.
كتب المراجعة معن أبو طالب ورامي أبادير.
عندما ظهر مسيلمة في كل الجلود، أحد أفضل تراكات ألبوم ترمينال لزولي، كان من الملفت قدرته على الغناء بشكل محكم على إيقاع غير مستقر ومفكك، غير مبال بالتقيد بميزان وقالب ثابت لسرد ألحانه. تستمر تلك السمة المميزة في ألبومه الأول ظل تحت شجرة الزقوم، الذي تتنوع أفكاره فيه وتتقلب بين أمزجة مختلفة وطرق غنائية يتقمص من خلالها شخصيات عديدة. يمر مسيلمة بعدة أمزجة، من الطابع الهادئ والحالم في انقراض (زاد المسافر) وفناء غادة، إلى منطقة أكثر عاطفية في: من باب الثراء والابتلاء، إلى الأكثر عنفًا وانفعالًا وهي المنطقة التي يتقنها، في لكل مراد هجاء، ومن باب جهاد الاجتهاد التي يحاكي بها أسلوب مقرئ مشحون عاطفيًا، واللتان قد تكونان أفضل أغانيه. الأغنية الأخيرة، يتعاون فيها مسيلمة مع ١١٢٧ الذي يخترقها بأصوات سنثاته المتشظية بحشرجة حادة وبايس ثقيل. يظهر تأثّر مسيلمة بصوت ١١٢٧ مرة أخرى في أغنية من باب الكمال والدوام.
من حيث التأليف يقف مسيلمة على الخط الرفيع الذي يفصل بين الموسيقى المحيطة وما هو معتمد على القسم الإيقاعي، مستعينًا بعناصر مساعدة مثل الضجيج والعينات الصوتية المعالجة والمؤثرات التي يُغرق بها صوته. يحلّق صوت مسيلمة على ما هو محيط مثل في هزات الورق، وما يحتوي على إيقاع مُقل مثل أستقي الغمام؛ أما في الأغاني ذات الإيقاع المفكك مثل من باب الداء والدواء، والتي يستغني فيها عن أية ألحان لآلات أو سنثات مرافقة، فيتحول صوته فيها إلى آلة. في لكل مراد هجاء يتعاون مسيلمة مع الدرَمر كريم الغزولي، آخذًا منه العينات الإيقاعية بصوتها المفتت، ليضيف إليها مؤثرات تؤكد على سمة الأغنية الجنائزية. ينتقل مسيلمة بعد ذلك إلى مقطع مميز من العزف الحر للغزولي يتحد مع نغمات السنث المتناثرة موظفًا عنصر الضجيج. يظهر هذا العنصر عدة مرات كما في الأغنيتين اللتَين أنتجهما زولي: من باب الثراء والابتلاء بعيناتها الاصطناعية، وظل تحت شجرة الزقوم الأكثر كثافة من حيث الطبقات المتشابكة التي تزيد من ملحمية الأغنية.
كلماتيًا، يستخدم مسيلمة بناءً قرآنيًا له شكل وصوت الآيات المنزلة، وسجعها أحيانًا، لكن في سياقات أخرى. الأمر الذي أثار حفيظة أبو بكر وجماعته وقت مسيلمة الأول، والذي يستفز المستمعين الآن. فيما جاء اختلاف مسيلمة الأول عقائديًا وسياسيًا، بحيث استخدم هذا السجع لتبرير وتأكيد نبوءته بدايةً، ثم حاول إيجاد أماكن للتواصل بعدها والتسوية مع المسلمين بعد اشتداد حروب الردة، حيث سعى لاقتراح تزامن مع نبوءة محمد وصحة الاثنتين؛ يأتي سجع مسيلمة عصرنا أبعد عن الأصل القرآني وأقرب في آن، فهو يستخدم نفس منطق الآيات القرآنية، آخذًا بالكثير من مسلماتها، لكن راصدًا إياها من الجهة المقابلة، جهة هؤلاء الذين سقطوا عن الصراط المستقيم، المقبلين على عذاب أبدي. في أغنية ظل تحت شجرة الزقوم، يتبحر مسيلمة في توابع خروجه عن الدين، وما فيه من عذابَين يتأتيان عنه لا عذابٍ واحد. يجد مسيلمة لنفسه برهة من من الألم الأبدي في ظل شجرة الزقوم الشهيرة، وهي مفارقة مضحكة مأساوية بمنطقها الملتوي وعمق تسليمها بثوابت الإيمان.
الأمر الأكثر حدة وإبهارًا هو ما نسمعه في أغان مثل فناء غادة ومثل افتراض (زاد المسافر)، والتي نسمع فيها نفس السجع القرآني، مكتوبًا ببراعة تحسب لنبيّنا الباطل، لكنها تنقض فكرة الإسلام أساسًا، رافضة التسليم، ومتحمصة بفكرة الإيمان، وعذاب فراق الإيمان والخروج عن الدين، والذي يعرفه جيدًا كل من بدأ عمره بالإيمان وأخذ بالخروج عنه، بكل ما يرافق ذلك من وحدة وخوف وألم. يتقمص مسيلمة النص اليقين الذي لا شك فيه، آخذًا إياه إلى التساؤل والحيرة، وبما أن هذا عمل يتحرك باستمرار بين أطراف رحلة أمن الإيمان وغربة عدمه، نجد فيه أيضًا، كما في أغنية انقراض (رحاب ذاكر) الاشتياق لطمأنينة الإيمان، وما يأتي معها من قرب من الأهل والأحبة والوسط، والمتع البسيطة التي كنا نتأتاها في أداء الفرائض والانغماس في الشعائر. البعد الأخير الذي يضيفه مسيلمة إلى السجع القرآني، هو إقحام الحب الدنيوي ولوعته بين قوافي سطوره، والذي علق كثيرًا على غيابه من القرآن، سوى ربما في سورة يوسف. باستخدامه لنفس الشكل القرآني، نجد أن أبعاد الهوى وآلامه تأخذ بُعدًا سماويًا أبديًا، تضيف تكثيفًا وحدّةً أبدية لما سمعناه كثيرًا من كلمات الحب في مختلف الأغاني.
تتكامل تعاونات الألبوم مع الصوت الذي يسعى إليه مسيلمة وتضيف عليه عناصر جديدة تشد المستمع، يضاف إلى ذلك الجزء المفاهيمي وتدفق التراكات بمواضيعها وديناميكيتها، وتغير الأفكار بشكل مستمر حتى في المقطوعة الواحدة. يكتمل الألبوم بالجزء البصري الظاهر في تصميم الغلاف، والفيديو البارع الذي أنتجه عمر الصادق للتراك الذي يحمل نفس عنوان الألبوم. تكشف لنا جميع تلك العناصر عن مشروع جاد وغير لحظي.
العوامل المشتركة التي من الممكن الجزم بها، والتي تحتوي وتربط تراكات الألبوم، هم الطابع التجريبي بالأساس وصوت مسيلمة الغنائي واسع المدى، بالإضافة إلى أصوات السنث العريضة. عند الحديث عن السمة التجريبية فتتبين من الخامات الصوتية والإيقاعات غير المحددة (quantized)، والتقليلية المستخدمة وغنائه بحرفية عليهما، وهو الأمر النادر وغير المعتاد في الغناء العربي. عند الخوض بالتفصيل في ألبوم مسيلمة يمكننا تبين عناصر واختيارات جمالية متعددة الطبقات تتخذ التجريب عمودًا فقريًا لها.