.
في ظهيرة قائظة في شهر تمّوز عام 1993، وبعد صلاة الجمعة، تحرّكت جموع المصلّين لوسط مدينتهم التركيّة الصغيرة “سيفاس“، قاصدين الفندق الذي كان يستضيف مهرجاناً سنويّاً لتخليد ذكرى الشاعر والموسيقيّ العلويّ التركيّ* “بير سلطان عبدال“. وعند وصولهم، حاصرت الجموع الغاضبة الفندق مستهدفين “عزيز نيسين“، الكاتب اليساريّ الذي نشر مقتطفات من ترجمته لرواية “آيات شيطانيّة” المشهورة لسلمان رشدي للغة التركيّة. وبينما كانت الهتافات تتعالى في الخارج: “اقتلوا الكافر“، تمكّن نيسين من الفرار. إلا أن النيران التي أشعلها المحتجّون في الفندق حصدت أرواح 35 ضحيّة من رفاقه، معظمهم من الموسيقيين والشعراء المشاركين في المهرجان، بعد أن منعهم الحشد الغاضب من الخروج. وبالرغم من أن تحقيقات السلطات التركيّة أكّدت أن الهدف الوحيد من الهجوم كان عزيز نيسين، إلا أنّ الكثير من منتسبي الطائفة العلويّة وجدوا في المذبحة هجوماً ذو جذورٍ تاريخيّة طويلة يستهدف موسيقى “بير سلطان عبدال“، وكلّ ما يمثّله من قيم.
دين الموسيقى
يقدّر تعداد الأقليّة العلويّة في تركيا بخمسة عشر مليون نسمة، ممّا يجعلها الطائفة الدينيّة الثانية من حيث العدد بعد الطائفة السنيّة في البلاد. ترجع جذور الطائفة، التي نشأت في القرون الوسطى، إلى خليط فريد من معتقدات الشيعة الأثنى عشريّة والصوفيّة البكتاشيّة، بالإضافة إلى الزرادشتيّة والغنوصيّة والمسيحيّة الأرثوذكسيّة.
تتمركز الفرائض التعبديّة للطائفة حول طقس جماعي يسمى “جيم“، يقوم فيه “العاشق” بالعزف على العود مردّداً سلسلة من الأغاني الروحيّة المتوارثة بترتيب دقيق، بينما يقوم بقيّة المتعبّدين والمتعبّدات بالرقص من حوله في رقصة طقسيّة تعرف باسم “سما“. وفيها، تتعانق الأيدي، وتنتظم الأجساد بدوائر في استعلان بصريّ لوحدة الوجود– وهو المعتقد الأصيل في الإيمان العلويّ.
لا تبدو محوريّة الموسيقى والرقص في الطقوس التعبديّة استثناءً أو حكراً على الطائفة العلويّة، وخاصّة في تركيا التي تملك تراثاً غنيّاً من التقاليد الصوفيّة الموسيقيّة. إلا أنّه بينما لعبت طقوس الذّكر الصوفيّة الشعبيّة، والتي نالت لاحقاً تدعيماً وتنظيماً هيراركيّاً من السلطات العثمانيّة، دوراً هاماً في تثبيت تفسير رسميّ متجانس للإسلام، وبسط نفوذ روحيّ للخلافة على رعايها. لذا، لعبت طقوس الـ“جيم” دوراً معاكساً في تشكيل وحفظ هويّة متمايزة للطائفة العلويّة تعتمد على مفهوم أكثر تحرراً للإنسان بمواجهة السلطة بصورها المختلفة. جاعلة من ” العاشق” وعوده ليس محوراً للفرائض التعبديّة فحسب، بل رمزاً لمقاومة الرواية السلطويّة للدين.
يستعلن هذا التضاد في تراتبيّة الطقس الصوفي، الذي يتسيّد الشيخ قمّته روحيّاً ومركزه بصريّاً، ليكون سبيل المريدين للاستنارة، ووسيطاً بينهم وبين الحقّ. وفي المقابل، يترجم إيماناً عميقاً في وحدة الوجود، واعتقاد في كمال أصليّ للإنسان. هذه الطقوس التي يشترك فيها الرجال والنساء على قدم المساواة، ليست بحاجة لوسيط بين العبد والرب غير الموسيقى ذاتها، والجسد.
صاحب العود الشهيد
تقف أيقونة بير سلطان عبدال وهو واقف، رافعاً ذراعيه على امتدادهما لأعلى اعتراضاً، وممسكاً بعوده وغصن زيتون بينما تسطع الشمس من خلفه أسطورته. فالأيقونة، التي تحتل موقعاً مركزيّاً في قلب الهويّة الثقافيّة والسياسيّة العلويّة، تقدّم ترميزاً مباشراً وعميقاً للموسيقى بصفتها سلاحاً يُرفع كأداة نضال سلميّ ضد الظلم والزيف وظلماتهما.
ولد “عبدال” في نهاية القرن الخامس عشر في قرية لا تبعد كثيراً عن مدينة “سيفاس” التي تستضيف مهرجانه السنويّ، وحيث تشرَّب في طفولته تقاليد الموسيقى والثقافة العلويّة التي انعكست لاحقاً على أشعاره وموسيقاه بروحانيتها الشفيفة وخيالها الخصب– متغنيّاً بالله والحب والموت والمقاومة. اجتذبت أغاني “عبدال“، والتي كانت تستلهم أملاً في العدالة وعتق المقهورين في وجه ظلم السلطات العثمانيّة، تأييد جموع الفلاحين في قرى الأناضول. وبينما كانت ترنيماته تنتقّل من فم إلى فم، ومن قرية إلى قرية، وعرس إلى عرس، ومن معبد إلى معبد، وصلت كلمات قصائده شديدة النقد لسلطويّة الإدارة العثمانيّة لقصر حاكم الولاية: “حيزر باشا“.
كان ذلك صداماً لا مفر منه، إذ قامت قوات الباشا بسحق التمرد الفلاحي والقبض على عبدال نفسه، ومن ثم إعدامه بتهمة الغناء. وسرعان ما تحول “عبدال” إلى قديس وشهيد شعبيّ. وبينما سقطت الخلافة العثمانيّة لاحقاً، استمرّ تراثه الموسيقيّ عبر الخمس قرون الماضية، وحتى يومنا هذا. إذ يتم ترديد المئات من ترانيمه في الطقوس التعبديّة اليوميّة، ويسجّل التاريخ الشفهي والمكتوب خمسة شعراء وموسيقيين قاموا باتّخاذ ذات الاسم، متّبعين تقاليده الموسيقيّة والشعريّة، وطوروها لتتحوّل إلى رافد رئيسيّ للموسيقى التركيّة حتى اليوم.
نشيد اليسار
“تعالوا يا رفاق، دعونا نكون واحداً” هي من أشهر أغاني “عبدال” التي مازالت حيّة في الوعي السياسيّ والدينيّ حتى اليوم، وتعتبر ترنيمة اليسار التركيّ الأكثر شهرة.
“تعالوا يا رفاق، دعونا نكون واحداً
دعونا نستلّ سيوفنا ضد القلوب الكاذبة
تعالوا ننتقم لدم “الحسين”
فقد وضعت ثقتي في الله
تعالوا نلتحم مع بعضنا بعض
دعونا ندمدم مثل المياه
تعالوا لنبدأ الزحف
فقد وضعت ثقتي في الله
تعالوا نتمّرد ضد راية الدم
دعونا نضع نهاية لأيام “يزيد” الظالمة
في أيدينا خنجر من العشق
لأننا وضعنا ثقتنا في الله“
أنين العود
“لماذا تئن يا عودي؟” واحدة من أغانيه التي لا تزال متداولة بصورتها التقليديّة، إضافة إلى العديد من المعالجات المعاصرة في قوالب موسيقيّة حديثة.
“تعال يا عودي الأصفر
لماذا تئن؟
أنا أجوف من الداخل ومليء بالحزن
وهذا سبب أنيني
لقد علّقوا أوتاراً على ذراعي
وجعلوني أنطق بألف لغة
أنا عندليب الحفل
وهذا سبب أنيني
لقد تركوا خدوشاً على ذراعي
جعلوني أقابل عدداً لا يحصى من الأحزان
بعضها استقر فيّ، ورحل بعضها
وهذا سبب أنيني
لقد و ضعوا صدري على كرسي
ضربوا أوتاري بلا توقف
فتحوا صدري وهم يضربون ألحانهم
وهذا سبب الأنين
تعال يا عودي الأصفر
أنا سأضعك على ركبتي
لأن قلبي مكسور أيضاً
وهذا سبب أنيني“
لا تنظر لي باحتقار يا أخي
يعتبر عاشق فيصل واحد من أهم الموسيقيين الأتراك الذين أثروا التقاليد الغنائيّة المنسوبة إلى موسيقينا، والمعروفة باسم “دياش” في مطلع القرن العشرين.
لا تنظر لي باحتقار يا أخي
هل أنت من ذهب وأنا من برونز؟
نحن نفس الوجود
هل أنت من فضة وأنا من معدن رخيص؟
أيّاً ما كان فيك فهو فيّ
نفس الوجود في كل شخص
هذا الغد متوجهاً للقبر
هل أنت ممتلئ وأنا فارغ؟
بعضنا شيوخ و بعضنا دراويش
الله قد منحنا كيفما اتفق
كتب عليّ أن أكون عاشقاً
نحن أخوة مصنوعين من تراب
نحن رفاق في السفر
فهل أنت مسافر وأنا ضريبة الطريق؟“
كلمات وألحان: عاشق فيصل، وغناء: أريف ساج
وهبت نفسي للمعرفة
استكمل “عاشق أبريتي” مع كثيرين مسيرة “عبدال” في النصف الثاني من القرن الماضي، مستخدماً لغة أكثر حدّة وعمق بانتقاد المرويّة الرسميّة للدين.
“وهبت نفسي للمعرفة وأفقت من ثباتي
طرحت العمامة وسجّادة الصلاة جانباً
مللت من الشعائر والوعظ
تركت رمضان
ولأني كنت غاضباً داخلي، زاد حزني يوماً بعد يوم
الحجّ كان أمراً أخر
الأغنياء فقط هم القادرون على الذهاب
ذهبت وشاهدتهم يرجمون الشيطان
وعندها، ربطت الكتب الأربعة وعلّقتها بعيداً
فقدت اهتمامي بـ“حور” الجنة
لم تعد الحجة تقنعني
حتى أني لم أعد أعطي لها أيّ أهتمام
لم تعد الآخرة تشغلني
لا يوجد جنّة سماويّة غامضة
جئت، وطردت كل الغوغاء المتعصبين
رغبتي هي أن أخدم البشر
زوجتي هى حوريتي، ووطني هو الجنة
لا ألتزم بحجّ ولا جحة
كسرت الورديّة والإبريق“
“لنقطع عهداً أنني لن أنساك“
بينما تتوهّج أسطورة “عبدال” في الوعيّ الجمعيّ التركيّ اليوم أكثر من أي وقت سابق، لا تزال قيمه تتعرّض، كما في الماضي، لهجوم دمويّ من قوى السلطويّة والقمع والتعصّب– والتي كانت مذبحة “سيفاس” ذات الخمسة وثلاثين شهيداً واحدةً من أكثر حلقاتها مأساويّة في الذاكرة الحديثة. لكن عزاءنا أن موت “عبدال” ورفاقه لم يطمس أحلامه في عالم أفضل: هؤلاء الذين أقسموا له بأبياته الشهيرة: “تعال هنا، لنقطع عهداً أنني لن أنساك، وأنك لن تنساني. تعال هنا لنحلف أنك لن تنساني ولن أنساك“.
• تختلف الطائفة العلويّة التركيّة بشكل جذري عن الطائفة العلويّة في سورية، من حيث الأصول العقائديّة والطقوس والتكوين الإثني، إضافة إلى التاريخ واللغة والنصوص المقدّسة.