.
تطورت مسيرة مروان موسى بشكل ملحوظ منذ بداياته التي غلب عليها تأثير أبيوسف في الكتابة والأسلوب التعبيري، وصولًا إلى بلورة صوته الخاص في التراب الشعبي من خلال تراكات اكتسبت مكانة أيقونية، مثل البوصلة ضاعت وشيراتون، التي اتخذت فيها كتاباته منحى أكثر جدية وشخصية، متخلّصًا من تأثيراته السابقة لصالح صوته الخاص.
رغم غزارة إنتاجه مقارنةً بأقرانه، عانت إصدارات مروان من تفاوت في الجودة والوحدة الفنية وأحيانًا التكرار، ودخل في توجهات موسيقية متشعبة، بينما ظل التراب الشعبي علامته المسجلة بعد أكثر من عشر سنوات من التجريب في المشهد.
قبل صدور ألبومه الجديد الرجل الذي فقد قلبه، ظهر مروان على منصة إكس (تويتر سابقًا) مدافعًا عن التراب الشعبي باعتباره الصوت الأجدر بالاهتمام والتطوير. شرح مروان أن تجاربه في الأفرو وأنواع موسيقية أخرى كانت نتاج تشتت وتردد، ليصل في النهاية إلى قناعة أنه لا يريد صناعة راب ذي جذور غربية، بل راب مصري، مؤمنًا بأن التراب الشعبي هو الإضافة الأبرز للهيب هوب المصري.
الفكرة ان لما حصلت الحرب ٧ اوكتوبر شوفت صحاب اجانب غربيين ضد ثقافتي وديني وبلدي وحسيت تلقائياً كدا اني ماينفعش استخدم kick غربية او snare او اي خامة غربية كدا عادي، لان الموضوع اتحزب في دماغي ان: دي حاجتنا ودي حاجتهم، وانا مش هستخدم حاجة حد لان دي ضد كرامتي في حتة معينة فنية؛ ان…
— m m م م (@marwanmoussaa) May 4, 2025
في الرجل الذي فقد قلبه، يقدّم مروان موسى أكثر أعماله طموحًا وشخصية. ألبوم يمتد لساعة وثماني عشرة دقيقة، يضم ٢٣ أغنية من إنتاج مشترك مع المنتج حاتم عباس، في مشروع مفاهيمي يشير منذ البداية إلى جدية النية والرؤية. يدور الألبوم حول ثيمة واضحة مستوحاة من المراحل الخمس للحزن وهو مفهوم معاصر كثير الاستخدام في الثقافة الحديثة. من السهل أن يتحول مشروع بهذا الحجم والمفهوم المكرّر إلى استعراض مبتذل، لكن مروان يتفادى ذلك بفضل صدقه وتركيزه في مختلف جوانب العمل.
تُستخدم المراحل الخمس للحزن كإطار خارجي للألبوم، لا تُضخ بشكل مباشر في الأغاني، بل تُستحضر تدريجيًا عبر عينات صوتية تقدمها دنيا وائل، تذكر المستمع بالمرحلة التي يمر بها. لكن مروان لا يترجم هذا المفهوم حرفيًا، بل يخرج ما بداخله بصور خام، تلقائية، وغير مفلترة.
يغلب على الألبوم طابع مشحون عاطفيًا، يتجلى منذ العنوان وحتى الغلاف الذي يصور مروان كشخص خالٍ من كل شيء، تائه، وكأنه فقد نفسه في منتصف الرحلة. مع هذه الكثافة الشعورية، لا يبدو الألبوم كوصلة درامية مفتعلة، إذ يكسر مروان حدتها ببارات ساخرة، ولمحات من حس فكاهي يبرز في استعارات ثقافية ذكية، تعكس جودة أسلوبه الكتابي.
في المرحلة الأولى من الألبوم، ومع الوصول إلى تراك مارو مشاكل، يقدم مروان واحدة من أقوى لحظاته الكتابية على الإطلاق. يعتمد التراك على موسيقى تُبنى حول إيقاع بسيط، يصاحبه كمان مسحوب في الخلفية، يخلق مساحة أمام مروان لرص البارات بسلاسة، واستعراض قدرته على صياغة جمل ذات عمق معنوي، وتمكن لغوي، وتنوّع مواضيعي لافت.
يعمل التراك كأطروحة افتتاحية أو خريطة أولية لثيمات الألبوم، إذ ينطلق مروان من ذاته ليتحدث عن الشهرة والنجاح، وعلاقته بالموسيقى، وصراعاته الداخلية، وتأملاته في العالم المحيط به. يظهر هنا مروان في أكثر حالاته وضوحًا وصراحة، وكأن هذا التراك يمهد لما سيأتي من مراحل وتحولات، دون أن يختزلها أو يفسرها، بل يفتح الباب لها.
يتقن مروان في الألبوم كيفية استثمار نقاط قوته، فيسند الجزء الأكبر من الإنتاج لحاتم، ما يمنحه مساحة للتركيز على الكتابة والأداء، اللذين يبلغان في هذا العمل أحد أفضل مستوياتهما في مسيرته. تتنقل الكتابة بين مواضيع متعددة رغم تمحورها حول ثيمات التفريغ العاطفي، فتلامس تأملات في الشهرة، وصناعة الموسيقى، والذكريات، وتأثير السوشيال ميديا والمخدرات. يعالج مروان هذه المواضيع بصدق وبدون تكلف، فتخرج كتاباته أحيانًا بأسلوب مهزوم ومنكسر، وأحيانًا أخرى بنبرة حماسية مستعدة للانطلاق. يظهر هذا التناقض بوضوح في لحظات كثيرة داخل الألبوم، مثل قوله “كل اللي بنيته اتهد / هبدأ من أول العد.”
نتبين أول كسر للحالة الهادئة التي تسود المرحلة الأولى من الألبوم في تراك بائس، حيث تنفتح الموسيقى على بيت تراب شعبي صاخب ومُتقن، يلقي عليه مروان موالًا حزينًا. يتواصل هذا التصعيد في التراكات التالية مثل بص أكبير وتقاطع، حيث تزداد الموسيقى صخبًا، ويلعب الإنتاج دورًا محوريًا في ترجمة هذه المشاعر المحتدمة.
بين عامي ٢٠١٩ و ٢٠٢٠، هيمن التراب الشعبي على مشهد الراب المصري، وتطور بسرعة ليصبح جنرا الهيب هوب المحلي. لكن بهت هذا الصوت لاحقًا، ووصل إلى حالة من التشبع مع غياب محاولات جادة لتطويره، في وقت بدأ فيه المنتجون يتجهون نحو أنواع أخرى كالدريل، والأفرو، ثم أخيرًا الريج. في هذا السياق، يعيد مروان موسى التمسك بالتراب الشعبي، لكنه لا يكرره، بل يبذل جهدًا حقيقيًا لتقديم تنويعات جديدة تُبعده عن القوالب النمطية، مثل إيقاعات المقسوم والطبلة التقليدية.
في تراكات مثل تقاطع ويابا ليه، يأخذ التراب الشعبي نحو مناطق أكثر هدوءًا واتزانًا، ويمزجه مع عناصر لو-فاي تشد النسيج اللحني وتضفي على البيتات ملمسًا جديدًا وغير مألوف.
يبرز الإنتاج كأحد أقوى عناصر الألبوم، محافظًا على تنوّع ملموس بين بوم-باب، وتراب شعبي، ولو-فاي، وتراب تقليدي، دون أن يُخلّ بوحدة الألبوم الصوتية. حتى في التراكات التي تولى مروان إنتاجها بنفسه، يغامر باقتحام مناطق جديدة عليه تمامًا، كما في متحاسبنيش، حيث نسمع بيت لو-فاي بطيء تتخلله عناصر من الجاز، في تجربة ناعمة ومتماسكة.
يظهر هذا التوجه التجريبي أيضًا في ميكافيلي، أحد أقوى تراكات الألبوم، والذي يجمعه مع حليم تاج السر. ينتج مروان هنا بيتًا يعتمد على إيقاعات شرقية خفيفة، يمزجها بعناصر تراب تنساب بسهولة، مع تبادل للبارات بينه وبين حليم، الذي يقدم بدوره واحدة من أفضل اللازمات في الألبوم.
تعاونات الألبوم مدروسة بعناية، أقوى من مجرد إضافات استعراضية أو محاولات لتوسيع قاعدة المستمعين، بل تُوظف لخدمة السردية العامة للألبوم. في تيجي بليل، نرى مثالًا واضحًا لهذا التوازن. يقابل مروان ليجي سي في المنتصف، لكنه لا يذوب في منطقته الصوتية حيث يظهر مروان في شكل أكثر هدوءًا وتروّيًا من المعتاد، لكنه يحتفظ بطاقته وأسلوبه المتدفق، بينما يقدم ليجي سي واحدة من أكثر الإضافات الحيوية في الألبوم.
في الرجل الذي فقد قلبه، يتمسك مروان موسى بجذوره بينما يفتح مساحة متزنة للتجريب. لا يدخل مناطق جديدة براديكالية صادمة، بل يتسلل إليها بهدوء محسوب، مستندًا إلى نقاط قوته، مستعينًا بتقنيات سرد وإنتاج جديدة تضيف بعدًا مفاهيميًا للألبوم دون أن تثقله. يقدم هنا أفضل أعماله حتى الآن، ألبوم يرسخ أسلوبه ويعمق تأثيره في مشهد الراب المصري.
بينما لا يحتوي الألبوم على تراكات فردية ذات طابع تجاري صريح أو جماهيري متفجر مثل شيراتون أو بطل عالم، لكنه يعوض ذلك بتسلسل متماسك ومتناغم، مليء بالمادة وكثيف المشاعر، يفرغ فيه مروان كل ما يود قوله، بصراحة نادرة ورؤية متأنية دون ادعاء.