.
عندما اقترحتُ على نانسي عجاج إجراء هذه المقابلة ذات سهرة من شهر أيّار/ مايو الماضي بعد إحدى حفلاتها في الخرطوم كانت لا تزال مقيمة في دولة الإمارات. مر شهران قبل أن نجلس سويةً ونتفرّغ للحوار، سافرتُ خلالها إلى القاهرة وبذلتُ مجهوداً مضاعفاً لاختصار الوقت والمسافة عبر مراسلتها في دبي بالإنترنت. تواصلنا بالفايس بوك وواتساب ولم ينجح الأمر حتى عُدت. على الجانب الآخر كانت هي قد اتخذت القرار أخيراً بالاستقرار في السودان بشكل نهائي بعد مسيرة فنية تجاوزت العقد، أقامت خلالها العديد من الحفلات في السودان وخارجه بعد سنوات طويلة من الإقامة في هولندا – بلدها الثاني – التي درستْ فيها التاريخ الاجتماعي بجامعة روتردام قبل أن تتفرغ تماماً للموسيقى وتُصدر ثلاثة ألبومات غنائية سحر النغم، رفقة، موجةجعلتْ منها واحدة من أشهر الفنانات في السودان إن لم تكن أكثرهن شعبية.
التقيتُ بها أخيراً في شقتها الجديدة وأجرينا المقابلة في زيارتين. بدت نانسي أكثر استقراراً وتركيزاً على مشروعها، بفرقة مكتملة، وأفكار كثيرة لإنجاز أغانٍ جديدة، وبالتأكيد بروفات متواصلة. لكنها لم تتخلص من حالة التوتر التي دائماً ما أراها فيها قبل الحفلات. اقترحتْ أن نجلس في مطبخها حيث يمكنني أن أدخن وأشرب فناجين متواصلة من القهوة بينما أسجّل ردودها على أسئلة أعددتها مسبقاً منذ أسابيع.
زرتها مرة أخرى للوقوف على بعض الردود غير الواضحة في التسجيل وكان عليها مع انقطاع التيار الكهربائي – أحد سمات الخرطوم – أن تجيبني على ضوء الشموع. لم أشعر خلال تلك المهمة بالإرهاق بقدر ما أحسستُ أثناء الحوار وبعده أنني أتعرف على نانسي عجاج للمرة الأولى منذ ٢٠٠٩، لأنني فقط عندما طرقتُ بابها في هيئة الصحفي المحاور تجرأتُ على أن أتجاوز عفوية العلاقة الأُسريّة/ الإنسانية لأتناقش معها بصفتها النجمة الشهيرة، وهي لم تخيّب ظني على الإطلاق، وأبدت قدراً شاسعاً من الشغف والمثابرة والوعي بالأسئلة التي يجب أن يطرحها الفنان قبل أن يقدم إبداعه إلى الملأ.
حسام: ولدتِ كابنة لملحّن وموسيقي سوداني هو بدر الدين عجاج، فكان من الطبيعي أن تصبحي مغنية، بل مطربة بالمفهوم الشعبي، اعتمدتْ اعتماداً أساسياً على امتلاكها لخامة صوت متفردة. في رأيك، وبغض النظر عن عوامل التنشأة والوراثة. ما هو الدافع الذي جعلك تتجهين إلى الغناء أول مرة ومن ثم اختياره كمهنة؟
نانسي: طيب [تتنهد] كويس أنك قلت بغض النظر عن عوامل التنشأة لأنه عوامل التنشأة لا تقود الناس بالضرورة لمصائر واحدة. أعتقد أنك إذا كنت فنان حقيقي لن تكون الموسيقى مجرد مهنة أو هواية. بتكون نداء داخلي. أنا حتى قبل ما أبتدي أغني دائماً كانت علاقتي بالموسيقى أو بالناس اللي بيشتغلوا في الموسيقى قريبة. يعني بتذكر لما كنت في الثانوية – في الوقت اللي أنا ما بغني ولا عارفة نفسي حأبقى مطربة – كنت دائماً قريبة من أي نشاط موسيقي في محيطي لدرجة إني بحضر بروفات الكورال في المدرسة. كنت قريبة بشكل أو بآخر. بسمع كتير. في فترات ما، كان بعض الناس متخيلين أنه راسي ما أوكي مضطربة عقلياً لأني بقعد ستة وسبعة ساعات في الكرسي وأسمع. في رغبة داخلية بتخليك دائماً بتفكر في الموضوع ده ولك علاقة به. دي الحاجة الأولى والأساسية: أنه الموسيقى أمرها بيهمك وانت عندك علاقة به وعايز تكون جزء منه. بتحس أنه في فكرة ما في رأسك عايز تعملها، كل العليك إنك تكون موهوب وتمتلك الأدوات. يعني ما ينفع تديها وقت ومجهود بس. دي مسئولية كبيرة، غير وجود الفكرة برضو وجود آخرين وخيال وأفكار وتراكم موسيقي وحاجات كتيرة جداً جداً. كده إنت يا دوب ابتديت.
حسام: وهل هذا هو نفس الدافع الآن؟
نانسي: آي. حسه الآن الحاجات وضحت لي. عرفت أنا عايزة شنو وعارفة أعمله كيف. بقيت أدرى وأكثر خبرة. زمان ما كنت فاهمة أنا مفروض أعمل شنو بالضبط وكيف أطور نفسي. هل أنا المفروض بكون بحفظ مزيكا كتيرة؟ هل المفروض أكون بعزف؟ لأنه بابا كان عايزني، أو متوقع أني أكون موسيقية. كان حريص أنه يعلمني مزيكا. أنا ما كنت عارفة مساهمتي حتكون شنو ولا أنا حيكون عندي إضافة أو لا. لكن دائماً كنت حاسة إني معنيّة بالموسيقى لسبب أو لآخر. أنا حاسة أنه عندي مسؤوليّة تجاه الحاجات دي مشروعها الموسيقي زي مسؤوليتي تجاه أركماني ابنها يعني قرار إني أبقى مطربة ما لأنه جو ظريف أنا عايزة أكون فيه، ولا لأنه ما عندي شي تاني بجيده. دا موضوع بهمني وما من شيء يهمني أكثر منه.
حسام: قلة تمرّدوا على الطريق التقليدي للغناء في السودان وأصبحوا نجوماً من الدرجة الأولى دون المرور بأم درمان الإذاعة القومية في السودان: مصطفى سيد أحمد ومحمود عبد العزيز مثلاً، استطاعوا الوصول للناس بطريقتهم. فيما كان على محمد وردي ومحمد الأمين والكثير غيرهما أن يحققوا أنفسهم عبر المنافذ الإعلامية الرسمية. كيف وصلتِ أنتِ؟
نانسي: في ناس بيعملوا في موسيقي وتجارب مختلفة وما بالضرورة مروا بنفس الطريق ده، وفي نفس الوقت في ناس مروا بالطريق ده وقدروا يتدرجوا لمرحلة تانية. محمود عبد العزيز نفسه، وأنا واحدة من الناس، وفي سن محددة لما بدأت علاقتي بالموسيقى تتطور بشكل واعي وبقيت أسمع وأفتش، أغاني كثيرة سمعتها لأول مرة بصوته. أغاني cover. ومش هو بس، أنا كمان عملت حاجة مشابهة. ما كنت بغني في حفلات ومناسبات اجتماعية. لكن الكاسيت الأول ( ألبومها الأول سحر النغم كان كله عبارة عن أغاني cover. لكن في الكاسيت اللي بعده أضفت فيهو أغاني خاصة تطرح لأول مرة، وهكذا. وعليه ما في مانع أنه الواحد يمر بمحطة الأغنيات المسموعة، لكن السؤال كيف يتم الاستفادة من المحطة دي والمحطات التانية. يعني تناول مدروس ومحسوب. كيف تتم صناعة الفنان في السودان؟ الغالبية العظمى بتتم بطريقة عشوائية. زول يسمعك ويقول لك صوتك جميل وتبتدي تغني في المناسبات لغاية ما تبقى “مطرب مجاز”، وفي آخيرين – ولكنهم أقلية – بمروا في الموسيقى بمحطات مختلفة. الأكيد في حراك كبير، وفي مزيكا جديدة. في جرأة أكبر مختلفة عن الغناء السابق أو غناء الحقيبة الأغنية السودانية الكلاسيكية، وتسمى بالحقيبة نسبة لبرنامج حقيبة الفن الإذاعي الذي وثق للغناء السوداني منذ القرن التاسع عشر إنت قلت وردي ومحمد الأمين، وغيرهم من جيل الرواد، كانت ظروف صناعة الأغنية مختلفة في زمنهم، وتعامل الناس مع الأغنية مختلف. بياخدوا زمنهم، وبيعملوا ورش. السرعة والبزنس بقوا ضلع أصيل في عملية صناعة الفنون.
فلق الصباح من ألبوم سحر النغم
زمان كانت الموسيقى من أجل الموسيقى والفن من أجل الفن. حسه العملية بقت تجارية، ودخول العوامل دي براها بمفردها ما بالضرورة هو المشكلة. المشكلة عملية القفز على المراحل البتحصل دي، لأنه ببساطة بسببها ما بيتاح للفنان الشاب جو طبيعي للتأهيل والتراكم والخبرة المطلوبة للتطور وتجاوز مرحلة الـ cover songs. حتي حصص التربية الموسيقية في المدارس ذاتها بقت حسه ما موجودة اللي هي واحدة من الحاجات البتديك الأساسيات من البداية، يعني في اللحظة اللي إنت حسيت فيها إنك ممكن تكون فنان أو إنك تغني حتعمل شنو يعني؟ غير إنك تغني في مناسبات الحلة الحارة وتسمع ليك كلام ظريف وبعداك تمشي تجيز صوتك.
حسام: بناءً على هذا يمكن أن نقول أن ثمة مركزية تحاول احتكار ذائقة الجمهور. في دولة تتركز فيها صناعة القرار في العاصمة وتُحرس إذاعتها القومية بالدبابات حماية لها من أي محاولة لتغيير النظام، وتقرر ما يصل للجمهور وما لا يصل، وطالما أننا لسنا بصدد أغاني الكتمة ومشهدها الـ Underground أغاني الكتمات: نمط غنائي شعبي وهامشي يعتمد على الموسيقى الالكترونية وإيقاعات الأورغ، والكتمة هي الاختناق ويشار بها في تلك العوالم إلى وصول عازف الأورغ لمرحلة السطل، إلى أي مدى تعتقدين أن المشهد الموسيقي السوداني بشكله الحالي سيحتمل هذه المنظومة الاحتكارية التقليدية؟
نانسي: لحد ما يتولى أمر الإعلام من يعتقد فعلاً بأهميه التنوع الثقافي، وتبذل أفكار وجهد وأموال لانتاج مواد تعبر عن التنوع دا بشكل عادل وكافي. القصة ليست لجنة الإجازة، لأنه الآن في ناس كتير بيغنوا، إذا الناس ديل مروا على لجنة إجازة أصوات حتكون كارثة طبيعية [تضحك] ياخي أنا ليه الكلام ده بقولوا لمجلة عربية شعرت حينها بأن هذه الصراحة في نقد الوسط الفني السوداني كان من الأوجب أن توجه له عبر الصحافة المحلية منو يغني ومنو لأ دي حاجة ما مسيطرة عليها لجان، على الأقل ما بشكل كامل. ممكن تكون مسيطرة على فئة من الفنانين من أعضاء اتحاد المهن الموسيقية أو المطربين اللي بيعملوا حفلات جماهيرية، حفل معلن عنه في مكان معلوم. ممكن تجي المصنفات تقول ليهم: وين تصريحكم ولا وين إجازتكم ولا غيرو تقصد بذلك هيئة المصنفات الفنية التي تراقب الحفلات الجماهيرية وتداهمها أحياناً للتأكد من حصول المنظمين على تصريح من الشرطة وتصريح آخر من الهيئة لكن ما مسيطرة على الحلة والأعراس أو انتاج أعمال جديدة، فالموضوع ما اللجنة الموضوع أنه – وحرجع لسؤالك – الإعلام فارض على الناس نوعية محددة من الموسيقى. حسه مافي براح. ببساطة لحد ما تتغيير سياسات التوجيه والإقصاء، ويكون في أفق أكبر، ولما يكون في البراح البخلي الناس تشوف مواد مختلفة في التلفزيون وتكون الحاجات طبيعية، حتجي تاني مزيكا غير.
حسام: ولماذا ينتظر الفنان أن يتاح له هذا البراح؟ لماذا لا يخاطر هو ويساهم في صناعة التغيير؟
نانسي: البراح دا ما مقصود بيه الفنان عشان ينتج – نحن نتحدث هنا عن السيطرة على الذائقة وغيرها – في فنانين إلى الآن ودائماً حيكونوا – وبعتبر نفسي واحدة منهم – بيعملوا في حاجات مختلفة. لكن عشان يكون التنوع دا موجود فعلاً وياخد فرصه الطبيعية للانتشار. شنو هي السيطرة؟ إنك تكرر نفس المزيكا وتحاصر الناس وما تدي فرصة للآخر المختلف أنه يكون موجود، ما بيكون في أي مدخل.
حسام: يتضح من إجابتك أنك لا ترين أن هذا مساراً طبيعياً، ولكن هل الفنانين داخل هذه المنظومة يفضلون هذا المسار؟ أم أنهم يسعون لتغيير المنظومة؟
نانسي: ياخي ده بيعتمد على كل فنان، لأنه عدم وجود المنظومة بشكلها ده أو السياسات المتبعة المفترض ما يتعارض معاك او يعطلك إنت كفنان حقيقي عندك مشروع وخط سير واضح. الكسل موجود، وفي اللي أنا بسميهم “أنصاف موهوبين” المستفيدين من الوضع، فعلى حسب.
حسام: شيء يمكن للمقربين منك أن يلاحظوه بسهولة. كل حفلة لك هي حفلة أولى تستدعي منك الكثير من التدريب والتحضير وتدفعك إلى التوتر والقلق كأنك تصعدين لخشبة المسرح لأول مرة. هل تعتقدين أن حالة التوتر هذه ستختفي عندما تصلين لمرحلة معينة من تجربتك؟
نانسي: لا، ما حتختفي وما عاوزاها تختفي. أول حاجة القلق عموماً جزء من شخصيتي. وتختفي ليه؟ أنا أي عرض بالنسبة لي فعلاً أول عرض. ما لأني ما واثقة، لكن أنا بسعى للكمال وما همي أنه أطلع أحسن من منو، ولا منو أحسن مني، أنا عندي موضوع في راسي دا و دايراه يصل تشير بسبابتها إلى رأسها وتضحك وبكون متنشنة. بكون مرات غريبة في المسرح، فالتوتر ده ما حينتهي ولا دايراه ينتهي لأنه عرفت أنه جزء مني.
حسام: أنت من قلة محظيّة في المجتمع السوداني توفرت لها الفرصة للهجرة على مشارف سن البلوغ وفي مرحلة بائسة من تاريخ السودان – التسعينيّات وصول الإسلاميين للسلطة – وصارت قادرة على الخروج والدخول في أي وقت إلى أي مكان. هل هذه هي الحالة الأسمى التي يمكن فيها للإنسان السوداني أن يتقبل الحياة في السودان بظروفه الحالية؟ حيث يمكن أن تشتاقي للخرطوم؟
نانسي: لأ. بس أحياناً الواحد بيكون مرتبط بحاجات كتيرة تلمح لظروفها الأسرية أنا ما بفتكر أنه بالضرورة إنه سفري المتواصل أو استقراري خارج السودان هو الخيار الأفضل لسبب بسيط أنه المفترض ما تركب طيارة ما بين مكان شغلك وبيتك، على الأقل. لكن مرات ارتباطات أخرى مختلفة بتجبرك تكون في أماكن كتيرة تانية.
حسام: ألم تؤثر اقامتك في الخارج على وضعك المحلي هنا في السوق؟
نانسي: أبداً. يعني أنا من ما بديت أغني وأعمل حفلات في السودان كنت هناك في مكان ما تشير إلى استمرار إقامتها في الغرب حتى بعد بدء مسيرتها الفنية في السودان وبالعكس ومع مرور الزمن بقيت برجع للسودان كتير ونشاطي بقى أكتر لدرجة إني في سنة واحدة جيت ثمانية مرات.
حسام: قبل حلول الألفية الجديدة كان هنالك سوق سوداء كبيرة لا تحترم حقوق الملكية الفكرية. ما الذي قد يدفع مغني سوداني في ٢٠١٥ لإصدار ألبوم غنائي سينتشر مجاناً على الانترنت بعد أيام من تسجيل الأغاني في الاستديو؟
نانسي: عموماً لما ظهرت شركات الانتاج الفني على حداثة عمرها وتجربتها في السودان، ما كان في مشاكل بتاعت قرصنة كثيرة. القرصنة تطورت مع تطور سوق الكاسيت وتعدد الشركات – أنا بحاول أسرد ليك سرد تاريخي – ما الذي يدفع المغني السوداني في ٢٠١٥ لإصدار ألبوم غنائي؟ أنا حسه مثلاً عندي أغاني جديدة، حدخلها استديو، الـعملية البيمر بيها أي عمل جديد : من نص ولحن وموسيقي وتوزيع، كويس؟ بصل لغاية المرحلة دي وعملية طبع الألبوم هي اللي ما حعملها لأنه أنا ذاتي تصوري لانتشار الأغنية اختلف مما كان عليه قبل أربعة أو خمسة سنوات. مثلاً في جمهور متابعني بيخليني عارفة أنه الأغنية دي أنا لمن أفكها أطلقها حيسمعها، وعملية التوزيع والتسجيل أنا حعملها كلها ليه؟ لأنه أنا مقتنعة أنه إنت عشان تطلع الأغنية بشكل متقن في CD وتعمل mastring ليها، دي أحسن فرصة ممكن تديها للأغنية عشان تتسمع كويس. التفاعل الجماهيري الحي دي حاجة ظريفة، لكن عملية التسجيل دي أحسن فرصة للسماع الأول للأغنية. فإنت لازم تسجل عشان تكون بس على الأقل منصف مع الأغنية اللي إنت بتقدمها لأول مرة. أنا مقتنعة أنه عملية طباعة الأغنيات في كاسيت أو سي دي ما مجدية. الشي الإيجابي أنه الجمهور بيعرف وين يلقى موسيقتي ويتداولها تقصد على الانترنت وبعداك عندي حفلات بقدر أقدم فيها الأعمال دي. يعني أنا أو أي فنان آخر ما بيقدر يتجاوز عملية التسجيل، أما مسألة الطبع دي ممكن يتم تجاوزها لأنه الإنترنت بقى مفيد ومساعد لأنه عالم مفتوح.
حسام: المستمع للغناء السوداني سيكتشف احتكار آلة الأورغ للتوزيع الموسيقي المدفوع بأسباب اقتصادية بحتة على الأغلب. مؤخراً استبدلتِ عازف الأورغ العادي في فرقتك بآلة Synthesizer. هل تعتبرين استخدام الآلات الموسيقية الإلكترونية هو معالجة لمعضلة غياب آلات النفخ والوتريات التقليدية في فرقتك أثناء عملية التوزيع؟
نانسي: هي ما معضلة إنتاجية. بختلف معاك في النقطة دي. المشكلة إنه السمع المتاح للناس في الحفلات وغيره بيتقلص في شكل واحد وموسيقى فقيرة وما فيها الحياة والديناميكية المطلوبة. آلة الأورغ هي ألة واحدة ولا يمكن تحل محل الفرقة المنتوعة الآلات. دي عندها آثارها بالتاكيد. يعني إنت بتكون بتسمع في موسيقى محنطة ومافيها أي روح. ده شيء مؤذي. إذن دي مشكلة عرض حي. ما مشكلة بتاعة إنتاج أغاني لأن ما بالضرورة الأورغ مُعتَمد عليه بشكل فردي في توزيع جميع الموسيقى داخل الاستديوهات . معظم الغناء التقليدي بيتم تنفيذه بواسطة موسيقيين حقيقيين. في حالات استثنائية في فنانين نفذوا بيه موسيقى جيدة، الخيال في الموسيقى بقى مفتوح جداً وليس مقتصراً على الآلة، في ناس بستخدموا التصوير في الأغنية، بأصوات ومؤثرات هي أصلا ما أصوات آلات عادية. يعني لا غنى عن الأورغ. المحك الحقيقي ببقي كيف توظفه صح. أنا مثلاً كان لي معاهُ تجربة ما بفتكر إنها سيئة، وبرغم إني ما حصل اعتمدت عليه فقط في العرض الحي. عندي ألبوم كامل فيهو أغنيات حققت انتشار واسع كله كان منفذ بالأورغ. زمان كنت بمتعض من الطريقة اللي بيشتغلو بيها الأورغن والتأثير بتاعه على الناس. لكن في النهاية اتصالحت مع الموضوع، لأنه ببساطة دي آلة. المشكلة ما فيها المشكلة كيف توظفا، والمشكلة الثانية اقتصادية اللي بتخليه هو الآلة المتاح فيها أصوات آلات كثير ممكن تأدي كم غرض.
حسام: طيب. خوفك من تأثير استخدام الأورغ على الناس، خصوصاً في أنماط الموسيقى الشعبية المعتمدة بشكل أساسي على الأورغ [أغاني الكتمة] وبروز موسيقيين مثل أيمن الربع شكلوا نسقاً جديداً يعتبر فيه عازف الكي بورد هو النجم لا المغني، هل يشير إلى أنك تحملين رأياً سلبياً إزاء هذا النمط الموسيقي؟
نانسي: آيوا- وبدون ذكر أسماء – عندي مشكلة لأنه دي نفس النقطة اللي أنا بتكلم فيهامن قبيل. الفكرة كالتالي: الشيء الطبيعي إنك تستمع لموسيقى فيها حركة وفيها ديناميكية فيها لحظات ذروة وفيها لحظات هدوء. ناس المزيكا بيعرفوا الكلام ده. في النوع ده من الموسيقى اللي بيتم فيها الاعتماد على الأورغ بشكل أساسي تقصد أغاني الكتمة الأورغ بيكون مدوّر بـمتواليات واحدة والصوت عالي جداً والحاجة دي مكررة مكررة مكررة مكررة. أنا بفتكر أنه على المدى البعيد حتأثر على تطور الاستماع، لأنه الذوق بيتطور بالسمع الكثير المتنوع. لما تحصره في مزيكا مافيها ديناميكية ومافيها أي شي، دي ما حاجة كويسة.
أيمن الربع
حسام: عن أي ذوق تتحدثين تحديداً؟ إذا كان هنالك ذوق سيتغير فعلى الأقل هنالك ذائقة تقبلت منذ البداية هذه الأنماط الموسيقية.
نانسي: [مقاطعة] أنا ما بتكلم عن نوع الأغاني اللي بتتغنى. أنا بتكلم عن الآلة نفسها. يعني خلي الرُبع يشتغل نفس المزيكا دي ذاتها لكن بآلات مختلفة.
حسام: يعني أنت ليس لديك مشكلة مع موسيقى الرُبع بقدر ما لديك أزمة مع التوزيع الموسيقي؟
نانسي: بصراحة أنا ما سمعت موسيقته كثير عشان أكون رأي تجاهها. أنا بتكلم عن التوظيف بتاع الأورغ.
حسام: وفقاً لذلك، وفي مصنع نانسي عجاج للموسيقى. كيف يتم إنتاج الأغنية؟ ما هي العملية؟
نانسي: كل أغنية بيكون عندها ظروف مختلفة. سواء ان كانت أغنية جاهزة ومكتملة أو لحنتها أنا. بتدخل في بروفات مكثفة حتى تكتمل. مرات بتكون موزعة منها-وفيها، ومرات ملحنة، وفي نصوص أخدتها وكانت قاعدة معاي وحتى الآن معاي غير ملحنة على أمل انها تتلحن، وفي أغاني سمعتها بس كده كأغاني كاملة، على حسب. زمان كنت بلهث وأنا بفتش عن أغانيي الخاصة، لكن حسه عرفت أنه أنا والأغنية في الآخر بنتلاقى. بتجيني وأجيها.
بكون عارفة مثلاً أنه عندي فكرة محددة للأغنية. الفكرة دي ممكن تكون فكرة نص أو فكرة لحن وموسيقى. يحصل شنو بعد ده بعتمد دايماً على إنها وصلتك في ياتوا مرحلة. أحياناً كتيرة بلقاها مسجلة بالعود مثلاً. أنا بفضل آخد المادة خام. بفضل أسمعها خام، كلمات بس أو كلمات مغناة على عود مثلاً، لأنه كتير جداً بتجيك الأغنية موزعة حتى لو كانت جديدة. دي حاجة ما مفيدة بالنسبة لي، ولا محبذة. حتى الأغاني المسموعة تقصد أغاني الفنانين الآخرين التي تود إعادة غناءها
لا أفضل سماعها مغناة عبر فنانين آخرين وبحاول أسمع الأغنية الأصلية. ده بالنسبة للأغاني. بالنسبة للألبوم بعمله كيف ؟ أنا طبعاً متطرفة في مسألة أنه الحاجة البتتقدم للناس سواءً لو كانت على وسيط صوتي أو حتى في عرض. الحاجة دي لما تتقدم للجمهور – عشان تكون بتعبر عني فعلاً – لازم أكون مشرفة عليها إشراف كامل. لأنه بتسأل السؤال ده كتير : من الذي يختار لك أغانيكِ؟ أو من الذي يقرر لك ما تغنيه ؟ الحاجة دي ما عندها أي علاقة لا بقانون لا بنصيحة ولا بأي حاجة تانية. الحاجة دي بس بقررها أنا. أنه الألبوم يكون كم غنية وياتوا أغاني …الخ. وكذلك الحال في العرض وكذلك الموسيقى والتوزيع. بحاول ألقى صوت وجو موسيقي أغني فيه ببراح أكبر، ومزيكا جميلة عندها خصوصيتها ونكهتها، تنوع، تجديد، أصالة وعمق في نفس الوقت. المهم تكون مرضية لكل الأطراف.
حسام: الأغنية السودانية اتجهت ببطء خجول وتدريجي إلى نمط البوب المنتشر لدى جيراننا المصريين بشكل سائد وتجاري. لكن هذا يحدث في السودان على أيدي فنانين شباب لا زالوا تحت الأرض – إذا صحت ترجمة [The Underground scene] – هذا يجعل الأغنية السودانية السائدة محتفظة برونقها القديم والكلاسيكي. أحد مظاهر هذا الرونق هو الطول النسبي للأغنية رغم كونها ذات لحن واحد وإيقاع غير متنوع – إلا في حالات خاصة كفرقة عقد الجلاد أو الفنان محمد الأمين مثلاً – في ألبومك موجة، المكون من سبعة مسارات، ثمة أربعة مسارات يتجاوز طولها الست دقائق [أغنية مرحبتين طولها ثماني دقائق] في حين أن أغنية أندريا الأوسع انتشاراً هي إحدى الأغاني الأقصر. ألا تشعرين أن الأغنية السودانية في طولها الزائد عن الحد وجملتها الموسيقية المكررة قد تدفع المستمع – خصوصاً غير السوداني – إلى الملل؟
نانسي: أنا حجيك للمستمع غير السوداني اللي ممكن يشعر بالملل بعدين. الأغنية السودانية عموما بتمر بمراحل تطور مختلفة بطبيعة الحال. يعني من زمن الطمبارة الطمبارة نمط غنائي شعبي يعتمد على الصوت البشري بدون مصاحبة آلات موسيقية ويسبق تاريخياً مرحلة غناء الحقيبة إلى الأوركسترا الحديثة واللحن المختلف غير الدائري – ودي بالمناسبة ظهرت من إبراهيم الكاشف وما بعده – هي كل مرة قاعد يحصل لها تحول ولا أستطيع القول طبعاً إنها وصلت لمرحلة نهائية، لأنه الكل بيضيف. الأغنية، وخلينا نسميها أغنية الوسط المقصود بالوسط في السودان هو حوض النيل ومدنه الرئيسة كالخرطوم، فيما يتم الإشارة لبقية أقاليم السودان بالهامش ) اللي هي متاحة وموجودة في الإعلام والراديو والتلفزيون ومعظم الناس حتى غير الموجودين في العاصمة سامعنها وحافظنها. أغنية الوسط معتمدة على النص. في نص شعري بتلحن، والنص ده بالضرورة بيكون فيهو قصة أو فكرة المفترض تكتمل وعليه بيتم تحديد طول المسار الموسيقي. نحن ما ممكن نغير الحاجة دي بين يوم وليلة. إلا مزاج السمع نفسه يتغير. ده مزاج جيل كامل عايز يسمع شعر بطريقة محددة، وأأكد ليك الكلام ده بشي : ونحن اتكلمنا عن أندريا، لأنه النسخة اللي اتنفذت بيها أندريا في الشريط واللي طولها أربعة دقائق وشوية دي هي النسخة الوحيدة للعمل دا بالطريقة دي. في الحفلات، إيقاعها بينقص وبتدخل فيها إضافات تانية وبتدخل زيادة أبيات على الأغنية أم أربع دقائق اللي منتشرة، وبسبب تصويرها وبثها المتكرر في التلفزيون وفي الحفلات الجماهيرية، الجمهور حفظها وحباها بالطريقة دي وهي من أكتر الأغنيات المطلوبة في الحفلات. مافي زول توقف عن سماعها لأنها بقت أطول من الأول مثلاً. أنا أضفت عليها أبيات جديدة غير موجودة في الأغنية الأصل. الـنسخة اللي من أربع دقائق في الأغنية الأصلية فيها خمسة أو ستة أبيات – ما متأكدة – وحسه الأغنية تحولت لثمانية أو تسعة أبيات. فيها نمات استخدام الصوت البشري لإنتاج جمل موسيقيّةومؤثرات بتجي وترجع. اتحولت لأغنية طويلة والناس برضو بتحبها وبتطلبها. يعني في مزاج بتاع سمع زي دا. لسه في ناس بتسمتع بالغنا الهادي الطويل .
والنقطة التانية المهمة بتاعت المستمع غير السوداني وشعوره بالملل لطول الأغنية وجملتها الموسيقية المكررة. المستمع اللي جاي من برا ده عايز شنو أصلاً؟ انت مش عايز تسمع موسيقى آخرين وبالضرورة هي مختلفة كما هي؟ ولا عايز حاجة على تصورك انت؟ أهو نحن مثلاً بنسمع مزيكا من أي بلد ومكان : جاز، ريغي Desert Blues وغيرها. بنسمعها زي ما هي. لا نضع لها تصور عشان تسمعها. ده شكلها ودا الـمود بتاعها وانت إذا مهتم، وعايز فعلاً بتسمع.
حسام: “الجمهور عايز كده“.
نانسي: لا طبعاً بدون شك. أنا ضد المقولة دي تماماً. الفنان لازم ما ينصاع للمزاج العام ان وجد. الفنان مفروض بنحاز للفكرة اللي عنده أصلاً وعايز يقدما. إلا إذا كان الفن وسيلة ترفيه بس، فممكن يخضع لي شروط السوق وغيره. الفنان مفروض يساعد في تطوير الذوق وليس العكس بحجة أنه الجمهور عايز كدا. كيف يعني يكون الجمهور مسئول عن اخفاقك في إنك تقدم أعمال ذات محتوى وعمق ؟ كيف يكون الجمهور هو المسؤول عن استسهالك لعملية ودور الفن؟
حسام: نرجع لأندريا. عندما تم إطلاق ألبومك الثالث “موجة” كانت الأغنية الضاربة هي أندريا: أغنية البنات الكردفانية نسبة لإقليم كردفان بغرب السودان البسيطة والأخاذة بإيقاع الجراري وتوزيعها الذي لم يمح طابعها الفلكلوري. أخذ السودانيون يبحثون عن هذا الخواجة الذي تغنت به بنات كردفان. الآن هنالك مجلة إلكترونية تحمل اسم الأغنية، وقال لي صديق قبل فترة بينما نتجول بين قرى الريف أنك إذا ما سافرت إلى منطقة خمّاس، وهي خمسة حلّال أحياء متجاورة، سيقول لك القرويين بفخر لقد غنت لنا الفنانة المشهورة نانسي عجاج. “لو ما كلام الناس، أندريا، برحل معاك خمّاس“. كيف بدأ كل هذا؟
نانسي: [تصحح لي] أندريا ما خواجة. في روايات كثيرة للأغنية لكن في إشارات لكتابات اتكتبت لناس مهتمين أصلاً بتراث المنطقة بتشير إلى أنه الرواية الأغلب أنه سوداني جنوبي، واشتغل في المنطقة ديك. دي الرواية الأرجح. أنه شخصية موجودة وتوفى قبل كم سنة.
حسام: متى كتبت الأغنية الأصليّة؟
نانسي: الأغنية في الجزء الموسيقي موجودة أصلاً المقصود أن لحن الأغنية الأصلية قديم قبل صدورها بشكلها الحالي. يعني اللحن موجود. لكن تعاقبت عليه أبيات مختلفة. النص بشكله القدمته أنا في الألبوم هو لسيدة موجودة إلى الآن اسمها بلدوسة بت منداس. يعني الأغنية موجودة لكن بكلمات ثانية. في ناس بيقولوا اللفظة المكررة هي مندريا وليست اندريا٫ روايات كتيرة ومختلفة.
حسام: كيف وجدتِ هذه الأغنية؟ أو وفقاً لتعبيرك، كيف وجدتك الأغنية؟
نانسي: لقيتها عن طريق صديقة اسمها آمنة ناجي. كنا في جلساتنا بنغني وبطلب منها تغنيها لينا. هي عاشت في الأُبيِّض قبل ما تجي هولندا . سمعت الأغنية منها ولما استفسرت منها عنها كان ردها أنها سمعتها من والدتها. سمعتها منها في ٢٠٠٥ أو ٢٠٠٦ و نزلت في الألبوم في ٢٠١١. آمنة كانت بتغنيها بطريقة أهل منطقتهم. أنا اتعلقت بالاغنية جداً من أول سمع، وهي بسيطة وأخاذة زي ما قلت. لقيتها ولقتني. من ما سمعتها والأغنية دي في راسي. في تفاصيل محددة خلتني أشتغل عليها لكن هي كانت في راسي لمدة ستة سنين، وبمجرد ما كان ممكن أغنيها – لأنه كان في زميل تاني كان من المفترض يغنيها – أول ما حانت الفرصة نزلتها في ٢٠١١. سهل وممتنع. جميلة ومختلفة، وبسيطة بصوت المرأة المحبة، وتراث.
حسام: ألم تسبب لك الأغنية مشاكل على مستوى حقوق الملكية الفكرية؟
نانسي: أبداً. لأنه مصدري الوحيد ليها كان صديقتي دي، وبعدين بحثت عنها عبر المهتمين وما لقيت حاجة تفيدني وصديقتي ما عارفة المصدر لأنه سمعتها من والدتها كما ذكرت. أنا افترضت إنها أغنية تراثية وما بتنطبق عليها قوانين الملكية الفكرية، لكن بعد ما ظهرت صاحبتها. المفترض أدبياً على الأقل لازم يشار ليها. أنا ما أُتيحت لي الفرصة أقابلها لأني كنت ما مقيمة هنا وهي ذاتها ما قاعدة هنا تقصد الخرطوم فما تلاقينا.
حسام: باستثناء طريقة ارتدائك للملابس، واختيارك لعدم ارتداء الحجاب، إلا أن المستمع لغنائك، حتى مع امتلاكك لأسلوبك الخاص، والمعتمد تماماً على خامة صوتك المختلفة في المشهد، سيدرك تماماً أنك سودانية خالصة. لَم تؤثر دراستك في هولندا ولا حياتك في كندا والولايات المتحدة على أدائك للأغنية السودانية إلا بمقدار معقول. كيف حدث ذلك؟ وهل هو محمدة أم لا؟
نانسي: اختياري لعدم ارتداء الحجاب لم يحدث لأي أسباب لها علاقة بالشهرة أو الانتشار أو أي حسابات تانية. رأيي في القصة دي ببساطة شديدة إنها فكرة متكاملة وقناعة في المقام الأول. إذا أنا أصلاً ما بلبس حجاب. ليه ألبسه وأنا قدام الكاميرا؟ ليه أنا أضطر أمثل؟ أنا عايزة أكون أنا دائماً وبالتأكيد لما أكون بغني ما عايزة أكون زول تاني، لأنه دي لحظة حرية بالنسبة لي. الغناء لحظة حرية. ما عايزة أكون مقيدة بحاجات ما بتخصني. ده كان رأيي ومُصرّة عليه. لحد ما أقرر أي حاجة ثانية أو أقرر أواصل كده، وما احتميت بشهرتي بل بالعكس. إنك تختلف ده بيحصل لأسباب كثيرة . ما بحصل بمجرد اختلاف شكلك عن السائد.
السؤال الأساسي بتاع “إنك سودانية” أنا طبعاً [تصحح لي] الفترة الأطول عشتها في هولندا، وقعدت في كندا وأميركا لفترات وجيزة. أدائي للأغنية السودانية لم يختلف إلا بمقدار معقول، وأما مسألة كون ذلك محمدة أم لا، فهو محمدة، لأنه حدث بمقدار معقول. أنا في حالة جدل دائم: “هل الحاجة البشوفا حلوة الناس حتتشوفا حلوة؟” بتخيل نفسي الآخر اللي بيسمع الأغنية دي. عندي حاجات زي دي. أنا عايزة أعمل فكرة. لكن الفكرة دي ما ضد المتلقي. نهائي. بالعكس نحن الاثنين ماشين في نفس الخط. فهمتني؟ إنت عايز تحتفظ بخصوصيتك وخصوصية غناك، وأنا عايزة أحتفظ بخصوصيتي . ليك علي أحتفظ ليك بكل الأساسيات البتخص الموسيقى: نص، لحن أو سلم موسيقي. النص البسيط، أو حتى لو كان رمزي. الموسيقى واللحن الأساسي المنسجم مع مزاج النص – لأنه النص هو اللي بيحكمك في التلحين وأسلوب الأداء – في عناصر تانية زي المزيكا مثلاً، التوزيع. الآلات والأصوات المستخدمة. طريقة الآداء. خلينا نقول التوزيع عموماً. بقدر أعبر بيه عن شخصيتي الفنية أو خصوصيتي. نعم استفدت من أنه أنا سمعت مزيكا مختلفة وسامعة أصلاً الغناء السوداني اللي هو الـخلفية بتاعتي وعايزا أعمل حاجة وسط تكون مُرضية بالنسبة لي أنا وما منفرة ومقبولة للزول التاني.
حسام: هل جربتِ الغناء بلغة غير العربية؟
نانسي: آي، جربت. مع نفسي أو مرات بسيطة جداً جداً في عروض، في مناسبات محدودة. جربت أول ما مشيت هولندا جربت حفظت أغنية بالهولندي اسمها Hou Me Vast. القصة ما مسألة حفظ النص. يعني انت ممكن تحفظ النص حتى لو كنت ما فاهم معناه لكن في حاجات صغيرة جداً بتقرر إنك تقدر تغني غنا تاني ولا لا. استيعابك ومرونة صوتك أنه يغني بالتطريب والاحساس الصحيح في سلم تاني أو موسيقى تانية. لو قدرت تحسن إدارة النقطة دي والتعامل معاها ما بكون في إشكال. أعتقد أنه عندي القدرة أغني في السباعي أو في المقامات الشرقية -يمكن بغني الغربي أفضل – لكن أصلاً مسألة إني أغني بلغة ثانية ما كانت هَم أساسي بالنسبة لي، بل بالعكس كنت بشوف أنه ده ترف ما ليهُ داعي حسه. أنا عندي هم تاني.
حسام: من هم فنانوك المفضلون الذين تأثرتِ بهم؟
نانسي: حسه دايرة أقول ليك كنت على وشك أن أقول ذلك ما اتأثرت بقصد بزول محدد في طريقة الأداء وده اللي أنا أصلاً معنية بيهُ في المقام الأول. لكن أنا أي أغنية ولا مزيكا بسمعها بتديني أفكار٫ يعني بستفيد وبتاثر ولو بشكل غير مباشر. فكرة ما. صوت ما. جو ما مثلاً، مش استنساخها. لكن تجريبها بشكل مختلف أو مشابهه في حاجة جديدة، وكله بغرض التجديد والهروب من التكرار الممل. بلقى فكرة في حاجة هي أصلاً ما عندها أي علاقة بالحاجة اللي أنا شغالة عليها، أو تسمع نوعية أغاني محددة – زي ما بعمل مؤخراً – توحي لي بألحان يكون ليها نكهة مختلفة، فأي موسيقى أنا سمعتها وعجبتني هي بتضيف لي بطريقة أو بأخرى. لكن بالنسبة للتأثير في الغناء، ده بيحصل بشكل ما. لكن زي ما قلت ليك أنا استفدت من الناس اللي أنا حبيتهم بشدة، وكنت مهمومة بمسألة الأداء وأنا بسمع ليهم.
حسام: أعطيني أمثلة.
نانسي: ويتني هيوستن، محمد وردي. يعني هو السمع ذاته مختلف. مرات انت بتسمع عشان تسمع الأداء، ومرات عشان اللحن. على حسب مزاجك ذاته. أنا علاقتي بالغناء أو بالسمع غريبة ومختلفة من المستمع العادي. يعني مثلاً أنا كنت عايشة في بيت موسيقي. لما كنت صغيرة في السن ما كان عندي اهتمام شخصي إني أفتش موسيقى وأسمعها ويكون عندي مختاراتي الموسيقية الخاصة. الموسيقى اللي كانت موجودة ومسموعة بشكل مستمر ويومي في البيت هي ألحان خاصة ما كانت مسموعة بالنسبة للناس أو عندها أسلوب أداء محدد، وفي سن ١٥ سنة أو حاجة بالشكل ده بديت أسمع الموسيقى السودانية زي كأني أعدت اكتشافها وبنهم شديد. دي الفترة اللي بقول ليك عنها أنه كنت بقعد بالسبعة والثمانية ساعات بقفل نفسي وبقعد أسمع بس. بالإضافة لموسيقى متنوعة لأنه بابا ذاته بيعزف موسيقى مختلفة، وكان في مكتبة في البيت فيها أسطوانات كتيرة. إضافة للموسيقى اليومية اللي بتسمعها في الراديو وفي أي حتة تانية. يعني كان متاح لي تنوع موسيقي كبير. في فترات لاحقة ملت أكتر للموسيقي الغربية، ويتني هيوستن وستيفي وندر.. الخ. يعني يمكن تقسيم مراحل السمع كالآتي: مزيكا أبويّ كمرحلة أولى، بعديها مزيكا سودانية كثيرة جداً من الإذاعة السودانية في الصباح وبرنامج الإذاعة الموسيقي وشرايط الكاسيت بشكل غير متوقف إلا الشريط يبوظ ولا الجهاز يبوظ. أنا بوظت كمية هائلة من المسجلات والراديوهات [تضحك]، بعديها ومرحلة ثالثة حالية وطويلة نسبياً هي الموسيقى الأفريقية .كل مرة تفصيلة صغيرة توحي ليك بفكرة جديدة، وكده يعني.
حسام: قبل فترة كنت أستمع في سيارة وبشكل عشوائي لأغنية حمد الريّح بين اليقظة والأحلام يؤديها الفنان الراحل محمود عبد العزيز. استطعتُ أن أخمن من التسجيل وأداء الكورس وتحديداً شكل التوزيع الموسيقي الهزيل والأقرب للهمجي بأنها من برنامج أغاني وأغاني التلفزيوني الشهير، والذي شارك فيه محمود عبد العزيز في سنوات انهياره الصحي الأخيرة بشكل استغلالي مثير للشفقة. أدركتُ لحظتها لحالة غريبة قد تكون منتشرة لدى الكثير من المستمعين، وهي أنني – ورغم حبي لصوت الحوت محمود عبدالعزيز الذي دائماً ما يحول أي أغنية سابقة إلى أغنيته بطابعه الغنائي الخاص – إلا أنني وأثناء استماعي لـبين اليقظة والأحلام كنت أستعيد من ذاكرتي أداء هادية طلسم المميز للأغنية، وأخذت أغني كل مقطع مستعيداً التسجيل القديم في ذهني ومنطرباً بذلك. لدي سؤالان بعد هذه القصة الطويلة. الأول: كيف يمكن للفنان أن يمتلك أغنية مستعادة بحيث تصبح له بدون حقوق ملكيتها. كأن يعتقد الشباب أن أغنية الوسيم هي لمحمود عبد العزيز لا لأحمد المصطفى. الذي سبق المصري محمد منير – كعادته مع الغناء السوداني – أن غنى له البعدو يجنن من دون الإشارة إليه؟
نانسي: لازم يكون عندك فكرة للأغنية ذاتها. اخترتها ليه؟ أو عايز تغنيها ليه؟ اتخيّليّ يعني. أنا يمكن إجابة السؤال ده ذاته ما عندي [تضحك]. لكن لازم يكون عندك هدف من اختيار الأغنية. ما هي أصلا موجودة! انت بتغنيها ليه وعايز توصل منها لشنو؟ فكرة ؟ مرات الحاجات اللي عايز توصلها بتكون لأنه اللحن جميل وانت عايز تعيد تقديمه في أجمل ما يمكن. مرات لأنه لقيت نفسك في حاجة معينة في اللحن ذاته أو في الكلمات أو أي شي آخر. إيقاع جديد. إيقاع لم يتكرر، فتشعر وكأن الأغنية غريبة مثلاً. لو عارف إجابة السؤال وكانت الإجابة صحيحة، غالباً حتصبح الأغنية القديمة دي جديدة وملكك.
بين اليقظة والأحلام، محمود عبدالعزيز، أغاني وأغاني
بين اليقظة والأحلام، هادية طلسم
حسام: الشق الثاني من السؤال: هل يمكن للمشاهد السوداني أن يراك يوماً على شاشة النيل الأزرق في رمضان تتقاسمين مع فناني الصف الأول مجلس المؤرخ الموسيقي العجوز السر قدور قبل أن يموت هو الآخر؟
نانسي: طبعاً لا. لأسباب كثيرة جداً. إجابتي على السؤال ده – جاوبتها من الموسم الأول أو الثاني – بأني غير راغبة في المشاركة في البرنامج لأسباب كتيرة. أهمها أنه ما حأضيف شي للبرنامج ولا هو حيضيف لي جديد. أما الانتشار، فأنا ما عايزة الانتشار بالشكل ده. ما عايزاه كده. أنا ما عايزة أنتشر أصلاً. أنا موضوعي في الغناء ما كان في يوم من الأيام أنه أكون مشهورة كله كله أبداً أبداً. أنا عندي هم شاغلني. بنوم وبصحى بيهُ وعايزة أعمله. أكون مشهورة أو لا بعداك ما مهم. مهم في حالة إنه إذا أصبحت مشهورة وجاء الناس بعد كده وقالوا لي : “انت مزعجة. ورينا عرض كتافك”. لكن طول ما الحاجة دي لقت قبولهم، حأكون مواصلة فيها. الشهرة بعد كده حتبقى أثر جانبي [تضحك].
حسام: طيب. أوحيتي لي بسؤال. لو لم تكوني موسيقيةً، ما هي المهنة التي كنت تودين ممارستها؟
نانسي: والله أنا كان عندي أمنيات كثيرة جداً. واحدة منهم والأساسية – وما زالت عندي بالمناسبة – أنه أبقى أستاذة. في فترات سابقة كنت بختار مواد معينة. في مواد من أول ما بدأت أدرس كنت بحبها: اللغة الإنجليزية، الكيمياء، الأحياء. أنا المواد دي كنت بحبها. أنا امتحنت علمي أحياء أصلاً.
حسام: [بفخر] زيي.
نانسي: لكن من اليوم الأوّل أنا كنت متخيلة نفسي ممكن أبقى أستاذة. ممكن يكون في خيار كالمادة الفلانية مثلاً. لكن أنا عموماً مهمة التدريس عاجباني وأقدرها جداً لأنه دي حاجة بتدخل جوا عصب كل حاجة. يعني الأستاذ ده هو الزول القاعد مع أطفالك واللي بيربي معاك وأكثر منك كمان. ممكن يتحول دوره لمجرد زول يلقن معلومات بطريقة صحيحة أو خطأ. أو ممكن يتحول إلى مُربيّ حقيقي. يعني التدريس بشمل التربية، فأنا بحبه. غير كونه تربية ومهمة خطيرة لأنك كأستاذ بتتعامل مع ناس متفتحين وشرهين للمعرفة وللأسئلة وللاكتشاف ولغيره. سواءً الأطفال أو الباحث عن المعرفة عموماً. في إيدك تحببهم المادة أو تنفرهم منها. بالنسبة للأطفال فانت مشارك أساسي في عملية التربية وممكن تزرع قيم كتيرة وجميلة في التلاميذ ديل. أشياء ما موجودة في المنهج المدرسي. دي حاجة محتاجة وعي وإبداع وخيال وطولة بال. يعني أنا بتذكر أنه في فترات دراسية محددة كرهت مواد، وحبيتها وجبت فيها أعلى الدرجات في مرحلة تانية ببساطة لأنه الأستاذ مختلف. يعني ممكن مستقبلك كله يضيع عشان الأستاذ [تضحك]. الأستاذ ده ما حاجة ساهلة. بدون ترديد الشعر والكلام الجميل بتاع “قم للمعلم وفه التبجيلا…” وإيه وإيه، دي حاجة خطرة فأنا أحبها وأحب إبداعها وأحب تحدياتها. حأحب أفكر كيف أوصل معلومة. زي ما بحب أوصل أغنية.
قبل نشر هذه المقابلة أصدرت نانسي أغنية جديدة من ألحانها : حنين