.
https://www.youtube.com/watch?v=_2J1VnOmPX4&list=PL0zQ4kaFCFJIHF9XU_uXZyNKNM5ur51F2
في نهاية التسعينات كانت عبارة “مات الروك” على لسان العديد من الموسيقيين والنقاد والمستمعين. كانت موجة الروك البديل والمستقل تنحسر وفقد الغرنج نصف وزنه بانتحار كيرت كوباين. الأمل الآتي من بريطانيا مع فرقتي بلور وأواسز Blur. Oasis. كان غير كافٍ لإعادة هيبة الروك.
في ٢٠٠١ أصدرت فرقة ذَ ستروكس ألبوم Is This It، منضمةً لفرق كـ ذ وايت ستاريبس وإنتربول The White Stripes. Interpol. في بداية موجة إحياء ما–بعد–البانك التي شكلت صوت الروك في هذا القرن، ثم متوجةً رغماً عنها كالفرقة الأهم في هذه الحركة، ولاحقاً كفرقة الروك الأهم على الإطلاق في القرن الحادي والعشرين. خمسة عشر عاماً مرت ولا تزال الفرقة تستحق لقبها الأخير.
أصدرت ذَ ستروكس منذ أيام أول دفعة أغانٍ جديدة خلال ثلاث سنوات، عبر تسجيل قصير باسم مستقبل حاضر ماضٍ، مكون من ثلاث أغانٍ وإعادة توزيع remix لإحدى هذه الأغاني. هل لا تزال الفرقة إذاً بعد كل هذه السنوات مهتمة وقادرة على التغيير والتجديد في وقت تحتاجه موسيقى الروك بشكل صارخ؟ أم أنها اكتفت بإرضاء ذائقة فئة واسعة من جمهورها تطالب بأغانٍ تكرر صوت الفرقة من أعمالها الأولى؟ للإجابة على ذلك والتمكن من فهم العمل الجديد لا بد من استعادة سريعة لمسيرة الفرقة. ما الذي ميزها في البداية؟ كيف تطورت؟ وكيف غيرت مشهد الروك على طول القرن الحادي والعشرين؟ أعتقد أن أول ألبومات الفرقة يقدم نقطة بداية ممتازة لهذه الاستعادة. بدلاً من مراجعة الألبوم سنحلل نقاط تميزه الرئيسية التي تكررت ليس فقط في أعمال الفرقة اللاحقة، بل في أعمال العديد من أبرز فرق الروك في السنوات العشر الأخيرة.
بدأت فرق الروك تعتمد على الجيتار الإيقاعي بشكل متنامي منذ السبعينيات، وخصوصاً أسطر الجيتار المكررة. وصل هذا الاعتماد ذروته مع حركتي الروك المستقل والبديل، حيث كانت معظم الفرق تستخدم سطري جيتار مكررين متوسطي الطول أو طويلين بعض الشيء، يتكرر أحدهما خلال المقاطع Verses والآخر خلال اللازمات، بينما يتم الاعتماد على الغناء أو الجيتار الرئيسي (إن وجد) لإضفاء اللحن، كما في حالة نيرفانا وآر إي إم R.E.M مثلاً. الثورة التي أحدثتها ذَ ستروكس في ألبومها الأول بدأت بتكثيف استخدام الجيتار الإيقاعي، فبدلاً من الاعتماد على سطر أو سطرين مكررين فقط، حولت الفرقة كلا عازفي الجيتار الرئيسيين للإيقاع، ليؤديا بالتزامن عدداً هائلاً من الأسطر المكررة القصيرة والسريعة التي تختلف عن بعضها البعض اختلافات بسيطة. في معظم الأغاني يمكن سماع سطري جيتار مكررين يتبدلان كل بضعة عشرات من الثواني لأسطر تختلف بشكل طفيف، تزداد أو تنخفض حدة، وتحافظ غالباً على نفس عدد النوطات. حتى خلال مقاطع العزف الآلاتي تعزف الفرقة أحياناً جيتاراً لحنياً منفرداً بينما تستمر في أحيان أخرى بسولو إيقاعي من الأسطر المكررة القصيرة.
أعتقد أنه من السليم نسب نصف نجاح الفرقة على الأقل لهذه الخدعة، إذ أنه يسهل الانسجام مع الأسطر المكررة وخصوصاً القصيرة منها وحفظها. في نفس الوقت، هذه الأسطر هي أكثر ما يهدد الأغاني بالرتابة، كما أن التركيز عليها يعني أن نجاح الأغنية من فشلها يعتمد على السطر المكرر الرئيسي. أفلتت الفرقة من هذه المآزق عبر استخدامها هذه الأسطر كوحدات لحنية بدل النوطة الموسيقية المنفردة، فأصبحت أغانيهم عبارة عن ألحان كبيرة مكونة من توالي وتكرار وتبدل هذه الأسطر الإيقاعية القصيرة، وما أن يعتاد المستمع على الأغنية خلال أول بضعة استماعات حتى يدمن عليها.
لتعزيز هذا الطابع استثمرت الفرقة جيتار البايس وحاولت ونجحت في عدة أغانٍ بتلوين إيقاعه بشكل أكبر ليتحول لسطر مكرر بدوره، كما استخدمته في بعض هذه الحالات لافتتاح الأغاني بشكل جامح وضخم صوتياً، كسطر البايس الممتاز الذي يفتتح أغنية Juicebox من ألبومهم الثالث.
يعتمد هذين العنصرين في ذَ ستروكس على بعضهم البعض، خصوصاً أن مغني الفرقة جوليان كازابلانكاس يكتب معظم أغانيها. يعرف كازابلانكاس عن نفسه بلا ملل على أنه تلميذ لو ريد الأول، ويقول في إحدى مقالاته إن ريد كان يغني عن مواضيع بقمة الحدة والجموح كالجنس والمخدرات، لكن مع ذلك يغني عنها بلهجة واقعية تخلو من الدراما والمبالغات الرومنسية، وكأنه نصف شاعر نصف صحفي وفق تعبير كازابلانكاس. يحافظ مغني ذَ ستروكس في أول ألبومين للفرقة على هذا الأسلوب بصرامة، ثم يبدأ بالتساهل معه بحذر شديد ابتداءً من الألبوم الرابع. نسمع صوت كازابلانكاس في الألبومات الأولى مشبعاً بالتشويش وجودة التسجيل المنخفضة المتعمدة، ويبدو في الكثير من الأحيان ضجراً أو نزقاً، ينسجم مع الإيقاع بملل متعمد قامعاً أي انفعالات درامية، وفي أحيان أخرى منطلقاً بأريحية تامة كشخص مخمور بالبيرة.
خرجت كلمات أول ألبومين للفرقة من روح نيو يورك في تلك الفترة. كانت مزيجاً من الانغماس بالذات وحذلقات فكرية مخلوطة بطريقة نصف مرحة نصف متهكمة. فكك كازابلانكاس مواضيعه وأعاد بناءها عبر مزيج من الـ بك أب لاينز عبارات متحذلقة يستخدمها الشباب لتزبيط الفتيات. Pick up lines وعبارات مبتذلة بشكل متعمد. في أغنية Alone Together من الألبوم الأول يقول: “الحياة تبدو غير واقعية / ربما الأمور أفضل في بيتِكِ؟“، بينما تحمل أغنية من ثاني ألبومات الفرقة اسم قابليني في الحمام.
في ٢٠٠٣ أصدرت ذَ ستروكس ألبوم Room on Fire، الذي كان باتفاق الجميع بما فيهم أعضاء الفرقة، مجرد ١١ أغنية أخرى من Is This It، الأمر الذي أحبط منتظري الجديد من الفرقة لكن أرضى المهووسين بالألبوم الأول المطالبين بالمزيد منه، علماً أن هؤلاء لا يزالوا يشكلون نسبة كبيرة من جمهور الفرقة حتى اليوم. على كلٍ أثبت التاريخ أن هذا التكرار، أو فلنقل الاستمرارية، خلال أول ألبومين كان أكثر أهميةً في تلك اللحظة من التجديد، خصوصاً أنه حافظ على مستوى ثابت من الجودة، لأن تتالي الألبومين قد أتاح لمستمعي الفرقة، وخصوصاً الفنانين، ترسيخ فهمهم لهذه الهوية الموسيقية الجديدة وملامحها المتكررة، وأدى إلى ظهور جيل كامل من الفرق المدينة لهذين الألبومين. حققت الكثير من هذه الفرق نجاحاً جماهيرياً موازياً لذا ستروكس، منهم الـ Yeah Yeah Yeahs الذين تلقاهم الجمهور كنسخة ذَ ستروكس بمغنية فتاة، وKings of Leon الذين لقبهم البعض خلال بداياتهم بـ ذَ ستروكس جنوب الولايات المتحدة، وأخيراً Arctic Monkeys الذين كانوا الموازي البريطاني لذَ ستروكس ولم يمتنعوا عن إعلان تأثرهم الواضح بالفرقة.
في ٢٠٠٦ صدر الألبوم الثالث First Impression on Earth الذي اعتبر سقطة نقدية وجماهيرية للفرقة. لم يكن الألبوم أفضل أعمال الفرقة لكنه لم يكن سقطةً بالمقابل، بل أقرب ما يكون لصوت هجين يعبر عن مرحلة انتقالية نحو المزيد من الجدية والتعقيد. هو تغيير جريء للفرقة في ذروة نجاحها. في هذا الألبوم تحدثت الأغاني عن قضايا أعمق وبلهجة أوضح عبَّر خلالها كازابلانكاس عن رفضه للعالم المعاصر، وهي نظرة تكررت في أعماله اللاحقة. موسيقياً اتجهت نصف الأغاني لصوت أكثر صخباً وضجيجاً وقرباً من البانك، بينما أخذ النصف الآخر منحاً تجريبياً يبحث عن صوت جديد خاص بالفرقة.
أدى فشل الألبوم لظهور مشاكل شخصية وإبداعية في الفرقة، إذ تذمر باق الأعضاء من سطوة كازابلانكاس الإبداعية وحملوها بشكل غير مباشر مسؤولية الفشل، ما أدى لانحلال الفرقة لخمسة أعوام، أصدر خلاله كازابلانكاس أول أعماله المنفردة Phrases for The Young، الذي شابه ألبوم ذَ ستروكس بكونه صوتاً هجيناً لهوية جديدة لم تنضج بعد.
عندما عادت الفرقة في ٢٠١١ لإصدار ألبومها الرابع آنجلز لم تكن مشاكلهم الشخصية أقل حدة من قبل، إذ وصف عازف الجيتار نيك فالينسي تجربة تسجيل الألبوم بالمريعة، واشتكى أن كازابلانكاس سجل مقاطع الغناء بمفرده وأرسلها للفرقة دون التواجد معهم بالاستوديو. دفعت هذه القصص النقاد للهجوم على الألبوم والتساؤل: كيف نحب عملاً كرهت الفرقة نفسها عملية تسجيله؟ فجاءت المراجعات متضاربة، معظمها سلبي بعنف وبعضها إيجابي بحذر. بعد سنوات غير عدة نقاد موقفهم من الألبوم، حيث قالت مجلة إن إم إي في ٢٠١٥ أن الألبوم قد لا يكون أفضل أعمال الفرقة لكنه مظلوم بشكلٍ إجرامي. برأيي الشخصي، آنجلز هو ثاني أفضل أعمال الفرقة بعد ألبومهم الأول، حيث نجح بتقديم تجربة جديدة شديدة الثراء، وجاءت الأغاني فيه مختلفة كمشاريع صغيرة مستقلة تشهد كل منها تجربة صوت مختلف واعد، كما تمكن من تقديم النضج والاستقرار اللذان غابا عن First Impression on Earth.
في ٢٠١٣ أصدرت الفرقة آخر ألبوماتها كاملة الطول، Comedown Machine، ولم تؤد منه أي أغنية في حفلاتها كما لم تدعمه بجولة أداءات حية. عندما بدى لوهلة أن الألبوم كان ألبوم اعتزال الفرقة فقد استمع إليه النقاد ومتابعي الفرقة على هذا الأساس. بالنسبة لي لم يكن كمداون ماشين ألبوم اعتزال مهادناً هادئاً، على العكس كان إصراراً على متابعة توجه آنجلز المتنوع والتجديدي، استطاعت معه الفرقة قطع رحلة كاملة مبتعدةً عن الهوية التي بدأت معها في ٢٠٠١، وباتت مستعدةً لتصفير العداد والبدء من جديد. التسجيل القصير الصادر من أيام هو أقرب ما يكون للحظة انتقال نحو هذه البداية الجديدة.
خلال السنوات الثلاثة بين آخر ألبوم للفرقة وبين تسجيلهم الجديد استثمر جوليان كازابلانكاس الكثير في شركة تسجيله Cult Records، التي كانت أكثر من أداة لتسجيل وإصدار أعماله المنفردة، حيث شكل فريقاً مركزاً من فنانين كبار أو واعدين في البوست–بانك، باحثاً عن صوت جديد قادر على تحريك مياه الروك الراكدة. من بين أكثر من عشر أعمال صادرة عن الشركة حتى اليوم، كان ألبوم تيراني الذي سجله كازابلانكاس مع الفرقة المساندة ذَ فويدز، هو الذي نجح بتحقيق المهمة، عبر تقديم صوت جديد بأصالة وقوة إز ذس إت. أعتقد أن هذه التفاصيل مهمة لسببين، أولهما أن الفرقة أصدرت ألبومها الجديد عبر شركة كازابلانكاس، مما حل المشكلة الشخصية–الإبداعية لصالحه، وثانيهما أن التسجيل الجديد كان استمراريةً لأعمال الفرقة ولعمل كازابلانكاس المنفرد في نفس الوقت.
https://www.youtube.com/watch?v=OkgAq1cRgOY
نقدياً يواجهنا التسجيل الجديد بضربة استباقية ويمنح نفسه الحصانة عبر نقد نفسه بنفسه. اسمه مستقبل حاضر ماضي وهو مكون من ثلاث أغانٍ، ترمز أولها للصوت الجديد للفرقة والثانية للصوت الذي توقفت عنده الفرقة والثالثة هي استعادة لصوت الفرقة من أول ألبومين. هو أقرب إذاً لبيان صحفي من كونه ألبوماً.
يبدأ التسجيل بأغنية Drag Queen التي تمثل الصوت الجديد للفرقة، وتشكل استمراراً واتصالاً بألبوم تيراني لكازابلانكاس أكثر مما تتصل بباقي أعمال ذَ ستروكس السابقة، الأمر الذي أمل به الكثير ممن استمعوا لـ تيراني. تقوم الأغنية على إيقاعات ضخمة صوتياً من السينث والطبول والبايس والجيتار الإيقاعي المتغير، يرافقها غناء كازابلانكاس بصوت مشوش وصاخب واستخدامات متقطعة للفالسيتو، ويقاطعها في المنتصف سولو قصير هو أكثر عناصر الشبه مع موسيقى ذَ ستروكس. بالمجمل تقدم الأغنية صوتاً خاماً زخماً عنيفاً يحقق وعده بالانتماء للمستقبل. هي أكثر أغاني الألبوم صعوبةً على السماع وبالمقابل أكثرها قابليةً للإدمان لفترات طويلة متى ما تمكن المستمع منها.
في ثاني أغانيها، أُبليوفيوس، ترمز الفرقة للحاضر، لكن أي حاضر؟ هو أقرب ما يكون لآخر مكان وصلت إليه الفرقة قبل التوقف. تنسجم الأغنية مع ألبوم آنجلز بالذات، مع الجو التجريبي الاستكشافي الذي كانت تبحث فيه الفرقة خلال أعوامها الأخيرة عن صوت جديد، وتشهد انقشاع غمامة كازابلانكاس الإبداعية التي ألقت بظلها على أصوات باق أعضاء الفرقة في Drag Queen. تبدأ الأغنية وتتطور من حيث البنية كما تبدأ وتتطور أغاني ذَ ستروكس التقليدية. أسطر الجيتارات المكررة القصيرة تحكم مجدداً، وتشعل اندلاعات وترية خلال اللازمة التي يردد فيها كازابلانكاس بانفعال نفس الجملة، ثم يتولى الجيتاران الرئيسيان القيادة بمقطعي عزف منفرد متتاليين يأتيان في بداية النصف الثاني للأغنية، قبل أن يتشاركا قيادة الأغنية مع غناء كازابلانكاس خلال جسر إيقاعي ينتهي بتكرار أخير أكثر احتداداً للازمة.
يبدو أن الفرقة تفهم وتحلل أسلوبها المبكر الذي ظهر خلال أول ألبومين كما يفهمه ويحلله النقاد، فكل ما عليها فعله لتكرار هذا الأسلوب هو اتخاذ القرار بذلك. تستعيد أغنية Threat of Joy التي ترمز لماضي الفرقة تفاصيل أول ألبومين بحذافيرها، أسطر الجيتار القصيرة مرحة تتبدل بحيوية قبل أن تنهي الأغنية بدقيقة من الأداء الآلاتي الإيقاعي، دون إتاحة الفرصة لاندلاع سولو لحني. كلمات الأغنية المتخمة بالحذلقات الساخرة، وأسلوب كازابلانكاس بالغناء من افتتاح الأغنية بعبارات كلامية للازمة لا يسمح خلالها لنفسه بالكثير من الانفعال، كلها تعيدنا لنيو يورك ٢٠٠١-٢٠٠٣، نيو يورك ذَ ستروكس.
من الصعب المفاضلة بين أغاني الألبوم، إذ ترمز كل منها لحقبة، وكل حقبة أظهرت جزءاً ممتازاً من هوية الفرقة الموسيقية، لكن لو تذكرنا كيف كرر أول ألبومين للفرقة النسق ذاته، وكيف كان هذا التكرار ذو أهمية حاسمة في تأسيس ثورة موسيقية مددت عمر الروك المحتضر في مطلع القرن، أجد أن الأغنية الأولى من التسجيل Drag Queen –الدالة على المستقبل– تبشر بسيناريو مماثل يشكل فيه ألبوم ذَ ستروكس المقبل استمراريةً لألبوم جوليان كازابلانكاس الأخير تيراني، ولا نستطيع إلا أن نأمل بأن يطلق هذا التكرار الجديد موجة ثانية من إحياء ما بعد البانك من شأنها تمديد عمر الروك لعقد آخر من السنوات، قبل أن يحمل جيل جديد هذه الشعلة أو يطفئها للأبد.