.
“بارك بلادي” والترنيمة الوطنيّة
تعتبر ترنيمة “بارك بلادي” واحدة من أشهر الترانيم المصريّة على الإطلاق، فالأنشودة الكنسيّة البروتستانتيّة التي كانت تصدح بها فرقة ترانيم كنيسة قصر الدوبارة الإنجيليّة من فوق منصّات ميدان التحرير منذ الأسبوع الأول للثورة المصريّة، تحوّلت إلى واحدة من أيقونات الثورة الصوتيّة، وطقساً موسيقيّاً مرتبطاً بميدان التحرير وفعاليّاته اللاحقة.
لا توثّق الترنيمة، التي شجّع حياد نصّها الديني روّاد الميدان الثائر من مسلمين ومسيحيين على ترديدها وحفظ كلماتها، فقط الوزن المعنوي لمشاركة قطاع مؤثّر من الأقباط في ثورة يناير، ولا تروي فقط، في رمزيّة غير خافية، كيف تحوّلت كنيسة الدوبارة المطلّة على الشوارع الخلفيّة للميدان إلى ظهير استراتيجي للثورة بمستشفاها الميداني وجوقتها الموسيقيّة وقساوستها الداعمين للتحرير. لكنّها تطرح أيضاً أسئلة لا تقل أهميّة عن خروج الترانيم من قدس الأقداس الكنسي لتصل لميادين الثورة والدم.
لا تدفعنا الترنيمة، التي لا يحتمل نصّها أو لحنها التقليدي الكنسي أي تأويلاً راديكاليّاً أو تقدميّاً لأسئلة عن تثوير الموسيقى الكنسيّة المصريّة، بل بالأحرى عن الطريق الطويل التي قطعته حتّى يتم علمنتها. علمنة كانت قد بدأت بالفعل منذ منتصف القرن التاسع عشر، ورّبما اكتملت أكثر تجلياتها وضوحاً في “بارك بلادي“، أو ما يمكن تسميته: الترنيمة الوطنيّة.
ترنيمة بارك بلادي. كلمات وألحان مينا روماني “فريق الحياة الأفضل“
الفيديو مسجل في احتفالات العام الجديد بميدان التحرير يناير 2011
تم تغيير النص المؤدّى في التسجيل عن النص الأصلي للترنيمة بحذف معظم الإشارات النمطيّة المسيحيّة، واستبدالها بنص محايد دينيّاً، في عملية يمكن اعتبارها “علمنةً” لنص الترنيمة.
ترنيمة “مبارك شعبي مصر” واحدة من أكثر الترانيم الوطنيّة انتشاراً، والتي، ومع اعتماد نصها على آيات كتابيّة من العهد القديم بشكل رئيسي، إلا أن كلماتها تقدّم نصّاً يمكن قراءته على مستوى محايد دينيّاً، ومن ثم استهلاكه وطنيّاً أيضاً. التسجيل من إنتاج قناة السات سيفن المسيحيّة البروتستانتيّة. تتبع ترنيمة “بارك بلادي” سابقتها “مبارك شعبي مصر” في التسجيل، ولكن بنصّها الأصلي المليئ بالإشارات الروحانيّة المسيحيّة.
موسيقى الأسرار
احتفظت الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، التي ينتمي إليها غالبية المسيحيين المصريين، بتقاليد موسيقيّة عريقة وصارمة عبر تاريخها الطويل. فالكنيسة، ذات المنهج شديد المحافظة والتي تباهي باحتفاظها بتقاليد الرّسل والآباء الأوائل منذ القرن الأول الميلادي بلا تغيير أو مراجعة، تعتمد التقاليد اللحنيّة القبطيّة– ليس فقط بصفتها تراثا روحيّاً أو هوياتيّاً جديراً بالاحتفاء، بل بصفتها جزء لا يتجزّأ من الطقوس التعبديّة، وشرطاً لازماً وجوهريّاً لممارسة الأسرار الكنسيّة السبعة.
في هذا السياق، تمسّكت الكنيسة بالطقوس الصوتيّة للتراتيل التعبديّة وتفاصيلها الموسيقيّة على أنّها من المقدّسات التي لا يمكن المساس بها. وينسحب ذلك التقديس، ليس فقط على الجمل اللحنيّة للقدّاس الإلهي وطقوس العماد والزواج والدّفن والصلوات السبعة الفرديّة وصلوات العشيّة الجماعيّة، بل أيضاً على توزيعاتها “الحزايني” و“الفرايحي“، والأدوات الموسيقيّة المستخدمة، والتوقيت الذي يتم فيه دمج الصوت البشري مع إيقاعات الدّف والمثلّث النحاسي، ومردّات جمهور المتعبّدين وفرديّات الكاهن المرتلة، وقرارات الشمامسة أفراداً أو جماعات، وعلاقة الصوتي بالحركي والبصري والحسّي المباشر من أضواء ورفع البخور وغيرها. الكل في نظام دقيق ومحكم مليء بالرمزيات التي تقود في النهاية إلى سر من أسرار الكنيسة. ألزمت لاهوتيات الكنيسة القبطيّة تلك، وتاريخها الطويل المكتوب بسير الاضطهاد، بالتمسّك بالنص الموسيقي الكنسي وتنزيهه وحصره داخل جدران المقدّس، وطقوسه الروحانيّة التي حفظتها دماء الشهداء.
التسجيل لفيديو تعليمي مع صورة توضيحيّة للنوتة الموسيقيّة للحن “أجيوس” الكنسي في توزيع “حزايني“، مع نصّه القبطي.
التسجيل لدرس كنسي للفتيات على لحن “أجيوس” بتوزيعه “الفرايحي” على إيقاعات المثلّث والدّف. بالرغم من تراجع شعبيّة دروس الألحان القبطيّة، إلا أنّها تظل جزءاً رئيسيّاً من التربية الكنسيّة المصريّة، وبنية الهويّة القبطيّة.
التسجيل للحن “أجيوس” “الفرايحي” الكبير بقدّاس عيد القيامة بالكاتدرائيّة المرقسيّة.
الإرساليّات البروتستانتيّة وزعزعة المقدس
في منتصف القرن الثامن عشر، ونتيجة لسياسات محمّد علي وخلفاؤه الأكثر تسامحاً تجاه الأقباط، بالإضافة إلى تزايد النفوذ الغربي الاستعماري في مصر، بدأ توافد الإرساليّات المسيحيّة لمصر. وبينما قوبلت الإرساليّات التبشيريّة الأولى بمقاومة شديدة من قبل الأهالي ورجال الدين المسلمين، انسحبت الإرساليات الكاثوليكيّة من النشاط التبشيري، وركّزت على بناء شبكة من المدارس والخدمات الطبيّة والاجتماعيّة لخدمة المصريين على اختلاف إنتمائهم الديني. أمّا الإرساليات البروتستانتيّة الأكثر طموحاً، فحوّلت وجهتها تجاه الأقباط الأرثوذكس، الأمر الذي قوبل بمقاومة شديدة من قبل الكنائس المحليّة، وخاصة في المدن الكبرى والوجه البحري. ولكن في مطلع القرن العشرين، كان قد التحق بالطوائف البروتستانتيّة المختلفة نسبة ليست بالقليلة من أقباط الصعيد ومن ثم بقيّة المحافظات مع هجرة أقباط الصعيد للوجه البحري بشكل كثيف خلال القرن الماضي.
صاحب التحول للبروتستانتيّة تغيّر جذري في الموسيقى الكنسيّة في صعيد مصر، فالمزاج العلماني للطوائف البروتستانتيّة، واحتقارها الآيديولوجي للطقسي، نزع القداسة عن الموسيقى الكنسيّة وحوّلها تدريجيّاً إلى موضوع للتجريب والإبداع والمتعة من جانب، وساحةً للصراع الهويّاتي والسياسي من جانب آخر. فمع تأسيس الكنائس البروتستانتيّة الأولى في مصر، انهمكت الكنائس الجديدة في ترجمة نصوص الترانيم من الإنجليزيّة إلى العربيّة، وطبعها وتوزيعها مجّاناً على الملتحقين الجدد إن أمكنهم القراءة. وبالرغم من تعريب النص، إلا أن ألحان الترانيم المترجمة ظلت في نسختها الغربيّة الأصليّة بلا تغيير على الإطلاق.
رجع التمسّك باللحن الغربي مبدئيّاً إلى عامل عملياتي بحت: فاللحن الموحّد يمكّن جمهور المتعبدين، من مصريين وأجانب، من الشدو بذات النص بأكثر من لغة في نفس الوقت وعلى لحن واحد. على الجانب الروحاني، مثّل النص الموسيقى الموحّد أداةً لتوحيد المؤمنين من مختلف اللغات والجنسيات بشكل يغيّر بوصلة الانتماء، ليصبح انتماءً مسكونيّاً– أي عالميّاً، بديلاً عن الانتماء الكنسي المحلّي الضيّق التي تجسّده فرادة الموسيقى القبطيّة وخصوصيتها الوطنيّة.
لم يعبّر ذلك التحوّل في الإنتماء فقط عن الخروج من المحلي إلى عالم بلا حواجز يتساوى فيه جميع المؤمنين، بل تعبيراً عن إنتماء ذي هوى ومزاج كوزموبوليتاني تشكّل هويّته عمليّة تحديث “غربيّة” بنكهة استعماريّة للّاهوت الشرقي وموسيقى كنائسه، الأمر الذي أدركته الكنيسة الأرثوذكسيّة مبكّراً، واستغلّته للهجوم على منافسيها واتّهامهم، ليس فقط بالزيغ عن الإيمان القويم، بل وبالحياد عن الهويّة الوطنيّة والانسحاق أمام الأجنبي.
هكذا لعبت موسيقى الكنائس البروتستانتيّة المصريّة، في صورتها الأولى، دوراً جوهريّاً في نزع القدسيّة عن الموسيقى الكنسيّة، ونقل الصراع على هويّتها من عالم اللاهوتي لأرض الهويّاتي والسياسي الشرقي– الغربي، الاستعماري –الوطني، والتراثي– الحداثي.
التمصير والاقتراب من موسيقى العالم
في مطلع العشرينيّات من القرن الماضي، بدأ نفوذ القالب الموسيقيّ الغربي في الانحسار داخل الدوائر البروتستانتيّة. إذ دفعت الروح الوطنيّة الجارفة المعاديّة للاستعمار، التي صنعتها ثورة 1919، بالإضافة إلى تمصير إدارات الكنائس البروتستانتيّة المصريّة، واعتمادها على كوادر محليّة بالكامل، المؤسّسات البروتستانتيّة لمحاولة تمصير موسيقاها الكنسيّة أيضاً.
ومع ظهور المحطّات الإذاعيّة المحليّة، وتطوّر قالب الأغنية المصريّة بمزجه ما بين الغربي والشرقي، تبنّى الموسيقيّون الكنسيّون قالب موسيقي “مصري محدّث“، مستلمها تقنياته من الأغنية الإذاعيّة الصاعدة في الثلاثينيّات والأربعينيّات، مع الإصرار على عدم تماهي موسيقاهم “السماويّة” الكامل مع “موسيقى العالم“.
فعلى سبيل المثال، يحتوي كتاب الترانيم الخاص بـجمعيّة خلاص النّفوس التي تأسّست في عام 1927 على خليط من ترانيم ذات ألحان غربيّة مخففّة، أو قوالب غربيّة ذات نكهة شرقيّة نفّاذة. كانت ترانيم الجمعيّة، والتي يمكن اعتبارها الجماعة البروتستانتيّة الوحيدة التي أسّسها مصريين، هو النموذج التي ارتبطت به الموسيقى الكنسيّة البروتستانتيّة حتى نهاية الثمانينيّات، موسيقى سعت للتمصير، لكنّها حاولت، في سعيها هذا، ألّا تتوحد مع موسيقى العالم.
“الترانيم الجديدة” بصوت المرنّم عادل عبده من تسجيلات جمعيّة خلاص النفوس. تكشف القوالب الموسيقيّة المستخدمة في التسجيل عن تأثّر شديد بتقنيات الأوبريت والأغنية الإذاعيّة المصريّة. وفي مطلع السبعينيّات، قامت جمعية خلاص النفوس بطبع ترانيم التسجيل، إضافة إلى عدد من الترانيم الأخرى المتحرّرة في جملها اللحنيّة، في ملحق صغير لكتاب ترانيمها الموحّد بعنوان “الترانيم الجديدة“. قوبل الملحق الصغير في البداية بمقاومة نسبيّة، إذ رفضت بعض فروع جمعيّة خلاص النفوس استخدام ملحق “الترانيم الجديدة” لتشابه موسيقاه مع “موسيقى العالم“. لكن بنهاية الثمانينيّات، كانت “الترانيم الجديدة” وقالبها الغنائي الأكثر شعبيّة، ليس فقط في جمعيّة خلاص النفوس، بل في الأوساط البروتستانتيّة عامة.
الكاسيت والترانيم كصناعة ناشئة
بينما نقلت الترانيم الجديدة موسيقى الكنيسة خطوة أقرب تجاه موسيقى وسائل الإعلام المملوكة للدولة من حيث القالب، إلا أن الموسيقى الكنسيّة حُرمت بشكل كامل من الولوج إلى وسائل الإعلام الرسميّة. ولكن بظهور الكاسيت في السبعينيّات وتكنولوجيّته البسيطة والرخيصة، نشأ سوق غير رسمي للموسيقى الكنسيّة، فأمكن تداول شرائط الترانيم المسجّلة في البيوت والكنائس من يد ليد وبأسعار زهيدة. وسرعان ما تحوّلت الترانيم إلى صناعة صغيرة لها نجومها واستوديوهاتها وفرقها الموسيقيّة ومريديها وشركات إنتاجها ذات الرأسمال المحدود.
كان شريط الكاسيت البلاستيكي كفيل بعلمنة الموسيقى الكنسيّة على أكثر من مستوى. فأوّلاً: انتقلت الموسيقى الكنسيّة من قاعات الكنائس والاجتماعات التعبديّة إلى البيوت والسيّارات والورش والمحال، لتتمدّد وظيفتها الاجتماعيّة المقصورة على الطقسي والروحاني، لتشمل الأرضي والروتيني كخلفيّة صوتيّة لضوضاء اليومي وعامل تمايز للأقليّة القبطيّة عن أغلبيّة المجتمع وموسيقاه وإعلام الدولة المحرومة منه.
وعلى المستوى الاقتصاديـ تحوّلت الموسيقى الكنسيّة المسجّلة إلى سلعة يتم تداولها بمقابل نقدي، ويتم تقييمها رأسماليّاً– لا بحسب محتواها الروحي، بل طبقاً لنقاوة التسجيل والجودة التقنيّة وجماليّات المنتج الفنيّة وشهرة وشعبيّة الموسيقيين المشاركين في العمل الفني.
هكذا كان تمدّد الحيّز الاجتماعي للموسيقى الكنسيّة، الذي أتاحه شريط الكاسيت، بالإضافة إلى تسليعها ورأسملتها، كفيلاً بالتمهيد لمرحلة مزدهرة فنيّاً للترنيمة المصريّة مليئة بالتجريب الفني والتنويع والتطوّر التقني وصلت أوجها في النصف الأول من التسعينيّات.
“راجعين للمدينة” ترنيمة للملحّن والمرنّم ماهر فايز، واحد من أشهر مرنّمي الكاسيت في التسعينيّات. ينتمي فايز إلى تيّار موسيقيّ تمسّك في ترانيمه بقالب شرقي هو الأكثر رواجاً بين أقباط الأقاليم والمناطق الشعبيّة في الثلاثة عقود الماضية.
“في طريق الجلجثة” ترنيمة لفريق “الحياة الأفضل“. شارك الفريق، والذي يمكن اعتباره فريق الترنيم الأكثر شهرة وشعبيّة على الإطلاق مع فريق “الرسالة“، وفريق “التسبيح“، بالإضافة إلى فريق “الخبر السار” الكاثوليكي في استعادة التقاليد الغربيّة للموسيقى الكنسيّة البروتستانتيّة والكاثوليكيّة، وتطويعها في قوالب وتقنيات فنيّة حديثة، الأمر الذي جعل موسيقاهم أكثر رواجاً بين أبناء الطبقة الوسطي من الأقباط ذوي الميول الحداثيّة الغربيّة.
“أمكث معي“، ترنيمة للمرنّمة اللبنانيّة ليديا شديد، والتي مثّلت مع مواطنتها فاديا بزي، ولاحقاً أيمن كفروني جسراً موسيقيّاً بين مسيحيي مصر ولبنان عبر شرائط الكاسيت، مضيفين بعداً مسكونيّاً مرة أخرى للموسيقى الكنسيّة المصريّة.
“أمّنا يا عدرا يا أم المسيح“، ترنيمة شهيرة من صنف مدائح القدّيسين. بينما تمسّكت الكنيسة الأرثوذكسيّة بقواعد صارمة في البداية تجاه تسجيل الترانيم والموسيقى الكنسيّة، فتح انتشار الكاسيت سوقاً واسعاً خارج سيطرة الكنيسة الرسميّة لترانيم مدائح العذراء والقديسين، والتي تلقى شرائطها إقبالاً واسعاً من روّاد موالد القدّيسين المسيحيين، خاصة في صعيد مصر. وعلى الرغم من رواج المدائح تجاريّاً، أصرّت الكنيسة على الامتناع عن دعم صيغتها اللحنيّة “الأرضيّة“، والتي تعتمد على قالب موسيقي شعبي وجمل موسيقيّة تجاريّة مألوفة أعاق صناعاتها عن التطوّر مقابل منافسها البروتستانتي.
الفضائيات المسيحيّة: ماكينة النجوم ونصوص محايدة
أعلن بزوغ عصر السماوات المفتوحة مرحلة جديدة للموسيقى الكنسيّة وعلمنتها. إذ لعبت القنوات الفضائيّة المسيحيّة بتمويلاتها الضخمة العابرة للحدود الوطنيّة، والمدعومة من مؤسّسات غربيّة ودولية، واستوديوهاتها عالية التقنيّة، وحاجتها الدائمة للموسيقى الكنسيّة لملء توقيتات بثّها الطويلة، دوراً جوهريّاً في نزع ما تبقّى من القدسيّة عن موسيقى الكنيسة. فتحوّلت الموسيقى المقدّسة إلى فقرة تلفزيونيّة، أو فاصل لحشو البث بين برنامجين ليس أكثر. ومع تنافس الفضائيّات المسيحيّة مع بعضها بعض، ومع قنوات “العالم“، تسابقت في إنتاج موسيقى قادرة على جذب المشاهدين معتمدة على قوالب موسيقيّة رائجة تجاريّاً، وبميزانيّة إنتاجيّة ضخمة تحاكي الانتاج الغنائي التجاري.
كفل تدفّق رؤوس الأموال عبر القنوات الفضائيّة تشييد بنية تحتيّة ثقيلة للموسيقى الكنسيّة من استوديوهات ومعدّات وفنّيين متدربين، وفرق موسيقيّة مؤهّلة فنيّاً، بالإضافة لتدعيم شبكة التعليم الموسيقي الكنسي. كما ساعدت شعبيّة القنوات الفضائية من جانبها على صعود الموسيقيين المسيحيين من مرنّمين يعتاشون على الموسيقى الكنسيّة إلى نجوم ذو أجور مرتفعة وفنانين على سفر دائم للقاء جمهورهم ومريديهم في مصر والعالم العربي والمهجر. ومع ازدياد قدرة هذه القنوات على استهداف مشاهدين من غير المسيحيين، عمد المرنّمون إلى توجيه خطاب محايد إنساني ووطني قادر على اجتذاب المشاهد غير المسيحي، ورسم صورة إيجابيّة لمسيحيي المشرق بصفتهم جزء لا يتجزّأ من النسيج الوطني لأوطانهم.
“سدّيت الشبابيك“، للمرنم ماهر فايز في أحد عروضه الفنيّة من تسجيلات قناة الحياة الفضائيّة. استثمر فايز نجوميّته التي نالها في مرحلة ترانيم الكاسيت ودعمها بظهوره الدائم في الفضائيات المسيحيّة، ليتحول إلى نجم الشباك الأول، وخاصّة بين أبناء الجالية القبطيّة في المهجر.
أوبريت “سبني أعيش“، من غناء عدد من المرنمين العرب، من تسجيلات قناة الحياة الفضائيّة. ما يلفت النظر في الأوبريت ليس فقط تشابهه من حيث الشكل الإخراجي والقالب الموسيقى مع أغاني جماعية مثل “الحلم العربي“، بل أيضاً نصّه المحايد والإنساني، في خطوة حملت الموسيقى المسيحيّة صوب الانفتاح على محتوى إنساني ووطني، وتجاه دور مجتمعيّ أوسع سرعان ما صعّدته الثورة المصريّة.
ترنيمة “بحب مصر وبصلي” من حفلة “بحب مصر“، من تسجيلات قناة سات سيفن الفضائيّة. تشير هذه الترنيمة إلى تحوّل الموضوعات الوطنيّة إلى موضوع معتاد في الموسيقى الكنسيّة في العامين الماضيين بعد ثورة يناير.
خاتمة
قطعت الموسيقى الكنسيّة المصريّة طريقاً طويلاً للخروج من هياكل الكنائس إلى ميادين الثورة، ولتهبط من سماواتها للأرضي، ومن الروحاني للتجاري والتقني، ولتفتح أبوابها للوطني والإنساني. وفي طريقها هذا، خضعت خلال تلك التحولات لتأثيرات من عوامل عدّة منها: الاستعماري والتكنولوجي والسياسي المحلي والاقتصادي.
كان تزايد النفوذ الاستعماري الغربي والإرساليّات البروتسانتيّة في منتصف القرن التاسع عشر كفيلةً بزعزعة قدسيّة الموسيقى الكنسيّة في مصر، وتحويلها إلى ساحة للصراع الهويّاتي. كما دفع تمصّر الطوائف البروتستانتيّة المصريّة، وظهور الأغنية الإذاعيّة المصريّة لتبنّي الموسيقى الكنسيّة لقوالب غنائيّة مألوفة وأرضيّة بديلاً عن القوالب القبطيّة أو الغربيّة الصرفة وهالتها السلطويّة. ولاحقاً، كان ظهور الكاسيت، ومن بعده القنوات الفضائيّة المسيحيّة كفيلاً بتسليع المنتج الموسيقي الروحاني، ورسملة عمليات إنتاجه واستهلاكه على نطاق واسع.
وبالرغم من أن الموسيقى الكنسيّة لا تزال تلعب دوراً جوهريّاً في الحفاظ على الهويّة الروحيّة للأقباط، إلا أنّ الحدود الفاصلة بينها وبين موسيقى “العالم” أضحت أقل حدّة، وأصبحت موضوعاتها وقوالبها وعمليات إنتاجها واستهلاكها أكثر انفتاحاً على عالم يتآكل فيه المقدس يوماً بعد يوم، ومجتمع يموج بتناقضاته باحثاً عن هويّة جديدة ربما لن يكون فيها مكان للمقدّس كما عهدناه: ثابتاً جامداً وضد التاريخ.
الهوامش
كنيسة قصر الدوبارة الإنجيليّة: تنتمي للطائفة الكليفينيّة المشيخيّة، وهي واحدة من أكثر الطوائف البروتستانتيّة انتشاراً في مصر. تنتهج كنيسة الدوبارة خطّاً روحيّاً منفتحاً مقارنة بمثيلاتها في نفس الطائفة، بالإضافة إلى خط سياسي ومجتمعي راديكالي تجلّى في دعم قساوستها للثورة المصريّة.
الأسرار الكنسية السبعة: سر المعموديّة والميرون والقربان والاعتراف والزواج ومسحة المرضى والكهنوت.
الأقباط البروتستانت: تقدّر نسبتهم بعشرين بالمئة من الأقباط، وينتمي معظمهم إلى الكنيسة المشيخيّة والأخوة البلميس والكنائس الرسوليّة والخمسينيّة.
جمعية خلاص النفوس: جمعيّة مسيحيّة مصريّة مسجّلة في وزارة الشؤون الاجتماعيّة، تأسّست عام 1927 في صعيد مصر، وتوسّع نشاطها في الثلاثينيّات والأربعينيّات حتّى شمل كامل القطر المصري، بالإضافة إلى السودان وفلسطين. تأسّست لاحقاً فروع للجمعيّة في المهجر، ويعتبر مقرّها في ملبورن هو الأكثر نشاطاً في الخارج. وبالرغم من أن الجمعيّة لا تعتبر قانونيّاً “طائفة“، لكن توسّع نشاطها وشعبيّتها الجارفة حتى منتصف التسعينيّات يدفع الكثيرين لاعتبارها الطائفة البروتستانتيّة الوحيدة التي أسّسها مصريون، والتي، وبسبب أصولها الصعيديّة واستقلالها الكامل عن أي مؤسسات مسكونيّة، كانت قادرة على خلق خطاب بروتستانتي ذو محتوى ونبرة محليّتان مصريّتان خالصتان.