.
لطالما رأيت أن الاستراتيجية التي يتّبعها جوش تيلمان منذ ألبومه الأول، أن يتغدّى بنفسه قبل أن يتعشى به الآخرون، هي استراتيجية ذكية. سخريته من نفسه وفضحه لأكثر أفكاره ومشاعره حميميةً، في كلمات أغنياته أو في المقابلات، ساعده على التصدي إلى والتحكم بـ الانتقادات والكراهية التي واجهته، بل وأثارت المزيد من الفضول حول أسلوب هذا الشاعر ذاتي الهجاء. نجح هذا التهكم في صرف النظر عن المعبد الصغير الذي ينشئه جوش لذاته في زاوية كل ألبوم، ممجدًا تجاربه وتصريحاته وأفكاره الواثقة كبطلٍ يأخذ وقتًا مستقطعًا من ملحمته ليؤلف ألبوم روك. رغم أن استمراره على هذه الدرجة من التكشف منذ أن بدأت مسيرته الفردية قبل ستة أعوام قد منحه نوعًا من الخصوصية والتميز، إلا أن شيئًا من التصنع أو التعالي المضمر كان يظهر ويختفي في أسلوب كتابته، ما يجعل من غير الواضح ما إذا كان تكشفه هذا يستحق الثناء أم النظر إليه كمبالغة وفزلكة.
في ألبومه الرابع الصادر بداية هذا الشهر، يكسر فاذر جون ميستي أخيرًا الجدار الرابع، ويدخلنا إلى كواليس ألبوماته السابقة – يشاركنا كل الضعف والخوف ونوبات الشك، متخليًا عن شخصية أبو العرّيف التي تبناها سابقًا، خاصة في ألبومه الثالث الملحمي الطويل بيور كوميدي ٢٠١٧. في نصف المدة الزمنية، يقدم فاذر جون ميستي جرعة مركزة من عشر أغنيات كتبها خلال أقل من شهرين قضاهما معزولًا ومخمورًا في أحد فنادق نيويورك – الإقامة التي وثق أحداثها الحقيقية بالتفصيل في أغنية مستر تلمان التي سبقت صدور الألبوم. تصف الأغنية اكتئاب الأب ميستي من وجهة نظر عامل الاستقبال في الفندق، والذي يبدي قلقه من هلوسات جون المستمرة وشربه المتواصل، بل وينقل إليه قلق رواد الفندق الآخرين حياله. “أشعر بأني بخير، بل أشعر بأني ممتاز … هذه طبيعتي فقط” يرد السيد تلمان مطمئنًا. الأسلوب الغنائي الحيوي والإيقاع المرح ومقطع التصفير المبتهج تعبث مع مأساوية الحالة التي تريد الكلمات التعبير عنها، بشكلٍ أنجح مهمة الأغنية كفاتحة شهية للألبوم، وقدم وعدًا بتوزيعٍ جذاب.
مع صدور الألبوم كاملاً ومنذ الأغنية الأولى، يظهر التوزيع مستعيدًا التشامبر بوب بأسلوبه الستيناتي، بل ويتأثر بذبذبات من البيتلز، أو بالأحرى موسيقى جون لينون وجورد هاريسون الفردية من خلال الإيقاع المتوسط السرعة، الثقل المولّى للبيانو، ومزج المقاطع الصوتية لتصبح غائرةً بين الجيتارات الهوائية، دون أن يكون هذا التشابه أو التأثر الواضح مزعجًا. الأكيد أن فاذر جون ميستي لم يدّعِ يومًا أنه مجدد موسيقيًا، لذا تناسب هذا الأسلوب التوزيعي مع روح كلماته، دون أن يخلو الأمر من الاستسهال.
في الأغنية الجذابة هانج آوت أت ذ جالوز، يفتتح فاذر جون ميستي الألبوم منذرًا بأن “نوح قادم”. كعادته في إغناء كتابته بالإشارات والرموز، يستخدم هنا صورة دينية ليحيلنا إلى حالة ترقبه لعقاب، كطوفان نوح، على مجموعة الأفعال التي سيعترف بها تباعًا. يقحمنا مباشرة بتساؤلاته “ما توجهاتك السياسية؟ / ما ديانتك؟ / ما هدفك من الحياة؟” نوع الأسئلة الذي يطرحه من لا يملك الإجابات، وكأنه يناجي من يخلصه من شكوكه، قبل أن يتساءل نهايةً، معبرًا بلا مبالاة عن ميول انتحارية: “أتود أن نذهب ونتسكع بين المشانق؟” في بليز دونت داي، يحاول الإجابة عن التساؤل الأخير من وجهة نظر زوجته “أنا قلقة عليك / أنت أثمن من أخسرك / أنت كل ما أملك / ضع نفسك مكاني / أنت كل ما أملك، لذا أرجوك لا تمت / أينما كنت اليوم.” تحملنا هذه المناجاة المتخيلة إلى مواقع أكثر حميمية من علاقة الموسيقي بزوجته، إيما تيلمان، التي كان قد وثقها بالتفصيل في ألبومه الثاني الذي أعقب زواجهما، آي لاف يو هاني بير. الحميمية المفرطة مصدرها هذه المرة اليأس والخوف من خسارة هذا الحب الذي لا يملكان سواه، ما يضعنا أمام علاقة واقعية بلا تكلّف أو ادعاء للمثالية. يعود فاذر جون ميستي ليؤكد هذه النقطة في أغنية ديسابويتمنت دايموند، التي تطرح بمدتها التي لا تتجاوز الدقيقتين سؤالًا يجعل كل أغنيات الحب الأخرى تبدو مزيفة: “هل يتوجب على كل قصة حب أن تكون الأعظم في التاريخ؟” تختتم الأغنية بدخول مقتضب ومميز للساكسفون، في مزاج مشابه لمداعبة بينك فلويد للجاز في بعض أغنياتهم القديمة.
يصل الألبوم إلى ذروته موسيقيًا وكلاميًا، بل وبصريًا مع الفيديو الذي صدر مؤخرًا، في أغنية زبون الرب المفضل. يدفع اليأس الرجل المتسكع لأن يخاطب الله الذي كان قد قطع علاقته به منذ مدة طويلة، ويناجي الملائكة: “تحدث إلي / لم لا تتحدث إليَ أيها الملاك الجميل؟ / ألا تذكرني؟ / لقد كنت زبون الإله المفضل نشأ جوش تيلمان في أسرة متدينة، ودرس في مدارس كنسية، لكنه أعلن في النهاية أنه لم يؤمن يومًا بأي من هذا، وتوجه إلى العمل في الموسيقى رغم رفض عائلته.” يرتفع الصوت الملائكي لـ وييز بلُد اسمها الحقيقي ناتالي ميرنج، موسيقية مستقلة. كانت قد أدت وصلات افتتاحية في حفلات الأب خلال جولاته خريف العام الماضي لتردد اللازمة مع الأب البائس، الإضافة التي تكسب الأغنية والألبوم ككل لحظة إشراق مميزة. تكتمل الأغنية حين تمنح إيما تلمان التي أخرجت الفيديو زوجها نهاية الرجل الطائر نسبةً إلى المشهد النهائي في فيلم Birdman، بعد تصوير الأغنية كاملةً بلقطة واحدة مستمرة في شوارع نيويورك مع شروق الشمس.
يتعثر الألبوم في الأغنية الختامية وي آر أونلي بيبُل، التي تتشابه مع إيماجن لجون لينون، ليس موسيقيًا فقط وإنما بالصيغة الوعظية الخطابية التي لا تبدو متناسبة مع المزاج الذاتي البحت الذي يتبعه الأب عادةً: “أيها الناس، ما القضية؟ / إن كنت أنتَ قد انجرحت / وإن كنت أنا قد انجرحت / ما الذي يمكننا فعله الآن؟ / نحن مجرد بشر/ ولا يوجد ما يمكن لأحدنا تغييره حيال الأمر.”
رغم الخطاب الختامي الكليشيه، يُظهِر هذا الألبوم أن فاذر جون ميستي ما زال يملك الكثير ليقوله. هو بلا شك يقول ما يقوله بذكاء، وبأسلوب تخدمه ثقافته العالية البراقة ومراجعه الكثيرة من أعمال أدبية ونصوص دينية، إلا أنه هذه المرة وجد طريقةً أكثر صدقًا وعفويةً في التعبير عنه، بل ويبدو – النظرية التي يدعمها غلاف الألبوم الذي يحمل صورة وجهه للمرة الأولى – أنه يحاول إظهار جانب غير متوقع تمامًا من شخصيته، يختلف عما تآلف معه جمهوره سابقًا. ومع كل استماع، يبدو الألبوم كأكثر من مجرد محاولة.