.
في ليلة من ليالي يونيو عام ٢٠٢٢، كنت في زيارة للقاهرة لإجراء مقابلة عمل لم أوفق بها. ثم ذهبت لمقابلة بعض الأصدقاء في شقة في المعادي. كان معظم الحاضرين ذلك اليوم من العاملين في مجال الموسيقى، تحديدًا الهيب هوب، من بروديوسرز ورابرز صاعدين حقق بعضهم نجاحًا بالفعل. دارت سيجارة حشيش بيننا، وبدأ طقس أساسي في جلسات كهذه وهو تشغيل الموسيقى بينما نتحدث.
قال أحد الأصدقاء – بروديوسر شهير الآن في المشهد المصري – “اسمعوا الشاب دا يا جدعان”، وشغل تراك كريتة صريفة لـ زياد ظاظا. لفت انتباهي سريعًا وانتباه الجميع، وترك عندي انطباعًا مُربكًا في البداية. يغني ظاظا في التراك على بيت دريل صرف يستخدم عينة موسيقية كلاسيكية، مصحوبة بـ ٨٠٨ قوية تصفع أذنك، وهي صفة أساسية في بيتات الدريل. لكن ما لفت انتباهي أكثر كان أداء ظاظا المختلف تمامًا عن أقرانه في مشهد الدريل المصري الذي كان في مهده آنذاك.
كان ظاظا جريئًا ويغني بأسلوب قاسٍ، “عاوج بقه” كما يقال، ويلقي أبياتًا مربكة تبدو إما مكتوبة بحرفية عالية أو لا معنى لها. أذكر أن التراك استمر في قائمة التشغيل لديّ لمدة طويلة. كانت هناك طاقة نهمة، بدا أن ظاظا يريد أن يثبت نفسه بأية طريقة وأي ثمن. سمعت لزياد ظاظا بعض التراكات وقتها، وكان معظمها غارقًا في الدريل، حيث أظهر تمكنًا كبيرًا في الأداء.
انتشرت أغنية كريتة صريفة سريعًا على تيك توك وإنستجرام لأسباب مفهومة: الفيديو متوسط الجودة الذي يُظهر ببساطة وبصدق أن الكلمات مستمدة من الشارع دون ادعاء، أداء ظاظا غير المألوف، وبارات مميزة في تركيبها لدرجة أنك تجد نفسك ترددها دون وعي. تابعت مسيرة ظاظا منذ ذلك اليوم حتى الآن، وراقبت تطوره السريع والمبهر في المشهد المصري وتحركه عبر مشهد الراب الذي كان يعاني من ركود وقت ظهوره.
من المهم هنا أن نذكر سياق مشهد الهيب هوب المصري لرسم الصورة كاملة. كان المشهد في حالة ثبات في ذلك الوقت، حيث اتخذ نجوم الصف الأول من الرابرز طرقًا آمنةً في الغالب. أثبتت الموجة الجديدة التي صعدت بين عامي ٢٠١٧ و٢٠١٨، والتي احتلت المشهد المصري، مثل بابلو وويجز ومروان موسي، نفسها بالفعل. لم تكن هناك تلك الطاقة النهمة، إذ اتجه ويجز نحو موسيقى البوب بشكل أكبر، بينما كان بابلو متعثرًا بعودته من الاعتزال وبدا غاضبًا، ما انعكس على موسيقاه.
ربما كان مروان موسى أكثرهم فاعلية، لكنه لم يقدم جديدًا. على الجانب الآخر، الذي يمكن اعتباره “بديلًا”، عاد رابرز مثل موسى سام مشتتًا بألبوم ثانٍ لم يكن بمستوى ألبومه السابق، السحابة، الذي وضع آمالًا كبيرة على الرابر القادم من الإسماعيلية. كان الألبوم ذاهبًا في كل اتجاه دون تصور مفهوم. كما كان رابرز مثل ديزي توو سكيني مترددًا في إصداراته، حيث كان يروج لألبومه الذي لم ير النور حتى الآن بإصدارات منفردة مشتتة دون استراتيجية واضحة.
انتظرت أول ألبومات ظاظا الذي جاء سريعًا بعد أغنية كريتة صريفة وكان بعنوان الريس أواخر عام ٢٠٢٢. تكون الألبوم من تسع أغانٍ، تمسّك في معظمها بالدريل، فيما أظهر الألبوم نزعة ظاظا التجريبية على استحياء كما في النصف الثاني من أغنية ظاظا، التي يتحول فيها البيت من دريل إلى بووم باب حديث. كما ابتعد عن الدريل تمامًا في خاتمته عيال لكاكة، مع إنتاج أقرب إلى الإي دي إم أتقنه ظاظا.
ظهرت أيضًا قدرة ظاظا على الإنتاج بكثافة حيث صدر الألبوم بعد خمسة أشهر فقط من أول إصداراته. في رأيي، كان الريس من أفضل ألبومات ظاظا كتابيًا حتى الآن، وإن لم أشعر أبدًا أن تلك هي نقطة قوته على أية حال. موسيقيًا، لم يقدم الألبوم جديدًا وكان محدودًا بشكل كبير بسبب اعتماده الزائد على الدريل، دون تنوع واضح في البيتات التي اتبعت بنية شبه ثابتة وكان معظمها من إنتاج محرم. كما عانت فلوهات ظاظا من التكرار المفرط في معظم الأغاني، ما جعل الألبوم أحادي البعد إلى حد ما. رغم ذلك، قدم ظاظا نفسه في الألبوم كوجه جديد واثق في صوته وإمكانياته وصاحب أسلوب متفرد.
لم تكن استراتيجية إصدار الألبومات سائدة آنذاك، حتى بين نجوم الصف الأول في المشهد الموسيقي. ظلت هذه إحدى مشاكل المشهد المصري، وهي اعتماد الرابرز على الإصدارات المنفردة المتتالية. لكن ظاظا وعى هذه المشكلة واستغلها بذكاء. تميزت استراتيجية ظاظا بغزارة الإنتاج، شبيهة باستراتيجية ويجز في فترة صعوده التي اتّسمت بالكثافة والتجريب. لكن على عكس ويجز، فهم ظاظا أهمية دور الألبومات والأعمال الكاملة في ترسيخ صورته كفنان ذي رؤية.
بدأت إصدارات ظاظا بغزو المشهد وبدأ اسمه بالسطوع، من خلال تعاونات مدروسة وأخرى فقط لتوسيع انتشاره في المشهد الموسيقي بشكل عام، وإصدارات منفردة غزيرة. منهجية نجحت بشكل كبير في إبقاء ظاظا دائمًا موضوعًا ساخنًا. أظهرت تلك الإصدارات جوانب أكثر تنوعًا من ظاظا على صعيد الموسيقى في تعاونات مع الوايلي ودنيا وائل وغيرهم، وصولًا إلى ألبومه القصير الذي أتى بعد ثلاثة أشهر فقط من أولي ألبوماته وكان بعنوان رانجلر بيضا.
شهد الألبوم اتجاهًا مغايرًا تمامًا عما قدمه ظاظا في مسيرته حتى تلك اللحظة، فكانت الموسيقى بطيئة واتجهت إلى التراب واللو-فاي وابتعدت تمامًا عن الدريل. ابتعدت سطور ظاظا وكلماته أيضًا عن العدوانية وتناولت مواضيع أكثر حميمية وشخصية وأظهرت جوانب أعمق من شخصيته. تفوق الألبوم إنتاجيًا على سابقه وقدم ظاظا كمُغني راب متنوع يمتلك الكثير من الأدوات وذو قدرة عالية على التأقلم على مختلف الأنماط الصوتية.
في رانجلر بيضا بدأت تأثيرات ظاظا الموسيقية تتضح بشكل فجّ ربما، حيث نرى تأثرًا كبيرًا بكانيه ويست في أسلوبه الغنائي وصولًا إلى ما يمكن وصفه بالنحت التام في تراك دار ودار، الذي بدا كنسخة رديئة من بلاك سكينهيد لكانيه ويست. أنتج التراك البروديوسر خمستاشر، مستعيرًا فيه تقريبًا نفس نمط الدرامز مع عوامل صوتية مشابهة للتراك الأصلي، بينما يبدأ ظاظا بإلقاء مشابه بشكل مريب لكانيه.
ظهرت نزعة ظاظا التجريبية في أوضح صورها في ألبومه الطويل الثاني بعنوان ظاظا الوسيم الذي صدر في نفس العام، وكان أكثر اصداراته تنوعًا، وشهد تعاونات مع أهم منتجي المشهد مثل الوايلي، عمر كيف، ريف وإسماعيل نصرت، ورابرز مثل كريم أسامة وديزي توو سكيني وتعاونات خارج الهيب هوب مثل علي لوكا. أخذت الكتابة هنا منحنًى استمر في الانحدار في إصداراته اللاحقة. تحولت كتابة ظاظا إلى البارات القصيرة التي تأتي بدون سياق، وكان التبجح هي الثيمة الأكثر وضوحًا مع الحديث عن السيطرة على المشهد، وهو ما تحقق بالفعل.
تنوعت بيتات الألبوم بين الأفرو، الدريل، التراب، البووم باب والشعبي وأخيرًا نوعه المفضل من البيتات في الفترة الأخيرة وهو الريج. ظهر ظاظا في الألبوم متأثرًا بشكل صريح بأسلوب أيقونة أتلانتا بلاي بوي كارتي، اتضح ذلك في تراك سمع أخينا.
بدأ تأثر ظاظا بـ كارتي بالتوسع وأخذ مساحة أكبر في أسلوبه لدرجة التغطية على هويته أحيانًا، وهو ما اتضح أكثر في ألبومه التالي ٢٠٠٠ جن الذي تعاون فيه بالكامل مع الرابر ترك، وصولًا إلى ألبوم ظاظا الأخير الذي صدر قبل أيام، حيث يتعمق ظاظا فيه في جانرا الريج أكثر ويبدو تأثره بكارتي أكثر من أي وقت مضي. اقتبس ظاظا نفس المفهوم من كارتي في ألبومه المسرب آي آم ميوزك في تراك أنا المزيكا، بالإضافة إلى تأثره بأسلوب كارتي في الغناء والإلقاء وطريقة استخدامه لصوته، والآد ليبز والعناصر الصوتية التي تسيطر على الإنتاج الموسيقي أيضًا.
هناك خيط رفيع يفصل بين التأثر والتقليد، لكن ما يقدمه ظاظا يصعب تصنيفه تحت أي منهما. الأكيد أن زياد ظاظا هو الأكثر تميزًا واختلافًا في المشهد في الآونة الأخيرة. تستحق قدرة ظاظا على توظيف تلك التأثيرات في موسيقاه التقدير، وتضيف الكثير من الحيوية إلى المشهد حتى وإن كانت مقتبسة أحيانًا بشكل مفرط.
استغل ظاظا عدم وجود منافسة حقيقية. في ظل تمسك العديد من الرابرز بأساليب وأنماط فقدت إبداعها مثل التراب الشعبي والدريل، يأتي هو بالجديد من المشهد الغربي كونه مطلعًا جيدًا عليه. ربما لا يعد ما يقدمه تجديدًا أو أصالة في جوهره، وربما تكون خطوات في رحلة البحث عن صوته الخاص، لكنه بلا شك يضخ دماء جديدة في مشهد الراب المصري.
الآن، يمكن القول إن زياد ظاظا يحتل قمة مشهد الهيب هوب المصري. يأتي ذلك لعوامل عديدة، يُنسب الفضل فيها إلى ظاظا بشكل أكبر وإلى الركود الإبداعي العام في المشهد بشكل أقل. امتلك ظاظا الجرأة على الخروج عن التيار منذ صعوده، ولم يختَرْ الطريق الأسهل أو لعبَ على المضمون، بل تنوعت تجاربه في أنواع موسيقية عديدة وتشعب أسلوبه بطرق كثيرة. كما امتلك الثقة اللازمة لتقديم الجديد دون الخوف من ردود الفعل.
أثبت ظاظا أن صناعة موسيقى راب جيدة لا تحتاج بالضرورة إلى رابر جيد، فعوض نواقصه الكتابية بروح، أسلوب، ورؤية. كما عوض قدرته التقنية كرابر بالتجريب والدخول في مناطق صوتية غير مألوفة على المشهد، وتقديم نفسه في أطر عديدة ومتنوعة. حتى إن كان هناك تساؤل حول مدى أصالة أسلوب ظاظا – وهو سؤال مشروع تمامًا – فما يقدمه محفز للمشهد ككل ويدفع إلى التجريب وكسر الأنماط المستهلكة، وسيكون له تأثير إيجابي على صناعة الراب في مصر التي بدأت في الاضمحلال تدريجيًا في آخر فتراتها.