.
السجن اسفنجة ضخمة تمتص الحكايات والمعاناة والشوق لتعصرها وتفرغها بأشكال كثيرة. تختلط هذه القصص والمشاعر وتتداخل وتتعاظم، ويصبح بعضها موسيقى. في سجون تونس نشأت موسيقى الزندالي، أحد فروع موسيقى المزود موسيقى شعبية تونسية، سميت كذلك نسبة إلى آلة نفخية مستعملة كثيراً، مصنوعة من جلد الماعز. هذه الآلة اسمها الشكوة ويُثبت في أطرافها مزمارين من القصب. تعود جذور المزود إلى الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت حاضنته التاريخية النوبة الشعبية، فقد نشأ في المقامات التي يتم فيها التبرك بالعلامات الصوفية في تونس كالأولياء الصالحين. تخلص المزود من جذوره الصوفية فتناول مواضيعاً دنيوية، وأخذ شكلاً إيقاعياً راقصاً، وتغنى بالسجن والخمرة والجنس. ظلت موسيقى المزود ممنوعة حتى أوائل التسعينيات الشعبية في تونس. الاسم مشتق من لفظ “زنداله” وهو سجن في ضاحية باردو في تونس العاصمة. جاء الاسم من تبعات التأثير العثماني على البلاد التونسية إثر حكم البايات، فكلمة زندان التركية تعني السجن.
خارج السجن، أطلق المثقفون والنخب سيلاً من التهم والألفاظ على أصحاب الربطية المساجين في اللهجة التونسية وعالمهم الغنائي والقصصي. اعتبروهم مارقين وأشاروا اليهم بأمارات الصعلكة، مثلما حصل مع عروة بن الورد وتأبط شرا والشنفرى والسليك بن السلكة الذين أُفردوا “… إفراد البعير المعبد” من قبائلهم، فهاموا على وجوههم في الصحراء يغيرون على الميسورين ويوزعون المغانم على الفقراء وضعاف الحال.
أحد هؤلاء الذين كانوا من صعاليك المدينة وأبطال قصصها هو القدالي.
عاش القدالي في أواخر القرن التاسع عشر في الحاضرة تونس العاصمة واشتهر بكونه من “أشراف” قطاع الطرق، إذ كان يرأس عصابة تعترض ميسوري الحال وتنهب أملاكهم، ليقتسم المغانم ليلا مع ندمائه وأصدقائه من مهمشي المدينة ويوزع قسطاً آخر على الفقراء. تظهر في هذه الأغنية التي تصنف ضمن الزندالي حسرة رفاق القدالي على تركه عالم الصعلكة وإعلانه توبته بعد أن قام بأداء الحج للتكفير عن ذنوبه. في الأغنية حديث المسامرات واسترجاع ملاحم الماضي ومغامرات العصابة بعد أن سقط أغلبهم وأودع باقيهم السجن، فنراهم يتحسرون على أمجاد الصعلكة بقيادة القدالي. في الفيديو تظهر رقصة الزوفري تعريب لكلمة les ouvriers، أي العمال بالفرنسية والتي هي رقصة عمال ترافق أغاني المزود. يتم في الزوفري التركيز على حركات الساعد واليدين في إشارة إلى القوة العضلية والعمل اليدوي.
إلى جانب القدالي وقصصه، هناك قدور النيغاوي، أحد الورقات المنفلتة من ذاكرة الصعاليك، يكتب شعره داخل السجن، متغنيا بمعشوقته فاطمة، وممنياً نفسه بلقاء قريب بعد خروجه من الزنزانة:
في هذه الأغنية التي أداها الشيخ العفريت نرى كيف ينزع الزندالي قشور المجتمع الأخلاقية. فهو يرد على قسوة التهميش بعنف الصور الشعرية التي تُكسر أقفاص المجتمع وتفجر مكنونات الرغبة الإباحية في تجرد من كل الضوابط الأخلاقية والدينية. يجنح الشاعر إلى استعمال الصور الحسية ويعبّر صراحة عن رغبته في لقاء حبيبته التي تناسته بفعل مدة المحكومية، فتراه يتحسر على الأيام الخوالي عندما كانت فسحة الحياة تمنحه إشباع رغباته: “لو كنت نعرف فاطمة تنساني، لا كنت نوصل ريقها وانمصه“ لو عرفت أن فاطمة ستنساني، لم أكن لأمص لها ريقها.
يعتبر الشيخ العفريت – الذي خصصنا له مقالاً سابقاً – من الرائدين في الزنداليات، إذ لحّن وغنى كثيراً من الأشعار السجنية التي خطها أصحاب الربطية. ينهل الشيخ العفريت من ذاكرة الزندالي فيغني “أنا ماذابيا نعيش بكيفي في حرية“ أنا أتمنى لو أني أعيش في حرية. هذه الحرية ليست فقط خارج الأقفاص السجنية، بل في تلبية رغباته من دون ضوابط و رقابة المجتمع.
مع أن الزنداليات كانت ترجماناً لألم الحياة داخل الزنزانة ووليدة الشعور بالظلم والمهانة، إلا أنها اكتنزت في بعض الأحيان سخرية سوداء ونكتة عبثية. لم يفت ذلك الفكاهي صالح الخميسي أحد أعلام تجربة تحت السور، إذ يروي قصته في السجن مع رفيق له في أغنية يا بودفة اسم للسجن في تونس شبحتنا تنظر إلينا. المعنى هو أن السجن دوماً يتربص بالمهمشين والبوهيميين أمثال صالح الخميسي ورفاقه. قبل الشروع في الغناء، يتكلم العم صليح – كما كان يلقب – عن الحكاية التي أدت به إلى السجن اثر ما حدث أثناء متابعته لمباراة كرة قدم مع صديقه.
نقل صالح الفرزيط، أحد عمالقة المزود، أغنية نيران جاشي شاعلة ميقودة أحشائي تشتعل ألماً عن رجل قضى مدة محكومية طويلة مؤلمة. كانت له زوجة جميلة أحبها كثيراً وظلت وفية له تزوره في السجن وتحمل إليه قفة المؤونة. لحظها ذات مرة مدير السجن، وبدأ يهمس إليها في كل زيارة بترك زوجها، مذكراً إياه بقسوة الزمن الذي سيلتهم عمرها وشبابها.
بعد فترة أذعنت المرأة لإغواء مدير السجن وهرسلته المستمرة، وقبلت أن تترك زوجها لتصبح زوجة مدير السجن صاحب السلطة والقرار. حزن الرجل لغياب زوجته وكفها عن زيارته، وأصابه كرب شديد إزاء غيابها.
كان من عادة مدير السجن أن يستغل السجناء ويحملهم معه للقيام بأشغال في منزله من دون مقابل يذكر. ذات يوم كان ذلك الزوج المكروب أحد هؤلاء. بعد العمل ساعات طويلة تحت الشمس الحارقة، جلس تحت شجرة ليتظلل بعد أن أنهكه التعب والعطش. لمحته زوجة المدير وهمت بحمل الماء إليه. اقتربت منه، واكتشف هول الفاجعة.
عند عودته للزنزانة، ظل يردد “نيران جاشي شاعلة ميقودة“. أتم قصيدته من فرط عذابه، وظل رفاقه في السجن يرددون الأغنية من دون أن يعلموا قصتها. عند الإفراج عن الرجل طلب منه أن يكشف سر القصيدة، فروى القصة وأعاد شريط الأحداث في ذهنه فسكنه نفس الألم. لم يتم ليلته الأخيرة، إذ مات قبل أن يغادر السجن نحو مجتمع لفظه وسلبه كل سبل الحياة خارج القضبان.
في حفلاته كان الفرزيط دوماً يرتدي الدنقري، وهو لباس الزوفري العامل والفئات الشعبية، ومريول بحرية، في إشارة منه إلى الإنحياز إلى المهمشين. أشار هذا الإنحياز إلى نزعة تحررية سكنت صالح الفرزيط حمّلها فيما بعد طابعاً سياسياً صريحاً، إذ كانت له حكاية مع السجن الذي قضى فيه ربطية. في تلك الفترة، كتب الفرزيط وغنى “ارضي علينا يالميمة رانا مضامين، نستناو في العفو يجينا من ستة وسبعين“، التي يطالب فيها النظام بحقوقه المدنية. فالسجين الذي يغادر السجن يُسلب من حقوقه المدنية ويلفظه المجتمع:
كلمات الأغنية:
ارضي علينا يالميمة رانا مضامين (رضاك يا أماه، فنحن مظلومين)
نستناو في العفو يجينا من ستة وسبعين (ننتظر صدور العفو –الذي يعني به إسترجاع الحقوق المدنية – منذ سنة ١٩٧٦)
ارضي علينا يالميمة رانا مضامين
التفتيشات إتبع فينا حتى في الملاسين (التفتيشات فرقة أمنية تتبع وزارة الداخلية في عهد بورقيبة)
يروي الفرزيط كيف أن عداءه لبورقيبة لم يكن بسب تلك الأغنية وجرأتها، بل كونه اشتغل – بورقيبة – كعازف طبول مع صالح المهدي، أحد مؤسسي الرشيدية، تعمل فرقة عملت على جمع وتدوين المقامات التونسية والمالوف التونسيعندما كانا طالباً في فرنسا، وهو ما جعله يناصب العداء لموسيقى المزود والزندالي كونها موسيقى شعبية. تعاظم هذا العداء إثر تولي بورقيبة لدفة الحكم المطلق في تونس.
صدف أن تتزامن محكومية الفرزيط مع تواجد رعيل من سجناء حركة آفاق العامل التونسي اليسارية. كان منهم فاضل الجزيري الذي استدعى الفرزيط في عرض النوبة أوائل التسعينات وطلب منه أن يغني “ارضي علينا يالميمة“. من ضمن ذلك الجيل اليساري كان المخرج السينمائي النوري بوزيد الذي وثق لتلك الفترة في فيلم صفائح من ذهب الذي يروي حالة التمزق التي يعيشها السجين اليساري اثر خروجه من السجن، حيث يجد نفسه في مجتمع عصفت به التقلبات وانهار معها مشروع التغيير الذي طالما حلم به ورفاقه. كان النوري بوزيد شاعراً عاميا أيضاً ودائما ما أثث ليالي السجن مع رفاقه بقصائد من نظمه. في أغنية الفيلم، كان هو كاتب الكلمات، و أما اللحن و الأداء فهو لأنور براهم:
في ليالي السجن الطويلة، كان مناضلو حركة آفاق يؤلفون الأشعار والأغاني ويختاروا لها من الألحان ما علق بذاكرتهم قبل دخول السجن. لا تختلف الأغنية عن باقي الأشكال الفنية المتاحة داخل السجن. جلبير نقاش مثلا، أحد علامات اليسار الستيني لحركة آفاق، نجح في كتابة رواية داخل السجن على لفافات التبغ الكريستال، وهو تبغ شعبي يدخنه عامة الناس. أطلق على روايته فيما بعد نفس الإسم: كريستال. داخل عالم الزندالي إذاً، يعيد السجناء توزيع القوانين وفق تراتبية تقف عن نقيض نظم المجتمع. ينقلب السجن إلى مصفوفة موسيقية تحول مفرداته وقصصه إلى أغان تنشد التحرر من داخل منظومة المراقبة والعقاب، لتصبح الأغاني خيوط إفلات تسطر خارطة هرب من السجن ومن قيود المجتمع عامة.
وثّقت أغاني السجون لأحداث منسية ومرويات لصيقة بالمتخيل واليومي، كما أنها خاطبت أيضاً الأحداث الكبرى. في هذا المقطع من دراما “قمرة سيدي المحروس” الذي بث على التلفاز التونسي في رمضان ٢٠٠١، عمد المخرج صلاح الدين الصيد إلى الإشارة إلى حدث اغتيال النقابي فرحات حشاد من قبل منظمة اليد الحمراء التابعة للإستعمار الفرنسي عبر أغنية خبر الممات كيف جانا، وهي ملطمية شعبية ألقتها إحدى النساء بمنطقة الجم بالوسط التونسي اثر سماعها نبأ الإغتيال. ظلت الأغنية تُردد في سجون الاستعنار آنذاك بين المقاومين، ونجح مخرج الدراما في رسم ملامح تلك الفترة وأثر الفاجعة على عموم التونسيين:
الشيخ العفريت، ذلك الرجل الذي سلبه مدير السجن حبيبته، صالح الفرزيط ومساجين حركة آفاق، العامل التونسي، منحوا الزنداليات تاريخا غنائيا ولحنيا من عصارة ذلك المكان/الإسفنجة، ليظل عصياً على النسيان. السجن هو السجن أينما كان. فضاء صلب مغلق. والموسيقى أيضاً هي الموسيقى، ألحان وإيقاعات تهب السجين مساحات أوسع. هذه العلاقة بين السجن والموسيقى يعبْر عنها مشهد مفضل لدي في فيلم The Shawshank Redemption، يظهر فيه السجين آندي (تيم روبينز) وهو يتسلل إلى مكتب حارس السجن الذي دخل الحمام، ثم يغلق الباب وراءه ويشغّل اسطوانة، مذيعاً بذلك مقطعاً من أوبرا زواج فيغارو لموزارت على السجناء. في الأثناء، نسمع العجوز ريد (مورغان فريمان) يقول: “ليس لدي أدنى فكرة حتى اليوم عما غنت تلكم السيدتان الإيطاليتان. والحقيقة، لا أريد أن أعرف. هناك أشياء من الأفضل ألا تُحكى. أود أن أفكر أنهن غنتا عن شيء جميل جداً لدرجة أن الكلمات لا تسع التعبير عنه، ويجعل القلب يتألم لهذا. أقول لك هذه الأصوات تصاعدت أعلى وأبعد مما يجرؤ أي أحد في مكان رمادي أن يحلم. كانت وكأن عصفوراً جميلاً ضرب جناحيه داخل قفصنا المعتم الصغير وجعل هذه الجدران تتفكك. ولأقصر اللحظات، شعر كل رجل في شوشانك أنه حر.”