.
في سنوات ما بعد الثورة في مصر تنامى تيار جديد يمكن تسميته بالصوفية المحدّثة وسط المستمعين المصريين، إذ انتقل البعض من مليونيات ميدان التحرير اﻷشبه بالموالد الثورية إلى التجوّل في موالد آل البيت. تزامن ذلك مع تجارب موسيقية تستعير قصائد من الإنشاد التقليدي إلى وسط آخر. نجح القليل من هذه التجارب في تطعيم القصائد داخل موسيقاتٍ مختلفة عنها ملائمة لها، بينما فشل أكثرها في استثمار تلك القصائد، فجاءت النتائج كمزج الزيت بالماء، وانقسم المستمعون حولها ما بين منبهر بالتجريب لمجرد التجريب، وما بين الأصوليين الذين يرون التجريب عبثًا بالتقاليد. حين لمحنا فيديو قلبي يحدثني – لعازف الجيتار والمغني من وسط البلد، هاني عادل، والملحن والمنتج حسن الشافعي – حاولنا أن نكون أمة وسطًا بين المنبهرين والمتزمتين.
أيقظت الأغنية في ذهننا استعادة نينا عبد الملك الأخيرة لقصيدة الحلاَّج إذا هجرت. ترجمت نينا القصيدة في إطار أغنية انفصال راقصة، ترجمة تستثير جدالًا مطولًا حول صحتها وخطئها وعلاقتها بالتأويل الأصلي للقصيدة، لكنها تبقى ترجمة. في نسخة هاني وحسن من قلبي يحدثني في المقابل، لا نجد مشروع ترجمة أو توظيف للقصيدة. تم تقديم القصيدة بطبقة صوت وفوق أسطر إيقاعية جرداء الملامح، تنفع لأي موضوع مشرق من أغنية حب خفيفة إلى احتفاء بقصة شعر جديدة. صحيح أن علاقة الأغنية بكلماتها لا يجب بالضرورة أن تكون علاقة ترجمة وتأويل، لكن أيضًا أن يترك المغني كل كلمات العالم ويذهب إلى قصيدة لابن الفارض ثم لا يفعل بها شيئًا … هناك خيبة أمل يصعب تفاديها.
عند هذه المرحلة كان يمكن أن نترك الأغنية حيثما هي، أغنية يمكن تشغيلها في الخلفية دون التدقيق بالتفاصيل وستسلي، يمكن تشغيلها في نادٍ ليلي نصف مخمور ولن يتوقف أحد الراقصين للاعتراض على غياب المشروع التأويلي. من نحن لنعترض؟ ولنحمل الأغنية مشروعًا لا تتبناه ثم نحملها خيبة أمل لا تستحقها؟ لكن قبل تجاوزنا الأغنية مرَّت علينا مقابلتان. الأولى مع محمد الشاعر، مدير أعمال حسن الشافعي، يقول فيها: “عندما يعمل حسن على إصدار فني جديد، يركّز اهتمامه على تقديم عمل فني من أجل الفن، بعيدًا من نِسب المشاهدة ومدى تقبّل الناس (…) اخترنا الأبيات وفقًا للحن الذي ألّفه حسن، كما تم اختيار الأبيات الأكثر تأثيرًا ومعنىً له”، ثم يضيف مقال المقابلة أن “البعض في البداية استغرب الأغنية لأنها قُدّمت بقالب مختلف عن الأسلوب الصوفي الذي اعتدنا عليه”. المقابلة الثانية مع هاني عادل الذي قال: “عملنا على الأغنية منذ عام تقريبًا، وسادت جلسات العمل التي جمعتني دائمًا بالفنان حسن الشافعي المناقشة والارتجال إلى أن خرجنا بأفضل شكل للأغنية.”
دعونا نبدأ بعبارة “البعض في البداية استغرب الأغنية … ” من المقصود بالـ “بعض” هنا؟ هل هم مستمعو الموسيقى الصوفية العرب، والذين دخلوا كهفًا متخيلًا منذ مطلع الألفية الثانية، ولم يخرجوا منه سوى قبل أسبوعين؟ صحيح أن هناك تيارًا محافظًا، لكن أن يتم اعتبار إدراج قصيدة صوفية في أغنية تجريبًا يثير “استغراب” الناس ويجب أن ينظر إليه كمغامرة و”عمل فني من أجل الفن بعيدًا عن تقبل الناس”؟ ليس فقط أن إدراج القصائد الصوفية في الموسيقى العربية بات شبه موضة في آخر بضع سنوات، وليس فقط أن القصائد المتصوفة الطابع شهدت استعادات منتصرة في الراب على مدى العام الماضي، ولا أن المستمع العربي الذي يحيا في هذا العالم ويرى ويتابع ويتفاعل يوميًا مع ما يجري فيه ليس لديه أي سبب للـ “استغراب” من شيء بديهي وهامشي كأغنية بكلمات صوفية، لكن أن ألبومًا كـ ابن الليل (مشروع ليلى) قد دفع مستمعيه المخلصين لنشر تأويلات وتفكيكات للدلالات الميثيولوجية الإغريقية والرومانية التي قصدتها الفرقة والتي لم تقصدها، هل هذا شكل مستمع سيستغرب من، ويجد صعوبةً في تقبل، مجرد أغنية بكلمات صوفية؟
على كلٍ، المشكلة الحقيقية تقع في الاقتباس الثاني: “عملنا على الأغنية منذ عام تقريبًا (…) إلى أن خرجنا بأفضل شكل للأغنية”. ما العنصر في الأغنية الذي احتاج عامًا لإتقانه؟ نسخ الكلمات من أي موقع شعر عربي، حيث كان يجب ملاحظة الضمة على قوةُ المعطوفة على عزُ والمرفوعة مثلها “عزُ المنوع وقوةُ المستضعف”. دعكم من نسخة الإنترنت، لماذا لا يلتزم هاني بالكلمات المشكَّلة التي تظهر في الفيديو؟ لماذا يلفظ إنسانِ بفتح النون الأخيرة؟ هل احتاج الموضوع عامًا للعمل على مخارج الحروف التي لا تغور إلى الحد اللازم في الحلق لتتم وتتقن لفظ الأحرف الحلقية كالقاف والعين والغين؟ للخروج بالموسيقى الإيقاعية الإلكترونية الراقصة الممزوجة بالكمان، والتي أتقنها البوب العربي منذ عقد؟ أم لمزج الأغنية الذي يبدو كغسَّالة، تدور فيه الطبقات الصوتية وتتشقلب فلا تعرف سماع الأغنية سوى إذا خفضت الصوت ورفعت البايس وتنازلت عن كل ما تبقى؟ ربما لزم سنة لـ “اختيار الأبيات الأكثر تأثيرًا ومعنىً له (حسن الشافعي)”، تلك الأبيات التي من فرط تأثيرها ومعناها يتم غناء ستة أشطر منها فيما يقل عن نصف دقيقة. أو ربما احتاج الموضوع عامًا لتصوير فيديو الأغنية، والذي يقدم محاكاة سطحية للكلمات من قبيل مزاوجة بيت “لو أن روحي في يدي” بمشهد عن يد عملاقة تلتقط شخص يسقط من حفرة.
ولقد أقولُ لِمن تَحَرّشَ بالهَوَى / عرَّضتَ نفسكَ للبلا فاستهدفِ
يقول ابن الفارض في فائيته التي يبدو أن هاني عادل وحسن الشافعي لم يكملا قراءتها. اكتفيا بـ “قلبي يحدثني بأنك متلفي” وأخذا شطر البيت بشكلٍ شخصي: فهِما أن هذه رسالة القصيدة لهما فأتلفاها. مشكلتنا ليست مع النتيجة التالفة، مثلها آلاف، لكن مع استغباء المستمع عبر سردية عن أغنية استغرقت سنة وفضّلت الفن لأجل الفن فتنازلت عن اهتمام المستمعين المستغربين، مع تحرش الهوى الذي نبّه إليه ابن الفارض، والبلاء الذي يستحق الشافعي وعادل التعرض إليه.