.
في طفولتي المتأخرة وبداية مراهقتي لم أكن أعرف لماذا يعشق أبي أغنية على بلد المحبوب وديني. أذكر اليوم الذي اشترينا فيه معًا ألبوم أغاني فيلم وداد من أحد محالّ شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات وسط القاهرة. أذكر كيف كان أبي يدمع كلما شغّلنا الكاسيت ووصل الشريط إلى هذه الأغنية، وفور انتهائها يشغّلها من جديد، حتى تستغرق الشحنة العاطفية الهائلة التي شحنه بها الاستماع الأول.
كانت مفضلته بين قصار أغاني أم كلثوم. كنت أرى كلماتها تنتمي إلى زمن انتهى ولن يعود، كلمات على غرار “على بحر النيل – ليّا في مصر خليل – زاد وجدي – واتهنّا بقربك واناجيك – أحكي لك وانت تراعيني.” أما اللحن الأحادي المقام في البياتي والمعتمد على العود والناي بمصاحبة الإيقاع، رأيته فقيرًا مقارنةً بألحان أغاني الفترة الأخيرة من حياة أم كلثوم منذ بدأت تتعاون مع عبد الوهاب وبليغ حمدي بالتحديد، وهكذا كانت عيناي على أغاني أم كلثوم الطويلة المتأخرة ذات الألحان الراقصة. بينما كان أداء أم كلثوم في رأيي المراهق آنذاك مُحملًا بحمولات الاستعراض بعيدًا عن التعبيرية التي اقتربت منها في أواخر حياتها واقتصدت في العُرَب والزخارف الأدائية. يبدو أن المسألة كانت تتطلب أن أمُر بخبرات جمالية مختلفة لأستطيع تذوق ما تكتنزه هذه الأغنية من جَمال استثنائي يضعها موضع القلب من التاريخ الغنائي المصري.
من الصعب على المرء أن يتتبع سِجلّ خبراته الجمالية التي غيرت نظرته إلى أثر فني بعينه، فتأثراتنا بالفن تكون عادةً على درجة كبيرة من التشابك والتعقد بما لا يسمح بمثل هذا التتبع. لذا، سأتبع في هذا المقال طريقًا محددة، نمرّ فيها باستعادات مختلفة لهذه الأغنية على أيدي عدد من المطربين والموزعين، في محاولة للوصول إلى طبيعة الأصل الذي تضافر في إنتاجه إبداع أحمد رامي ورياض السنباطي وأم كلثوم.
حين غنتها غادة شبير بصوتها العذب، ربطَت نهاية البيت الأول في كل كوبليه بدرجة ركوز المقام (الذي سنعتبر في هذا المقال أنه بياتي على درجة دوكا / ري، وإن كان يمكن أداء اللحن من بياتي على درجة نوا / صول، وهو الأشهر، وستختلف تسمياتنا بالتبعية بناءً على ذلك)، وكان لهذا أثره، حيث جاز لنا أن نتوقع – لو لم نكن قد استمعنا إلى الأصل الكلثومي – أن ينتهي الكوبليه هنا. هذا ما يحدث مثلًا حين تقول: “يا حبيبي أنا قلبي معاك / طول ليلي سهران وياك.” فهي تختم الجملة بهذا الركوز. كذلك تصرفت غادة تصرفًا آخر خاصًّا بها، وهو التوسع في استخدام القلقلة. القلقلة كما يعرّفها علم تجويد القرآن هي اضطراب الصوت عند النطق بالحرف الساكن حتى يُسمَع بنبرة قوية. هذا ما تفعله غادة مع حرف الحاء كلما مرّت بكلمة المحبوب وحرف الجيم مع كلمة وجدي في المذهب آثرتُ استخدام كلمة التوسع في وصف تصرفها لأن القلقلة التي يتبناها التجويد مقصورة على حروف قطبُ جَدّ، ولا تشمل حرف الحاء مثلًا. غنّت غادة شبير كل الكوبليهات بنفس الطريقة، مكررةً فيها نفسَ العُرَب.
أما لطيفة فقد حاولت أن تستنسخ الأصل الكلثومي بالضبط، وتفاوت حظها من التوفيق خلال ذلك بين الكوبليهات، حيث كان هناك انحرافان بارزان في أدائها عن هذا الأصل. أولًا، كانت هناك النشازات البسيطة للغاية في أدائها العُرَب المركّبة كما في كلمة أفرح في جملة “يا هنايا لما افرح بيك”، حيث تنزل أم كلثوم درجة في نهاية الكلمة عن درجة اللحن في الأساس، فبدلاً من الوقوف على درجة سيكا تقف على ركوز المقام في دوكا. يبدو أنَّ هذا كان كثيرًا على قدرات لطيفة في تلك المرحلة المبكرة التي أدّت فيها الأغنية في هذه النسخة بمصاحبة فرقة الموسيقى العربية. أما الانحراف الثاني فكان مَدّ ما لا يُمَدّ من الحروف. هكذا فعلت في الخاء المفتوحة في كلمة خليل فقالت “دانا ليا في مصر خاليل”، وأيضًا في الميم المفتوحة في المحبوب لتصبح “الماحبوب”.
من اللافت أنّ كلمات رامي ولحن السنباطي شهدا استخدامًا صوفيًّا إنشاديًّا خرج بالأغنية عن الغرض الذي وُضَعت له. هكذا اقتبستها فرقة الرضوان المرعشلي متخذةً منها أساسًا لمدح النبي صلى الله عليه وسلم. لا شك أن جوابات السيد عبد القادر المرعشلي العالية التي تقرّبه من تينورات الأوبرا تخدم الغرض الإنشادي بطريقةٍ ما، حيث تؤكد معنى اللوعة والإلحاح في مخاطبة الله أو في التوسل بالنبي. لكنه بالطبع يتصرف ذلك التصرف الشائع نسبيًا في الإنشاد الديني، وهو الإتيان بجُمل مكسورة الوزن مكان الجُمل الأصلية للأغنية، على غرار قوله “يا طه أنا المداح / بادعي لك مسا وصباح”، حيث ينبغي أن نشبع فتحة همزة أنا وكسرة الميم في مِسا ليتّسق الوزن، أو أن نعتبر كلا الشطرَين ثلاثيي التفاعيل بدل الأشطر الرباعية الأصلية للأغنية (فَعِلُن فعلن فعلن فعلن). هذا فضلًا عن التوسع في القلقلة كما في نطقه الكاف في “يا حبيبي نظرة تكفيني”، ما يذكرنا بتصرف غادة شبير.
https://youtu.be/Rohf9pRyQzs
بين هذه الاستعادات تجد استعادة الراحلة ذكرى مكانها الخاص، فهي تخلق الأغنية خلقًا لا يغيب فيه الأصل عنا، ولا يتركنا دون أن نتبين بصمة ذكرى بوضوح. تتمثل البصمة التقنيّة البحتة في عُربة ابتكرَتها ذكرى لنهايات الأشطر الأولى في كل بيت من الأغنية، تكررها بانتظام. تعكس البصمة تدريبًا مكثفًا في مشوار ذكرى، تدريبًا على الزخارف والحليات الأدائية عمومًا، وعلى أداء هذه الأغنية خاصة.
كذلك غناها الكويتي الراحل غريد الشاطئ دون تكلُّف، ولم يحاول أن يستنسخ الزخارف الكلثومية إلا قليلًا، وعوّض ذلك بنقاء صوته وانضباطه على اللحن. يلاحَظ أنه تصرف نفس تصرف غادة شبير فربط نهاية البيت الأول من كل كوبليه بدرجة ركوز المقام.
تميزت استعادة مروة ناجي ببصمتها الخاصة وحساسيتها الموسيقية العالية، فهي فضلًا عن انضباط صوتها على اللحن وتوازن زخارفها وحلياتها الأدائية، ابتكرت خلال أدائها لمَدّ الياء في كلمة وديني في إعادتها للمذهب تبديلًا موفقًا للغاية، حيث طرقت درجة صول دييز بدلًا من درجة صول، فارتفعت نصف تون عن الأصل، كأنها تدخل باللحن مقامًا فرعيًا هو مقام قارجهار بينما هي تمسّه مسًا خفيفًا فقط، وفي هذا تلوين جديد للتعبير بحيث يفيد شكلًا من أشكال الاستجداء واللوعة في طلب الوصول إلى المحبوب. تكرر هذا التصرف في ياء المد في النيل في “يا مسافر على بحر النيل”. كما قُلنا، تخضع تسمياتُنا لافتراض أداء الأغنية في بياتي درجة ري، لا بياتي صول.
إذا عدنا إلى أصل الأصل نجد أنفسنا أمام نسخة عبده السروجي التي أدّاها في فيلم وداد. في هذه النسخة ينطق الفنان ذو الصوت الشجي المتّزن مفردات الأغنية بلهجة ريفية من لهجات الوجه البحري في مصر، دون مصاحبَة آلية، وإنما على خلفية من الكورال فقط. في تقديري إن أداء السروجي يمثل النموذج المرجعي بالنسبة لأداء أي مطرب رجُل لهذه الأغنية، وبالفعل اقترب منه غريد الشاطئ كثيرًا في النموذج الذي أوردناه له.
https://youtu.be/TyBGarYtzvA
وصلنا إلى الأصل الكلثومي، وهو أصل رغم سَبْق عبده السروجي؛ يرجع ذلك بالطبع إلى اصطباغ اللحن بروح أم كلثوم المتفردة التي تجلت في جبروت صوتها الذي بدا من عالمٍ آخر. ما فعلته أم كلثوم بالضبط، وما أعتقد أنه أحد تجليات عبقريتها في أداء هذه الأغنية، هو أنها أخرَجت لنا الوسَط المثالي بين الأداء الفلاّحي الجماعي الذي يأخذ راحته في مدّ ما لا يُمَد، وأداء المقرئين المتمرّسين بضبط التجويد، وأداء عوالِم مَطلع القرن العشرين المحتفي بالألعاب الأدائية. لنأخذ الكوبليه الأخير مثالًا نوضح به هذه الحدود الثلاثة وكيف جمعتها أم كلثوم. هنا مدّت أم كلثوم كسرة فاء مسافِر في “يا مسافر على بحر النيل” حتى يتّسق الإيقاع وتقع الفاء المكسورة مع أول نقرة من نقرات الإيقاع الرباعي، وبذلك ربطت أداءها بأداء جماعة الكورال الفلاّحي في الخلفية. ثم إنها بعد ذلك اقتصدت تمامًا في فتحة خاء خليل في “أنا ليّا في مصر خليل” فجاء أداؤها لهذه الجملة – بما اكتنزَه من حليات وزخارف لم تؤثر على ضبط الكلمات – أقربَ إلى أداء المقرئين. أخيرًا جاء أداؤها للشطر الأخير “من حُبّه ما بانام الليل” محمّلًا باللعب على أرجوحة العُرَب الواسعة، خاصةً في “ما بانام” فقد تحركت بأريحية فوق وتحت درجتَي فا / صول التي يعينها اللحن لكلمة بانام، وكان لهذا أثره التعبيري البليغ، فنحن أمام عاشقة لا تستريح في نومها وتظل تتقلب في شوق حتى أنها لا تَقَرّ إلى أن ينقضي الليل. مرةً أخرى أذكّر القرّاء بأن هذه التسميات تصدق في حال أداء الأغنية من بياتي دوكا / ري، وتتغير ثلاث درجاتٍ لأعلى في حال أدائها من بياتي نوا / صول.
حين أصل إلى هذه النقطة أكتشف كم كنتُ ساذجًا حين تصورت أداء أم كلثوم مغرقًا في الزخارف بعيدًا عن التعبيرية، بينما هي في الحقيقة تلخص أبلغ تعبير أدائي ممكن لهذه الكلمات على هذا اللحن. في رأيي إن هذه العناصر مجتمعةً: الاتصال بتراث الغناء اللاهي قبل الكلثومي كما عند العوالِم، الاحتفاء بالأداء الفلاحي الجماعي واستحضاره أثناء غنائها الفردي، ومع هذين العنصرين ومهيمنًا عليهما إلمامها بتقاليد تلاوة القرآن واستفادتها القصوى منها، هي السر في بقاء أم كلثوم في مكانة لا يطاولها فيها سواها في الوعي الجمعي للمصريين.
ادَّخرنا للختام استعادةً مختلفةً تمامًا للأغنية، قدمتها حنان ماضي في ألبومها عصفور المطر الذي أُنتِج عام ١٩٨٩. التوزيع للموسيقار ياسر عبد الرحمن، وهو بالتأكيد بطل هذه النسخة، فقد بنى هارمونية شبه كاملة على الأغنية، حيث مهّد للعناصر الهارمونية بالمقدمة التي تعزفها الوتريات في السلّم الفريجي (مقام الكُرد) والبيانو مراوحًا بين الكرد والنهاوند، ثم يؤدي الناي اللحن الأساسي في البياتي، يؤازره صوت القانون فيما يشبه أداء الكيبورد للقانون. وظف الموزّع صاحب الرؤية الخاصة صوت حنان ماضي بشكل مبهر، بمعرفته بمناطق ضعف هذا الصوت التي لم تقل أهميةً لهذه النسخة عن مناطق قوته. صوت حنان ماضي الشجي المفعم بالحزن محدود المساحة، خاصةً إذا ما قُورن بصوت أم كلثوم، وقدرتها على أداء الزخارف محدودة هي الأخرى، وبذلك يكون ياسر عبد الرحمن قد قدّم لنا نسخة سوداء (Noir) من الأغنية، حيث الأصل الدافئ الفرِح حاضر كضيف شرف مع صوت حنان، تحف به من كل ناحيةٍ هرمونيات مقام الكرد الحزينة، كما لو كانت هناك رسالة مُضمَرة في هذه النسخة تقول: “أقدم لكم ما كان عليه الأمر منذ أكثر من نصف قرن. ما عليكم إلا أن تحزنوا، وسأساعدكم على ذلك.”
يبقى بلد المحبوب بالنسبة لكثير من محبي الموسيقى العربية مكانًا مقدسًا دافئًا فرحًا، ربما لم تسكنه إلا أم كلثوم مع رفيقَي أغنيتها رامي والسنباطي، لكنه ظل مغريًا لأجيال من محترفي وهواة الموسيقى ليحاولوا الوصول إليه أو يشيروا إليه من بعيد، وهذا أضعف الإيمان.