.
يبدو أن الرابر التونسي المقيم في قطر، بلاكود، قد اخترع معنىً جديدًا لمصطلح الإصدار المفاجئ. عامين ونحن ننتظر ألبومه الطويل الأوّل هذا، ليفاجئنا بأن الألبوم قد صدر منذ شهرين، وبأننا قد سمعناه كاملًا بالفعل. حدث ذلك عندما نزّل بلاكود قبل أيام بلايلست تحمل عنوان الألبوم المنتظر “بدون اسم”، مكونة من تسع أغانٍ صدرت بشكلٍ منفرد على طول العامين الماضيين، أحدثها أغنية نِكست الصادرة نهاية العام الماضي.
ثم تسجيل آخر ثلاث أغاني في الألبوم بين ٢٠١٦ وأواخر ٢٠١٧، موثقين حقبة ما قبل التراب في مسيرة بلاكود. نسمع في مثلجات ولطخة رآس بارات عفوية ذات نبرة احتجاجية خفيفية، يلقيها بلاكود كأنها فريستايل فوق موسيقى السموث جاز / سول، وأحيانًا إيقاعات البووم باب الثمانيناتية. في أغنية طبق سوشي، يبدأ حس التهكم المميز لـ بلاكود بالتبلور، كما نسمع بدايات أسلوبه المتأني والحذر في الإلقاء، وكأنه لص يحاول سرقة اللحظة المناسبة، محاطًا بزحام من الآد ليبس غير الواضحة وكأنها ظلال ناتجة عن أكثر من مصدر إضاءة.
وجود بلاكود في قطر جعله في معزل عن الاحتكاك المباشر بأي مشهد راب غني وحيوي، ما تركه للتأثر بالتراب العالمي ثم التونسي ثم الشامي، بهذا الترتيب. ساهم موقع بلاكود الغريب هذا بنحت أسلوب مستقل يصعب نسبه لأي مصدر تأثر واضح. يتضح ذلك في أغنية بلا آيه كود التي تحتل مركز الألبوم. فوق سطر بايس مشوه ووسط آد ليبس وعينات غزيرة مسجّلة بتركيز، يأسر بلاكود مستمعه ببارات يصلح كل منها كـ هووك أو اقتباس: “أنا وشيطاني نتحور / بلاكود أقوى من اللي إنتا تتصور” مستغلًا خامة صوته التي لا تزال تحمل نعومة فتيّة سهلة التمييز.
بلغ بلاكود أفضل معدلات سماعه في أغاني آي بي وآليه آليه ومالي مالي، التي يميل في جميعها إلى الغناء أكثر من الراب، متأثرًا بالراب التونسي والمغاربي والراي بشكلٍ أوضح، وعاثرًا على طرق جديدة لاستغلال خامة صوته المحروفة. تتفوق مالي مالي بين الأغاني الثلاثة، ببايس حيوي ولازمة سهلة الغناء والتكرار، بينما تبدو آليه آليه في بعض اللحظات مقيّدةً بالعينات الوترية التي حرمتها من الانطلاق والأريحية.
نِكست هي إحدى أغاني التراب القليلية التي يسيطر فيها الغناء ويقتاد الإيقاعات كليًا. تكاد إيقاعات التراب التقليلية أن تسكت تمامًا في مقاطع غناء بلاكود، أو تكتفي بمحاكاته وترجمة تدفقاته. رغم إنتاجها المصقول، لا تحمل نِكست الزخم اللازم لأسر مستمعها، لكنها تعوّض عبر فيديو ممتاز من سلسلة لقطات متمهلة تضيّع الحدود بين الساخر والشاعري، حجزت مكانها في قائمتنا لأفضل الأغاني المصورة الصادرة في العالم العربي العام الماضي.
نايس هي أكثر أغاني الألبوم إثارةً للحماس إزاء أسلوب بلاكود المستقبلي. تبدو كإحدى التعاونات الأخيرة بين زولي وأبيوسف، بعينات تراب نظيفة وبايس لعوب وراقص وغير مسرف وآد ليبس اقتصادية. نجح بلاكود سابقًا في الجمع بين الإنكليزي والعربي في أغانيه، لكنه يصل إلى مستوىً جديد من ذلك في نايس، متنقلًا بين اللغتين عدة مرات في البار والجملة الواحدة، بسلاسة توهم المستمع بأنهما لغة وحيدة ثالثة. حتى المجازات المستخدمة هي نصف مشرقية نصف غربية: “نلبس أمّي آيس.” عندما يبدأ بلاكود بتكرار اللازمة موهمًا المستمع بأن الأغنية تنتهي، يقلب تدفقه فجأةً ويعثر على مساحة لمقطع مقتضب في النصف دقيقة الأخيرة: “نعفس على راسه بساقي نجبله مخه لبرا / لإنها مش سباحة حرة.”
قد لا يكون بدون اسم ألبومًا بالمعنى التقليدي، بقدر ما هو مجموعة منتقاة من أفضل أعمال بلاكود الأخيرة، توثق تطوره من راب الساوندكلاود إلى التراب متقن الإنتاج، برفقة خياره (الذي قد يكون اضطراريًا بحكم الجغرافيا) بالامتناع عن التعاون مع أي رابرز أو منتجين سواه (عدا أغنية مثلجات التي تعاون فيها مع المنتج العُماني صلاح الدين). بلاكود جزيرة صغيرة غريبة وسط قارات الراب العربي والعالمي، لكنه يعرف كيف يحوّل حالته هذه إلى أسلوب مستقل يستحق المتابعة لوحده، حتى لو عنى ذلك معاناة موسيقاه من بعض العزلة والمحدودية أحيانًا.