.
قال صاحبُ اللسان*: “والفاقدُ من النساء، من ماتَ زوجها أو ولدُها أو حميمُها”. لا نعرفُ على وجه اليقين في أيّ خانةٍ نضع النواح على جسدٍ، كأنّ النواح قد طلع من فراغٍ بدائيّ لا يُسبر غورُه أو من قعرٍ حميمٍ لا تملؤهُ إلا أشجانٌ قلّما صُنفت واعيةً. كيف صارَ للنواحِ إيقاعٌ؟ وكيف صارَ الإيقاع خارقًا إلى حدود تُمَطُّ فيها الهنيهةُ حتى ما تكادُ تنتهي؟ فالنواحُ، على نحوٍ ما، تأبيدٌ للوقتِ المحزَّن، واختراقٌ غير واع للذاتِ في سعي دؤوبٍ ربما للحفاظ على ذكرى الجسدِ المواتِ، أو لإبقائِهِ ساخِنا حيّا، وفي الظنّ أن ذاك النّوْحَ سادٌّ فجوةَ الخوفِ الآتي والبردِ الكثيرِ.
أوشكتِ النائحةُ إذًا، حين جَمَدَ الوقتُ حائمًا فوق الحدثِ، أن تركّبَ ألفاظًا، فخرج النوْح؛ ولا يكون للنوح إيقاعٌ حتى يكونَ ثمة تقابلٌ بين متناوحَين أو أكثر. “فالرياح النُّكْبُ في الشتاء: هي المُتناوِحة، وذلك أَنها لا تَهُبُّ من جهة واحدة، ولكنها تَهُبُّ من جهاتٍ مختلفة، وسميت مُتناوِحةً لمقابلة بعضها بعضًا، ويقال: هما جبلان يَتَناوَحانِ وشجرتانِ تَتَناوَحانِ إِذا كانتا متقابلتين”. كأنّ التقابل مولّدٌ للإيقاع من حيث كونه استدراجَ الذاتِ الذاتَ الأخرى، أو ذواتٍ كثيرة، لمحاولة استنقاذ الجسدِ من سكونه. لا يتم هذا الاستنقاذُ من غير تقابلٍ، من خلاله تُنصبُ شجرة الإيقاع فيداخلُها المدُّ والتطويل والتنسيق والتصويب، وكل ذلك تناوحٌ من غير وعي (يقول الشاعر: كأنكَ سكرانٌ يميلُ برأسه / مُجاجة زقّ شربها متناوحُ)، أو إن النوحَ فطرةٌ عميقةٌ واعية بالحاجةِ إلى نفي الموتِ الشاقّ والغزير.
يردفُ صاحب اللسان: “ونوح الحمامة ما تبديه من سجْعها”. إذًا، لا يسمّى إيقاع النوحِ نوحًا حتى يداخله التسجيع. بهذا المعنى ثمة صناعة لحنية قيستْ على ما يبثّه أواخر الكلم المتشابه في الفضاء التناوحيّ؛ ولئن كان التناوحُ استنقاذًا للجسد أو تعبيرًا عن فراغه المستجدّ، فإن هذا الاستنقاذ، بما هو تسجيع بين ريحين شديدتين في جدبٍ من الأرض، لا يفلتُ من أن يكون مندرجًا في المرثية الكبرى للطبيعة الأمّ التي تحفظ التوازن وتعيد ترتيب الموجودات على حسب أوزانها. “والمَناحةُ والنَّوْحُ: النساءُ يجتمعن للحُزْن؛ قال أَبو ذؤيب: فهنّ عُكُوفٌ كَنَوْحِ الكَريـ\ـمِ، قد شَفَّ أَكبادَهنَّ الهَوَى (صاحب اللسان)”. بقدر ما يكون الموت فاجعًا وضاربًا أسّ التوازن، فإن التناوحَ بما هو فعل تحفيزي بين اثنتين او جماعة من النسوةِ، كلهنّ فاقدٌ، يستدرجُ التصعيد البكائيّ ويغويه ويلاعبُه بالأسجاع التي تفتّ الأكبادَ.
من شدّةِ اشتباكِ المناحةِ بالزمن المنثلمِ واشتغالِها على تطويعهِ بالأسجاعِ التي تتماثل والطبيعةَ، فإنَّ النواحَ، بما هو سعيٌ لسدّ الفجوة / فراغِ الجسدِ، قد يسبق الجسد المقبلَ على مجهولِهِ أو معلومهِ بنذر؛ ويخيِّل النذر إلى الرائي أنه تمهيدٌ واستفتاحٌ للمشهدية القادمة. الشاهد على القول أنَّ القطب قبلَ شهادتهِ الفاجعة حين همّ بدخوله فجرًا إلى المسجدِ الكوفيّ، تلقى نذرَ الحمائم فقال: إنهنّ نوائح. ثم انثلم الزمنُ فبرزتْ حاجة الجماعة إلى نصبِ شجرة الإيقاع شعرًا مسجّعًا نوّاحًا. كل انثلامٍ ربما سبقته نذرُ النواح وأنباؤه وعلاماتُه، وتكونُ النذر جليةً للراحل كلّما كان الثلم واسعًا ومن غير الممكن رتقه، لأن جُرْحَ الأفقِ الزمانيِّ قد غارَ حتى صار رتقهُ لا تناوحًا يتيمًا بين ريحين أو ذاتين من حول ذاتٍ واحدةِ، بل حاجةُ جماعةٍ كبرى إلى الدوران الفجائعيّ المسجّع حول هذا الموت. إنها موسيقى الفقد العظيم.
تشحنُ الأسجاعُ فضاءَ النوح بما لا يمكنُ اجتنابهُ. نعني أنها تُشعر المتلقي بالحاجة إلى ترجمة الفاجعةِ الواقعةِ على نحوٍ إيقاعي يتجاوز اللحظةَ الصادمة. تباشر النائحة الأولى، الفاقدُ من النساء، في العمق، تأسيس الحيز الإيقاعي للفاجعة. إنّ نواحها الأول دعوة تمهيدية تستَنْوح النوائحَ الأخريات حتى ينتظم خطاب حلقة النوح. في مثل هذا الفضاء، يَصَّعَّدُ الجسدُ الهامد المواتُ المكفّن بدهشة الفقد والمحاط بشهقات الجمعِ الغفيرِ إلى مستوى الإيقاعِ والترديد، ونعني إيقاع الإخوة والصواحبِ والزوجاتِ المتحلقات.
يلقي خطابُ حلقة النوح – بإيقاعاتِه المتفجّعةِ – بثقله على فضاء النوح، شخوصًا وتفاصيلَ. من لم تصبهمً الفاجعةُ وكانوا على الهامش، في الحضرة ِوالمكان، متلقين سماعين، لن يمكنَهم بعدُ الإفلاتُ من وسوسة ذاك الخطاب؛ ونعني أسجاعَ الخطاب النائح التي تمسك بتلابيبِ المعزّين. يمسونَ أدواتٍ أو ربما حاشيةً على موضوع هذا النواح. إنهم يستسلمون لقشعريرة الموتِ المنزرعِ حتى كأن الفقد، مجازًا، على وشك أن يطالَهم. فالفراغُ الذي أحدثته الفاجعة أو ذلك الثلم في الزمن لن يكون سهلًا ملؤه بغير شخوصٍ تُسهم، عن غير وعي، ولو مصلوبةً بالدهشة، في تحفيز فعل النياحة. فالموتُ الساخن الطازجُ المفجعُ قد يكون عِدْلُه ذاك الدّهَشُ وتلك الأجسادُ الحيّة المتحلّقة التي خرقتها كلّ لفظة (كلّ نوْحَة)، يسألون ويسألنَ في السرِّ وربما في العلنِ: كيفَ الموتُ؟
هل نتحدّث إذًا عن زمن إيقاعيّ جديد يملأ الفجوةَ التي أحدثها الغياب؟ ربّما، ذلك أن الموت انتقالٌ وجوديّ يفتتح أفق المندبَةِ. أيضًا، هو انتقالٌ ناتج عن انزياح بين إيقاعين، إيقاع قبْليّ واقعيّ داخليّ بأنفاس الجسد المفرد الذي يسكن الروحَ، وإيقاعٌ متصاعد خارجي يطلقهُ الجسد المواتُ في الحيز الذي أنتجتهُ الفاجعة. نعني الإيقاع الذي يخرجُ من عينَي النائحة ومن فمِها ومن تلويحاتِ يديها مستدعية بالكلام المشحون كل ما من شأنه، تجاوزًا، أن يطمس كل تواصلٍ رتيب وعادي، وأن يشحن وجودًا آخرَ بالأصواتِ المتقطعة المنغرسة في تربة خصبةٍ من الأنين. إنها المحاولة الصوتية الأخيرة التي تعكس مستوى الانزياح بين الإيقاعين وشدّته، وتفسر إلى حدود بعيدة الحدوسَ الفالتة في نفوس المتلقين بأنهم موتى مؤجّلون لفواجعَ قادمة.
هل طمسَ محمّد النبيّ بالمطلق طقسَ المناحة بما هو طقس جاهلي تشدُّ النساء فيه شعورهن وينشدنَ الرثاءاتِ التي تفطر القلوب وتفتّ الأكباد؟ في الحديث: ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. في الحديث أيضًا: أنا بريءٌ من الصالقة والحالقة والشاقة؛ والصالقةُ هي التي ترفع صوتها عند المصيبة؛ وفيه أيضًا: لعن الله النائحةَ والمستمعة. على أنّ في الأثر أيضًا أن النبي قد قال بعد استشهاد سعد بن معاذ في غزوة الأحزاب وقد سمع النوائح يندبن سعًدا: كلُّ نائحةٍ كاذبةٌ إلا نائحةَ سعد. إذًا، فالإجابة لا، لم يُطمسِ الطقس بالمطلق. لقد أقرّ النواح على رجل محدّد ثقيل الوزن في الميزان هو سيد الأنصار. ذلك أن الرسول، سيد الوصل وأبلغ الأولين والآخِرين، في الأرجح قد أدرك أن الفقدَ، فقدَ سعدٍ، هو جرحٌ نديبٌ وثلمٌ ينبغي ألّا تطمس تمثلاته وإيقاعاته، ولو أخرجتها النوائح عويلًا يشبه عويلَ الجاهلية.
بالنوحِ إذًا يفتتح أفق المندبةِ، ونعني النوح الذي هو صرير الجرحِ الذي شقّه حدثُ الموت؛ الشقّ المُحدَثُ في الزمان، كأنَّ المندبَةَ أو جذرَها (ن د ب) من ريحِ ورائحة ذلك الجرح، يقول صاحب اللسان: “إن الندبة أثرُ الجرح إذا لم يرتفعْ عن الجلد (…) ونَدِبَ ظَهْرُه نَدَبًا ونُدوبةً، فهو نَدِبٌ: صارت فيه نُدُوبٌ”. إذًا، فكل أثرٍ حرج بوجه من الوجوه. بهذا القول، يكون الندب بما هو أثرٌ باق، تجريحٌ لحظي إيقاعي على صفحة الوقت / الزمن، حتى يغدو الفقيد بآثاره غير قابل للامّحاء، فلئن كان الجسد الساكن قد غار في تربته، فإن جراحه النّدِيبةَ الساطعة المنثورةَ بحسرة في أفق المناحة والمحفورةَ بفعل النوْح لن تلج بعد دورةَ الغيابِ.
*صاحب اللسان: ابن منظور، صاحب معجم لسان العرب (٦٣٠هـ – ٧١١هـ)