.
في واحدة من المقابلات التي أجراها الراس قبل صدور ألبومه الجديد باب الدخول، عبّر عن قلقه من إقفال باب تأثير الفكر والجدلية على حركة المجتمع: “أنا من الجيل اللي وعي على فكرة هالجدار كتير صلب، على فكرة إنو أوف هلقد نحن مننا قادرين نشاكس مجتمعنا ولا قادرين نخوض بجدال.” يظهر في غلاف الألبوم شخص يحاول دفع بوّابة عملاقة وثقيلة تشبه أبواب المساجد. يدفع هذا الشخص بقدميه ليضع كل قوّته الجسديّة على الباب الذي انفتح قليلًا.
قبل يومين من إطلاق الألبوم، صدرت الأغنية المصوّرة ومدخل الألبوم صار. يسخر الفيديو من أسلوب تغطية بعض المراسِلات/ين التلفازيين للمظاهرات الأخيرة في لبنان، حيث طرح بعضهم أسئلة استفزازيّة مثل “ليش إنتو هون؟” أو “شو صار؟” لتوريط المحتجين باقتباسات منفعلة. في أحد الفيديوهات المتداولة، تقترب مراسلة من متظاهر يستخدم مقصًّا لإتلاف سياج شائك وتسأله عمّا يفعله، يرد عليها: “عم بقصّر بنطلون.”
ألهم هذا الفيديو ثاني أغاني الألبوم، المقص. يغني الراس في اللازمة “قص البنطلون” ويردد في الآدليبس “قص قص”، فيما يستخدم عينات معدنيّة رنّانة في الإيقاع تشبه صوت قرع الحديد في المظاهرات. يبدأ الراس الأغنية بمقطع مشحون عن المواجهة والشهادة، ثم تنفلت باراته بتدفقات مناورة فوق ستارة من عيّنات الكمان، مستعيدًا صورة الفتى الذي يتعلّم النيشنة ومسددًا أسطره اللاسعة: “روح خبروه أنا حاكي / أيري برياض أنا الحاكم”، الممزوجة أحيانًا بإشارات مرجعيّة إلى المظاهرات: “مشانق عم بحلم / مشانق بشوفا بس غمض عينيي / عطونا أصابع ونقسّط إيديي.”
تبدأ أغنية القلب المطاطي بموسيقى محيطة مزاجيّة حالكة، يتخللها بيت تراب تقليلي وصوت سناير يشبه ارتطام قنابل مسيّل الدموع بالأرض. يتدرّج صوت الراس في الإشباع بالأوتوتيون وصولًا إلى اللازمة النغمية التي تليق برومانسيّة القلب المطاطي؛ عالقًا “بالحرب اليوميّة / بالساحة مطاطي / صار القلب مطاطي” وعاجزًا عن “تعبير الحب اليومي”. يستخدم مازن قالب المذكّرات اليوميّة للحديث عن المظاهرات، بنبرة تلائم المجالسة والفضفضة وتتأرجح بين الحزن و الانتقام: “ما في وفا في حكم المصرف. ما في حب.”
مع صدور بعد الهزيمة في ٢٠١٨، دخل الراس مرحلة جديدة من مسيرته عندما أنتج ألبومًا كاملًا (عدا أغنية) بنفسه للمرة الأولى. أخذنا في ذلك الألبوم إلى أبعاد ما بعد الهزيمة، وشاهدناه يثور على نفسه في أولى خطوات تقبُّل الهزيمة والمضي قدمًا. تميّز أسلوبه كمنتج بالاستخدام الجريء للعيّنات كما في حامل الأسفار، والإشباع في التنغيم والأوتوتيون كما في خزامى، أحيانًا حدّ الإسراف.
تابع مازن تفرّده الإنتاجي في الألبوم الجديد، دون مساعدات أو مشاركة من رابرز آخرين. صقل استخدام العُرَب السريعة في صوته وانتقل من التجريب مع الأوتوتيون إلى مرحلة التحبير كما أسماها. سجّل الراس هدفًا لمشروعه في التحبير في أغنية معمول العيد، حيث يتغنّى بصوتٍ أوتوتيوني ينقل إحساس الفقدان والضياع بأمانة.
رغم ثيمة الأغنية الحزائنيّة، يبقى الراس بعيدًا عن نبرة اليأس المبتذلة، راسمًا صورة لمدينته طرابلس من وجهة نظر عاطفيّة مختلفة: “يا دارة الحبايب / يا موطن قلوبنا / يا دارة المصايب / يا مسلخ جلودنا”. في نهاية التراك، استعاد بيتين من قصيدة لـ عمرو بن معد كرب، شاعر وفارس عربي عاش في زمن الرسول، لحّنهما بطريقة تستنطق جماليًات أسلوبه في التحبير.
يُحسب للراس كمنتج أيضًا طريقة استخدامه لعيّنات المجوز والإيقاع الشرقي في أغنية هللويا، التي تنجح ربما لأنها لا تخاف كثيرًا من أن تبدو مبتذلة. لا يبدو توزيع الأغنية مختلفًا عن توزيع أغاني المزج الشرقيّة، إلا أنّ العينات تتوظف هنا ضمن سياق مقنع، أو في هذه الحالة ضمن سياق هلوسي ممتع. سواءٌ كنتم تجدون إيجو الرابرز أمرًا محببًا أم لا فإنكم ستصادفونه هنا، في كلمات الأغنية “أول مرّة مسكت بحفلة مايك بلعته متل قزازة ويسكي”، وعند الانغماس في بعض الحيل الإنتاجيّة كخدش الأسطوانات.
تبدأ كونغ تفو بعينة مطوّلة من الأغنية الساخرة سركيس سركسيان لفيلمون وهبي، التي صدرت سنة ١٩٨٢ وسمّت ملوك الحرب الأهلية في لبنان. يتابع الراس من السطر الذي انتهت إليه أغنية فيلمون: “ناكوا إمك يا لبنان”. يقوم توزيع الأغنية على عيّنة بيانو، فيما يكرّر الراس الكلمة الأخيرة من اللازمة باستخدام تأثير الصدى “أتاري كل شي أخدتو / حتى انتظاري قتلتو / أتاري باقي مشلش ما بزيح يا ريح-ريح”، في حركة مألوفة في البوب اللبناني.
تحضّرنا عينة الجاز في أغنية في بصل لدخول الراس في ثيمة اللامبالاة. يلجأ إلى واحدة من قصائد ميخائيل نعيمة تُدرّس لطلاب الصفوف الابتدائيّة، وتحكي كلماتها عن بَيت متين سقفه من حديد لن يسقط على رؤوس سكّانه: “سقف بيتي كلّه نش نش / ركن بيتي وانفجر / فاعصفي يا رياح المسيل / لست أخشاه الخطر.”
أكثر خجلًا من أن تكون أغنية وأكثر ثقةً من ألّا تكون، تحاكي خاتمة الألبوم، يُتبع، نشيد رفاق الدرب (يا شباب العُرْب) لحزب البعث بكلمات جديدة من الراس. الحيل الإنتاجية التي حملت الألبوم في الأغاني السابقة، كاستخدام العينات ومعالجة الصوت والحذاقة في الكتابة، تخذل الراس في هذه التجربة الأخيرة.
يقول الراس في هللوليا: “كلن عطريق المطار وأنا راجع من غربتي لغربتي”، يأتي ألبوم باب دخول كوداعٍ لمن غادر، وتعاطفٍ مع من بقي. خلال ذلك، يدفع الراس بقدميه ويضع وزنه ليدفع باب الراب الشامي قليلًا بعد، مع توجّه إنتاجي لا يستعجل النضج ويتابع استكشاف أساليب جديدة، وبارات وتدفقات تليق برابر مخضرم.