذ البداية، يحيد الشيخ مصطفى عن قراءة حفص المفترض أنه عليها ليستخدم “نرتع ونلعب” عوضًا عن “يرتع ويلعب” (كما يبدو لي) في السياق ذاته: رغبة الإخوة في الحصول على إذن الأب بأي شكل، وطاقة الحماس المتراكمة في نبرتهم. نون الجمع نون الطمأنينة: يوسف لن يرتع ويلعب لوحده وإنما سيكون جزء من كياننا نحن، غير المعرض للخطر، ثم يأتي الفاصل في منتصف الآية الثانية.

“وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونْ”

العبارة القصيرة الأقل أهمية في الآية الثانية – متبوعة بالنَفَس – غرضها الإشارة إلى أن القارئ سوف ينتقل إلى صوت الأب، بعد منح المستمع فرصة المشاركة بالتعبير الصاخب عن طربه إثر انتهاء الأخوة من الجزء الفاعل في كلامهم.

“قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّيبْ”

تتغير النبرة – بعد الـ “قال” التي، مثل الـ “قالوا” سابقتها، لا تكاد توجد معنويًّا – بما يناسب إحساس الأب بالخطر: المد في “يحزنني” للتأكيد، وحتى تكتسب “وأخاف” قوة دفع إضافية فتصبح محور كلام الأب في رد فعله للإخوة (الأمر الذي يؤكده تكرارها فيما بعد)؛ ثم، كأنما للرد على المد بكسر يؤكد تردد الأب وإعراضه أو سماحه كما سيكون على مضض، التحول اللحظي لقراءة ورش في كلمة “الذيب” – ولخلق لحظة صمت في منتصف الآية أيضًا: النفس، ومشاركة المستمع، وفتح مجال للتكرار، بنبرة جديدة تحمل تأويلًا جديدًا، من أول “وأخاف” – حيث حماس الإخوة المتصاعد موسيقيًّا يقابله هنا انحدار موسيقي يعكس فتور الأب أو يمهد لانهزامه المحتوم في صراعه مع الإخوة على يوسف.

يصبح للذئب حضور مزدوج كتجسد لخوف الأب (ومن ثم الإطالة “الورشيّة”) وكمعترك جديد لماورائيّة السرد: يخبرنا الشيخ مصطفى – أو القواعد الموسيقيّة للمقام الذي يحافظ عليه صوته تخبرنا – بأن شرًا كامن في الحكاية مثل ذئب سيأكل يوسف أو يُدعَى عليه أكله وقد تُرك في الجب. عندما يقول الشيخ مصطفى “الذيب”، يتحول الذئب من مجرد حيوان كاسر ليس له دور في الحكاية إلى شر الأخوة الخفي: الذيب هو دافع الأخوة الذي يدركه الأب على نحو غير معلن.

“وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونْ”

ومن ثم، بعد الفتور أو الانصياع، يتكرّر كلام الأب جزئيًا بتأويل جديد للنص ذاته: إن الشيخ مصطفى، بالعودة إلى حفص هنا مع توازن موسيقي جديد ما بين كلام الإخوة المتصاعد وكلام الأب المنحدر، إنّما يعبر عن جانب آخر من رد فعل الأب هو التسليم بأمر واقع يدركه ولا يصرّح به: ستكونون غافلين عن يوسف، أنا أعرف ذلك؛ ستسمحون بوقوع الشر ليوسف لأنني (وإن كنت لا أستطيع أن أعترف بهذا أمامكم) أعرف أنكم تضمرون ليوسف الشر. غفلتكم ليست سوى حجة مثلها مثل الذئب تمامًا وأنتم فعلًا غافلون حتى يأكل يوسف الذئب.

“قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونْ”

وتتفاقم آليّات الإقناع كحل مؤقت للصراع على يوسف – وبعد أن يؤدّي الإبطاء في نهاية الآية الثانية “قالوا” إشارة تبدل الصوت مجددًا إلى نوع من الثبات لا يوصل المستمع إلى النشوة ذاتها التي أوصله إليها “الذيب” – فتكتسب نبرة الحماس الأولى صبغة غير مصدقة وكأن الإخوة يقولون: معقول يأكله الذئب ونحن عصبة؟ ثم، وكأن الشيخ مصطفى يؤكّد أن العقدة انحلت بقبول الأب وليس اقتناعه – وفي الوقت نفسه يستغل حروف المد في التقسيم على المقام – تأتي الـ “إنا” المطولة كخلاصة للتراكم الصوتي والعاطفي في الحوار: كل هذا الذي قيل من أجل إقناع الأب غايته ليس اقتناعه وإنما الاعتراف الضمني بالجريمة (مثل علم الأب غير المعلن بها). فلا يكاد الشيخ مصطفى ينتهي من الألف الممدودة في “إنّا” حتى ينتهي الحوار بالرسالة الأهم: إن إخوة يوسف فعلًا خاسرون.

المزيـــد علــى معـــازف