fbpx .
قبل أن تفتح السماء أبوابها | صحوة ليونارد كوهين
أجنبي قديم

قبل أن تفتح السماء أبوابها | صحوة ليونارد كوهين

أشرقت محمد ۲۰۲٤/۰۲/۲۳

كانت موسيقى الفولك موسيقى الدخلاء.

~ ماري بيث هاملتون، فيلم تاريخ موسيقى الفولك الأمريكية.

عام ١٩٦٧ كان حي جرينتش فيلدج، نيويورك، مليء حتى آخره بعازفي ومغني الفولك المراهقين والشباب، في انتظار أن يكتشفهم منتج من شركة إنتاج كبرى لتتغير حياتهم إلى الأبد. على بعد بضعة كيلومترات جلس الأديب الكندي ليونارد كوهين وعمره ثلاثة وثلاثون عامًا، يعزف على جيتاره داخل غرفته في فندق بين ترمينال. لماذا اختير كوهين من قبل شركة كولومبيا ليصدر ألبومه الأول في نفس العام؟ وهل أضاف شيئًا لموسيقى الفولك؟

يحكى أن الفولك في أمريكا – وأصله أغاني الحقول والسجون والعمال والنقابات – أصابته صحوة جعلته في مركز اهتمام كل شركات الإنتاج الموسيقي في الستينيات، بعد نجاح عدد من الأغنيات على مدار السنين لفرق فولك مثل ذ ويفرز، ذ كينجستون تريو، بيتر بول وماري، ومغنين مثل بوب ديلان وجون بايز. في ذلك الوقت كان ليونارد كوهين يحاول البدء في مسيرة الغناء، وغنى في مهرجان نيوبورت لموسيقى الفولك بعد أن أدّت جودي كولينز أغنية سوزان من كلماته. مرت بضعة أشهر قبل صدور سوزان بصوت كوهين على تسجيلات كولومبيا.

في سوزان يحافظ كوهين على طبقات صوته في حيز معين – لا يخرج عنه في باقي أغنياته إلا نادرًا – أقرب لطبقة صوته أثناء الحديث، فتصبح الأغنية أقرب لحديث حميم بين صديقين ساعة الفجر. 

منذ الأغنية الأولى في الألبوم يُذكر المسيح كبحار في أزمة: “لكنه نفسه كان محطمًا / من قبل أن تفتح السماء أبوابها.” كما يشبه حكمة سوزان أنها أقوى من المسيح، وهنا تصبح سوزان جزء من الميثولوجيا أكثر من كونها إنسانة، في تشبيه يوحي إما أن المسيح قد خلعت عنه قدسيته أو أن مرتبة سوزان ارتفعت لتصبح مقدسة. بالرغم من أن فكرة الحميمية قائمة على المعرفة وإحساس الدفء، إلا أن موسيقى كوهين يميزها إحساس بالحميمية الغامضة، يكاد يكون قائمًا على نوع من المعرفة الروحانية والدفء المتحرر.

كنت أريد العيش داخل أغنية فولك مثل جو هيل.

~ ليونارد كوهين، رواية فاشلون جميلون (١٩٦٦).

في الوقت الذي كانت تقدم فيه فرق مثل ذ نيو لوست سيتي رامبلرز وذ ماماز آند ذ باباز أغاني فولك أقرب للبوب، وتقدم جون بايز أغاني فولك أقرب للأغنية العاطفية، كان ليونارد كوهين يكتب أغانيًا أصلية على جيتاره غير مهتم بإعادة إحياء أية أغانٍ قديمة أو تراثية من الفولك الكندي أو الأمريكي، على عكس عدد من فرق ومغني الفولك المعاصرين له. بعد نشره حوالي خمسة كتب، منهم روايتين و٣ دواوين شعر، كان كوهين يبدأ كتابة الأغاني محترفًا ومتأثرًا تمامًا بأفكاره الخاصة عما يمكن الكتابة عنه وكيف يمكن الكتابة. مع كونه أكبر عمرًا وخبرة من أغلب المراهقين والشباب في جرينيتش فيلدج وقتها كان الفارق واضحًا بين أغانيه وأغاني الفولك المنتشرة تلك الفترة. 

يشبه السير في عالم كوهين السحري فعل التذكر. تذكر طفولتك عندما كانت الأمور غير مفهومة، الحقائق ضبابية، وكل شئ لعب. هنالك تلك الإتاحة في نوتات كوهين وطريقة غنائه اللبقة مثل قسيس في يوم الأحد. يتيح لنا كوهين الغوص بأمان في عالم تركناه على مضض، العالم الذي نشتاق إليه يوميًا دون وعي. في عالم كوهين يوجد الحب والعنف والاستسلام، يوجد الفن، ككائنات مجردة، دون أية عواقب محمّلة عليهم. في كتاب أي آم يور مان عن حياة ليونارد كوهين الذي كتبته سيلفي سيمونز، وصفت سيمونز أغنية سوزان بالخفة. ليست فقط سوزان التي تحتمل الخفة، لكن أغلب أغاني كوهين، بالأخص في فترة الستينيات ووقت الصحوة الفولكلورية.

“عندما أكون معك

أريد أن أكون البطل

الذي أردت أن أكونه

عندما كنت في السابعة

رجلًا مثاليًا

يقوم بالقتل.”

~ ليونارد كوهين، السبب الذي أكتب من أجله (قصائد مختارة).

في ألبومه الثاني سونجس فرَم أ رووم قدم كوهين طلبات أكثر للحرية، ليتحرر، لكن ليس كأغاني فولك احتجاجية تقليدية مثل أغاني جون بايز. في أغنية كوهين آيزاكس ستوري يغني “سأقتلك إذا تطلب الأمر / سأساعدك إن استطعت / الرحمة لزينا الرسمي / رجل السلام أو رجل الحرب.” يحدث في جملة رجل السلام أو رجل الحرب خلط تقريبي بين كون كوهين قاتل مجرم وبين كونه محارب مضطر للقتل، فلا نعرف من من، لكن صوت البايس جيتار والكيبورد في الأغنية يجعلانها أقرب لأغنية أطفال قبل النوم، فتصبح مخيفة أكثر. هكذا قدّم كوهين أغانيه، التي كانت تلفّها التقليلية بدرجة ملفتة من الهدوء حتى وهو يغني عن القتل. 

استخدم كوهين أقل عدد ممكن من الآلات ليصاحب عزفه الكلاسيكي على جيتاره، كما صاحبته أحيانًا أصوات نسائية خافتة في الخلفية لتعطي إحساسًا بالألفة. كان لتسجيل ألبومات كوهين في البداية على الأقل نفس الأسلوب، الغرفة صغيرة أو غير موجودة. لا يوجد سوى صوت كوهين وجيتاره متصدرين المشهد وبضع آلات وصوت نسائي في الخلفية، هذا إن وجدوا بالأساس. لم توجد في أغانيه الآلات المميزة للفولك وقتها مثل البنجلو والهارمونيكا والجيتارات المتعددة. حتى عزف كوهين على جيتاره كان عزف فلامينكو يتكون من بضعة كوردات يتلاعب بهم من أغنية لأخرى ليتغيروا قليلًا، على عكس أغلب عازفي الفولك وقتها اللذين كانوا يلعبون الجيتار أحيانًا أقرب لأسلوب الكانتري، وأحيانًا أقرب للروك. 

“إلى اللقاء يا ماريان، لقد حان الوقت لنبدأ

بالضحك والبكاء والبكاء والضحك بخصوص كل شئ مجددًا.”

تعلم كوهين غناء وعزف أغاني الفولك في المعسكر الصيفي وعمره خمسة عشر عامًا، عندما حصل على كتاب لأغاني الشيوعيين من أحد العاملين في المعسكر. مع ذلك اتجه كوهين إلى كتابة أغانيه الخاصة به وبحياته. أخذ كوهين الفولك في اتجاه قصصي يحتوي على حقائق متعددة من حياته الشخصية جعل الأغاني أقرب إلى القصائد الإغريقية منها إلى أغاني الفولك المنتشرة حينها، غالبًا بسبب الإحساس العام بأزلية المشكلة المطروحة في كل أغنية. مثلًا في ألبومه الأول هناك سوزان، سو لونج ماريان ووَن أُف أَس كانت بي رونج، جميعهم عن شخصيات حقيقية قابلهم وتورط معهم كوهين عاطفيًا. 

ظهر كوهين وقت الصحوة الفولكلورية في أمريكا في الستينيات. اتُهمت تلك الحركة بسرقتها للتراث الفولكلوري للأقليات مثل المهاجرين والطبقة العاملة والمزارعين، ليغني بضعة مراهقين بيض أغاني فولك علي جيتاراتهم ويشتهروا ويحصدوا المال. كتب بي نيتل في كتابه أن الأغاني تصنّف كـ فولك بناءً على عاملَين، إما بسبب الموضوع أو بسبب الأسلوب، والأسلوب هو ما جعل كوهين مغني فولك مخضرم منذ أولى أغانيه. أما بالنسبة للموضوع، ففي الوقت الذي كان فيه أغلب مغني الصحوة يعيدون إحياء أغاني الفولك التراثية، كان كوهين جاهزًا بعدة أغانٍ أصلية من تأليفه لمن يرغب في غنائها.

كما كتب ويليام روي في بحثه: الهوية الجمالية، العرق، موسيقى الفولك الأمريكية، ما جذب الشباب البيض المنتمين للطبقة المتوسطة إلى الفولك في الستينيات كان هوية الفولك كنوع موسيقي أصلي على حافة الموسيقى الأمريكية، في لحظة كانوا يرغبون فيها في الابتعاد عن المحبوب والجماهيري. يكتب روي أيضًا أن ما أحبه المستهلكون البيض من الطبقة المتوسطة في الفولك كان “بساطته المعادية للاستهلاكي، براءته الموسيقية، وذكره للماضي المنحل.”

تعني موسيقى الفولك أشياءً مختلفة لأشخاص مختلفة. لا أحاول في هذا المقال تعريف موسيقى الفولك في أمريكا الشمالية أو التأريخ لها، لكنني أحاول شرح الفارق بين موسيقى ليونارد كوهين وموسيقى الفولك الدارجة أواخر الستينيات والسبعينيات. 

حتى اليوم تتفق المصادر على أن بداية الصحوة الفولكلورية ونجاحها جماهيريًا قد بدأ مع فرقة ذ كينجستون تريو. مع سماع أغاني ذ كينجستون تريو مثل تشيلي ويندز ووير هاف أول ذَ فلاورز جَن نستطيع بسرعة التقاط المود الشاعري الذي حاولت الفرقة رسمه بكلمات، رغم بساطتها، كانت لا-شخصانية ومن الصعب الانغماس معها أو تذكرها بعد عدة سنين. حققت تلك الأغاني للفرقة وغيرها نجاحًا دفع بشركات الإنتاج للاهتمام بفرق الفولك، وبالشباب لشراء الجيتارات وتعلم غناء الفولك بوب، خصوصًا أنه بعد فترة الخمسينيات وهجوم الحكومة الأمريكية على كل ما هو شيوعي (أو قد يتهم بأنه شيوعي) ابتعد مغنو الفولك عن المواضيع الجادة والسياسية، ومن هنا جاء الاهتمام بالذهاب ناحية الفولك بوب مثل ذ كينجستون تريو وبيتر بول وماري، وناحية الفولك روك لاحقًا مثل بوب ديلان.

“لو كان لدي مطرقة

لكنت غنيت بها في الصباح

لكنت غنيت بها في المساء

في كل مكان في هذه الأرض.”

~ بيتر، بول وماري.

أما الأغنية التي أدت لانفجار شهرة ذ كينجستون تريو فكانت توم دوولي في ١٩٥٩. الأغنية متأثرة بتاريخ موسيقى الكانتري في تأسيس صوت الفولك الأمريكي، فهي تحكي عن قاتل باسم توم دوولي في لحظة شنقه بسبب قتله لامرأة. بالرغم من قتامة الموضوع إلا أنها لاقت نجاحًا كبيرًا بسبب احترافية الفرقة في العزف وخفة ومرح الغناء. بدأت هذه الأغنية وحدها فترة الصحوة الفولكلورية.

بينما تأثر كوهين بموسيقى الفولك الصادرة حينها وأنتج أغنيات تدور حول شخصيات، إلا أنه كتب عن شخصيات حقيقية قابلها في حياته، وارتفع مستوى الكتابة لتبتعد عن السلطة الفولكلورية الشائعة حينها، وأضاف لمحات من الحميمية والعمق. في المقابل، جاءت توم دوولي مثل قصة شعبية لمجرم اسمه توم دوولي مقبل على الإعدام بسبب جريمة قتل امرأة. غُنّيَت توم دوولي من منظور المجرم بالإضافة لكورس من منظور الشخصية العليمة. بالرغم من قتامة موضوع الأغنية إلا أن الموسيقى كانت خفيفة وسهلة الحفظ والغناء معها.

بالإضافة إلى نقاط سبق الإشارة لها مثل التقليلية والعمق في كتابة الكلمات والبساطة في التلحين، أعطت أغاني كوهين ما يشبه الصلاحية لمغنين معاصرين له مثل جوني ميتشل وجون بايز للغوص أكثر في كتابة وغناء الأغاني الشخصية، على عكس الأغاني الفولكلورية التقليدية المنتشرة حينها، وبذلك يمكن أن تكون قد بدأت جنرا المغني-كاتب الأغاني من داخل فترة الصحوة الفولكورية مع فنانين مثل كوهين.

المزيـــد علــى معـــازف