.
ولد بليغ حمدي عام ١٩٣١ وبدأ يتعلم الموسيقى بشكل غير نظامي في النصف الثاني من الأربعينيات وبداية الخمسينات. في هذا الوقت كانت الحالة السياسية في مصر عاصفة وفي طريقها لتغيير كبير سيحدث في ١٩٥٢. بموازاة ذلك كان عالم الغناء يشهد تبلور تيارات جديدة بدأت سعيها منذ أواخر العشرينيات لتؤسس لمدرسة جديدة تقطع، أو تبتعد كثيرًا، مع ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة في الموسيقى العربية. رواد هذه المدرسة هم ملحنون وشعراء أحدثوا نقلة نوعية على مستوى القالب الغنائي (المونولوج الغنائي في مقابل الوصلة الغنائية والدور وغلبة الطابع الارتجالي في صورة مواويل أو تفاريد)، وأيضًا على مستوى مصادر الاستلهام للكلمة واللحن وشكل الفرقة الموسيقية وآلاتها (من التخت العربي للفرقة الموسيقية الموسعة). أهم هؤلاء هم أحمد رامي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وزكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي، وهم جميعًا تربوا وبدؤوا مشوارهم الفني وسط أقطاب موسيقى النهضة المتأثرين بالارتباط الكبير بين تقاليد الغناء والموسيقى العربية وبين أساليب التلاوة القرآنية ومقاماتها. لكنهم نشؤوا أيضًا وسط حالة سياسية وثقافية – اشتعلت وقت ثورة ١٩١٩ واستمرت بعدها – سمحت في خضم التغييرات السياسية ومعركة الاستقلال بطرح التساؤلات حول علاقة الدين والحكم، وحول تحرير المرأة، وحول مكونات هوية مصر الثقافية، وبشكل أساسي النظرة والعلاقة مع الغرب “الحديث والمتحضر”.
فرضت هذه التساؤلات نفسها على حقل الإنتاج الفني بطبيعة الحال، ومن المهم أن نذكر تأثر رواد الأغنية الجديدة بأعمال سيد درويش للمسرح الغنائي والتي كانت علامة في وقتها من ناحية تناولها لأشعار العامية المصرية وقوالبها القصيرة المتنوعة بين المونولوج الساخر الهزلي وبين الطقطوقة، وأيضًا من ناحية استخدام الإيقاعات والتوزيعات الهارمونية غربية الطابع. انتقلت الأغنية تدريجيًا لشكلها الذي استقر بين الثلاثينات والخمسينات والذي يمكن أن نطلق عليه تسمية “الأغنية الجديدة” التي احتوت على تنوعات متعددة. استقر أقطابها من المطربين والملحنين والشعراء على رأس الصناعة الموسيقية كآباء جدد لتيار موسيقي امتد تأثيره ربما حتى تلك اللحظة. إثر ذلك، كثيرًا ما سيذكر بليغ حمدي سيد درويش كرمز ينظر له بصفته الأب للموسيقى المصرية الحديثة.
أين كان بليغ حمدي في ذلك الوقت؟
وسط كل تلك الارتباكات كان بليغ يمر في مرحلة شخصية تمامًا. لم يذكر أيٌّ ممن أرّخوا لحياته أي اشتباك له ضمن كيانات سياسية كشاب قبل يوليو، ولكنهم ذكروا أن بداية الخمسينات كانت الفترة التي تعلم فيها البيانو والنوطة وانضم لمعهد الموسيقى العربية عابرًا، ثم التحق بالإذاعة المصرية مقدمًا نفسه كمطرب، ليقرر بعد ذلك حاسمًا أنه ملحن ولن يعمل بالغناء. انتظر حتى واتته الفرصة وظهرت أول ألحانه مع فايدة كامل، ثم تدرج صاعدًا بإنتاج كثيف في مصر وبيروت وسوريا وصولًا إلى لحن تخونوه لعبد الحليم حافظ ١٩٥٧ الذي كان رفّاص الشهرة الأول.
في هذا الوقت كان بليغ قد انضم لفريق من ثلاثة ملحنين مع محمد الموجي وكمال الطويل، مثلوا أعمدة أساسية لظاهرة عبد الحليم حافظ في طورها الأول، وكان عبد الحليم حافظ قد بدأ مشواره في إنتاج الأغاني الوطنية والداعمة بشكل لا مواربة فيه للنظام الناصري. لم تكن هناك مشاركة كبيرة لبليغ حمدي في تلحين تلك الأغاني مقارنة بكمال الطويل، مثلًا، ولكننا نرى تصديه للحنين بعد هزيمة ١٩٦٧ في عملين هما عدى النهار والمسيح، ثم استمر في تلحين أغاني وطنية حتى وفاته.
لا يعبر هذا الموقف عن رأي سياسي بقدر ما تفسره أسباب عملية؛ الطويل الذي ابتعد مكتئبًا بعد الهزيمة، الشاعر الصديق لبليغ عبد الرحمن الأبنودي هو كاتب الأغنيتين وهو الآتي من تاريخ سياسي يحمل لافتة معارض ومعتقل سابق، وأيضًا ربما رغبة عبد الحليم حافظ في العودة السريعة بوجوه جديدة لا تحمل تأثيرات الماضي القريب التي ربما لا تستدعي الآن إلا الألم. من الملاحظ أيضًا أن بليغ لم يرتبط ذهنيًا باسم رئيس لمصر عبر أغنياته رغم علاقة أوثق ربطته بالرئيس السادات، وكان كثير التشديد على أنه فقط يعمل في حب مصر، وأنه استعاد اسمها الذي غاب طوال زمن الجمهورية العربية المتحدة، كما قالت شادية، على رأس أغنيته الباقية يا حبيبتي يا مصر.
في خطاب طويل أرسله بليغ حمدي لصديقه الصحفي محمود عوض فور وصوله لباريس (١٩٨٤- ١٩٨٦) ولم يرسله بحسب رواية بليغ للكاتب طلال فيصل، كتب:
“لو كان الواحد يبحث عن الثروة كان الحال غير الحال. وحتى الذين كونوا ثروات ماذا فعلوا بها … أنت رأيت بعينك ماذا حدث لأبويا وحبيبي وصاحبي فوزي الله يرحمه. فجأة طلع في دماغهم وقرروا يؤمموا شركته التي بناها بعرقه وكدّه. من أجل ذلك رفضت دائمًا وأبدًا أن أغني لاسم شخص أو حاكم أيًا كان تهليل الناس لاسمه أو حبهم له، وانت بنفسك شهدت خناقتي مع عبد الحليم واتصلت بك لأشهدك عليه:
– صاحبك دماغه مزرجن… عاوزني اقدم أغنية عن أنور! وانا اقول له يا حليم … أمرك … نغني لمصر … للجيش والناس والشوارع … لكن نغني لحاكم؟ أبدًا!”
حتى العام ١٩٦٦ كانت أعمال بليغ حمدي عصية على التصنيف إلا من خلال أرقام نجاحاته الفارقة، غلبت عليها الرصانة التي طبعت الأغنية الجديدة التي استقرت بعد ظهورها الثوري منذ الثلاثينات. الأغنية الجديدة هذه كانت قصيرة زمنيًا، تتنوع ضروبها وتوزيعاتها الموسيقية عن الإيقاعات الشرقية الصرفة، وتتبنى أصواتًا لم يكن ليسمح لها أبدًا بالغناء في مراحل سابقة قياسًا على معايير المساحة الصوتية وإمكانيات التطريب – سميت وقتها بأصوات الميكروفون، والتي تنقل التعبير عن الحب من كلام ضروري ليصاحب الغناء أو يفتح له المجال ليصبح مشاريع غنائية مرتبطة بذاتية وصورة كل مطرب ومطربة، وهو ما فتح الباب لتنوعات أدائية ابتعدت في كثير أو قليل عن شكل المونولوج الطربي الطويل الذي بقيت أم كلثوم وحدها محتفظة به وسيدة عليه في ذلك الزمن. قد تصلح أغنيتا حب إيه وأنساك لأم كلثوم كمثال على ذلك القالب الرصين الذي غزا به بليغ جوقة ملحني الست مع احتفاظه بطبعة خاصة به في اختيار الجملة اللحنية النافذة بدلًا من تلك التي تتيح مساحة للاستعراض الصوتي، وكذلك تجد أن الأغنيتين قصيرتان نسبيًا مقارنة بأعمال أم كلثوم الأخرى، حتى أُطلق عليهما أحيانًا طقاطيق.
في ١٩٦٦ ظهر نهم بليغ حمدي لاسكتشاف ثورته الخاصة. في هذا العام فقط صنع مع الأبنودي ومحمد رشدي أغنية عدوية التي قيل أن نصف الفتيات اللاتي ولدن في هذه السنة حملن اسمها دلالة على شهرتها العارمة. ثم اختطفه عبد الحليم حافظ ليقدما في نفس السنة أغاني وانا كل ما قول التوبة وسوّاح وعلى حسب وداد قلبي ثم يا اسمراني اللون وقولوا لعين الشمس مع شادية. في عام واحد احتكر بليغ اتجاهًا موسيقيًا كان معاصروه قد انقطعوا لفترة طويلة عنه، ربما متواصلاً مع محمود الشريف الذي سبق بالتأكيد في النظر للغناء الشعبي المحلي والفلكلور كرافد للاستلهام والتجديد الموسيقي.
لماذا نقول إن بليغ استعاد اتجاهًا كاد يتنحى عن الصورة؟
كان هذا الاتجاه خلال المرحلة الناصرية محلاً للجدل في وسط التأليف الموسيقي وفي الأوساط الثقافية بشكل عام نظرًا لإحالته للماضي الذي “يثور” المجتمع الآن على تقاليده. وبرغم أن المرحلة السابقة على ١٩٥٢ كانت بالفعل محطة كبيرة للجدل والتغيير، إلا أن مفهوم الحداثة بدأ يرتبط أكثر بالنظام السياسي وشعاراته للتأكيد على ابتداء التاريخ منذ حركة يوليو التي تجب ما قبلها، وأصبحت فكرة التحديث أقرب للمهمة التي تستلزم إجراءات تقوم بها الدولة ومؤسساتها بشكل بدا حصريًا وتعسفيًا في بعض الأحيان، بمعنى أنه يتحكم في معنى واتجاه وحدود واختيارات ذلك الحديث، ويعيّن نفسه رقيبًا على عملية التوفيق بين هذا الحديث وبين المكون الثقافي المحلي/ الأصلي/ الهوياتي .
أغلب المؤلفات الموسيقية المصرية في ذلك الوقت كانت تميل لتسكين العنصر الثقافي المحلي في مقام “الأصل” الذي يمثل طابع هوياتي رمزي ويقبع كأساس أسفل معمار موسيقي “أرقى” بوصفه غربيًا/حديثًا. نرى ذلك في أعمال الجيل الثاني من المؤلفين الموسيقيين المصريين مثل عزيز الشوان وجمال عبد الرحيم وأبو بكر خيرت، ونراه في أعمال علي اسماعيل الذي طبع قالبه الموسيقي نوعية الغناء والمونولوجات والموسيقى التصويرية “الشعبي“، بل وأثر على أداءات الرقص الشرقي بتعاونه الطويل مع فرقة رضا، والتي تبنت طابعًا أدائيًا اعتبر مهذبًا لحركات الرقص الشرقي تحت شعارات حداثية مشابهة.
بليغ حمدي لا يمكن تصنيفه ضمن نفس المجموعة وإن كان تأثيرها على توزيعاته الموسيقية (بعدما بدأ يوزع أغنياته بنفسه) لا ينكر، وحتى أعماله القليلة للموسيقى التصويرية كانت أكثر إفصاحًا عن ذلك التأثر. انطلق بليغ من جوهر مختلف حملته تلك الروافد الشعبية وهو طبيعتها الاحتفالية وليس فقط نقاؤها أو قيمتها الشرقية أو الهوياتية.
تغير العالم كثيرًا في هذا الوقت وتغيرت معه الموسيقى. الستينات الأوروبية لم تكن فقط للسياسة. كان التوازي واضحًا بين ظهور الحركات النسوية وحركات الحقوق المدنية، وبين صعود الروك أند رول والبلوز بصخبهم وروافدهم الشعبية أيضًا في الكانتري ميوزيك الأمريكية وموسيقى الشعوب الأفريقية وإيقاعاتها. كانت الموسيقى التجارية تجدد البحث عن نظريات مختلفة وروافد متجددة لتستطيع تقمص أصوات مجتمعاتها. كانت هزيمة ١٩٦٧ في مصر رغم قسوتها فاصلة في كسر غرور الشعارات وهيمنتها، بما سمح للأفراد بهروب نسبي من حصار الخطاب السائد/ المفروض بتبني الدولة له، وسمح لهم أيضًا بالبحث عن هويات متفردة خارج محاولات الدمج الطاحنة داخل هوية جامعة “وحدوية“.
المقصود بالطبيعة الاحتفالية ليس المزاج الفرح، فالغناء الشعبي المصري والعربي حافل بالحزن والعديد والنواح والملاحم المأساوية، مثله مثل أي غناء أو يزيد، ولكن المقصود هو الدرامية التي تضاعف تأثير الحدث، الذي عند تداخله مع الإنتاج الفني تصبح الأدوات الفنية مسخرة لخدمة هذا التأثير، ليصبح جزءاً من جماليات التعبير الفني هو التزيّد والمبالغة التي تسمح للخيال بإعادة اختراع الحدث الواقعي في مقابل منظور الواقعية الذي احتفت به المدارس الفنية التي ازدهرت مع الاشتراكية ومنظريها. إن أكثر ما تم استهجانه واحتواؤه في الفنون المصرية من درامية كان أقوى ما طبع إنتاجها بعد ١٩٦٧، بداية من ثرثرة فوق النيل مجاوزة لجماليات عصره، ثم رقص سهير زكي ثم موسيقى بليغ حمدي التي استولت على روح عقدين كاملين لا نكاد نذكر منهما لحنًا إلا رأيناه في خلفيته، حتى لو لم يكن هو ملحنه.
يقول بليغ في خطابه المذكور سابقًا لمحمود عوض:
“أريد أن أحكي ونحكي يا محمود عن الموسيقار العظيم والباشا ابن الباشوات حفني ناصف. سمعني وأنا أعزف على البيانو فأخذني من إيدي وقال لي أعمل ايه واروح فين. دلني على مدام جوليو. الله يسامحه قعد يسمعني موسيقى كلاسيك بالعافية، زي ابويا برضو كان يقعدني يسمعني كلاسيك بالعافية! طب يا اخوانّا … يا عالم … يا أهل الله… أنا راجل ربنا خلقني أحب الرّق والمزمار والصاجات والربع تون والصبا وراحة الأرواح وعبد الغني السيد وكارم محمود! موتسارت ده على عيني وراسي لكن انا مالي وماله بس؟”
استدعاء بليغ حمدي لجمل فلكلورية أو تيمات موسيقية شعبية كان طريقًا لإحداث التغيير عبر التنويع الإيقاعي والصوت المتفرد للموسيقى مقابل الاقتصاد في البناء الميلودي للأغنية. بمعنى أن الجملة الفلكلورية بعمقها وشعبيتها الجاهزة توفر عنصر الاكتفاء النغمي مقابل الفرصة الكبيرة لبناء تنويعات مختلفة على جملة واحدة، وهو الاتجاه الأقرب لنمط التأليف الغربي بشكل عام. على عكس جيل آباء الأغنية الجديدة الذي كان يميل لتثبيت الشكل الإيقاعي pattern وإتاحة الفرصة للمعمار الميلودي، اهتم بليغ باستعادة الإيقاعات المركبة (بدلًا من الرباعية) والعرجاء واستفاد من بساطة الجملة اللحنية ليعيد انتاجها على إيقاع جديد أكثر تركيبًا وتنوعًا، وأدرج الرق والدفوف بقوة كآلات ملازمة للأداء الإيقاعي مؤكدًا على الطابع الراقص والحسي في أغنياته. نلاحظ ذلك بقوة في تركيب أغنية خدني معاك لشادية، ونرى استخدام بليغ المتكرر للسينكوب الإيقاعي وكثرة النقلات الإيقاعية في مقدماته لأغنيات أم كلثوم فيما بعد.
على مستوى الصوت، اهتم بليغ بعنصر الكورال الغنائي وحاول تعظيم دوره في البناء الغنائي بشكل عام بحيث لا يقوم بترديد مذهب أو ملء فراغات بين دور المطرب واللوازم الموسيقية. الكورال كان عنصرًا يوظف دراميًا وتتنوع انتقالاته بين أوكتاف منخفض وعالي حسب الحالة الغنائية، ولا تماثل جملته اللحنية جملة المطرب ولكنها تضيء عليها أو تمهد لها أو تلعب دور بطانة من درجة معينة في السلم الموسيقي أو تتبعها ليتصاعد تأثيرها الدرامي. لذلك نستطيع أن نقول إن تصور بليغ للحالة الاحتفالية أشار لما سيصبح فيما بعد مفهومًا قائمًا بذاته اسمه “الصوت” المميز لعمل موسيقي ما، إذ لم يعد يكفي أن تميز عملاً عبر لحن جيد أو غناء رائع أو تركيب مبدع، لكن عملية اجتماع كل تلك العناصر معًا وتنسيق أدوارها واختيار كل آلة وصوت بشري لغرض بعينه هو ما ينتج صوت هذا العمل وخصوصيته.
إذا تابعنا لقاءات بليغ حمدي المصورة في هذه الفترة (١٩٦٩- ١٩٨٣) لن نجد له حديثًا إلا وتضمن تعبير “الوصول بالموسيقى الشرقية للعالمية“، معينًا نفسه بالتأكيد مسؤولاً ورائدًا في هذا المضمار. وربما سبق بليغ كثيرون يتحدثون عن نفس الطموح، ولكن ظني أن بليغ بدأ يستوعب بشائر الاتجاه لما تأسس بعد ذلك تحت اسم موسيقى العالم World Music، رأى التحولات في موسيقى أمريكا وأوروبا وبدايات احتفائها بآلات موسيقية شعبية من خارج الأوركسترا، ورأى – بشكل جدي أو غير جدي – فرصة للموسيقى الشرقية على هذا المسرح الجديد. سنرى في مرحلة السبعينات أيضا تأكيده المستمر على أهمية المسرح الغنائي والاستعراضات والتوسع في إنتاجها “مواكبة للعصر“، بل كان يحدد حاسمًا أن هذا هو معنى “التطور” إن أردنا تطورًا ومستقبلاً للأغنية العربية.
أعلن بليغ حمدي عن اعتنائه الكبير بإبراز الطابع الاحتفالي في فات المعاد، لحنه التراجيدي الأعظم. قد يكون هذا اللحن من أوائل الألحان التي نسجها بليغ على منوال الملاحم الشعبية في مخالفتها لفكرة الارتباط (الذي صار شرطيًا) بين التأثير النفسي للإيقاعات ونوعها. فإيقاع المقسوم نستخدمه للحالات الفرحة والواحدة البطيء لتلك الحزينة، والتنوع بينهما يسير وفق معاني الكلمات وحالتها أكثر مما يخضع للحس الموسيقي. هذا الارتباط ينكسر بشكل مخالف للتوقع كثيرًا في فات المعاد، إذا ما قارناها بأعمال تسبقها وليس بالغناء الشعبي المحلي الذي طالما يصرخ بآلام وآهات ويا ليل يا عين على إيقاع المقسوم، وبالعكس تشوب نغماته الفرحة دائمًا نوبات شجن، ويصبح المزيج في الأغنية الواحدة أشبه بحالة دائمة من الـ anti-climax التي يمارسها بليغ كثيرًا في ألحانه، والتي ستصبح فيما بعد نمطًا يتناوب عليه ملحنون كثيرون ويثير حفيظة النقاد الكلاسيكيين.
“هناك شيء ساحر وحزين في الموسيقى العربية وفي الربع تون أن تغيير الإيقاع دون تغيير الميلودي بشكل كبير يؤدي لتغيير الحالة المزاجية … العلاقة الوثيقة بين الطرب وبين المونولوجات ... مدرسة التلاوة المصرية التي تتجلى في الفرح كما تتجلى في الجرح” (خطاب بليغ لمحمود عوض)
قاد بليغ حمدي من بعدها جيلًا من المطربين، أولهم عبد الحليم حافظ، لعودة للأغنية الطويلة لا لهدف – في نظري – إلا استخدامها كمساحة لاستعراض تلك الاحتفالية في الوصلات الموسيقية الطويلة التي تتخللها، والتي تتيح له توظيف آلات جديدة (الساكسوفون– الأكورديون– المزامير– الجيتار والكيبورد)، وابتداع تيمات متفردة على إيقاعات مركبة تختلف عن تلك التي يقيدها وجود المطرب. كثير من تلك الأعمال ظلت مقدماتها الموسيقية أو صولوهات بعينها – جمعت بين الارتجال الموسيقي على إيقاعات مركبة وبين التيمة القوية – أبقى أثرًا من العمل في كليته. وكأن القالب نفسه كان يقوم بتفكيك النص الراسخ للأغنية الجديدة الصلبة معماريًا، مقابل اكتشاف تأثير عناصر صوتية وإيقاعية أخرى بدأ الجمهور يتذوقها ويطالب بها، حتى ولو لم تظهر بعد بدائل لشكل الأغنية نفسه ومضمونها.
لذلك عادت الأغنية الطويلة على يد بليغ حمدي وكذلك ماتت على يديه مستنفذة أغراضها بعد أن فقدت آخر الأجيال المتمسكة بأدائها، وباتت بعيدة أيضًا عن روح عصرها، ولكنها حملت بالتأكيد إشارات لذائقة جديدة. في بداية إدراكه أن الأغنية الطويلة تزوي، بدأ بليغ محاولته الأخيرة لصناعة جيل جديد يستند إلى سطوته كملحن ويقبل بمشاركته الطموح نحو غناء استعراضي. ربما نجد تأكيدًا على هذا الجنوح لفكرة الاستعراض (ليس فقط بوجود راقصين ولكن بتطويع القالب الموسيقي ليلائم شكلًا سياقيًا أو دراميًا أكثر منه متمركزًا حول صوت المطرب وحكايته)، نجد التأكيد في المشروع الرحباني في لبنان، الذي ارتأى في فترة تسبق بليغ حمدي قليلاً أن يتجه للبحث في الدبكة اللبنانية عن رافد احتفالي واستعراضي ينازع فيروز كصوت أوحد وحالة مسيطرة، متقدمًا نحو إنتاج الأفلام والأوبريتات والمسرحيات الغنائية. تبني بليغ لصوت ومشروع عفاف راضي يمكن أن يصلح معادلاً لاحقًا لهذا الاتجاه، وإن اختلف عنه شكلًا ومضمونًا موسيقيًا.
يمكن أن نقول إن الفترة الزمنية التي تواجد بها بليغ حمدي جعلته شاهدًا على نهاية عصر وبداية عصر، ونهاية عالم موسيقي وظهور آخر بمفردات مختلفة، ويمكن أن نجد في مساره كثير من العلامات التي تشهد على استشرافه لكل مرحلة حتى يكون في طليعة روادها، غزارته ونزقه الفني غالبًا كانا دافعين، واختلاف الأزمنة عليه كان لصالحه في معظم الأوقات، لأنه آخر عنقود جيل جمع بين معرفة ماضوية عميقة وكذلك قدرة فنية على الاختلاف عن التقليد بل أحيانًا إقصائه والتحرر منه. قد يفسر هذا ميل البعض لجعله مؤثرًا في الغناء الذي عقب وفاته في الثمانينات وحتى الآن، واعتباره مفسدًا أحيانًا. لكن توخي الأمانة في النظر يضعه في مكان لا ينتمي له صناع الموسيقى في الثمانينات والتسعينات إلا من حيث تشابهات شكلية جدًا تحتفظ بنسق التأليف الثيماتي الذي انتهجه، وفي تنويع الصولوهات الموسيقية في الأغاني. باستثناء محمد منير الذي شارك في تقديمه بليغ حمدي وتبنى منظورًا واضحًا نحو موسيقى العالم مع جيله من الموسيقيين، لم تتضمن أعمال هؤلاء والمشاريع الغنائية التي تبنوها إحالة لأي سياق عالمي أو محلي بعينه، وانشغلوا أكثر باستكشاف عالم التكنولوجيا الذي توسع في الثمانينات، فكان العبور نحوه ماثلًا بأكبر قدر في استخدام الـ سيكونسر على يد حميد الشاعري مثلاً، وكذلك ربما عاد عمرو دياب بعد سنوات من شهرته للبحث في ملف عالمية الأغنية العربية، ولكن وفق متطلبات كانت قد اختلفت تمامًا.
المراجع