fbpx .

صورة مين دي يا مصريين؟

زينة الحلبي ۲۰۱٦/۰۵/۱۵

يحدّق الإعلامي محمد شردي بالكاميرا سائلاً مستنكراً:

“صورة مين دي يا مصريين؟ صورة مين دي يا مصريين؟ صورة مين دي اللي معملّها مكياج؟ صورة جزء من تاريخك، صورة ملكك. مين اللي ملبّسه حلق؟ ومين اللي حاطط حواليه كده؟”

الصورة التي يشير إليها الإعلامي هي أفيش هشك بشك شو، العرض الغنائي المستمرّ في مسرح مترو المدينة في بيروت منذ ثلاث سنوات، والذي قدّم – وهنا مكمن الهلع -عرضاً في دار الأوبرا في الإسكندرية في تشرين الأوّل/ أوكتوبر الماضي، تحديداً على خشبة مسرح سيد درويش، تحت عنوان جديد هو مترو المدينة وأفيش آخر يختلف مضمونه عمّا عرضه شردي.

https://www.youtube.com/watch?v=XIlauj8axD0

وقد جاء هذا الإستهجان المتلفز في سياق حملة إعلامية واسعة ضدّ العرض تمحورت حول ما اعتُبر إسفافاً موسيقياً وتمثيلياً وتشويهاً لصورة الملك كما جاء في مقال شهيرة النجار التي استنكرت الهزء من “ملك مصر والسودان الذي كانت في عهده مصر تقرض إنجلترا وعندنا فائض في كل شيء”، وتصويره مرتدياً حلقاً واكسسواراً وثياباً مبتذلة وواضعاً “الروج” على شفتيه ووجنتيه، مؤنثاً مخنثاً ذليلاً. يعلو صوت شردي وهو يدين العرض ليس لإحتوائه على “عري” و”مناظر” و”إسفاف” و”رقص” و”ايحاءات” و”ناس قالعة” فحسب، بل لتصويره مصر كأنها “كلها كانت كده”. وفي إشكالية التصوير هذه، يبدو الإرتياب جلياً فتسأل الإعلامية بوسي شلبي الموسيقي زياد الأحمدية: هل موسيقى العرض “هزّ” أم هي موسيقى عربية؟ ولماذا يحبّ الجمهور اللبناني هذه الموسيقى؟ وما سرّ عرض أغانٍ مصرية فيما كل القائمين على العرض لبنانيون؟

تجرنا الأسئلة الأخيرة إلى سلسلة أخرى من الأسئلة تواجه الإستغراب باستغراب مضادّ لنسأل بدورنا: علامَ الهلع؟ ماذا يرى المستنكرون في هذا العرض وما الذي يدعوهم إلى لفّ الوجه حياء؟ هل وراء تشويه صورة الملك فاروق غيرة على إرث “ملك مصر والسودان” كما زعم الإعلاميون؟هشك بشك شو

البداية من الطوابق السفلية لشارع الحمرا في بيروت حيث بدأ المخرج هشام جابر سنة ٢٠١٣ تأليف عرض مسرحي عنوانه هشك بشك شو يحاكي فيه إرث الطقطوقة المصرية وتجلياته في الوعي الجماعي اللبناني والعربي. فاسترجع العرض أغان مصرية من عشرينيات القرن الماضي حتى ستينياته في تأويلات موسيقية وتمثيلية لطقاطيق السيد درويش وأم كلثوم وليلى نظمي وتحية كاريوكا وأغاني شادية وصولاً إلى أحمد عدوية في إطارٍ إستعراضي يتضمن إعادة تركيب التراث الموسيقي الشعبي المصري من خلال الأزياء والإضاءة والرقص والتمثيل والعزف والغناء والبصريات في جو هزليّ مرح. فالمخرج كما الممثلون يؤدون الموسيقى الشعبية المصرية كما عرفوها في رحلاتها إلى لبنان وكما استقرت في الذاكرة الجماعية اللبنانية.

ولكن في عملية الاسترجاع تلك إنتقائية دقيقة لا تخلو من معانٍ. يبدأ العرض بأداء دافئ حزين لعازف الكمان والمغني زياد جعفر الذي يسأل الجمهور الصامت الحائر “ايش معنى يا نُخ الكوكايين كُخ؟”، سؤال كان قد طرحه سيد درويش في اغنية الكوكايين. فإذا بالجمهور اللبناني، كما الجمهور الإسكندراني، يواجَه بسيد درويش مختلفاً هذه المرّة. هو ليس سيد درويش “أهو ده اللي صار” و”قوم يا مصري”، بل سيد درويش الخادش للحياء، ذاك الذي أفلت من ذاكرتنا. وبالطريقة نفسها، يردد زياد الأحمدية “قول لي ولاتخشاش ملام، حلال القبلة ولا حرام؟” مسترجعاً سؤال أم كلثوم في أغنيتها قول لي ولا تخبيش يا زين لبيرم التونسي وزكريا أحمد. هنا أيضاً، لا نتعرف على أم كلثوم الأطلال ورق الحبيب، بل على تلك التي أدت في بداية مسيرتها طقاطيق مرحة خفيفة لامست المحظور أحياناً. ولعل أداء المغنية ياسمينا فايد لأغنيتي اوعى تكلمني ويا خارجة من باب الحمام وهي ترافق الراقصة رندا مخول يفيض حميميةً ويجاهر بجنسانية أنثوية تعود إلينا من ذاكرة موسيقية وسينمائية بعيدة لترتطم بذائقة معاصرة مرتبكة. حتّى الألحان الشعبية لم تنجُ من تأويلات هشك بشك، فيختتم العرض بأغنية العتبة جزاز لكن هذه المرة بأداء ميلانكولي جماعي يأخذنا بعيداً عن خفة الأغنية الأصلية وكلماتها “قولتلو بكرا اما نتجوز حالبسلك فستان نيلو” ملمحاً إلى قولٍ سياسي مُضمر.

ما كانت عملية الانتقاء والإحياء هذه ممكنة لولا النزول إلى أدراج مترو المدينة السفلية، اي لولا الخروج عن الجماليات السائدة والحفر في ما يقبع تحتها وفي لاوعيها من باطن موسيقي نعرفه ونتناساه معاً. فتعيدنا هذه الأغاني إلى المكبوت الموسيقي، أي إلى ما أخرجته المؤسسات الموسيقية الرسمية من الحيز العام عبر سياسات الإنتاج والرقابة والتدجين من جهة، وما لفظته ذائقة الطبقة الوسطى العربية من جهة أخرى. فيمسرح العرض الأغنية الشعبية وينقّب في القول الشعبي وجمالياته عن مكامن السياسة.

يمكننا قراءة عرض هشك بشك البيروتي في هذا السياق، كاستعادة انتقائية لجماليات شعبية تنمّ عن قول سياسي رحل من مصر إلى بيروت التي عادت به إلى الإسكندرية. هكذا إذاً رأى مؤدّو هشك بشك شو وجمهورُهم الثقافة الشعبية المصرية، وهكذا صوّروها، وهكذا طاروا بها إلى مصر، فأعادوا “الكوكايين” إلى دار الأوبرا وأعادوا سيد درويش إلى الإسكندرية. فلماذا الهلع من عودة سيد درويش إلى مسقط رأسه، مدينة سلامة حجازي وبيرم التونسي؟ كيف نقرأ حالة الاستغراب تلك التي تحولت استنكاراً فدعوات إلى المنع والمحاسبة؟هشك بشك

في الواقع، رأت الاسكندرية نفسها بعيون لبنانية، فهلعت. ويمكننا أن نستشفّ في ردة الفعل هذه تجلياً للغرابة المقلقة، ذلك الشعور الذي وصفه عبد الفتاح كيليطو بالريبة التي تنتابنا لدى سماعنا اللغة العربية على لسان أجنبي اتقنها وبرع في تأدية مخارج حروفها وتوظيف عباراتها. فهذا الهلع الذي يتملكنا يدفعنا إلى رغبة لاواعية في حماية لساننا من سطوة الغريب عليه. فالارتباك يظهر ليس لأن الآخر يستولي على لغتنا، هكذا، بشكل فجائي ومن دون مقدمات فحسب، بل لأنه ينفي ايضا إحساسنا بالتميز وسطوة التملك. فمن ينطق بلساننا بحسب كيليطو “يسلبنا أنفسنا ومأوانا” أي يستولي على بعض مما يكوّن هويتنا ويميزها. فيظهر مفهوم الغرابة المقلقة في ردة فعل الإعلام الرسمي عندما رأى الثقافة المصرية متمثلة في عيون الآخر. ويبدو من يعدّ نفسه صاحب التراث الموسيقي هذا وكأنّه لم يعد قابضاً على أوصاله ولم يعد قادراً في الوقت عينه على القبض على أوصال التراث الموسيقي للآخر الذي يقف أمامه ويريه نفسه.

يبدو صاحب الحياء المخدوش هنا اذاً طريدة فعلين مستحيلين: لا هو قادر على التصوير ولا هو قادر على إيقافه، فصورته تعود اليه لتجتاحه وتربكه. فكما يفقد المتكلم العربي تفرّده بلغته عند سماعه للغريب، تفقد مصر من جرّاء هذا العرض البيروتي تفرّدها بموسيقاها الشعبية كمكمن هويتها. ينهي كيليطو حديثه عن المتكلم العربي الذي فقد امتلاكه للغته سائلاً: متى كان المتكلم مالكاً للغته حقاً؟ وعليه نسأل اليوم، متى كانت مصر مالكةً متفردةً لتراثها الموسيقي الشعبي؟

لكنّ هذا القلق الذي يتحدّث عنه كيليطو لا يكفي لتفسير حالة الذهول لدى الإعلام الرسمي عقب رؤية الذات متمثلة في عيون الآخر، ولا بدّ من البحث عن أجوبة أخرى في الممارسات الثقافية السياسية في مصر في الأعوام العشرة الأخيرة. ففي هذا العقد الذي سبق ثورة يناير، نشأ وعي ثقافي سياسي لدى ناشطين في الحقل الثقافي تجلى في عمليات تنقيبٍ في المكبوت الثقافي لإعادة التعرّف عليه. فعمل المترجمون على الرجوع إلى ما قد محتْه الدوائر الأدبية من الذاكرة الجماعية، فنبشوا أولئك الأدباء الذين شطحوا أيديولوجياً عن الحقل الأدبي المصري، وبدأ الاهتمام بكتّاب مصريين كوجيه غالي وألبير قصيري وجورج حنين ورمسيس يونان الذين يجري العمل على ترجمة أعمالهم أو إعادة إصدارها كفعل رافض للهيمنة الثقافية الداعية لسردٍ هوياتي ايديولوجي لغوي وحيد. وبدأنا أيضاً نقرأ ترجمات عربية لكفافي وجاليانو لعلّ فيهم بديلاً عن جماليات لم يرها المترجمون ولا القراء في الشعر العربي الحديث. أمّا في السينما، فشهدنا غوصاً شبيهاً في الذاكرة البصرية بحثاً عن سرديات كانت قد سقطت سهواً، فعاد فيلما هيليوبوليس (٢٠٠٩) لأحمد عبد الله السيد وسلطة بلدي (٢٠٠٩) لناديا كامل إلى المحظور سائليَن عن مآلات مدن ومجتمعات فقدت مكوناتها فتهاوت. وأكمل السيد رحلته في ميكروفون (٢٠١٠) باحثاً عن الموسيقى المعاصرة البديلة عبر الغوص في أزقة مدينة سيد درويش.هشك بشك الاسكندرية

ورأينا في الموسيقى مشاريع تنقيب شبيهة عادت إلى الذاكرة الموسيقية لتنتقي منها ما قد همّشته الأنظمة المتعاقبة من جهة، والذائقة المحافظة من جهة أخرى. في بيروت، تابعنا ميدان التحرير على إيقاعات جديدة لم نكن نعرفها، فعاد صلاح جاهين في بيانولا والسيد درويش في الحشاشين والشيخ إمام في البحر بيضحك ليه بتفسيرات معاصرة تسترجع ما سبق لتعلّق على حاضرٍ مأزوم. برز هناك أيضا تصالح مع الموسيقى الشعبية، فتعرفنا على السمسمية ومغنين شعبيين كمحمد طه وجمالات شيحة من خلال استعادات لأغنيات لا يحمل أداؤها حنيناً أو استعادة ميكانيكية، بل حالة ثالثة فيها محاولة امتلاك للجماليات الشعبية تدلنا تحديداً على مكمن القول السياسي فيها.

لم يكن الفعل السياسي الذي تجلّى في لحظة يناير ممكناً لولا عمليات التنقيب عن الجماليات والسرديات الأدبية والموسيقية والبصرية البديلة القابعة تحت الردم وخصوصاً تلك التي تخدش الحياء وتقارع خطاب العفة الذي يعيد تدوير خطاب السلطتين السياسية والثقافية. ومثلما كان جلياً أنّ اللحظة الثورية قد تكون ممكنة عبر استرجاع الموروث الذي كان قد وصلنا مُطهَّراً مُعقّماً، أصبح جلياً أنّ رصد ذاك الموروث وصدّه هو جزء أساسي من ممارسة سلطوية تعتبر عمليات التنقيب هذه خطراً مباشراً على سطوتها.

فإذا نظرنا إلى تساؤلات إعلاميي القنوات المصرية الداعمة للنظام الحالي، نرى أنّ بعض الهلع الذي انتابهم جراء العرض البيروتي-الإسكندراني ينمّ عن إشكالية التصوير فعلاً، عن صعوبة التعرف إلى الذات في عيون الآخر: هل هذه حقاً صورة الأغنية الشعبية المصرية؟ وهل في تركة سيد درويش أغنية عن الكوكايين فعلاً؟ وهل فعلاً تغنت أم كلثوم بالقبلة؟ فتُختصر جميع الأسئلة بسؤال وحيد: هل هذا حقاً انا؟

ولكن بعض الهلع الآخر يدلّ على الريبة من عملية التنقيب في المكبوت الشعبي، تلك التي رافقت القول والفعل السياسيَّين في السنوات الماضية. فنرى أنّ ما يقبع وراء صورة “ملك مصر والسودان” المشوهة أفاتار القاضي والناقد والشرطي والنقيب والريّس والمشير الذين قد تدين الرقابة لون الروج على شفاههم، لكنها تخشى أكثر الانتقاص من سلطتهم وتقويض جبروتهم. فتمارس السلطة اذاً عبر المتحدثين باسمها والمدافعين عن مصالحها الكبت السياسي من خلال خطابات أخلاقوية تدين الخلاعة في القول الثقافي، موسيقياً كان أم أدبياً أو فنياً، فتعيد توضيب كل ما وكل من تعرّض إلى سطوة السلطة وأخلاقياتها تحت مسميات كـ خدش الحياء والآداب العامة.

“صورة مين دي يا مصريين؟” هي صورة من خدش حياء السلطة كيفما تجلّت عبر التنقيب في الجماليات الفنية المكبوتة، وحدّد مكامن السياسة فيها ووضعها في مواجهة من رفضها ولفظها.

المزيـــد علــى معـــازف