fbpx .
فاطمة بوساحة شعبي تونسي معازف Fatima Bousaha Chaabi Tunisian Ma3azef
بحث | نقد | رأي

مات جابوله عنقود | فاطمة بوساحة والاعتراف المتأخّر

يسرى بلالي ۲۰۲۲/۰۳/۳۱

كان عرض النوبة بداية التسعينيات نقطةً فاصلة. بعد تهميش ممنهج للفنون الشعبية في عهد بورقيبة الذي انتهى عام ١٩٨٧، أظهر خلفه بن علي نيةً مبدئية لفتح الحريات والسماح للفنون المهمّشة بالوصول إلى الإذاعة والتلفزة. استغل المخرج المسرحي الفاضل الجزيري الفرصة، وقرر إقامة حفلة استعراضية يقدم فيها الغناء الشعبي التونسي، الحضري والريفي. رُشِّحت للعرض مطربةٌ لم تتمكّن طوال ثلاثة عقود من نيل أي اعتراف رسمي، لأسباب أبرزها أنها مطربة في نوع معروف بفحولة نجومه. ربما لذلك لم يُسمح لها بأكثر من دقيقة خلال العرض. من هذه الدقيقة تحوّلت المطربة المغمورة، فاطمة بوساحة، إلى أول نجمة في الغناء الشعبي في تونس.

من الملاسين إلى أفريكا كاسات

نشأت فاطمة في محيطٍ عائلي بدوي محافظ في ولاية زغوان مع أخيها الوحيد، وتوفي والديها وهي طفلة. اكتشفت عالم الغناء الشعبي من خلال حفلات الزفاف التقليدية، وترددت على المقامات الصوفية حيث تقام جلسات المدح، فيما تأثرت بشكلٍ خاص بصوت إسماعيل الحطاب الذي سمعته لأول مرة عبر الراديو.

بدأت مع قريبتها الغناء في تلك الحفلات دون مقابل، ليستحسن الأهالي صوتها وتصبح مطلوبةً في المناسبات. شهدت حياة الطفلة تقلبات مبكرة في سن الرابعة عشر عندما اكتشفها حسن العياري، أحد شيوخ الغناء البدوي في زغوان، الذي أعجب بصوتها وأقنعها باحتراف الغناء رجاء بن جمعة. ظاهرة مطربات الغناء الشعبي في تونس بعد التسعينيات: أنموذج فاطمة بوساحة.. اصطدمت فاطمة بسلطة أخيها الذي رفض إقدامها على الغناء، وقررت أن تهجر عائلتها وتهرب إلى تونس العاصمة، مجمع المكتشفين وصائدي المواهب، لتبقى في قطيعةٍ مع أهلها طيلة سنوات.

لدى استقرارها في العاصمة تعرفت فاطمة على سائقٍ متجوّل يعمل مع الفرق الغنائية وينقلهم من مكانٍ إلى آخر. رافقته ليتسنّى لها الغناء مع إحدى الفرق التي تعامل معها إلى أن انضمت إلى فرقة الزين الماجري واستمرت معه لسنوات، قبل الانضمام إلى فرقة زوجها الأول عبد السلام الجلاصي. كسبت فاطمة تجربة مهمة وأسست أخيرًا فرقتها الخاصة في أواخر السبعينيات بحسب مدير أعمالها السابق عبد الجبار علّام، كما أصبحت مطلوبةً مع فرقتها في حفلات الزفاف في العاصمة وخارجها. أدت فاطمة أغانٍ تراثية من رصيد غناء جهتها بالإضافة إلى التراث الكافي والجندوبي نسبةً إلى الكاف وجندوبة، من الشمال الغربي لتونس. والجلاصي نسبةً إلى جلاص، وهي تجمع قبلي استقر في القيروان. لا تزال التسميات القبلية معتمدةً إلى اليوم في الخطاب العامي.، وتعاونت مع صلاح الزين المثلوثي، الذي تعاون مع إسماعيل الحطاب أيضًا، والذي لحّن لها سلسلة من الأغاني الخاصّة صدر بعضها فيما بعد في الشريطين الأوّلين لشركة فوني، أهلي غصبوني ويا دمعة عيني.

يشير الموسيقيّ وأستاذ المسرح عادل بوعلاق إلى أهمية صوت فاطمة بوساحة الذي يقع في الدائرة الصوتية القريبة من الرجالية. اخترقت فاطمة درجات صوتية رجالية وتمكّنت من الأداء الصوتي للكلمات بالطريقة الريفية التونسية، ما جعلها تبرع في غناء نمط الصالحي. كما تمكنت من إحدى أنماط الصالحي الذي برع فيه المغني الشعبي عزّوز قرجم، وكانت مطلوبةً جدًا في جهة الوطن القبلي، ما جعل البعض يطلق على الصالحي الذي تؤديه تسمية “صالحي فاطمة”. حتى الآن، ليس لدينا تسجيلات لصوت فاطمة من تلك الحقبة تشهد على ما كان وما كان يمكن أن يكون. 

استمرت فاطمة كمغنيةٍ شعبية مغمورة مع فرقتها إلى بداية التسعينيات، عندما رشّحها بكّار العياري (صاحب فرقة شعبية) والزين الماجري للمشاركة في عرض النوبة على مسرح قرطاج، بجانب أسماءٍ بثقل إسماعيل الحطاب ولطفي بوشناق وصالح الفرزيط والهادي حبوبة؛ حيث قدم منجي بن عمّار وعبد الرزاق قليو إلى منزلها في دار العيّارية في حي الملاسين لإقناعها بالمشاركة.

وقفت فاطمة بوساحة أخيرًا لأول مرّة على مسرح قرطاج، لكن اقتصر أداؤها على وصلةٍ قصيرة وغنت موال “ياما الحُبّ أقوى من الحَب”، وذلك لرفض موزّع العرض سمير العقربي أن تؤدّي شيئًا آخر أو أن يكون لها فقرةً منفصلة. انبهر الفاضل الجزيري بأداء فاطمة بوساحة واعتبر أن اكتشافها المتأخر عطّل بروزها، وأنه كان بوسعها أن تصبح نجمة غناء كبيرة لقوة صوتها وقدرتها الفائقة على تشخيص الأغاني والانتقال بين حالاتٍ عدة في الأداء. أظهرت فاطمة تمكنًا من الصالحي ولوّنت أداءها بنبرةٍ ملتاعة قريبة من النواح، كما استعرضت قوة صوتها معتمدةً على زخارف أدائية مثل التنوين والغمغمة وإضافة كلمات المناداة بين حواشي النص.

جذبت فاطمة انتباه سهيب اللواتي ممثل شركة فوني للإصدارات الموسيقية الذي كان حاضرًا في العرض، وعرض عليها إنتاج كاسيت، في ظل خلوّ مشهد الغناء الشعبي من حضور النساء واقتصاره على بعض الأسماء القديمة مثل عائشة ومامية اللتان رافقتا إسماعيل الحطاب في مسيرته. تحقّق الاعتراف الأوّل بفاطمة بوساحة كصوتٍ شعبي بعد قرابة ثلاثة عقود، وهي في خمسيناتها، ليُنفض عنها الغبار أخيرًا وتصبح أول مغنية شعبية تصدر شريط كاسيت في ذلك الوقت.

استمر تعاقد فاطمة مع شركة فوني ست سنوات أصدرت خلالها أربع ألبومات: أهلي غصبوني (١٩٩٢)، يا دمعة عيني (١٩٩٣)، ايّيه محلاها فيّا (١٩٩٤)، وحسّ الكاليس (١٩٩٨)، وتدرّجت في انتقالها من التراث إلى الموسيقى الشعبية الراقصة والبسيطة. سايرت فاطمة موجة التحديث في المشهد الموسيقي آنذاك وأسست لطريقة تعاملٍ احترافية من خلال اعتمادها على مستشارين فنيين، أهمهم البشير اللقاني الذي تولّى الحديث مع الإعلام ومتعاقدي الحفلات ومناقشة الأجور، وعمل معها طيلة سنوات عديدة قبل أن يتولى عبد الجبار علام إدارة أعمالها، فيما ركزت اهتمامها على الغناء والعروض. كانت عادة الفنانين والمغنين الشعببين في ذلك الوقت اكتراء محل في شارع باب الأقواس، وقبول طلبات العروض والحفلات من خلاله.

شهدت إصدارات فاطمة مع فوني نجاحًا كبيرًا تزامن مع ازدهار سوق الكاسيت في تلك الفترة، وانفردت في مشهد الغناء الشعبي النسائي. تعطّل إصدار شريط حسّ الكاليس لِأربع سنوات مع فوني، ما عجّل بنهاية العلاقة مع فاطمة التي تعاقدت مع شركة أفريكا كاسات المنافسة سنة ١٩٩٨، واستمرت معها عشر سنوات أصدرت خلالها عشر ألبوماتٍ. ضرب ألبومها الأول عالشيباني وسّع مع أفريكا كاسات وتصدرت مشهد الغناء الشعبي النسائي في تونس، كما أصبحت مطلوبة للحفلات في الخارج.

استفادت فاطمة كثيرًا من أفريكا كاسات التي ساعدتها ماديًا ونجوميًا لكنها حدّت من اختياراتها، إذ لم تتمكن من إصدار ألبومٍ يبرز طاقتها الصوتية في نمط الصالحي ويمنحها خيارات أداء واسعة. وضع مسؤول أفريكا كاسات شروطًا لانتقاء الأغاني وأملاها عليها: “الغناية اللي تشطّح ولدي ناخوها” (لن أقبل إلا الأغاني القادرة على ترقيص ابني). أجبر التوجه التجاري لشركة أفريكا كاسات فاطمة بوساحة على اتباع نفس الخط الغنائي الذي كان أغلبه من تلحين زوجها عبد القادر الزين وكلمات عبد الجبار علام ومصطفى الدلاجي، رغم رغبتها في غناء شجن التراث ومواويله التي برعت فيها بحسب الموسيقيين الذين رافقوها، وتجريب أنواعٍ أخرى عبر استثمار طاقاتها الصوتية.

استعادت فاطمة أغانٍ من التراث مثل أهلي غصبوني والجمل يهدّر، واختارت مواضيعًا بسيطة ومتداولة في الحياة اليومية للتونسيين تميزت بعفوية الكلمات، ما جعلها أكثر شعبيةً وعزّز شهرتها لدى الناس. استلهمت من قصصٍ وحوادث صارت معها خلال مسيرتها مثل أغنية يا عمي الشيفور التي ولدت من حادث تعطٌّل سيارتها في الطريق، حيث قال أحد أعضاء الفرقة لسائقٍ قام بمساعدتهم ونقلهم: “يا عم الشيفور امشي دبّة دبّة” (أيها السائق، قُد بشكل دؤوب)، وحوّلتها إلى أغنية حققت بها أحد أهم نجاحاتها.

لم تقتصر اختيارات فاطمة على النصوص العفوية السهلة وطرقت أبوابًا مغلقة في الغناء بتأديتها لغزلٍ جريء، في أغانٍ على غرار وين يبيعوا فيك وعالشيباني وسّع، حيث قدّمت غناءً شوارعيًا خليعًا بلهجة بدوية لا يجرؤ عليه البدو أنفسهم، بحسب البشير اللقاني. رغم قِدم هذا النوع من الغناء الذي انتشر في العاصمة والحواضر أوائل القرن الماضي، في وقت صعود فاطمة بوساحة كان طرق باب كهذا مغامرة كبيرة.

تبحث فاطمة في وين يبيعوا فيك عن الوصل علانيةً وتبدو مستعدّة لدفع جميع أموالها من أجل معشوقها: “وين يبيعوا فيك نشري جهار بهار ندفعلك بالشيك ولا بالدول / منك ما فماشي زوز لا ترنكوش ولا عزوز”، كما تقلب المعادلة التقليدية: “ندفعلك بالشيك ولا بالدولار” خلافًا لِأغاني الغزل القديمة التي يحضر فيها التشفير مثل جيبولي خالي ما نموتش (لفظ خالي يشير إلى الخلّ / الحبيب)

كما كشفت عن شخصيتها اللعوبة المتمنّعة في ها الربّة، معدّدةً من عشاقها في الحي مثل الجزّار والنجّار والخضّار: “جزار الحومة عابدني ديما / لا با يخطبني لا وفّى لحيمة” في إشاراتٍ صريحة إلى مجاز اللحم الإيروتيكي، لتذكرنا بمضامين أغانٍ قديمة مثل ليليري يا منّة ويا رمّانة يا رميمنة.

أنا لا أتعجرم

هذه الاستعادات والأغاني الجريئة هي كل ما استطاعت فاطمة بوساحة تمريره، وسط ضغط شركات الإنتاج للمساومة على اللون الذي احترفته، ولم يصل من إنجازاتها فيه إلى الحيّز العام أي تسجيل. لم تخفِ بوساحة عن المتفرّج محدوديتها العلمية أو عفويتها التي رافقت ظهورها في البرامج التلفزيونية. قدّمت للجمهور صورة الروح الشعبية التي نالت بها خصوصيةً وأسقطت عنها كل المحاسبات التي تتعرّض لها الفنّانات. في لقاءٍ تلفزي مع برنامج الصراحة راحة لسمير الوافي قالت بوساحة أنّها “لا تتعجرم”، في الإشارة إلى نانسي عجرم في ذلك الوقت وتشبّه المغنيات بها، ولم تبد انزعاجًا من التنمّر الذي مارسه عليها الإعلامي ووصل حدّ تساؤله إن كانت تنتمي إلى جنس الإناث أم لا.

لقّبت بوساحة بِـ “ساق جمل” وعانت الكثير من التنمّر على شكلها ولقبها. رغم كلّ الهجمات والتنمّر الاعلامي عليها، حافظت على هويتها البدوية في حضورها في العروض والحفلات، مركزةً على ملابسها وحليها في تقليدٍ رسّخ صورتها الفنية. اقترح عليها بشير اللقاني ارتداء البِدعية قميص من الكتان له كمّان يتّسعان من جهة الرسغين، وتوجد على كل منهما فتحة صغيرة، محلاة بنوع من الأزرار تعرف بِـ العقد. والحْرام شال من الصوف يلتفّ به من الأسفل ويقال له حْرام أو ’تحزيمة’ وهو يقابل الطيلسان في المشرق. في عروضها للتعبير عن هويةٍ جامعة تحوي خصوصيات مختلف المناطق في البلاد، علمًا أنّ اللباس التقليدي التونسي لم يجمع في أي جهة من الجهات البدعية والحرام. 

يشير عادل بوعلاق إلى أنّ فاطمة بوساحة حافظت على كيانها كمغنيةٍ شعبية حملت كل مواصفات الفنّ الشعبي، صوتًا وحضورًا، وهو ما ميّزها عن باقي الفنّانات الشعبيات اللاتي عاصرنها أو ظهرن بعدها في الساحة الفنيّة. هنّ لم يتمسّكن بالشكل البدوي ووضعن أنفسهّن في قطيعةٍ مع الأغنية والشكل، وتزيّنّ بشكل حضري يُشعر المتفرّج بضرورة “التشبّه بِالبلدية فئة اجتماعية تسكن داخل المدينة العتيقة التي تحيط بها سبعة أبواب وتُعرّف من قبل الفئات الوافدة على المكان، وهذا التعريف ليس علمي بقدر ماهو اجتماعي، أي أنه قد أطلقه الوافدون للإشارة إلى أعيان المكان. والحاضرة”، بدايةً من تغيير اللباس وصولًا إلى تغيير اللهجة، وهو فرض يمقته كل تونسي مرّ بتجربة النزوح من الريف إلى العاصمة.

دخلت فاطمة إلى بيوت التونسيين ومناسباتهم بغناءٍ جريء وبفرقة تتزعمها امرأة في فترة ترك فيها موت إسماعيل الحطّاب فراغًا كبيرًا وخلت الساحة من منافساتٍ لها، قبل أن تتغير معالم المشهد الموسيقي في تونس لتبتلعها موجة جارفة بدايةً من الألفينيات. 

وجد غناء فاطمة أرضيةً خصبة للانتشار هيأتها التحولات العميقة التي طرأت على المجتمع بعد الاستقلال ومنذ السبعينيات، فالتونسي أصبح “مسكونًا بالبحث عن القعدة والتفرهيد والجوّ والدعسة والشيخات.” الهادي التيمومي. كيف صار التونسيون تونسيين، صفحة ٥٠.. لكن بقدر ما استفادت فاطمة من تحولات المشهد الموسيقي، بقدر ما تضررت منه فيما بعد. تزامنت نهاية أفريكا كاسات سنة ٢٠٠٨ وإغلاق شركات التسجيل القديمة مع تقدّم فاطمة في السن وتدهور صحتها، وظهور جيلٍ جديد مختلف من المغنيات. 

ارتبط اسم فاطمة بوساحة في ذاكرتنا بالحفلات والأفراح الشعبية وحملات التنمر ضدها. ضرب اسمها بشكلٍ مفاجئ وهي في منتصف العمر، لكن بقيت فصول من حياتها وصعودها مجهولةً للجمهور الذي اكتشفها وأحبها. تجاهلت وسائل الإعلام أثر غنائها، ونمّطتها أخرى في مظهر الوافدة من الريف، خشنة الطباع والغناء الذي أثار حفيظة العديد لجرأته واعتماده على كلمات الحياة اليومية العفوية، فيما حوّلها كثيرون إلى مادةٍ للتندر والسخرية. تقبّلت الأجيال السابقة وطربت لغناء علي الرياحي مثلًا: “كيف ريتك حطيت الزير / وحلبت بايديك البقرة”، مقابل نفورهم من حضور نفس المعجم الريفي في أغاني فاطمة مثل يا عمي الشيفور أو وين يبيعوا فيك. أحب كثيرون فاطمة في الخفاء. رقصوا على أغانيها وترنموا بنصوصها في حياتهم اليومية دون أن يظهروا ذلك، مخافة أن يُتّهموا بتخلّف الذائقة.

احتفى الجميع بِها بعد موتها رغم أنها لم تنل الاعتراف الذي تستحقه خلال مسيرتها، وصرنا نراها على تيشرتات في الأغاني المصورة. ينطبق على فاطمة ما كتبه علي الدوعاجي عن مفارقة الاعتراف المتأخر: “عاش يتمنى في عنبة / مات جابوله عنقود / ما يسعد فنان الغلبة / كان من تحت اللحود.” لم نكافئ فاطمة بحبة عنب واحدة طيلة مسيرتها، في حين امتدت لها العناقيد فجأةً بعد موتها.

المزيـــد علــى معـــازف