fbpx .

السنباطي الذي ضاع

عبد الهادي بازرباشي ۲۰۱۸/۰٦/۱٤

“تخيّل لو عبد الوهاب ما كانش يقدر يغني، ازاي هيعمل الليل لما خلي؟ مين هيغنيها؟”، تساءل مرة زميلي في معازف ياسر عبد الله. “كان عطى ألحانه لـ أم كلثوم وأسمهان،” قلت له. هذا ما فعله محمد القصبجي، وهذا ما فعله رياض السنباطي. لكن على عكس القصبجي، كان السنباطي في صباه صاحب صوتٍ جميلٍ وقادر، حتى أن سيّد درويش حين سمعه في المنصورة طلب من والده أن يسمح له بأخذه إلى الاسكندرية ليأخذه تحت جنحه ويجعل منه نجمًا. لكن السنباطي الصبي كان آخر العنقود بعد أخواته الفتيات، وكان عليه أن يبقى ليساعد والده في كسب قوت العائلة عن طريق الغناء معه في الأفراح. لم تكن تلك المرة الأخيرة التي ضاعت فيها على السنباطي فرصة لتحقيق النجومية.

ذاع صيت السنباطي الصبي في هذه الأفراح حتى أصبح يُعرف بـ بلبل المنصورة، ثم ظهرت أم كلثوم وبدأ اسمها ينتشر حتى غار السنباطي وقال لنفسه: “بلبل المنصورة هيضيع!”. كان هذا قبل أن يُصاب بالتيفوئيد ويضعف صوته، ويُخبر أهله بأنه استغنى عن حلمه بأن يصبح مطربًا. بعد سنوات، غادر السنباطي المنصورة إلى القاهرة ليصبح مغنيًا، وفاز في مسابقة في معهد الموسيقى العربيّة جائزتها فرصة دراسة الغناء على نفقة المعهد. بالإضافة إلى ذلك، تم تعيينه أستاذًا للعود.

في القاهرة، خلال حديثٍ موسيقيٍّ ليليّ مع المطرب محمد صادق كتاب السنباطي وجيل العمالقة لصميم الشريف، تعرّف السنباطي بالمؤلف مدحت عاصم الذي استوقفه حديثهما وقرر المشاركة، ثم انتقل الجميع إلى شقة رياض لاستكمال السهرة. هناك غنى السنباطي من ألحانه وألحان غيره حتى الصباح، فجوبه بالدهشة والاستحسان، وعلِقَ لحنه لقصيدة يا مشرق البسمات في ذاكرة مدحت عاصم الذي قرر أن يتصل بـ ليتو باروخ، المصري اليهودي صاحب شركة إنتاج أسطوانات أوديون. قدم عاصم السنباطي على أنه ملحن فقط، ولم يذكر غناءه. ربما لم تكن هذه المرة الأولى التي أُنكرت فيها أهمية صوت السنباطي بعد إصابته بالتيفوئيد، لكنها كانت المرة الأولى التي حصل فيها ذلك بشكل مباشر. أُعجب باروخ بما سمعه، وتعاقد مع السنباطي على التلحين لمطربي الشركة، بهذا، أُجبر السنباطي على التخلي مرة أخرى عن حلمه بالغناء.

حين بدأ السنباطي بالتلحين عام ١٩٢٩ كان القصبجي قد غير معالم المشهد الموسيقي العربي إلى الأبد بمونولوجاته، وسار على طريقه الجميع، بمن فيهم زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، بالإضافة إلى أن أهم صوتين غنائيَّين على الساحة وقتها كانا عبد الوهاب الذي لا يغني ألحان غيره، وأم كلثوم التي صعدت بألحان القصبجي إلى القمّة. قمتان هما إذًا، قمة الغناء البعيدة المنال على الوافد الجديد، وقمة التلحين التي تربع فوقها القصبجي، والذي بقي التفوق عليه هاجسًا عند السنباطي لأكثر من عقدَين.

كان القصبجي يكبر السنباطي عمرًا وخبرةً وعلمًا، والملحن الرئيسي لـ أم كلثوم، في حين كان السنباطي صاحب موهبةٍ قدمت نتائج ما زالت تذهل الدارسين، وهي قدرته على تقمُّص شخصية غيره، سواء كان ملحنًا أو مطربًا، فنجده قصبجيًا لدرجة حيرت المؤرخين في معرفة هوية صاحب أعمالٍ مثل بعثت لك في الليل روحي، أعبد جمالك واتألم وتتباهى بالدمع يجري من عيني مع نادرة الشاميّة، وكان الآتي من مدرسة النهضة في ليه يا بنفسج مع صالح عبد الحي، الشعبي في شفت حبيبي وفرحت معاه مع محمد عبد المطلب، خبير الأغنية السينمائيّة في مين يشتري الورد مني مع ليلى مراد، المُخَضرم في اللحن المسرحي في أوبريت مجنون ليلى مع عادل مأمون وكارم محمود وسعاد محمد، ورائد الخفّة في بشويش على عقلك بشويش مع صباح.

منافسة القصبجي كانت محرّكًا لتطوّر السنباطي وتقديمه جوانبًا متباينة فقدناها بعد توقف القصبجي عن التلحين. فوراء غلبت اصالح في روحي مع أم كلثوم نحس إصرارًا على تقديم ندٍّ لـ رق الحبيب بما فيها من تأليفٍ في المقدمة واللوازم والبدء من المقام ذاته والقيام بتحويلات مشابهة، كما تبدو حبيب الروح مع ليلى مراد بطريقة توظيف الكورال فيها ردًّا على أنا قلبي دليلي. أثمرت المنافسة مع القصبجي وغيره أيضًا لونًا مختلفًا لا هو السنباطي الوقور الأكثر شهرةً اليوم ولا المحاكي لأسلوب القصبجي في ضخامة التأليف وبساطة التذوّق، ولا حتى المتأثر بالخفّة الوهابيّة السينمائيّة. هو لونٌ سنباطيٌّ خاص، مفعم بحيويّة نادرة في يا أوتومبيل مع نور الهدى، برومانسيّة كالسحر في إوعى يكون فات الأوان مع ليلى مراد، وبفخامة مترافقة مع رشاقة الانتقال بين الأجواء والإيقاعات وتوزيع أدوار استثنائي بين المغني من جهة والموسيقى والكورال من جهة في قصيدة رحيل القافلة مع سعاد زكي. يصعب تخيُّل غناء أم كلثوم لأيٍّ من الأغاني الثلاثة الأخيرة، فهي الست. كما يصعب اليوم أيضًا إيجاد من يعرف هذه الأغاني، فهي ليست لـ الست.

في عام ١٩٣٤ افتُتِحت الإذاعة المصرية الرسميّة وكانت نقطة تحول في تاريخ الموسيقى والغناء في مصر والعالم العربي. كانت أول إذاعة رسميّة عربية، وكلّف القائمون عليها السنباطي بتقديم فقرات عزف وغناء أسبوعيّة بالإضافة لتلحينه لمطربي الإذاعة. لم يكن السنباطي وقتها معروفًا إلا بين المشتغلين في الوسط، فاختار أن يعطي الألحان الجماهيريّة لغيره ريثما يُرسّخ صوته في الأسماع.  كان رائدَ الجماهيريّة في تلك الأيام محمد عبد الوهاب. لذلك لجأ السنباطي إلى تقديم أغنية فيها من تماسك ألحان القصبجي ومهابة جمله اللحنيّة وتوظيفاته للآلات، مع ألعاب عبد الوهاب الإيقاعية وتجاربه بالتوزيع وسعيه لفخامةٍ آلاتيّة لم تتوافر بعد في الفرق العربيّة. كانت الأغنية هي يا آسرة قلبي لـ عبد الغني السيّد، والتي يُمكن لسمّيع عبد الوهاب أن ينسبها إليه دون الكثير من التفكير وأن يعتبرها المرحلة الانتقاليّة بين الليل لما خلي وأُعجبت بي التي تنهل من تأثيراتها وأجوائها. أما سمّيع القصبجي فسيلاحظ كاستنيات ياللي جفاك المنام لـ أم كلثوم، وستُذكّره بعض الجمل الغنائيّة بـ يا حياتي ليه لـ منيرة المهدية، كما ستمر لازمةٌ تستحضر أجواء انظري هذي دموع الفرح لـ أم كلثوم الصادرة في العام ذاته.

لم تُحقّق تجربة السنباطي الناجحة فنيًّا ذلك النجاح الجماهيريّ، وتعلّم أن الجماهير لا تستقبل اللحن الوهابي بنفس الحفاوة إن لم يحمل اسمه. في عام ١٩٣٥ ظهرت أغنية بدأت فيها الشخصية السنباطيّة بالتبلور إلى جانب التأثيرات القصبجيّة، اللحن هذه المرة كان لقصيدة غاب بدري مع عبد الغني السيد، قالبٌ لم ينل الكثير من اهتمام القصبجي، لكنه كان مفضلًا لدى السنباطي. تميّزت القصيدة بتطوُّرٍ في صياغة المقدمة واللوازم الدراميّة وتقطيع الشعر، لتكون من أولى القصائد السنباطيّة المهمّة. لكن مرة أُخرى، لم تحقّق الأغنية ذاك الأثر، وظهرت أُعجبت بي لـ محمد عبد الوهاب في العام ذاته لتُنسي الناس (والمؤرخين لاحقًا) يا آسرة قلبي وغاب بدري، وتُعتبر سباقةً في صياغتها وتعاملها المغاير مع القصيدة. كان ذلك أول صدام كبير بين فن السنباطي والجماهيريّة.

بعد ثلاث سنوات، أصبح السنباطي اسمًا مُنتظرًا في برنامج الإذاعة الأسبوعي، وأحد ثلاثي ملحني أم كلثوم الذي قدم معها نجاحاتٍ كـ سلوا كؤوس الطلا، على بلد المحبوب وديني، يا طول عذابي، فاكر لما كنت جنبي، أتعجل العمر، قضيت حياتي، النوم يداعب عيون حبيبي، وافرح يا قلبي. عندها وجد السنباطي الفرصة مناسبة لتقديم علامة موسيقيّة بصوته علها تصل إلى ما لم تصل إليه أغنيتاه مع عبد الغني السيّد، وهي قصيدة يا نجمةً في سناكِ التي سجلها في إذاعة القاهرة عام ١٩٣٨ ثم في إذاعة لندن عام ١٩٤٠، مسبوقةً بمقطوعة إليها. قصيدة تتناوب فيها أجزاء الشعر العمودي والأفقي، لحنها حُرٌّ، متماسك الصياغة وغير محصور بحقبته. تبدأ القصيدة بليالٍ مُطرِبة وكأننا في أجواء وصلة نهضويّة، لننتقل فجأة إلى مقدّمة سيمفونيّة نابضة يستعملها السنباطي في مواضع مختلفة وغير منتظمة على طول القصيدة. تُشكّل اللازمة بالإضافة لتوحيد لحن آخر بيت في أجزاء الشعر الحر وإتباعه بالمذهب القصير “يا نجمتي” أداة السنباطي في جمع أجزاء القصيدة برباطٍ متين، بحيث لا يقيّد انطلاقه مع خياله الشعري في تقطيع المقاطع والأشطر والكلمات ضمن الشطر الواحد، ومواضع تنويع اللوازم وطولها. استحقت يا نجمة في سناكِ أن تكون حدثًا في تلحين القصيدة وفي التلحين بشكل عام، لكنها لم تكن بصوت أم كلثوم أو عبد الوهاب، فنُسيَت، خاصةً بعد صدور الجندول لـ عبد الوهاب في العام التالي واعتبارها الفتح الأول من نوعه في تحرير قالب القصيدة، رغم أن السنباطي قام بذلك قبل عام. وقتها، فهم السنباطي أن الفن وحده لا يصنع نجمًا.

لم يقبل السنباطي أن تكون هذه نهاية لحنَيه، إليها ويا نجمةً في سناكِ، فقرّر نقل جملٍ منهما إلى أغاني النجوم. بدأ ذلك بضم جزء كبير من المقطوعة إلى مقدمة قصيدة اذكريني مع أم كلثوم، لتعيش وتنتشر بقدر ما تستحق، كما ضم مقدمة يا نجمةً في سناك إلى مقدمة قصيدة رأى اللوم من كل الجهات فراعه مع فتحيّة أحمد، لتنتشر معها أكثر مما انتشرت معه، لكن تجاهُل تاريخ فتحية أحمد لاحقًا أفضى إلى نسيانها أيضًا.

في عام ١٩٤٦ افتُتحت سلسلة قصائد دينية لـ أحمد شوقي بصوت أم كلثوم وألحان السنباطي، أحدثت دويًا مستمرًا حتى زمننا فاعتبرتها صحيفة الجارديان الحدث الذي صعد بأم كلثوم إلى قمتها. كانت إحدى هذه القصائد نهج البردة التي يعتبرها البعض أهم علامات الموسيقى الصوفية في الغناء العربي، لكن مالم تعرفه ربما أم كلثوم نفسها، أو أيٌّ منا حتى إعداد هذا المقال، أن جزءًا كبيرًا من لحن الأغنية كان قد ألفه السنباطي لأسمهان قبل سنوات. في مطلع الأربعينات قدم السنباطي لـ أسمهان أغنيتَين قدمتهما على الهواء، الدنيا ف إيدي وقصيدة أقرطبة الغراء لـ ابن زيدون، لكنها توفيت قبل أن تسجلهما، أعطى السنباطي الأولى لـ أحلام، لتمضي بهدوءٍ لا يليق بها وبجمال أداء أحلام، كما أعطى أقرطبة الغراء لـ صالح عبد الحي أيضًا دون حصولها على أي تقدير. إثر ذلك قام السنباطي بسابقةٍ لم يُكررها، هي استعمال أجزاء كبيرة من لحن أقرطبة الغراء في لحنه لنهج البردة، أمرٌ ظل سره متواريًا وراء أسطورة اللحن الذي أُلّف في ثلاث ساعات. لم يسمع اللحن بصوت صالح عبد الحي إلا قلة يعرفون أن قيمة اللحن لم تزد بـ “كلثمته” كما تقول الأسطورة عن كثيرٍ من أغاني أم كلثوم. بقيت الأجزاء المنقولة  كما هي، سواءٌ في موسيقى المقدمة واللوازم أو في الغناء، لكن كحال يا نجمةً في سناكِ، احتاج اللحن إلى اسمٍ لامع.

بعد يا نجمةً في سناكِ، قام السنباطي بمحاولتَين آخرتَين لمتابعة طريق الغناء والنجوميّة إلى جانب التلحين. نجحت أولاهما وهي قصيدة فجر عام ١٩٤٤ التي اعتُبرت بصمة السنباطي الأهم في المرحلة الرومانسية المتميزة بالتحرر من القوالب. أما المحاولة الثانية فهي تجربته السينمائيّة الوحيدة في فيلم حبيب قلبي الذي لحن أغانيه وتشارك بطولته مع هدى سلطان. صدر الفيلم عام ١٩٥٢ متزامنًا مع ثورة يوليو فلم يجد جمهورًا واسعًا، وإن نجحت أغانيه وخاصةً على عودي التي صوّرت شخصيّته بشكلٍ يجعل من الغريب أنها كانت من كلمات غيره. غامر السنباطي الخجول بدخول تجربة التمثيل على مضض، ربما طمعًا في أن تمنحه الشعبيّة التي يحتاجها لتقديم الألحان التي لا يأمن غيره عليها، لكنه وجد أن الثمن باهظ، خاصةً بعد تنازله عن عزلته ومنحه الناس فرصة محاكمة مدى امتلاكه لموهبة التمثيل التي لا تعنيه، فتوقف بشكل شبه نهائي عن الغناء بعد هذه التجربة، وأصدر فقط اللحنين الدينيّن ربّي سبحانك وإله الكون في العقد والنصف اللاحق. خسرنا بذلك وجهًا آخر هو الأهم من السنباطي غير الكلثومي، الأكثر حريّة لأن الصوت صوته، أكثر شاعريّةً حيث لا اضطرار للتطريب المسرحي، أكثر اختلافًا في اختيار النصوص، وأكثر شبابًا، كما في فجر، يا نجمةً في سناكِ، وعلى عودي.

في النهاية نال السنباطي بعض التقدير، لكن ذلك قيّد إبداعه بدل أن يُطلقه، وأصبح سببًا إضافيًّا لغياب الوجوه المتباينة لألحانه. كان ذلك بسبب أثر الإعلام ومثاليّاته، خاصةً بعد ثورة يوليو، حيث صوّر الوقار الكلثومي على أنه الممثل الحقيقي للفن، ما أثّر للأسف بالسنباطي التوّاق لتقديرٍ يستحقّه، إذ يُمنح بهذا الكلام مكانةً لا ينالها الكثيرون ممن يقفون وراء الكواليس كونه مُلحن أم كلثوم شبه الوحيد في هذه الفترة، ومن يقف وراء قمم قصائدها، فتخلى السنباطي عن الخفة والمرح اللذين برع فيهما مع صباح وليلى مراد وشادية ونور الهدى ومحمد عبد المطلب، وقرّر أن يُتابع على المسار “الجاد”.

صحيحٌ أن هذا المسار هو الأقرب للسنباطي بشكلٍ عام كونه يُفضّل القصائد ويحب منحها هيبةً خاصّة، وأنه قدم فيه ما لا يُنسى مع فتحية أحمد وشهرزاد ونجاة الصغيرة ووردة وفايزة أحمد ونازك وسعاد محمد وغيرهن، لكننا حُرِمنا من أن يُعطي في كل لون ما لا يعوضنا عنه غيره. يؤكَّد هذا الأمر بعد سماع الأغاني الناتجة عن نجاح الأطلال.

في الستينات وخاصةً بعد إنت عمري أُصيب الإعلام بهوس أم كلثوم، فقد أصبحت محط أنظار محبيها، محبي عبد الوهاب، والجمهور الشاب الذي أحب اجتماعهما الذي ذهب بالكثير من وقار الست وفخامة الألحان والإيقاعات التي ترافقها، ما جعل نجاح الأطلال يحقق صدًى مُدوّيًا، ليبدأ الصحفيون بالبحث عن الملحن، هذه المرة لأنه ليس عبد الوهاب. أصبح السنباطي فجأة نجمًا كما حلم طويلًا، ما أعطاه دفعة معنوية جعلته يعود إلى الغناء وأكسبنا أعمالًا تُشعرنا بحجم ما خسرناه بإقلاله من ألحانه لنفسه. في الأغاني التي قدمها بصوته في هذه الفترة مثل حكاية في حينا وذات يوم يا حبيبي وروّعوه فتولّى، نجد الحُرّيّة الرومانسيّة التي افتقدناها منذ فجر وعلى عودي، المميزة بتقديم الشاعريّة والسرديّة على التطريب، واختيار نصوصٍ مختلفة. لولا الأطلال ربما كنا خسرنا يا حبيب الروح، وحتى أشواق، التي وصفها عازف العود والمؤلف نزار روحانا بأنها مُجسّدة لكل ما أراد السنباطي تقديمه في مسيرته، خاصةً في التأليف الآلاتي. كنا خسرنا أيضًا لا تقل لي ضاع حبي من يدي، التي كان يُلحّنها السنباطي لنفسه قبل أن تطلب منه وردة لحنًا فأكمله بناءً على ذلك ومنحها إياه، وأصبح من أبرز نجاحات السنباطي ما بعد الكلثومي، الذي استمر بتقديم أعمالٍ مهمة كـ والتقينا وما بين همسك يا هوايا مع عزيزة جلال، ساعة زمن مع ميادة الحناوي، لا يا روح قلبي مع فايزة أحمد، وأمشي إليك وآه لو تدري بحالي وبيني وبينك خمرة وأغاني التي أعدها لفيروز ولم تغنها لأسباب ناقشناها في مقالٍ سابق، وبقيت منها نُسَخٌ بصوته المُتعَب الذي ما زال قادرًا وعاشقًا.

“ملقتش صوت يؤديها بأمانة زي سعاد. بس سعاد للأسف، الجمهور يسمعها ويبقى مبسوط جدًّا وهيعمل إيه، وبعد كده تلاقي مفيش حاجة، ينساها بسرعة. معندهاش الحظ اللي بيقولوا عليه الحظ السعيد، مع إن صوتها قادر وبيقول وكل حاجة.” علّق السنباطي على القصيدة الأخيرة التي لحنها لأم كلثوم ولم تغنها بسبب المرض، ليمنحها لـ سعاد محمد. أما حين سُئل عن نشاطه مع مطربين آخرين خلال عمله مع أم كلثوم، أجاب: “كنت الحّن بتكليف من الإذاعة رسمي، للمطربات الصغيرين يعني، زي نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، لحنتلهم حاجات زمان. بس الحاجات الحديثة دلوقتي اللي بيقولوها خلاص نست الناس الألحان اللي لحنتهالهم انا زمان.” يُلخّص السنباطي بهذين التعليقَين أزمته وطريقته بالتغلب عليها. أزمة الجودة دون الحظ، وحظ أم كلثوم.

بدأ السنباطي غير الكلثومي  منذ نهاية العقد الثالث في القرن الماضي وحتى مطلع العقد التاسع، وترك ما يزيد عن خمسمائة أغنية بأصوات أكثر من ٦٥ مطربٍ ومطربة كان فيها جل أمجادهم. استطاع هضم أي مدرسة والإتيان بنتاجٍ ينافس أفضل نتاجها. أتى بجملٍ قصبجيّة قبل القصبجي نفسه في النوم يُداعب عيون حبيبي التي تبدأ بما يُذكّرنا بـ رق الحبيب رغم أنها سبقتها بست سنوات، دون أن نستطيع القول إن القصبجي اقتبس من السنباطي، فالجملة قصبجيّة الطابع بالكامل. كذلك الأمر مع لازمة في يا نجمةً في سناكِ التي كانت نواة اللازمة الأساسيّة في بتبص لي كده ليه للقصبجي وسبقتها بثلاث سنوات. تكرر ذلك مع عبد الوهاب، فالإيقاع والأجواء في جزء من مقطوعة إليها للسنباطي مُكرّرة في مقطوعة من الشرق لـ عبد الوهاب، وهناك لازمة في قصيدة أتعجل العمر مكررة في قصيدة الكرنك، صحيحٌ أن هذه الجمل ظهرت عند السنباطي قبل عبد الوهاب، وأن عبد الوهاب من أشهر المقتبسين، لكن هنا بالذات لا يُمكن أن نجزم باقتباسه لأن هذه الجمل وهابيّة الطابع، والسنباطي قادر على تقمٌّص من يريد، حتى زكريا أحمد الذي نسب إليه الكثيرون لحن أروح لمين رغم أنه للسنباطي.

كان السنباطي غير الكلثومي أيضًا قادرًا على التلوُّن والتكيُّف مع أغلب الأجواء اللحنيّة بشكلٍ خاصٍّ به كما في يا أوتومبيل ورحيل القافلة وإوعى يكون فات الأوان، مُفيدًا من خصائص الأصوات التي يتعامل معها، كما فعل مع صباح في راحت ليالي وجات ليالي البعيدة عن أجوائها المعتادة والمُقدِّمة جانبًا نتمنى لو أن ظهوره لم يكن بهذه الندرة، كما أفاد من جمال صوته لتقديم أعمالٍ بحُرية يمكن بتتبعها فهمه وتقديره بشكلٍ أكبر، وفهم أن تعامله مع أم كلثوم منحه مساحاتٍ انفعاليّة وحسّيّة أكبر، لكنه لم يكن الطريق الوحيد لما أراد تحقيقه في الموسيقى كما كان للقصبجي، إنما كان المنبر المثالي الذي جعل زخم وتطور التأليف الموسيقي عنده يصل إلى ما يستحقه من الانتشار والتقدير.

قال السنباطي “قصة حياتي أم كلثوم”، لكن لحياته أكثر من قصة ضاع كثير منها. ضاعت قصة السنباطي الشقي المرح، الرومانسي الذي لا يرى الجمهور حين يرى حبيبه، ضاعت قصة السنباطي الذي يجرّب دون قيد، الشعبي، وضاعت قصة السنباطي المُغنّي الذي لو لاقى ما يكفي من المستمعين لاستمر كل ما سبق من قصص. يتضمن ذلك أيضًا ما قد نعتبره  إحدى أكبر الخسارات لتاريخ الموسيقى، وهي قصة السنباطي مؤلف المقطوعات. رغم كل ما قدمه السنباطي من جمال في الجمل الغنائيّة لا يتفوق عليه فيه إلا القصبجي، يبقى تأليفه الآلاتي في المقدمات واللوازم هو الأهم. لكن حين يجد السنباطي أن العشرات من مؤلفاته قد ضاعت من أرشيف الإذاعة، ويجد أن مقطوعته البليغة لم تلق اهتمامًا إلا في مقدّمة اذكريني لأم كلثوم، ولحنه الخالد لقصيدة أقرطبة الغراء لم ينل المكانة التي يستحقها إلا في نهج البردة، ليس من المستغرب أن يتوقف عن محاولة مقابلة الناس بالفن وحده.

المزيـــد علــى معـــازف