.
كان العراقي الذي نجا من الحرب الطائفية الأهلية أواخر ٢٠٠٦ و٢٠٠٧ يحمل جنسيتين (الجنسية هي التسمية المحلية لبطاقة هوية التعريف في العراق)، واحدة بلقب عشيرة شيعية وأخرى بلقب عشيرة سنية، هكذا دخل أغلبنا سنة ٢٠٠٨. كنّا مزدوجي الطائفة بينما كان السياسيون الذي أوصلوا البلاد لهذا الحال مزدوجي الجنسية والجواز.
لم نصدق وقتها أننا اجتزنا القتل على الهوية، وبينما نحن كذلك استقبلنا غول السيارات المفخخة. مثل أسراب الجراد التي تعيث بحقل حنطة دخلت سيارات تنظيم القاعدة شوارعنا. كانوا يبالغون بأعداد المفخخات، يفجرون سيارةً فيسقط الضحايا وينزف المصابون، يهرع الناس للمساعدة وانتشال المصابين لتنفجر سيارة أخرى بنفس المكان تحصد أرواح الجميع.
في سوريا وبدمشق تحديدًا، قبل الثورة السورية، كان العشرات من الفنانين العراقيين يقيمون هناك هربًا مما يحدث في العراق. شعراء وملحنون ومطربون ابتعد نتاجهم عن ما يحدث للعراقيين، بأغانٍ عاطفية ورومانسية وراقصة. لا أراه انسلاخًا من الواقع بقدر ما هو هروبٌ من الموت الذي كان يتشكل بأكثر من وجه وطريقة في بلدهم.
كان الشاعر ضياء الميالي والملحن نصرت البدر هما عرابا هذه الفترة، كتبا ولحنا عشرات الأغاني وقتها وسجلّها المطربون الشباب في استوديو الحنين بدمشق، الذي يملكه نصرت البدر. من هؤلاء الفنانين تيسير السفير، الذي كان “خايف” من تغيّر أسلوب حبيبته الجميلة نحو الأفضل، حبيبته ذات الشعر القصير بلونه الأصفر الغريب، بينما نحن في العراق كنّا خائفين من أشياء أخرى لا علاقة لها بالغناء والجميلات وشواطئ البحر. رغم خوفنا هذا، كنا نتسمر أمام التلفاز وننتظر لقطة عابرة وسريعة لحبيبة تيسير السفير حين يقرر المخرج جاسم حنون أن تغير أزياءها بلقطات أخرى، نبحلق بالتيشيرت الضيق الذي ترتديه ويكشف شيئًا من مفاتنها، ونتغاضى عن قراءة الأبراج ونسب التوافق والحب والرسائل الغرامية التي تمر سريعًا عبر شريط سبتايتل القناة.
من جهة أخرى جعلنا صباح محمود نزور محطة سكك قطار دمشق في فيديو كليب أغنيته حبيبي آنه، من كلمات علي الفريداوي وألحان نصرت البدر وإخراج أسعد السوباط، ونندهش ببيوت العاصمة السورية العصرية والحجر النظيف الذي يغطي واجهاتها. لم نعتد حينها أن نرى فتاةً بشعرٍ عنّابي أقرب للأحمر، لكن سالم مارديني ووكالته للموديلز كان يقدم لنا – نحن المتعبون من الموت – أجمل فتيات سوريا في كليبات هذه الفترة (من ٢٠٠٨ الى ٢٠١٠). أثرت بنا قصة الأغنية وكلماتها بنا نحن المراهقون، وحزننا لبقاء صباح محمود وحيدًا في محطة القطار على الرغم من الانتقالات الإيقاعية في الأغنية، من الوحدة الكبيرة إلى الهيوا العراقي الراقص.
قرب قباب طينية جميلة مبنية باسلوب مختلف، أطل علينا الملحن نصرت والمطرب قائد حلمي في فيديو كليب ويلي. دويتو غنائي يتجه فيه الفنانان سوية عبر صحراء قرب جبل الحص بحلب ليدفنا هدايا ورسائل ومتعلقات حبيباتهم بعد خذلانهم، بينما في الجانب الآخر من الكليب نرى الممثلة السورية رغداء هاشم بمعية زوجها يحفران حفرة بمكان مشابه، ويستخرجان منه حقيبة ذكرياتهم ويحتفون بها. أراد مخرج الكليب رأفت البدر أن يقارن بين علاقات الحب في السنين الماضية والعلاقات العاطفية هذه الأيام، رغم أننا لم نفهم سبب دفن متعلقات وأشياء رغداء هاشم وزوجها في حقيبة بصحراء قاحلة، لكن على مايبدو أننا أمام رمزية بسيطة أراد أن يوصلها المخرج الذي نقلنا لحلب وقرية المربعات تحديدًا.
كان السواد الأعظم من هذه الأغاني يُبَثْ من على قناة أغانينا الفضائية، ويتحدث عن قسوة الحبيبات ونقاء وملائكية الفنانين المحبين، بينما نحن نعيش مراهقتنا ولم نتذوق الحب بعد. أكاد أجزم بأن بعضنا كان ليرحّب بتذوق “خيانة العُشرة والزاد” من الحبيبات اللاتي ظهرن في الأغاني، مقابل دخول علاقة عاطفية حتى ولو كانت عابرة. أحمد جواد أحد هؤلاء المطربين الذين يشكون أيضًا من خيانة حبيبته، بفيديو كليب عشرتنا سوية، الذي كنا نستحي أن نشاهده مع أهلينا ونهرب حين يُعرض على الشاشة، أو نركض باتجاه الريموت كنترول ونغير القناة لنلوذ بقناة إخبارية تبث اخبار العراق الرتيبة. الكليب كان وقتها يظهر إيحاءات للخيانة لم نجرؤ على مشاهدتها جهارًا.
“يعني عندك حب جديد؟
ناوي تنسى حب قديم؟
براحتك سوي شتريد
بس بسيطة الله كريم”
كنا مأخوذين بالتحول الذي تعيشه كلمات الاغاني العراقية واستخدام الشعراء لكليشيهات كلامية واقعية من اللهجة التي نسمعها في الشارع، مثل بسيطة والله كريم، وهذا ما حصل في أغنية حب جديد لماهر أحمد؛ الذي لحّن أغانيًا كثيرة في فترة دمشق. أغنية بتوزيع مختلف سمعنا فيه جيتارات كهربائية نادرًا ما توجد في أغانينا، إضافة إلى لحن الأغنية الهادئ الصعب.
كانت حقبة رسمت شكل مراهقتنا نحن جيل التسعينات، رغم هول الحياة التي كان يمر بها العراقي. قلدنا تقليعات بعض الفنانين، ولبسنا مثلهم وتصرفنا على أننا نشبههم بوفائنا. أكثر ما أفتقده بتلك الفترة وأشتاقه هو دمشق وحلب وتلك المواقع الآسرة. أفتقد سوريا كلها؛ سوريا التي شاهدتها عبر شاشة صغيرة عرفت منها شكل بيوتها ومحطات قطاراتها ومقاهيها، وجبالها وشوارعها النظيفة وفتياتها الجميلات، سوريا التي لاذ بها أهلنا حينما كان العراق يصطلي بنار القتل والمفخخات، افتقادٌ كلما خّفُت وقَلْ أججته كلمات أسمعها اليوم من السوريين الذين يعيشون هنا في عراقهم اليوم.
كُنّا نهرب ونسافر ونصل لسوريا عبر فيديو كليب، كان التلفاز مطارنا الصغير لرحلة لم تفشل أبدًا في إنقاذنا، حيث سوريا التي نحب ونفتقد، جرعة من الطمأنينة والحب والغرام والموسيقى والأغاني مصدرها وجه من وجوه سوريا الكثيرة: الطيّبة مثل أم والضرورية مثل حبيبة.