.
في نقاش مع الفنان ضمن مهرجان دوناو السنوي في ولاية النمسا السفلى في النمسا ربيع ٢٠١٨، تحدث عطا ابتكار (صوت) عن مشروع بارالل بيرجا الذي كان في مراحله النهائية وقتها، وتبين لي أنه يحاول خلق وهم لثقافة اصطناعية مفرطة الواقعية (artificial hyperreality) تتحكم بها ”قوة متغطرسة ما تكمن في كل المجرات“، في محاولة تخطيط صوتي يهدف إلى بناء فكرة التجربة ما-بعد الفارسية (Meta-Persian Experience)، لخلق صيغة مغايرة في عالم موازٍ لعالمنا.
من الناحية الموسيقية، فإن هدف صوت حسب قوله هو التوصل إلى نوع من التعددية الإيقاعية من خلال التعددية اللحنية. وجدت هذا الاختزال امتدادًا لجزء ثري من تجربته التي قد يعتبرها البعض في سياق مجال البوست-تكنو (Post-Techno). اتكاء صوت على تراث الدستگاه (أي نظريات الموسيقى الفارسية التقليدية) في الألحان نفسها دون جعلها محور المشروع، معاكس لمشروع سايكرد هُرُر إن ديزاين. بتثبيت تلك التعددية الإيقاعية الخارجة من التعددية اللحنية، وبتدخلات الآلات الموسيقية الإيقاعية والتقليدية الفارسية باستمرارية مثيرة. يبدو لي المشروع بأكمله وكأنه يرتكز على تحول دائم للموسيقى من ناحية اللون (timbre). هذا التركيب اللحني-الإيقاعي هو الذي يسمح للون الموسيقي بالتحول المستمر، ما يجعل هذا التوجه ليس فقط ممتعًا سمعيًا بل وذهنيًا أيضًا. يسمي صوت هذه العملية اللون الثابت (Locked timbre)، وهي عملية مثيرة تطبيقًا وتحليلًا.
يعتمد الألبوم على أصوات إلكترونية وغير إلكترونية يؤديها صوت بنفسه، وآلة السنطور بمصاحبة غنائية، والتمبك التي يعزفها آرش بلوري، وعزف بويا دامادي على التار بمصاحبة غنائية كذلك. الغناء نفسه مبني على أشعار تعود إلى عمر خيام وبيدل دهلاوي، شاعران مختلفان تمامًا، إلا أن قيمة أشعارهما صوتية أكثر منها معنوية، ما قد يتصادم مع المفهوم التقليدي لدور الشعر في الموسيقى الفارسية. هذه الاستعمالات المغايرة للعناصر الصوتية لتتحول إلى عناصر ذات ثقل لوني من خلال تثبيت اللحن والايقاع من دون تأليه الموروث الثقافي الفارسي هي جوهر هذا المشروع، وهي ما تجعل المشروع مهماً في نظري. يستخدم صوت أشعارهما لقيمتها الصوتية وليس المعنوية. هذه الاستعمالات المغايرة للعناصر الصوتية، لتتحول إلى عناصر ذات ثقل لوني من خلال تثبيت اللحن والايقاع من دون تأليه الموروث الثقافي الفارسي، هي جوهر هذا المشروع.
يتكون الألبوم من سبع مقطوعات، عناوينها محمّلة بأوصاف العالم الذي يريد صوت الإيحاء إليه. عالم مكونٌ من محركات ومولّدات للطاقة من المستقبل البعيد، وأجزاء ميكانيكية كثيرة الحراك مصنوعة من الخامات المعدنية الثقيلة، وتنقلات وتحولات لها خواص فيزيائية تفوق ما يوجد في عالمنا الحالي، وتضاريس جغرافية لعالم سقيم جرى تحليلها بتكنولوجيا غريبة علينا. أي عالم من العِلم الشبه أكاديمي الذي يحتوي على أبعاد أخرى لا نعرفها بكل تفاصيلها.
تبدأ المقطوعة الأولى، مودالِتي ترانسبورتر، بتأطير مفهوم التجربة ما-بعد الفارسية. يقدم صوت ومعاونوه صوتًا يزداد تعقيدًا مع سير العمل، فلا نعرف مصدره نفسه. يأتي هذا الصوت أحيانًا من التار، وأحيانًا من السنطور، وأحيانًا من مصادر أخرى الكترونية أو شبه بشرية، فيما يبقى الإيماء إلى تراث الدستگاه محصورًا في تفاصيل ثانوية. تتمثل المقطوعة في النبض الإيقاعي (pulse) الثابت وبعض اللحظات الصامتة التي يستخدمها عطا لبناء بنية المشروع بأكمله، من خلال جعل المستمع يركز على بُعد اللون الثابت الذي ذكرناه.
في مقطوعة برايس تاكس، هناك وجود مستمر لجُملٍ جهورة (basslines) عنيقة وبعيدة في آن واحد. يخلق التناظر بين العنف القادم من بعيد، والذي لا يمكننا إدراك مصدره، وجمال الومضات الموحية إلى الدستگاه، حالة أخاذة ومثيرة للمستمع. كل التحولات في اللون الموسيقي الثابت تركز استماع المستمع على تغير الإيقاع نفسه رغم عدم وجود إيقاع في الصيغة المتعارف عليها. لحظات الذروة في السرد نتاج لتلاطم رنين الذبذبات العلوية (spectral clashes in upper harmonics) واستعمال الفوكودر (vocoder)، وكأن الإنسان نفسه لامركزي في عالم بارالل بيرجا.
تبدأ المقطوعة الثالثة، أتومِك هيبوكرَسي، بضربات حادة صادمة تتحول إلى بطانة صوتية (pad) من خلال تحولات في اللون الصوتي. يخلق صوت مساحة شبه واقعية في العمل من خلال توزيع وتحريك الأصوات التي لا يمكن أن نعرف مصدرها. نجد في الواجهة الكثير من التكرار، أما في الخلفية فنجد ألحان الدستگاه بتحولات معقدة تأتي من خلال الذبذبات العلوية. تبدو كثرة تكرار اللحن المركزي، والذي يتغير من شدة التحولات في اللون، وكأنها تعليق كاريكارتيري. يُشعر هذا التغيير في اللون المستمع وكأنه لا يقف على أرض ثابتة، بل يشككه في وجود أرضية أساسًا. تجعل كل هذه التغييرات اللونية في العمل المستمع يتساءل إن كان اللحن المركزي هو مجموعة من الألحان. المقطوعة الرابعة، ترانس فورس، ذروة أخفض من المقطوعة السابقة، إلا أنها تستعمل نفس فكرة غياب مصدر الأصوات. هناك حركة مستمرة إلى الأمام وإلى الخلف باستعمال اللحن الأساسي شديد الجاذبية والذي نجد فيه سمات الدستگاه. كما تضيف التحليات والأساليب التجريبية في العزف على الآلات التقليدية بناءً إيقاعيًا معقدًا.
في المقطوعة الخامسة، بايب دريمز، يعود صوت إلى العنف الذي وجدناه في المقطوعة الثانية. إذ يُدخل تأثيرات صوتية لم يستخدمها مسبقًا مثل الجرانيولر سنث. يتخلل المقطوعة غناء جماعي شبه طقسي يتقدم باستمرار إلى الأمام. تختفي تدريجيًا أصوات الغناء لكن يبقى لحنها.
تتلاعب آلفا تيرين أوف دِزيز، المقطوعة السادسة، بغموض مصدر الأصوات حيث أن الذبذبات العلوية تتمازج بغزارة. مع مرور الوقت، يتلاشى التمازج اللوني ليبرز صوت سنطور واضح غير ملتزم بالدستگاه. مجددًا يعود الغموض اللوني بقوة ليذكر المستمع بمركزية مفهوم اللون الثابت الذي يقدمه عطا في هذا المشروع. أما في المقطوعة الأخيرة، سودو سكولاستِك، فهو يحاكي المقطوعة الأولى من الألبوم من خلال إدخال آلة التار في لحظات الصمت التي تتخلل الجُملٍ الجهورة العنيفة، والتي لا يمكننا معرفة مصدر الصوت الأصلي لها. التناقض بين رقة التار وعنف الجُمل الجهورة صادم وجميل في الآن نفسه، فيما يتغير لون التار مع مرور الوقت ليبدو وكأنه آلة أخرى. يبلغ العمل ذروته بتركيب ألوان متعددة شديدة موحّدة إيقاعيًا، ما يُشعر المستمع بأن المقصد من اللون الثابت هو خلق حالة موسيقية هاجسها الملمس (texture). المقطوعة شديدة الجمال بالرغم من العنف الكامن في الموسيقى، جاعلةً المستمع بمثابة فراشة ليس أمامها إلا الانجذاب إلى إضاءة كهربائية خطيرة عالية الجهد.
بارالل بيرجا من الألبومات التي يبرز جمالها كلما حاولنا فهم ميكانيكية لغتها. هذا المشروع، بالنسبة لي كمستمع مهتم بتجربة عطا ابتكار، نوع من البيان لمفهوم موسيقى إلكترونية تتعايش في مساحات متعددة قد تُقدم فيها. ينجح عطا ابتكار في التوصل إلى لغة خاصة به في قمة البلاغة من حيث السرد والتقديم. هناك بلا شك بعض الملامح من العمل التي تذكر المستمع بأسلوب داريوش دولتشاهي في تجاربه في الربط بين التار والإلكترونيات في ثمانينات القرن الماضي، إلا أن ما يقدمه ابتكار هنا هو مشروع يفوق كل التجارب السابقة من حيث التركيز والجماليات.