.
ماذا تعني الموسيقى بالنسبة لك؟ لو سألتَ هذا السؤالَ لمائة شخص ممن تقابلهم في حياتك اليومية، لوجدت أن الإجابة، بنسبة مائة بالمائة تقريبًا هي أن الموسيقَى فَن؛ ولو سألتَه لمختص في الموسيقَى، لما وجدت الإجابة تختلف عن ذلك غالبًا. كذلك لو وجهت السؤال إلى مختص في فلسفة العصر الوسيط، لقال لكَ إن الموسيقى فرع من العلوم الرياضية الأربعة عند المسلمين والمسيحيين في العصور الوسطى: الأرثماطيقَى (الحساب)، الجيومطريقا (الهندسة)، والهيئة (الفلك)، والموسيقى (علم التأليف). الموسيقى إذًا فن، وعلم؛ وهي عند المختص بتاريخ العلوم في العصور الوسطى كما رأينا علم التأليف بما هو علم رياضي؛ أيْ “أشكال التوفيق بين الأشكال”، بالعبارة الأكثر تعميمًا وتجريدًا، وبعبارة أخرى هي كعلم رياضي تبحث في طرق تأليف الشيء مع الشيء بشكل عام، وعلى مستوًى مجرَّد.
لكنك على أية حال لن تحصل إلا نادرًا جدًا على إجابة تقول: إن الموسيقى ديانة، أو جزء من ديانة، أو طقس في ديانة، أو موجود ميتافيزيقي، فوق طبيعي، مجرَّد، فوق الزمان والمكان. هذه الإجابة النادرة هي موضوع المقالة الحالية؛ وقد تعرضنا في مقالة سابقة هي الموسيقى بين التدجين والتوثين إلى هذه الفرضية. لكن المقالة المذكورة كانت تعرض لموقف الفلسفات والديانات من الموسيقى من حيث استراتيجية السيطرة عليها لخدمة أهداف دينية أو أيديولوجية، وبالتالي لم تتوسع في التفصيل. في تلك المقالة أوضحنا أن الديانة الوحيدة تقريبًا، من الديانات الحية اليوم، والتي وصلت بالموسيقى إلى درجة التوثين هي الديانة الهندوسية، وأن الفلسفة، التي اعترفت بالموسيقى كموجود ميتافيزيقي، موجود حقيقي، لكنه معزول عنّا بسبب تقيدنا بحدود الزمان والمكان، هي فلسفة شوبنهور، والتي يعدها البعض “ميتافيزيقا الموسيقى” بالألف واللام مثلًا سعيد توفيق: ميتافيزيقا الفن عند شوبنهور، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط١، ١٩٨٣، ص ٢٤٣-٢٤٥.. ذكرنا آنذاك مدى تأثر شوبنهور بالأوبانشياد وبالهندوسية بشكل عام.
بيد أن حتى التوسع في موضوع فلسفة الموسيقى عند الهندوس يظل محدودًا، مقارنةً بالمدى الذي يمكن أن يصل البحث إليه في هذه الفرضية. لم يُقر الإسلام مثلًا بالموسيقى كموجود ميتافيزيقي، ولا كطقس، ولا كأي جانب أصيل من الديانة، لكنه أكّد على أهمية الصوت في الخَلق: “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” – سورة يس؛ وأكد كذلك أن المسيح نفسه كلمة من الله: “إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ” – سورة النساء. المثير في الآية الأخيرة أنها، رغم ما تتعرض له من الخلاف اللاهوتي الأساسي بين الديانتين المسيحية والإسلام في طبيعة المسيح، توافق في جانب آخَر العقيدةَ المسيحية المعتمَدة، والقائلة – في إنجيل يوحنا – بتجسُّد الكلمة: “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا.”
يتفق كل من الديانتين في كون الخلق يتم بالكلمة، بالصوت؛ وهو ما لاحظه حتى الباحثون غير المسلمين. يرى فريدريك داني مثلًا أن ارتباط الخلق بالكلام مشترك، ومتفق عليه، في كل الديانات الإبراهيمية؛ فالله مسموع في العهد القديم بالنسبة لموسى النبي، وهي النقطة التي التقطها فيلون السكندري (ت ٥٠ م) ببراعة، كما سنتطرق لاحقًا، وقد تحول المسيح من كلمة (لوجوس) إلى جسد في الإنجيل، وهو في القرآن كلمة من الله صراحةً، كما أن الله يخلق بالكلام في القرآن أيضًا. يمكننا ضرب المثل بالآية السابقة من سورة يس، وبقراءة القرآن المنغمة، التي هي في الأصل ارتجالات غير موقعة على المقامات العربية، وبمزامير داوود. Danny, M. Fredrick, in his introduction to: Guy Beck, Sonic Theology: Hinduism and Sacred Sound, Motilal Banarsidass Publishers, Delhi, 1995. p. IX.
في المقابل يرى محمد عابد الجابري، فيلسوف المغرب، أن الوحي الإبراهيمي قد مر بثلاث لحظات: لحظة كونه مسموعًا في اليهودية، ولحظة كونه مرئيًا في المسيحية، ولحظة كونه مقروءًا في الإسلام. محمد عابد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط١، ٢٠٠٦، ص ١٣٧-١٤٠. لا يخفى علينا أن الجابري يتفق مع جوهر الأطروحة؛ ففي اليهودية الوحي صوت الله، وفي المسيحية هو تجسد لصوت الله، وفي الإسلام هو قراءة لصوت الله. لا يفتنا في هذا المقام كذلك أن نذكُر الدلالةَ الرمزية للحروف المقطعة في تسع وعشرين سورة من القرآن، منها سورة يس نفسها بالمناسبة، وهي غير قابلة للتفسير حتى الآن اعتمادًا على المنهج الروائي، أو اللساني؛ فالروايات تختلف بصددها، أما البحث اللساني فلا يصل فيها لشيء، لأنها ليست كلمات. من التفاسير الممكنة لها أنها حروف الخَلق، أو أصواته؛ وقد أوقفنا بحثًا في التفسير حول هذه الإشكالية. اللا مفسر القرآني - هل بالقرآن ما لا يمكن تفسيره أصلًا؟ مجلة تأويليات، العدد الرابع، صيف ٢٠٢٠، ص ١٢٨-١٥٧.
حين نتطرق فيما يلي إلى فلسفة الموسيقى الهندوسية، سنجد تشابهات بينها وبين فلسفة كل من فيثاغورَس وفيلون السكندري وأفلوطين، بالذات، لكنها مجرّد تشابهات، وإن كانت قد تغري بعض الباحثين بالربط السطحي بين كل تلك الخطوط. لكنها خطوط متوازية، لا تلتقي في النهاية كما سنرى.
من أهم أوجه التشابه أن الموسيقى عند الهندوس نظام كوني، وهو ما قد يلتقي بقول فيثاغورَس الشهير “السماء عدد ونغم” Aristotle, Metaphysics, trans. by W. D. Ross, Random House, New York, 1941, Book I, p. 698.، وما قد يلتقي كذلك مع ربط فيلون بين الطبيعة وبين الموسيقى، وحرصه على إيجاد تشابهات بين النغمات السبع للسلم الموسيقي، والأيام السبعة، حين استراح الرب في اليوم السابع مثلًا، هذا من جهة فيثاغورَس وفيلون. أما من جهة أفلوطين فسنجد أن الأخير قد اعتبر الموسيقى الخطوة الأولى للترقي إلى العالم العلوي، عالم المعقول، طبقًا لحيثيات معينة، وهي فكرة مشتركة مع الهندوسية. لكن كل ذلك لا يعدو كونه تشابهًا سطحيًا، وفيما يلي سنحاول البرهنة على ذلك، ما يكشف عن أصالة الأطروحة الهندوسية في موضوعنا، وعن أهميتها، وماهيتها.
ازدهرت الفيثاغورية بشكل عام كمدرسة فلسفية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، ويرى أغلب الباحثين أن أفلاطون استفاد منها استفادة هائلة، حتى ليقال إنه هو نفسه فيثاغورية محدَثَة. Gene H. Anderson, ’Pythagoras and the Origin of Music Theory’, Indiana Theory Review, Vol. 6, No. 3 (Spring, 1983), pp. 35-61. أهمية الفيثاغورية في كل سلك الفلسفة الإغريقية الثريّ أنها منحتْ الموسيقى موضعًا متميزًا، حتى يمكن القول إن الفلسفة الغربية لم تتمحور قط حول الموسيقى بعد فيثاغورَس إلى هذه الدرجة إلا عند شوبنهور في القرن التاسع عشر الميلادي؛ ورغم أنها اندمجت مع فلسفة أفلاطون لزمن طويل، فقد أعيد الاهتمام بها بشكل جذري، أي بفصلها عن تعاليم أفلاطون، بدايةً من عصر النهضة، بسبب تطور العلم الطبيعي، واستقرار المنهج التجريبي. المصدر السابق.
لقد بُنيَ العلم الطبيعي على أساس تكميم الطبيعة، أي دراستها من حيث هي كمّ، وهو أساس اللغة الرياضية في الفيزياء، وأساس الكميات الفيزيائية، التي لا يمكن تعلم الفيزياء اليوم إلا بالبدء بها؛ وهو ما حدا بألفرد نورث وايتهد إلى القول بأن فيثاغورَس وأفلاطون في الحقيقة أقرب إلى العلم الحديث من أرسطو، عكس النظرة الشائعة. Alfred North Whitehead, Science and the Modern World, A Pelican Mentor Book, 1997, p 30. لكنه – وايتهد – كعادته يشطح إلى القول بأن اللاهوت المسيحي نفسه في العصر الوسيط مؤسس على الفيثاغورية، وأن تأثير الفيثاغورية امتدّ حتى هيجل في موضوع تخارجات الفكرة (Entäußerungen)؛ المصدر السابق، ص ٢٧. وهو إسراف في تتبع التشابهات، التي ستظل مجرد تشابهات.
أهم ما تميز به فيثاغورَس في الموسيقى عمومًا هو “اختراعه” للمقامين الكبير والصغير، وذلك باكتشاف النِّسَب الرياضية بين النغمات وطول الأوتار؛ وهي أطروحة تقليدية راسخة في الفلسفة، وفي علم الموسيقى، وإنْ حاول بعض الباحثين، مثل جين أندرسون، تفنيدها اعتمادًا على النقد التاريخي للنصوص. Gene H. Anderson, ’Pythagoras and the Origin of Music Theory’, Indiana Theory Review, Vol. 6, No. 3 (Spring, 1983), pp. 35-61. هذا الاكتشاف المنسوب لفيثاغورَس هو أقوى مساهمة له في تاريخ الموسيقى. قد نختلف على كل ما أنجزه في مجال فلسفة الموسيقى، فهي فلسفة أولًا وأخيرًا، لكنْ لا يمكن أن نختلف على هذا الاكتشاف، إذا ما صحّت نسبته إليه. بيد أن الحديث التقليدي عن فيثاغورَس، وكأنه كان أوحد عصره، قد يبدو مصدر هذه المبالغة.
لقد عاصرت الفيثاغورية مدارس موسيقية أخرى، كل منها حاولت التوصل إلى أسس الهارمونية في الموسيقى بطرق مختلفة؛ ورغم أن الفيثاغورية كانت مدرسة كبيرة فعلًا في الموسيقى بما هي علم، وبما هي فلسفة، فإنها لم تتربع على ذلك العرش وحدها، وإنما قاسمتْها في التأثير والانتشار مدارس أخرى، مثل: أرسطوكْزينوس ولاسوس الهرميوني وإبيجونوس، وستراتونيكوس وإيراتوكْليس وأجينور، وفيثاغورَس الزاسِنْثي ودامون Walter Burkert, Edwin L. Minar Jr., Lore and Science in Ancient Pythagoreanism, Harvard University Press (1972), pp. 371-372.. لكن وسط كل هذه المدارس لمعت مدرسة أرسطوكزينوس فيما يخص أبعاد المقام؛ إذ حاولت التوصل إليها عن طريق تجريبي، بخلاف طريق فيثاغورَس الاستنباطي-الرياضي البحت. ربما ما قلل من شهرة أرسطوكزينوس أن أفلاطون في الجمهورية انتقدها، ووجد أنها لا تستحق المناقشة؛ لأنها تجريبية. في ذلك العصر، حيث كانت أدوات التجريب بدائية جدًا، كان للاستنباط الأولوية على الاستقراء.
يرى بعض الباحثين على أية حال أن سبب اهتمام أفلاطون بفلسفة فيثاغورَس لم يكن موسيقيًا في الأساس، بل كان السبب أن فيثاغورَس حاول بناء العالم المحسوس على أساس العقل وحده، ما وافق ميولَ أفلاطون لبناء عالم فوق-حسّي خلف عالمنا المشهود. المصدر السابق، ص ٣٨٣. أما موقف أرسطو فكان على العكس من موقف أفلاطون. من المثير أن نتتبع التشابهات بين أفلاطون وأرسطو في فلسفة الموسيقى، في جمهورية أفلاطون، وسياسات أرسطو، ثم نقرأ الخلافات الجذرية بينهما فيما يتعلق بفيثاغورَس. فبينما اعتمدَ أفلاطونُ نظريةَ فيثاغورَس تمامًا، وربما أقام عليها فكرته في “عالم المثُل”، التي هي نظريته الأساسية، فقد رفض أرسطو فلسفة فيثاغورَس في الموسيقى جذريًا في ما بعد الطبيعة، وكان أساس رفضه أن فلسفة فيثاغورَس لا تفسر كيفية نشوء العالم المحسوس عن النسب الرياضية الموسيقية، وقال نصًا أن الفيثاغوريين: “يبدون وكأنهم يتحدثون عن كون آخَر، لا العالم الذي نعيش فيه.” Metaphysics, 1090a30.
يفسر أرسطو – إلى حد أبعد من مجرد النقد – كيف توصل فيثاغورَس إلى تلك النظرية “الغريبة” في العلاقة بين الموسيقى والطبيعة: “إن الفيثاغوريين؛ لأنهم وجدوا العديد من خواص الأرقام في المحسوسات، افترضوا أن المحسوسات أرقام […] وكانت حجتهم أن الخواص العددية كامنة أصلًا في السلم الموسيقيّ، والأفلاك، وغيرها من الكثير من الأشياء.” Metaphysics, N1090a20. أي أن كل فلسفة فيثاغورَس في الموسيقى قائمة على افتراض، وإدراك التشابه؛ ومن المعروف أن الفرض لا يعني الحقيقةَ، وأن مجرد التشابه لا يعني التفسير.
لكن من العدل كذلك أن نحاول تفسير كيف اعتقد الفيثاغوريون بحق أن الموسيقى أساس الكون؟ ولماذا؟ لا يعني فيثاغورَس بالعدد في مأثورته الأيقونية السماء عدد ونغم العددَ كما نفهمه، بل الشكل الهندسي الناجم من العدد؛ فتعني النقطتان خطًا، والثلاثة مساحة (مثلثًا)، والأربع مكعَّبًا، وهكذا. Heninger, S. K., Touches of Sweet Harmony: Pythagorean Mythology and Renaissance Poetics, Huntington Library Pr; 1st Edition (June 1, 1974), p. 71. لأن هذه النسب الهندسية نفسها دائمة، غير متحولة، ولا نعرف زمنًا محددًا لنشأتها، ولا مكانًا معينًا لمصدرها، ولأننا لا يمكن لنا تفسير الطبيعة بالطبيعة نفسها، وأننا نميل في الأصل إلى افتراض صدور الطبيعة – إذا كان لها مصدر – من منشأ فوق-طبيعي، فإن هذه النسب الهندسية، حين تكتسب حركتها، وتصير ديناميكية متحولة في الموسيقى، هي المصدر الممكن السرمدي، فوق-الطبيعي القابل للتعقل، لهذا الكون. المصدر السابق، ص ٨٤.
بناءً على النسب السابقة اعتقد الفيثاغوريون أن رقم عشرة هو أكمل الأرقام، ومجموع نسب هذا الكون: فالنقطة تمثَّل بواحد، والخط يمثل بنقطتين، والمساحة تمثّل بثلاث نقاط على الأقل، والحجم يمثله رقم أربعة، ومجموع ١+٢+٣+٤ = ١٠؛ وهو المعروف فلسفيًا بالـ ديكاد، العِقد، أو العشرة. يمثل الديكاد عند الفيثاغوريين حدود الكون المرئي، لأنه مجموع النقطة، والخط، والمساحة، والحجم ثلاثي الأبعاد؛ وكونُنا – في الفيزياء القديمة حيث كان الزمان منفصلًا عن المكان – لا يتعدى الأبعاد الثلاثة. المصدر السابق.
أشدّ ما مثل نقطة قوة في الفرضية السابقة هي أنها تحل لغزًا قديمًا من ألغاز الفلسفة والفيزياء، هو سؤال: كيف صدر كل هذا التنوع الطبيعي من أصل واحد؟ إن هذه النظرية، على صوريتها المتطرفة، تفسر لنا مع ذلك كيف ينشأ الكون كله، بأبعاده الثلاثة في الفيزياء القديمة، من نقطة واحدة، وببراعة؛ المصدر السابق. وهو لغز لم يستطع الفلاسفة الإجابة عنه لفترة طويلة، حتى القرن الثالث الميلادي، عصر أفلوطين، إلا بالاستعانة بفيثاغورَس ونظريته في الموسيقى. ما يعني أن الموسيقى كانت هي الإجابة الوحيدة تقريبًا طيلة هذه القرون – منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الثالث الميلادي – عن هذا السؤال الفيزيائي أصلًا.
لْنلاحظ أنَّ النسب الهندسية وحدها لا تفسر لدى فيثاغورَس نشأة العالم، لكنها تفعل هذا فقط في حالة تصورها في وضع ديناميكي، فالكون متحرك، متغير، غير ثابت، والموسيقى في أحد تعريفاتها، كما سنجد عند إدوارد هانسلِك (+ ١٩٠٤ م) بعد ذلك بأكثر من ألفي عام، هندسة متحركة. Hanslick, Eduard, Vom musikalischen Schönen- Ein Beitrag zur Revision der Ästhetik der Tonkunst, Druck und Verlag von Breitkopf & Hartel, 13.-16. Auflage, Leipzig, 1922, S. 29. بسبب ما يترتب على نظرية فيثاغورَس المذكورة من صدور الكثرة عن الواحد اعتقدَ البعضُ أنه مؤسس فكرة التوحيد الديني في اليونان القديمة، بل ربطه البعض بالعقيدة اليهودية في التوحيد إلى درجة أن القديس أمبروز ظنَّ أنَّ فيثاغورَس مولود لأب يهودي. Heninger, p. 201. ومقولة القديس أمبروز مشكوك في نسبتها إليه على كل حال.
لكنْ – من وجهة نظري – حتى لو وافقنا فيثاغورَس، وخالفنا أرسطو، واتفقنا على أن الماديات يمكن لها أن تنشأ بشكل ما عن النسب الهندسية الموصوفة أعلاه، فإن هذه النسب نفسها لا تتكون بشكل تلقائي. مثلًا، لا تفسر لنا نظرية فيثاغورَس كيف ينشأ الخط عن نقطتين، ولا المساحة عن ثلاث نقاط (مثلث)؛ فالخط ليس نقطتين في تعريفه، بل هو الواصل بينهما. أيضًا، من الممكن أن تتواجد نقطتان في الفراغ دون أية صلة، وهو ما ينطبق على المساحة والحجم كذلك. بالتالي فإن هذه النظرية لم تكن في الأصل نظرية متماسكة منطقيًا، ولا – بالطبع – تجريبيًا، وإنما كانت عند الفيثاغوريين أقرب لعقيدة منها لفلسفة عقلية أو علمية.
حتى أفلاطون لم ينسخ نظرية فيثاغورس كما هي، بل دمجها في نسق أكبر وأعقد، هو نظرية المثُل. بيد أنها، حين نعتبرها أقرب لعقيدة دينية، تقترب أكثر من الهندوسية، التي هي عقيدة دينية صريحة. يكمن الفارقَ في أن فيثاغورَس اعتبر الموسيقى نظامًا هندسيًا في الأساس، أما الهندوس فيعتقدون أن الموسيقى نظام صوتي على نحو جوهري. بالتطبيق، قد تعتبر سيمفونية لموتسارت مثلًا، بما فيها من كمال هندسي، أقرب لهندسة العالم عند فيثاغورَس، لكنها لن تعتبر كذلك عند الهندوس؛ فالهندوس كما سنرى بالتفصيل لا يؤمنون بالموسيقى بما هي نظام، بل بما هي صوت الآلهة نفسها.
سيمفونية لموتسارت – بالنسبة للهندوس – أقرب إلى الإشارة منها إلى الكلام، أقرب إلى حالة الخرس، رغم ما يعترف الكل به لموتسارت من بلاغة. السبب في ذلك أن المقام الصغير (صول الصغير)، الذي يستعمله موتسارت في هذا العمل، يعد بالنسبة للهندوس غير قادر على التعبير بدقة، ونعومة، عن تنوع أصوات اللاهوت؛ لأنه لا يقسم النغمة سوى إلى نصفين (اختراع فيثاغورَس)، أما الهندوس فيزيدون في التقسيم حتى ثُمْن النغمة؛ لمزيد من الدقة والرهافة في التعبير. عندئذٍ يمكن القول إن نظرية الهندوس في الموسيقى أقرب في الحقيقة إلى الكلمة في الديانات الإبراهيمية، وإلى فيلون السكندري من فيثاغورَس، وهو ما يدفعنا إلى محاولة فك هذا الاشتباك الثاني.
في الواقع لم يخصص فيلون السكندري، أحد أهم أعمدة مدرسة الإسكندرية الفلسفية في العصر الهللينستي الهللينستية أي الفلسفة بعد أرسطو وحتى بداية العصر الوسيط في القرن الرابع الميلادي، وتقابلها الهللينية، وهي الفلسفة الإغريقية التي تنتهي بأرسطو.، مؤلفًا منفصلًا موقوفًا على الموسيقى، غير أن الباحثين فيه يستقونها من أعماله المتنوعة. Louis H. Feldman, Studies in Hellenistic Judaism, Brill Academic Publishers; 1993, p. 504. رأى بعض الباحثين في تلك الأعمال تأثرًا بالفيثاغورية، وبالتالي يترتب على قولهم أن فيلون كان متأثرًا في فلسفته الموسيقية بالإغريق، خاصة بالفيثاغوريين وأفلاطون، أكثر من الدين اليهودي نفسه. David T. Runia, Helena Maria Keizer (Editors), Philo of Alexandria: An Annotated Bibliography, 1987-1996, Brill Academic Publishers; 2000, p. 36. لكن يبدو أن ذلك الرأي بُنِيَ على انحياز للفلسفة الإغريقية، أو عن عدم إلمام بالديانات الإبراهيمية، التي تبدأ الخلقَ بالكلمة كما ذكرنا؛ فلا حاجة لفيلون بفلسفة فيثاغورَس أو أفلاطون، وهو أصلًا يهودي، يدين بديانة صوت الله المسموع في الأرض.
على أية حال قدّم فيلون نوعًا من المزج بين فلسفة الموسيقى القديمة، والمعاصرة له، وبين تأويله للتوراة. Louis H. Feldman, p. 504. لكن ذلك فيما يبدو كان نوعًا من مساوقة العصر، أكثر منه استلهامًا لفكرة أصيلة. السبب كما أوضحنا أن الوحي اليهودي نفسه مبنيّ على فكرة أن الصوت الإلهي مسموع صراحةً وحرفيًا في العالم، وأن موسى قد استمع إليه بأذنيه؛ وهو ما يغني عن اقتباس أصول فيثاغورَس الغامضة، المفككة.
ربط فيلون بين العالمين الأرضي والإلهي من جهة وبين الموسيقى من جهة أخرى، باعتبار الموسيقى ذات أصل مقدس بشكل ما، وذلك عن طريق الكثير من التأويلات التبادلية بين الموسيقى وهذين العالمين، بل بين الموسيقى والتوراة كذلك. مثلًا، يتحدث عن قداسة الرقم ٧ في كل من التوراة، حيث استراح الرب في اليوم السابع: يوم السبت، وبين النغمات السبع الأساسية للسلم الموسيقي. Siegmund Levarie, Philo on Music, The Journal of Musicology, Vol. 9, No. 1 (Winter, 1991), p. 125. السماء عند فيلون أوركسترا من الآلات والعازفين والمايسترو الإلهي، المصدر السابق، ص ٥١٣. والحلق البشري مخلوق على هيئة المزامير، بينما تشبه الأذن في دوائرها المتداخلة بنية المسارح المدرَّجة. Siegmund Levarie, p. 127.
في مقابل هذه التأويلات الموسيقية للسماء والأرض والإنسان، يمارس فيلون تأويلًا عكسيًا للموسيقى من خلال الدين والأخلاق؛ فيستعمل النصوص الدينية والنظريات الأخلاقية لإعادة فهم الموسيقى بشكل عام، مثلما يُؤول الهارمونية في الموسيقى بالانسجام الخُلقي، المصدر السابق. ومثلما يعيد فهم الهارمونية طبقًا للشريعة التي نظمت لليهود طعامهم وشرابهم دون إسراف أو فوضى. Louis H. Feldman, p. 512. وصل فيلون بتأويله إلى حد أنه اعتبر الموسيقى من أوائل المخلوقات؛ حين بحث الإلهُ عمن يحمده بعد أن خلق كل العناصر، فخلق الموسيقى لتثني عليه. Louis H. Feldman, p. 509.
يلاحظ بعض الباحثين بحق كيف أن في العهد القديم أصلًا استعدادًا لهذه التأويلات اللاهوتية / الموسيقية التبادلية؛ فالإله في العهد القديم صوت مسموع بشكل أساسي، أما في العهد الجديد فهو جسد مرئي، Siegmund Levarie, p. 125. ما منح فيلون مساحة يحسد عليها من إمكانية التأويل الموسيقيّ للدين والعكس. بالرغم من ذلك، ربط فيلون بين الموسيقى وبين النظريات الشائعة في عصره للأخلاق، ما يعني أن الموسيقى لديه – حتى وإن لم يصرح بهذا – قد تكون محكومة بمعايير أخلاقية ينبغي ألا تتجاوزها؛ ولو كان يعتبر الموسيقى حقًا حلقة وسطى بين السماء والأرض، لما خضعت لديه لأحكام أخلاقية بالبداهة. مما يدل على هذا تطبيقيًا أن فيلون رفع الغناء على الموسيقى الخالصة؛ لأنه أقدر على التعبير عن المعنى المركّب. Jutta Leonhardt, Jewish Worship in Philo of Alexandria, Mohr Siebeck, 2001, p. 159.
يعني كل ذلك أن فيلون لم يقدم إلا تأويلًا للموسيقى من خلال اللاهوت، وتأويلًا للاهوت من خلال الموسيقى، وكل من التأويلين: اللاهوتي، والموسيقيّ، يختلف عن اللاهوت الموسيقي، الذي فيه تتوثَّنُ الموسيقى، لتصير صوتًا إلهيًا مسموعًا في العالم.
كما سنرى، إن الموسيقى عند الهندوس حلقة صلة بين الوجود والعدم، أداة خلق، لوجوس، وبالتالي هي مقدسة في ذاتها، ويستحيل أن نحكم – نحن البشر الفانين – عليها بأحكام أخلاقية أو تربوية؛ وبينما تتشابه الموسيقى من حيث هي صوت مع صوت يَهْوا المسموع عند فيلون، فإنها من حيث قواعدها ونظامها الرياضي أحد تجليات البراهما، خالق الكون عند الهندوس.
البروتون πρῶτον = prôton باليونانية تعني الواحد، وهي التسمية التي أطلقها رذرفورد عام ١٩٢٠ على نواة الهيدروجين، المكونة من بروتون وحيد؛ وهي التسمية نفسها التي أطلقها أفلوطين في القرن الثالث الميلادي على الواحد المتجانِس اللا نهائي، الذي منه “فاض” العالَم. باختصار شديد يناسب غير المختص يعتقد أفلوطين أن عالمنا الأرضي فاضَ عن الإله، دون أن يقصد الإله خلقه، بل انسكب منه حين فاض وجوده عن حدوده، وهي المعروفة بنظرية الفيض (Fluxus)، أو الصُّدور (Emanation). السبب في فكرة الفيض، أن أغلب الفلاسفة القدماء، وفي العصر الوسيط، بما يشمل حتى كل الفلاسفة المسلمين، ما عدا الكندي، اعتقدوا أن الإله لو أراد خلق العالم بقصد منه، لدل ذلك على تغيرٍ ما حدث في لحظة ما في طبيعته، وما هو متغير – في عرفهم – لا يمكن أن يكون أزليًا أبديًا.
اغترب الإنسان بحسب أفلوطين في هذا العالم الدنيوي، لكنه يستطيع التواصل مع الإله عن طريق التصوف العملي والتأمل والزهد، فيسير الإنسان في طريق الفيض معكوسًا، من المخلوق إلى الخالق، حتى يصل إلى الفناء في الذات الإلهية، وهي – فكرة الفناء – الغاية النهائية للتصوف في كل الحضارات عمومًا. إن الموسيقى عند أفلوطين مِن طرُق الفيض العكسية الموصلة إلى الكائن الأسمَى؛ بناءً على قدرتها على تحقيق حالة تأملية-جمالية صافية. لكنها ليست الطريق الوحيد.
يعتقد أفلوطين أن هناك ثلاثة طرق مؤدية للواحد (الإله)، هي: الموسيقى (Mousikos)، والحب (Erotikos)، والفلسفة (Philosophos) Plotinus, The Enneads, translated by Stephen MacKenna, Faber and Faber Limited, London, 1956., Enn. I.3 (20).. رتّبَ أفلوطين هذه الطرق على هيئة خطوات، تفضي الدنيا منها إلى العليا، بالترتيب السابق؛ ما يعني أن الموسيقى لدى أفلوطين هي الخطوة الأولى، والخطوة الدنيا كذلك. Alexandra Michalewski, ’Plotinus on Music, Rhythm, and Harmony’, Music and Philosophy in the Roman Empire, Cambridge University Press, Edited by Francesco Pelosi, and Federico M. Petrucci, 2020, p. 179. ما يزيد الأمر تعقيدًا أن أفلوطين – في التاسوعة السادسة – يميز بين نوعين / درجتين من الموسيقى: حسية، وعقلية؛ فبينما تنتمي الموسيقى الحسية إلى عالمنا المادي، فإن الموسيقى العقلية (musica intellectualis) أقرب إلى العالم المعقول. Plotinus, Enn. VI.3(44).16.13–32. الفرق بين النوعين هو أن الموسيقى الحسية تكتفي بإمتاع الحاسة، أما العقلية فتعتمد على التناسب الرياضي بالدرجة الأولى، وتمتع العقل؛ وإمتاع العقل، برغم كونه متعة، هو أول الطريق إلى الواحد. Alexandra Michalewski, p. 180.
يتبع أفلوطين التصنيف التقليدي المتعارف عليه لعناصر الموسيقى: النغم، والهارموني، والإيقاع، وعلى العكس من أفلاطون، فهو لا يولّي النغم، اللحن، والمقام، أهمية كبرى؛ ذلك أنه لم يكن ينظر للموسيقى نظرة الفيلسوف التربوي كأفلاطون أو أرسطو. لقد نظر كل من أفلاطون وأرسطو إلى الموسيقى من جهة دورها الاجتماعي، أما أفلوطين فقد نظر إليها من جهة دورها النفسي. ربما كان هذا هو الفارق الرئيس، الذي بسببه تباينت فلسفة الأخير عن فلسفة أفلاطون وأرسطو تباينًا واضحًا. النغم هو العنصر المضموني في الموسيقى، هو أقرب عناصرها إلى الشعر، لأن النغم “يقول شيئًا”، يمكنه أن يكون حزينًا، أو فرِحًا، أو مخيفًا، أما كل من الإيقاع والهارموني فليس لهما من المحتوى الشعوري ما يؤهلهما للاستقلال بالتعبير.
يمكن مثلًا تأليف موسيقى لا-إيقاعية، كالتي قدمها آرام خاتشاتوريان مثلًا (+١٩٧٨)، كما يمكن تقديم موسيقى مونوفونية تخلو من الهارموني. لكن لا يمكن أن نتصور إيقاعًا صرفًا معبرًا، أو ضربات هارمونية على البيانو بلا لحن، بحيث يمكن توصيل شعور ما من خلال أيهما؛ وبما أن النغم عنصر مضموني فقد ركزت عليه فلسفة التربية عند أفلاطون وأرسطو، لأن التحكم في النغم يؤدي إلى التحكم في المضمون الواصل إلى المستمع.
لا يخدم اللحن الراقص مثلًا هدف تحقيق الانضباط الذاتي، وإعداد الطفل أو الشاب لتولي المسئوليات، في حين يخدم اللحن التراجيدي البطولي ذلك؛ ونظرًا لأن أفلوطين لم يقم أساس فلسفته في الموسيقى على أصل تربوي معين، بل على أصل ميتافيزيقي-صوفي، لم تكن للنغم لديه أهمية بالمقارنة. في المقابل – وهو الأهم – فإن أفلوطين اهتم اهتمامًا بالغًا بالإيقاع والهارموني لما لهما من دور في تصور الطبيعة وما بعدها.
إيقاع الموسيقى عند أفلوطين هو الطاقة الإنتاجية للعالم المعقول في عالمنا المحسوس. إنه نفسه آلية إنتاج المحسوسات من المعقولات. بعبارة أقرب لفهم غير المختص: هو طريقة خَلق العالم المادي من الله غير المادي. هذا لأن الإيقاع نظام حركي، لا مجرد نظام هندسي ثبوتي؛ وهو ما يكشف عن الطبيعة الديناميكية في فلسفة أفلوطين للطبيعة وما بعدها، فهما على اتصال دائم، وهذا الاتصال يتم بحركة مجردة، لا متحرك فيها. ما هو حركة مجردة بلا متحرك هو الإيقاع ذاته، حين نتصوره بمعزل عن آلة موسيقية معينة.
كما رأى بعض الباحثين أن أفلوطين يقوم بعملية نزع رياضيات (Demathematization) بالنسبة لفلسفة أفلاطون. أي أنه نزَعَ العنصرَ الرياضي من الموسيقى، الذي أكد عليه أفلاطون. Alexandra Michalewski, p. 179. لكن – وكما نرى – لا يوجد أثر واضح لعملية نزع الرياضيات، فالإيقاع لا بد أن يقوم على معادلة رياضية معينة، خاصة بكل إيقاع، لكن الفرق بينه وبين الرياضيات أنه رياضيات متحركة، لا يمكن فهمها أو تصورها إلا مع إضافة محور الزمان.
أما الهارموني فمن الطبيعي أن يحتل مكانة عالية في الأهمية كذلك في نسق أفلوطين؛ وذلك لأنه يحل اللغز سابق الذكر، الذي حير العلماء والفلاسفة لقرون طويلة، لغز نشوء الكثرة عن الواحد، والتنوع عن التجانس. المفترض بالإله أن يكون جوهرًا بسيطًا، لا يجري عليه التحول، ولا يتركب من أجزاء، وإلا ما كان سرمديًا، فكيف نشأ عنه التغير، والموت، والصيرورة؟ يرى أفلوطين أن الموسيقى تجيب عن هذا السؤال، لكن ليس على النحو الفيثاغوري، المعتمِد على النسب الرياضية الثابتة، الهندسية، التي تتوفر للموسيقى في أبعاد المقام، أو في العلاقة بين النغمات في الهارموني.
لكي يتضح للقارئ هذا الفارق الدقيق يجب أن ينتبه إلى أن فيثاغورَس قام بتجريد العلاقات الرياضية في المقام، وفي التآلفات، ورسم بينها علاقة هندسية، بحيث يمكن ردها جميعًا إلى عنصر واحد، هو النقطة. فكرة بالغة التجريد، وفيها من التناقض ما أشرنا إليه سالفًا، ما يجعل من العسير نوعًا تصورها. أما أفلوطين فقد نظر إلى الهارموني كما هو في علم الموسيقى: العلاقة بين النغمات حين تعزَف معًا، وكيف يصدر عدد لا نهائي من الألحان من التآلف الواحد، وهذا مثال لديه لصدور التنوع عن التجانُس، ما يدلل على إمكانية حدوث ذلك في الطبيعة وما بعدها، وبين الطبيعة وما بعدها. بالتالي كان أفلوطين أقرب لعلم الموسيقى، وأكثر وضوحًا وأوجه في الحجة.
لا يعبر الهارموني عند أفلوطين عن صدور الكثرة عن الواحد فحسب، وإنما كذلك اجتماع الكثرة لتنتج الواحدَ؛ فالنغمات المتآلفة تتحد معًا في ضربة واحدة على البيانو، ليست أيًا من أجزائها، بل هي نغمة جديدة إن جاز التعبير (والتعبير الأدق تآلُف وليس نغمة). هكذا يعبر الهارموني عن طريق صاعد وهابط، بين عالم المحسوسات المادي، وعالم المعقولات المجرد. المصدر السابق، ص ١٨٠. مع كل ذلك تحتل الموسيقى آخر رتبة بين الفنون، وبين الأنشطة البشرية الواعية عمومًا لدى أفلوطين، في ترتيبها صعودًا إلى عالم المعقولات. تبدأ هذه الأنشطة بالموسيقى في الدرجة الدنيا، وتتدرج صعودًا مرورًا بالتشكيل، ثم الشعر، ثم الهندسة، حتى تصل إلى الفلسفة، التي هي أرقى نشاط بشري في هذا الترتيب. المصدر السابق، ص ١٨٩.
ما دام أفلوطين يضع الموسيقى في مرتبة تالية للشعر، فلا جرم أنه يضع الغناء في مرتبة أعلى من موسيقى الآلات (musica instrumentalis)، أي الموسيقى الخالصة. السبب في ذلك أن الشعر أقدر على التعيين، بينما تعبر الموسيقى الخالصة عن شكل شبه بحت، وعن نظام حركي مجرد. الإنسان – عند أفلوطين – يجب أن يمر بمراحل معقدة، وعليا، في التجريد كي يصل إلى الواحد، وكي يمكن له تصوره جزئيًا؛ فإن التجريد الموسيقي ليس كالتجريد الذي يقوم به الشعر، أو تحققه الفلسفة. الفرق هو أن الموسيقى الخالصة لا تجرد شيئًا محددًا في عالمنا المادي، أما الشعر فيحدد ما يقوم بتجريده، وبالتالي يصعد من التجسيد إلى التجريد، أما الفلسفة فهي بطبيعتها تقوم بهذه المهمة بشكل مباشر، ولا تلتزم بجماليات الشعر، التي تفرض قدرًا من الحسّيّة في القصيدة. هذه الفكرة تحديدًا مشتبكة بعمق مع فلسفة الموسيقى الهندوسية.
كما سنرى، يعتقد الهندوس أن الغناء أقرب إلى التعبير عن صوت الآلهة من الموسيقى الخالصة. وصل بهم الأمر حد اعتبار الصوت البشري الآلة الموسيقية الكاملة، ولذلك تحصر الموسيقى الهندية نفسها في ثلاثة أوكتافات (مساحة الصوت البشري المحتملة)، وللسبب نفسه يهتمون باللحن أكثر من الهارموني. Paramhansa Yoganada, Autobiography of a Yogi, Yogoda Satsanga Society of India, 1946, pp. 206-207. سيتضح هذا بالتفصيل في الفقرات القادمة، حين نتطرق إلى مفهوم الأُوم المركزي في الديانة الهندوسية. لكن النتيجة عند هذا الحد هي أن فلسفة أفلوطين في الموسيقى هي أقرب فلسفات العصرين الهلليني والهللينستي للهندوسية في حدود التقارب الممكن. فبرغم أن الموسيقى عند أفلوطين تحتل مرتبة دنيا بين الفنون في ترتيب الفنون صعودًا إلى الواحد، بخلاف وضعية الموسيقى في الديانة الهندوسية، التي هي أقرب فيها إلى جانب أساسي من الديانة ذاتها، فإن كلًا من أفلوطين والهندوس قد اتفقا في أهمية عنصر الشعر، وتقديم الغناء على الموسيقى الخالصة.
أما الفارق في مسألة الهارموني، حيث اهتم به أفلوطين أكثر من اللحن، على عكس الهندوس، الذين قدموا اللحن على الهارموني، والذين أنتجوا بالأساس موسيقى مونوفونية لا تعتمد على تزامُن النغمات، فأعتقد أنه يرجع إلى السبب التالي: إن لاهوت أفلوطين كان في الأساس لاهوتًا توحيديًا، كل ما فيه يخدم الواحد المتربع على عرش الكون، أما لاهوت الهندوس، وبرغم وجود خالق واحد للعالم لديهم، هو البراهما، إلا أن تجلياته، كفشنو وشيفا، وتجلياتهما، تلعب هي نفسها دور الآلهة، فالهندوسية ديانة تعددية في الأساس، قد تصطدم فيها إرادات الآلهة المختلفينَ، بعكس الحال لدي أفلوطين، الذي لا يمكن أصلًا تصور مثل هذا الصدام في لاهوته. مما يدل على ذلك أيضًا أن خالق العالم لدى الهندوس، أي البراهما، له شكل: الإله ذو الأوجه الأربعة، أما خالق العالم لدى أفلوطين، الواحد، فلا يمكن تصوره بالمرة. بالتالي انشغل أفلوطين بقضية صدور الكثرة عن الواحد، فمنح الهارموني تلك الأهمية، بينما لم تكن هذه القضية على رأس القضايا الرئيسة لدى الهندوس.
بعد هذا العرض المختصَر، والذي حاولنا فيه أن نغطّي النقاط الأساسية في حدود الاشتباك، والتشابهات المزعومة مع الفلسفة اليونانية، ونعني هنا المكتوبة باللغة اليونانية لأن أفلوطين كان مصريًا، يمكن لنا فيما يلي فهم تميز فلسفة الموسيقى الهندوسية بشكل أوضح؛ ولا نقصد إبراز التميز في حد ذاته، بل إن الفهم الواضح لا يتحقق إلا بالتمييز الواضح. سنلجأ فيما يلي أيضًا للكثير من نقاط المقارنة مع تلك المذاهب محاولةً منا لحصار المعنَى قدر المستطاع.
يمكن القول إن مفهوم الأُوم هو أهم مفاهيم الهندوسية، وعنه تتفرع عدة مفاهيم أخرى مهمة. يُرسَم كما هو الشكل التالي، ولا ريب أن القارئ سيجده مألوفًا، حتى وإن لم يكن قد فهم معناه بعد.
هو عند الهندوس رمز لجوهر الحقيقة والكون، ومتكون من حيث النطق من ثلاثة مقاطع هي – بالعربية – الألف، والواو، والميم، أو بالإنجليزية O, U, M؛ وهي ترمز بدورها إلى عدة مستويات من الثالوث: ثالوث العوالم الثلاثة: الأرض والهواء والسماء، وثالوث الإنسان: الفكر والكلام والفِعْل، وثالوث حالات المادة: الخير والعاطفة والظلام، وثالوث النصوص الفيدية: رِجْ-فيدا وياجورْفيدا وسامافيدا. Guy L. Beck, ’Sacred Music and Hindu Religious Experience: From Ancient Roots to the Modern Classical Tradition’, Religions, 2019, 10, 85; doi:10.3390/rel10020085, p. 3.
ما يعنينا على الأكثر في هذه الثالوثات قمتُ بجمعها على وزن (تاسوعات)، كما في تاسوعات أفلوطين. هو النص الأخير، سامافيدا، والذي يعني حرفيًا: عِلم الأغنية، من ساما بمعنى أغنية أو ترنيمة، وفيدا بمعنى العِلم. Guy L. Beck, ’Sacred Music and Hindu Religious Experience: From Ancient Roots to the Modern Classical Tradition’, p. 3. لا يقصَد بالعلم هنا العلم النظري، أو نظرية الموسيقى مثلًا، بل العلم بمعنى المشاهدة، وهو الجذر الهندوآري نفسه، الذي منه الفعل اللاتيني vidēre الذي يعني الرؤية، المصدر السابق. والذي منه في الإنجليزية مثلًا: فيديو Video. أما الفعل المستعمل للرؤية See في الإنجليزية فهو جرماني، لا لاتيني، ويقابله في الألمانية الفعل المشتق من الجذر الجرماني نفسه Sehen. لا يفت القارئَ أن المقصود هنا بالعلم القائم على المشاهدة روحي، لا حسي ولا تجريبي. في السياق الصوفي بعامة، والهندوسي بالتبعية، المشاهدة الروحية أعلى درجة، وأقرب إلى اليقين من المشاهدة الحسية، التي قد تُخدع فيها الحواس.
وُضع السامافيدا نحو عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، ويعتقَد بين الهندوس أن ترانيمه – خاصة في الهندوسية المبكرة – لها قوة خارقة، قادرة على التواصل مع الآلهة، والتحكم في قوى الكون. كان يُعتقد أن لمثل هذه الترانيم قوة مغناطيسية تجذب الآلهةَ إلى من يترنم بها. في السامافيدا اتصل مفهوم الأُوم بالنغم منذ بكارة استعماله، حيث لا ينطَق فيه الأوم إلا منغَّمًا، إلا إذا كان همسًا غير مسموع؛ ولا يمكن تنغيمه بوليفونيًا، بل لا بد أن يكون أحادي النغم (مونوفونيًا) المصدر السابق.. من هنا كانت الموسيقى الهندية مونوفونية بالأساس، ومن هنا قلنا سابقًا إن الهندوس يهتمون باللحن أكثر من الهارموني.
النغمة المفردة عند الهندوس أقرب إلى الطبيعة القدسية من البوليفونية. كما يرتبط الأوم المنغَّم بالبراهمان. في هذا المقام لا بد أن نفرق بين البراهما، والبراهمان؛ فبينما البراهما هو خالق العالم، ويمكن تصويره في هيئة الإله رباعي الأوجه، كما هو واضح أعلاه، فإن البراهمان هو أقرب إلى روح العالم، أو “المطلَق” كما يُترجم عادةً. روحٌ يحل فيه كما يحل الروحُ في الجسد، ولا يمكن تصويره، لأنه غير متمكن، وغير متزمن، لكنه مُدرَك في كل الموجودات، من أصغرها إلى أكبرها. من هنا نفهم أن موسيقى الأوم مرتبطة بروح العالم نفسه، لا بخالقه بشكل مباشر.
على أية حال يرتبط الأوم المنغَّم بالبراهمان عبر مفهومين: شابدا-براهمان Šabda-Brahman، الذي يعني بالسنسكريتية حرفيًا: صوت المطلَق، حيث تعني شابدا الصوت. يعني المفهوم عند الهندوس صوت الروح الحالّ في العالَم، أو صوت المطلَق. أما المفهوم الآخَر والأهم فهو نادا-براهمان Nāda-Brahman، الذي يعني حرفيًا موسيقى البراهمان. الفارق بين المفهومين أن الأول يشير إلى الصوت بشكل عام، أما الثاني فيشير إلى الموسيقى صراحة.
يعني النادا-براهمان عند الهندوس: الموسيقى بما هي إله؛ فهو يعني في الأصل الإله المتجسد في هيئة موسيقى. المصدر السابق. كما نرى هذا التصور للموسيقى، وعلاقتها بالألوهة، يختلف جذريًا عن التصورات السابقة: الفيثاغورية، واليهودية، والأفلوطينية. بينما اعتقد فيثاغورَس أن الموسيقى “خطة” بناء العالَم على النحو الرياضي-الديناميكي، واعتقد فيلون السكندري أن الموسيقى “تناظر” في بنيانها بناء العالم، وقال أفلوطين إن الموسيقى هي الخطوة الأولى نحو الواحد، فإن الهندوس يعتقدون أن الموسيقى هي نفسها تَجسُّد البراهمان، المطلَق، روح العالَم، في العالَم.
لنقرب ذلك إلى الأذهان يمكن لنا أن نقارنه باللوجوس في المسيحية والإسلام، فقد تجسدت الكلمة، اللوجوس، في الديانتين على هيئة السيد المسيح، في شكل شخص حيّ، أما الأوم، أو الكلمة الهندوسية، فقد تجسدت في الموسيقى؛ وهو فارق واضح. علينا كذلك من أجل المزيد من الدقة ألا نفهم الأوم من خلال اللوجوس، وإلا كان ذلك إسقاطًا لا مبررَ له من نسق معرفي على آخَر. الفرق بين الأوم واللوجوس أن اللوجوس كلمة حاملة لفكرة في أصلها الإغريقي، لكننا لا نعرف ما هي، أو ماذا تقول، ولا يشترط فيها التنغيم. أما الأوم فهي كلمة منغَّمة معينة، بقطع النظر عن مدى الغموض والاختلاف في معناها، وتحمل كما أسلفنا معاني ثالوثات متعددة.
إلى حد أبعد، يعتقد الهندوس أن الأوم هو أصل الطبيعة نفسها، وأن الطبيعة عبارة عن تَمَوْضُع (objectification) للمقطع أوم. من هنا نفهم علاقة الموسيقى بالطبيعة المحسوسة عند الهندوس. المصدر السابق، ص ٢. أيضًا، وبدرجة أكبر من الجذرية، يعتقد الهندوس أن البراهما، الخالق، هو الذي صاغ قواعد الموسيقى الهندية، ثم قامت الإلهةُ ساراسْفاتي Sarasvatī برعاية الموسيقى والإشراف عليها. المصدر السابق ص ٤. يعتقَد كذلك في الهندوسية أن لبعض الآلهة صوتًا محددًا؛ فالإله فِشْنو، وهو الحافظ، أي الذي منه يكتسب العالَم تَماسُكَه، له صوت الصدَف، أي الصوت الناجم عن وضع الصدَفة البَحَرية على الأذن، أما كريشنا، أهم تجلياته، فله صوت الفلوت أو الناي. هذا بينما يَعزف شيفا، إله التفكك والدمار، على الطبل، أثناء رقصة تفكُّكِ العالَمِ. المصدر السابق.
لا ينفصل الصوت البشري عن كل هذا؛ فالموسيقى المقدسة الهندوسية (سانْجيتا Sangīta) تنقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية: صوت الآلة، والصوت البشري، والرقص. من هنا نكتشف كذلك مدى أهمية الغناء، أي مدى ارتباط الموسيقى بالكلمة في الموسيقى الهندية. المصدر السابق. المثير في الأمر أن هذا الارتباط شائع في الموسيقى الشرقية عمومًا، ومنها العربية؛ فالموسيقى العربية كما نعرفها اليوم تقوم أساسًا على الغناء، ويندر أن تنفصل عنه، والاستثناء الوحيد هي موسيقى القرن العشرين “الجادّة” كما يدعوها البعض، أي التي تتخذ الصيغ الكلاسيكية كالصوناتا والسيمفونية والكونشرتو، بالإضافة إلى الكلاسيكية العربية لدى عمر خيرت وعمار الشريعي، كما دعوناها في المقالة السابقة.
كذلك الموسيقى العربية بالأساس مونوفونية، لا بوليفونية، أي لا نجد فيها عنصري الهارموني، والكونترابنط، وهو ما يتلاقَى بشدة مع فلسفة الموسيقى الهندوسية، وما يقترح كذلك فرضية إمكان فهم الموسيقى العربية، التي لا تتمتع بفلسفة موسيقى دينية كالهندوسية، من خلال الهندوسية نفسها؛ وهي فرضية سنعود إليها في الختام. تعد الموسيقى الهندية الصوتَ البشري الآلةَ الموسيقية الكاملة، كما أسلفنا، ولهذا تحصر نفسها غالبًا في مساحة الأوكتافات المقابلة للصوت البشري. Paramhansa Yoganada, pp. 206-207.
على أية حال يمكن القول إن الأوم المنغَّم المنطوق المسموع هو كلمة العالَم، إذا كان اللوجوس كلمة شخص معين (السيد المسيح)؛ فالأوم تتجسد في العالم بما هي موسيقى، أما اللوجوس فيتجسد في شخص ذي حضور تاريخي معين، ينتهي بوفاته، وخروجه من العالَم الحسي. كذلك إذا كان التنغيم، والنطق، شرطًا في فهم الأوم وأدائه، فإن هذا ليس شرطًا على الإطلاق في اللوجوس؛ وإذا كان الأوم صالحًا أصلًا للأداء البشري، وهو نطقه منغمًا على نحو مونوفوني، فإن اللوجوس في المسيحية والإسلام فعل إلهي بحت، لا يمكن تأديته على نحو بشري.
لا بد للقارئ بدايةً أن يفهم أن الموسيقى الهندية، حتى التي يجري وضعها وأداؤها اليوم، موسيقى دينية بالأساس. Swami Sivnada, Music as Yoga, The Divine Life Society, India, 2011, p. 7. فكما أوضحنا: يعتبر الهندوس الموسيقى أكثر من كونها فنًّا، هي صلة أنطولوجية، أي وجودية، بين الإنسان من جهة، وكل من الطبيعة، والآلهة من جهة أخرى. ما يعني بالتبعية أن الموسيقى الهندية عمومًا طقس ديني على نحو حقيقي، لا مجازي. كما ترتبط من جهة بالنفس الإنسانية، وترتبط من جهة أخرى بالعالم القدسي. هذا الاعتقاد مبنيّ بدوره على أساس أن في كل من الوعي واللغة والموسيقى، والطبيعة والعالم الإلهي، بنية عامة واحدة، كالهيكل العظمي بالنسبة للفقاريات لتقريب الفكرة. Beck, Sonic Theology,. P. 8.
يعتقَد أيضًا في الهندوسية أن الطبيعة ككل “فائضة” عن الصوت الكوني، أي النادا-براهمان. المصدر السابق، ص ٧. لكنه فيض يختلف نوعًا عن فيض أفلوطين؛ فينما يعتقد أفلوطين أن الطبيعة فائضة عن الواحد عبر مراحل متعددة، تمر بالعقل الكلي (Nous)، والنفس الكلية (Psyche)، فإن الهندوس يعتقدون أن الطبيعة قد فاضت أيضًا، لكن عن صوت، موسيقَى، لا عقل ولا نفس.
يعني الفيض في نظريات خلق العالم أن المخلوقات “انسكبتْ” من الإله، حين فاض وجوده عن ذاته، كما يفيض الكوب بالماء. الفرق بينها وبين نظريات الخلق في الديانات الإبراهيمية، أن المعتقدات الإبراهيمية في الخلق تقول بأن الإله قام بخلق العالم في لحظة معينة بإرادته، وقصديته، أما الفيض فيعتبر أن الإله خلق العالم دون إرادة منه، ودون وعي، وإلا وقع في الذات الإلهية التغيُّر، وهو مستحيل على هذه الذات. النتيجة هنا أن الاعتقاد الأساسي في نظرية الموسيقى الهندية، والذي تقوم بكليتها عليه، هو أن الموسيقى ليست فقط خطة مناظرة لبناء الكون، بل هي حلقة الصلة بين الآلهة من جهة، وكل مخلوقاتها من جهة أخرى.
ربما كان من الغريب أن نسأل: وما جِنْس الموسيقى؟ هل هي مذكرة أم مؤنثة؟ لكنه سؤال طبيعي في السياق الهندوسي؛ فالهندوس يعتقدون أن الموسيقى هي الطبيعة المؤنَّثة لفشنو (الحافظ)، وتجليه كريشنا. يعني ذلك أن الموسيقى هي الطاقة الأنثوية في الكون؛ حيث هي “مولِّدة” للطبيعة. المصدر السابق، ص ١٩. لهذا يعتقد الهندوس أن تكرار مقاطع صوتية معينة، وأهمها الأوم، بنغم معين، يسمح للموسيقى أن تعمل على مستوى داخلي، بحيث تبدِّل شيئًا في النفس الإنسانية، وتغرس فيها الجانب الأنثوي، الولَّاد، في الشخصية. المصدر السابق، ص ٢٢. أي الطبيعة الخلَّاقة، الإبداعية. ما يدفع إلى استنتاج أن الموسيقى عند الهندوس هي مصدر كل إبداع، ليس على المستوى الإنساني وحده، وإنما كذلك على المستوى الإلهي.
من المعروف أن الموسيقى فن زماني، أي يعتمد على الذاكرة؛ فكلما كانت ذاكرتنا قوية بشكل عام، كلما صار لنا فهم أسرع وأعمق للعمل الموسيقيّ. يختلف الحال بالنسبة للفن التشكيلي مثلًا، الذي هو فن مكاني، لا يعتمد على الذاكرة. قسمة كان أول من قعَّدها بالتفصيل الفيلسوف الألماني لسنج (+١٧٨١ م) في اللاوكوون. Lessing, Gotthold Ephraim, Laokoon, oder über die Grenzen der Malerei und Poesie, The Clarendon Press, Oxford, 1892, S. 28-29. برغم الانتقادات لهذه القسمة، ومع وضعها في الاعتبار، فإنها لم تزل معتمَدة إلى اليوم عند أغلب فلاسفة الفن والموسيقى. لكن الأمر في الهندوسية بخصوص هذه القسمة أكثر تعقيدًا؛ فالهندوس يعتقدون فعلًا في هذه الطبيعة للموسيقى، أي كونها فنًا زمانيًا يعتمد على الذاكرة، لكنهم لا يؤصلون لذلك تجريبيًا، أو في الخبرة المباشرة، بل دينيًا عن طريق الاتحاد الثالوثي بين الرؤية، والسمع، والذاكرة.
إن الفيدا (Veda النصوص الهندوسية المقدسة الموضوعة بين ١٠٠٠ و٢٠٠٠ ق. م) مشتقة من الجذر السنسكريتي vid بمعنى المعرفة المعتمدة على الإبصار، وذلك كما أشرنا آنفًا، لكن الإبصار في الفيدا لا يعمل مستقلًا عن حاسة السمع، فالفيدا كمفهوم معرفي يرتبط بالشروتي (Šruti)، وهو يعني في السنسكريتية ما هو مسموع، أو ما هو قابل للسمع. مفهوم يرتبط بدوره بالسْمِرْتي (Smrti)، أي ما هو قابل للتذكُّر، أو ما هو مُتَذَكَّر. Beck, Sonic Theology, p. 23-24. ما يعني أن المعرفة ذاتها عند الهندوس لا تتم إلا من خلال الترابط في هذا الثالوث: الإبصار، والمعرفة، والذاكرة.
نستنتج من هذا أن الذاكرة، التي تميز الفنون الزمانية كالموسيقى عن الفنون المكانية كالتشكيل، هي عنصر أساسي في المعرفة، كأنها حاسة من الحواس، وتقع في مكانة الأهمية موقعًا مساويًا للبصر والسمع. فإذا أضفنا هنا أن الموسيقى حلقة أنطولوجية، وجودية، بين الآلهة والمخلوقات، لفهمنا أساس تلك الفكرة في اعتبار الذاكرة حاسة من الحواس. بدون ذاكرة قوية لن نفهم الموسيقى جيدًا، وإذا لم نفهمها جيدًا، فلن نفهم العالَم نفسه على نحو دقيق.
قلنا أيضًا إن الغناء، أي مصاحبة الشعر للموسيقى، مبدأ أساسي في الموسيقى الهندوسية، وهو ما له تأصيل كذلك في مفهوم يرتبط بالفيدا، ألا وهو مفهوم الفاك Vāk. يعني الفاك ثالوثًا آخَرَ عند الهندوس؛ فهو الإلهة فاك، التي هي “الكلمة الكاشفة” (revealing word)، وهي رمز للبقرة المقدسة، وهي كذلك الكلام بشكل عام. حقيقة ذلك الارتباط بين الفيدا وبين الفاك هو أنَّ المعرفة، الفيدا، تتجلى في العالَم عن طريق الكلام، والعبادة. المصدر السابق ٢٤. لذلك فلا غنى عن الشعر في موسيقى الهندوس، ليس في الموسيقى فحسب، بل في فهم الحقيقة الكونية والتواصل معها.
تقسم الموسيقى الهندية السلم إلى اثنتين وعشرينَ نغمةً أساسية وفرعية، بينها أشباه أنصاف النغمات (demi-semitones)، وهو ليس تقسيمًا اعتباطيًا، بل الهدف منه إكساب الموسيقى حساسية أكبر في التعبير، والتمييز بين أطياف المعنَى المتداخلة. Paramhansa Yoganada, p. 206. يمكن تمثيل ذلك للقارئ غير المتخصص بحركة التقاط شيء بأصابع اليد، فكلما زاد عدد الأصابع من جهة، وكلما كانت نحيفة، كلما سهل علينا التقاط الدقائق، وتمييزها عن غيرها. لهذا فإن المقام الغربي الكبير والصغير، والمقام الاثناعشري (الكروماتيكي)، كليهما لا يملكان القدرة التعبيرية، التي للمقامات الهندية (الراجات).
كما ترتبط كل من النغمات الأساسية السبع في السلم عند الهندوس بلون معينٍ، وبصوت طائر، أو وَحْش؛ فمثلًا ترتبط نغمة دو باللون الأخضر وبصوت الطاووس، بينما ترتبط نغمة ري بالأحمر وبصوت القبّرة، ثم ترتبط نغمة سي بمجموع الألوان، وبصوت الفيل. المصدر السابق. لا تهدف الموسيقى الهندية إلى تحقيق البراعة السيمفونية، أو بيان مهارة العازف، بل إلى خبرة فردية ذاتية مع الروح الأعلى، حتى أن الكلمة السنسكريتية المعبرة عن موسيقار هي بْهاجافاتر (Bhagavather)، والتي تعني في الأصل: الذي يغنّي ليمدَحَ الإلهَ. Paramhansa Yoganada, p. 207.
يصلح تطبيق كل ما سبق على الموسيقى العربية، والسامية بشكل عام، والشرقية بشكل أعمّ؛ فهي تركز على اللحن بدلًا من الهارموني، وتركز على الصوت البشري (الكلمة الخالقة) بدلًا من موسيقى الآلات. رأينا كذلك في تقديم المقالة كيف أن فكرة الصوت الخالق: صوت الله في اليهودية، وكلمته في المسيحية، وفي الإسلام، مشترَكة بين الديانات الإبراهيمية. إن هذه البنية المسبقة للحضارة والعقل هي التي أنتجت لنا في النهاية الموسيقى العربية، والشرقية عمومًا، بما هي موسيقى غنائية غير مجردة، وغير مطلَقَة؛ وهي هذه العقيدة في الخلق بالكلمة، وباعتبار الصوت البشري أهم من صوت الآلة، وأنَّ الكلمة أهم من النغمة.
برغم هذا نجد اتفاقًا قويًا بين الهندوس وبين أفلاطون في الجمهورية في مبدأ أهمية الموسيقى المونوفونية مقارنةً بالبوليفونية. يرى أفلاطون في كتابه المذكور أن العسكري، إذا بلغ مرحلة النضج، عليه أن يستمع إلى نوع محدد من الموسيقى، هو الموسيقى البسيطة، أي المونوفونية غير البوليفونية، التي لا تعزَف فيها أكثر من نغمة في الآن الواحد؛ لأن البساطة في الفن والروح والجسد هي مبدأ التماسك والصلابة. Plato, The Republic, trans. by Benjamin Jowett, Oxford : Clarendon Press, 1888, Book III, p. 87. كذلك كان أفلاطون يرى ضرورة تبعية الموسيقى للشعر في التلحين، بحيث تتناسب هي مع النص، لا العكس، وضرورة عدم الفصل بينهما، بمعنى الرفض القاطع للموسيقى الخالصة. Francis Macdonald Cornford, The Republic of Plato, oxford university press, 1970-3, p. 80-85. إذًا يعني أفلاطون بالموسيقى في الجمهورية تلك التي تصاحب الشعر وتخلو من البوليفونية.
ما نستنتجه هنا أن هناك تشابهًا على الأقل بين الموسيقى الدينية عند الهندوس، والموسيقى التربوية عند أفلاطون؛ فكل منهما يرى أن المونوفونية أقرب إلى تحقيق انسجام النفس، والانضباط الذاتي، وإن كانت الفكرة عند الهندوس أبعد من هذا؛ فبينما يعتقد أفلاطون أن هذه الخواص للموسيقى أصلح للتربية العسكرية، أو شبه العسكرية، التي يوصي بها في الجمهورية عمومًا، فإن الهندوس يعتقدون أن مثل هذه الخواص أقرب للتواصل مع المطلَق، أو البراهمان، ذاته، فيما يتجاوز الوظيفة التربوية بوضوح.
رأينا فيما سبق علاقة الموسيقى باللاهوت في أربعة أنساق معرفية، اشتُهرت بترسيخ مكانة مميزة للموسيقى. رأينا كيف ولماذا اعتبرها فيثاغورَس أصل العالَم الإلهي والطبيعي والإنساني؛ فهي بخلاف الهندسة أقرب إلى رياضيات متحركة، وبالتالي تعبر عن الحركة في العالم، وليس بنيته الهندسية الثبوتية فحسب. عرفنا أيضًا كيف أقام فيلون السكندري علاقة مشابهة تفصيلية، وشاملة، بين الموسيقى من جهة، والطبيعة واللاهوت من وجهة نظر صوفية-يهودية، وبناءً على تأويل موسيقي للديانة، وتأويل ديني للموسيقى. كما رأينا أن الموسيقى خطوة أساسية عند أفلوطين في الفيض العكسي، أي التدرج المعكوس للفيض، من العالم الإنساني إلى العالم الإلهي. وكن كل ذلك لم يصل بنا إلى اللاهوت الموسيقي بالمعنى الدقيق.
لم أجد في المراجع، سواءٌ التي احتواها هذا البحث أو غيرها، تعريفًا دقيقًا للاهوت الموسيقيّ. بيد أننا نستطيع أن نشتق معناه من المصطلحين، اللذين يتكون منهما. اللاهوت هو البحث في الطبيعة الإلهية، أو العلم بها؛ والموسيقَى في أكثر تعريفاتها دقة، وشيوعًا، هي الصوت المنظَّم الذي يتميز بشروط معينة من حيث الإيقاع والنغم، تميزه عن الأصوات المنتظمة، أو شبه المنتظمة، التي تُنتجها الطبيعةُ. Scruton, Roger, (1983), ’Understanding Music’, The Aesthetic Understanding: Essays in the Philosophy of Art and Culture, Manchester: Carcanet Press, pp. 77–100. يضيف بعضُ فلاسفة الموسيقَى شرطَ خبرةٍ جمالية معينة، يمر بها السامع، للتوصل إلى التمييز سابق الذكر. Hamilton, Andy, (2007), Aesthetics and Music, New York, Continuum, pp. 40-65. كما يعتقد آخرون منهم أنَّ تعريف الموسيقَى ثقافيّ بحت في جوهره؛ أي أن ثقافة المجتمع هي التي تحدد الفاصل – الغائم مع ذلك – بين الموسيقى، وبين الضوضاء، وبين كل صوت غير موسيقيّ منتظِم، وشبه منتظم. Nattiez, Jean-Jacques, (1990), ’Music and Discourse: Toward a Semiology of Music’, Musicologie générale et sémiologue, translated by Carolyn Abbate, Princeton University Press, pp. 41-68.
يعَدّ أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (ت ٢٥٦ هـ) أولَ من أدخل لفظة موسيقَى إلى العربية تعريبًا للفظة الإغريقية μουσική، التي تشير إلى فن المُوسات؛ Saoud, Rabah, (2004), The Arab Contribution to Music of the Western World, Lamaan Ball, FSTC Limited, p. 5. الموسات هن ربّات الإلهام الفني التِّسْع عند الإغريق. Jameson, John H. Jr., John E. Ehrenhard and Christine A. Finn (editors), Ancient Muses: Archaeology and the Arts, vol. 1, The University of Alabama Press, 2003, pp. 1-3. يعرّف أبو نصر الفارابي (ت ٣٣٩ هـ) الموسيقَى في كتاب الموسيقَى الكبير كَونها علم تأليف الأنغام من جهتين: جهة العلاقة الخالصة بين الأنغام وبعضها (وهي الجهة التي تركز عليها الموسيقى الخالصة أو المطلقة)، وجهة علاقتها بتأليفها مع الشِّعر. الفارابي، أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان: كتاب الموسيقَى الكبير، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة، ومراجعة وتصدير محمود أحمد الحفني، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، دون بيانات أخرى، ص ٤٧-٤٨.
نستنتج من كل ذلك أن الموسيقى في حقيقتها علاقة بين عناصر متعددة، لا العناصر ذاتها؛ فاللحن ليس هو النغمات، بل العلاقة بينها، وكذلك الهارموني علاقة بين نغمات؛ والفرق بين اللحن والهارموني هو الزمن. فإذا عُزفت النغمات تتابعيًا صار لدينا لحن، وإذا عُزفت معًا، تزامنيًا، صار لدينا الهارموني. كذلك الإيقاع علاقة زمنية بين أحداث، وهو في أدق تعريفاته – من منظوري – وكما قدمته سوزان لانجر “بناء توتُّرٍ tension بعد تصريف resolution، ثم العكس.” Susanne K. Langer, Feeling and Form- a Theory of Art, developed from Philosophy in a New Key, Charles Scribner’s Sons, New York, pp. 127-129. تعني لانجر أن إحساسنا بالإيقاع في الموسيقى لا يتأتى من تتابع حركات، أو أحداث، في حد ذاته، بل إدراكنا للاختلاف بينها، وتكرار هذا الاختلاف، وإلا كانت دقات الساعة إيقاعًا موسيقيًا.
لذلك يجب أن يكون الإيقاع في الموسيقى شبه منتظم، لا منتظمًا تمامًا. إنه – في رأي لانجر – تتابع في التقاء الخيوط، ثم انحلالها، وتكرار هذه العملية. بالتالي فالإيقاع كذلك علاقة؛ ومن الجليّ بذاته أن الكونترابنط علاقة بين لحنين أو أكثر. سنجد أن هذا التعريف العَلاقي (relational) هو المشترَك بين كل التعريفات السابقة، من ثقافات وعصور مختلفة، وإنْ كانَ الفارابي هو الذي ركّز عليه بوضوح أكبر نسبيًا. لذلك كانت الموسيقى في رياضيات العصور الوسطى، بما يشمل كذلك الفلسفة الإسلامية، علم التأليف؛ والتأليف علاقة.
إذًا فاللاهوت الموسيقيّ، كما يمكن لنا صياغته بناءً على ما سبق، هو العلم بالتأليف الإلهي، أيْ كيف ألَّف الإلهُ، أو الآلهةُ، هذا العالَم، من جهة، وهو من جهة أخرى تآلُف العالم الإلهي نفسه، أي كيف ترابطَ العالَمُ الإلهي في علاقات ديناميكية، لا هندسية فحسب. بناء على هذا هل وصل فيثاغورس إلى لاهوت موسيقي؟
كما رأينا سابقًا، نظرت فلسفة فيثاغورس الموسيقية إلى الموسيقى نظرة العالِم الرياضي، لا الموسيقار، أو الفنان عمومًا أو الناقد الفني. يمكن القول إنها “فلسفة رياضيات الموسيقى”، لا الموسيقى ذاتها؛ وفي الموسيقى جانب رياضي ولا ريب من حيث نظريتها الأساسية. لكن الجانب الرياضي فيها لا يستغرق بالتأكيد كل جوانبها، وخاصة ما فيها من جانب فنّي. هذا وإن كانت فلسفة فيثاغورس توضح طريقة تآلُف العالَم الطبيعي والإلهي عن طريق الأشكال الهندسية المشتقة من الأعداد. لكنْ حتى هذه المساهمة تظل غامضة، ويظل نقد أرسطو لها، إضافةً إلى ما وجهناه لها من انتقادات سابقًا، على قدر معتبَر من الوجاهة.
أما فلسفة فيلون فلا يمكن القول إنها تضمنت فعلًا نظريةً متكاملة في الموسيقى، وإنما تحركتْ بين رصد التشابهات بين الموسيقى، وبين بنيان العالَم وبنيان الديانة، من جهة، صعودًا إلى قدرٍ من التأويل اللاهوتي للموسيقى، والتأويل الموسيقيّ للاهوت. ربما كانت الخطوة الأولى نحو اللاهوت الموسيقيّ هي ذلك التأويل الموسيقي للاهوت، لكنها ليست خطوة مكتفية بذاتها للوصول إلى ذلك الهدف. لا يفتنا أن نلاحظ، كما ذكرنا سابقًا في فقرة فيلون، أن الأخير يعتبر الموسيقى أول المخلوقات، صحيح أنها أوّلها، لكنها مخلوقة في جميع الحالات، ما يقلل من دورها الأنطولوجي في الوجود.
على خلاف ذلك، لم يعتقد أفلوطين أن الموسيقى حادثة، أي مخلوقة بعد أن كانت معدومة، بل إنه لا يعتبر أن الخلق من عدم قد وقع أصلًا لأي شيء. طبقًا لنظرية أفلوطين فإن العالم المادي نفسه أزلي، كما أن الواحد أزلي. الفارق أن العالم موجود بالواحد، أما الواحد فموجود بذاته. في الفلسفة الإسلامية المشَّائية، أي التي قرأت أرسطو من خلال منظور أفلوطين كالفارابي وابن سينا، جرى التعبير عن ذلك باستعمال مصطلحين على الترتيب: ممكن الوجود، وواجب الوجود. إذًا فالموسيقى عند أفلوطين، ككل شيء، أزلية، لا بدايةَ لها.
لهذا كله اكتسبت الموسيقى عند أفلوطين دورًا أكبر في الوجود؛ فكما رأينا يتخذ أفلوطين من الهارموني حجة على كيفية صدور الكثرة عن الواحد. يثبت لنا الهارموني بالتجربة الحسية أن الكثرة يمكن لها أن تصدر عن الواحد، مثلما تصدر ألحان لا نهاية لها عن تآلف واحد. بل ويثبت لنا العكسَ أيضًا؛ أنَّ الكثرة يمكن أن تُرَدّ إلى واحد. كنا قد خصصنا مقالة سابقة هي الموسيقى بين نظريّتَي الكوانتم والفيض، لبيان هذه الفكرة.
لكن الأزمة في فلسفة أفلوطين للموسيقى أنها لا تذهب أبعدَ من ذلك في فهم أسلوب الواحد في التأليف بين مخلوقاته، وهذا طبيعي؛ فالواحد في فلسفته لا يقوم بخلق العالَم قصدًا. لم يقل أفلوطين إن الواحد قد فاض منه العالم مثلًا على نحو موسيقيّ معين. كما أن الموسيقى لدي أفلوطين لم يتعدَّ دورُها العملي أن تكون “خطوة أولَى” نحو الواحد، بل إنه فرّق بين موسيقى حسية، وموسيقى عقلية، ومنح الموسيقى العقلية فحسب هذه المكانة؛ وبعد الموسيقى، وأعلى منها في الدرجة نحو الواحد، وضع الحبَّ والشعرَ والهندسةَ والفلسفة. لا يمكن بعد هذا أن يقال إن أفلوطين قد منح الموسيقى مكانة عليا في تحقيق تماسُك العالمين الإنساني والإلهي كما فعلت الهندوسية، أيْ في تحقيق الصلة بين الإنسان وبين الواحد.
تختلف الحال في الهندوسية؛ فالهندوس يقولون بأن الموسيقى هي تجسُّد البراهمان في عالمنا المحسوس. إنها الصورة التي عليها يَظهر روحُ العالَمِ، ويصير مسموعًا ومحسوسًا. لهذا الرأي أساس، فالموسيقى فن شكلي إذا ما قورن بشتى الفنون، وهي أقل الفنون تعيينًا للمضمون؛ ولهذا فهي الأنسب لتلقّي الصورة الإلهية، التي لا يمكن تصورها. هذه ملحوظة منتشرة في شتى فلسفات الموسيقى؛ فإن بعض الباحثين يرون عن حق أن كل فلسفة أفلاطون وأرسطو في الموسيقى مبنية في الأساس على كون الموسيقى فنًا شكليًا في أصله، ولهذا اعتقد الإغريق في دورها التربوي بما هي أقرب للرياضة البدينة، لكن على المستوى غير الواعي، بحيث تقوّي النفسَ، والعقلَ، وتحقق الانضباط الذاتي، لكن دون أن تغرس فيه مضمونًا واعيًا معينًا، هذا المضمون الذي يتكفل بتشكيله الشعر الدرامي، والملحمي. Robin Barrow, Plato and Education, Routledge; 1st edition (February 25, 2014), p. 23.
صحيح أن كون الموسيقى فنًا شكليًا ملحوظة عامة مشتركة بين الإغريق والهندوس، لكن الفارق يكمن في ماهية هذه الشكلية شبه البحتة في الموسيقى. بينما يتوقف كل من أفلاطون وأرسطو عند حدود هذه الملحوظة، وينطلق إلى تقرير دورها التربوي، فإن الهندوسية تنزع إلى القول بأن هذه الشكلية شبه المحضة في حد ذاتها أقرب للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، أي البراهمان، بل هي “جسده” المحسوس في العالَم. هكذا تلعب الموسيقى دورًا أنطولوجيًا محوريًا عند الهندوس في الربط بين العالمين الإنساني والإلهي.
كما رأينا في النماذج السابقة جميعًا باستثناء الهندوسية؛ لم يحُزْ اللحنُ اهتمامًا كبيرًا بالمقارنة. لقد فرق أفلاطون بين مقامات صالحة لتربية النشء، ومقامات رديئة، وكذلك فعل أرسطو. كما منح أفلوطين الإيقاعَ والهارموني مكانةً أكبر مقارنة باللحن. أما فيثاغورس فقد اهتم بالنظرية الرياضية التي تقوم عليها الموسيقى عمومًا. لكن الهندوسية قدمتْ اللحنَ على سائر عناصر الموسيقى، حتى أن الأوم لا ينطق بصوت مسموع إلا منغمًا كما ذكرنا سابقًا؛ وكما ذكرنا أيضًا يمكن للموسيقى أن تقوم على أساس اللحن وحده، بينما لا يستقل أي من عناصرها الأخرى مكتفيًا بذاته ببناء عمل موسيقى. لذلك يمكن القول إن اللحن هو العنصر الجوهري في الموسيقى.
يمكن للفيلسوف أن يمنح أيًا من عناصر الموسيقى أهميته في سياق فلسفته. مثلًا ترى سوزان لانجر أن أهم عناصر الموسيقى هو الإيقاع، Susanne K. Langer, Feeling and Form- a Theory of Art, p. 126. ويرى شوبنهور أن اللحنَ هو أهم عناصرها؛ وذلك بناءً على أنه العنصر الموسيقيّ الوحيد الذي يعبّر عن حركة الإرادة، التي هي مبدأ العالم عنده. سعيد توفيق: ميتافيزيقا الفن عن شوبنهور، ص ٢٤١. أنا أرى أن أهم عناصر الموسيقى هو الهارموني؛ لأنه مبدأ إنتاج الأبعاد المكانية في الموسيقى. انظر: كريم الصياد: الزمان الموسيقيّ- دراسة مقارنة بين الزمان الموسيقي والزمان الطبيعي، المجلة السعودية للدراسات الفلسفية، عدد ٢، ٢٠٢١. لكن كل ذلك قضية مستقلة؛ فأهم عناصر الموسيقى عندكَ لا يعني بالضرورة كونه العنصر الأهم في نظرية الموسيقى، بل في فلسفتك. لكن الهندوسية تميزت في قدرتها على التوفيق بين رؤيتها الفلسفية للموسيقى من جهة، ونظرية الموسيقى من جهة أخرى.
ترتبط بالفكرة الأخيرة نظريةُ الموسيقى الهندية نفسها؛ فالموسيقى الهندية كما قلنا موسيقى دينية في الأساس، وليست فنًا بالمعنى المفهوم من الكلمة، أي الذي يقصد إلى التعبير عن العواطف، وإمتاع الحواس والعقل. إنها فعل تعبدي دون مبالغة. لهذا تحديدًا وقع التوافق بين فلسفة الهندوس في الموسيقى، ونظريتهم فيها؛ لأن نظريتهم في الموسيقى مؤسسة أصلًا على فلسفتهم الموسيقية. إن تقسيم السلم إلى اثنتين وعشرين نغمة، واستعمال أشباه أنصاف النغمات، والحرص على المونوفونية، كل ذلك مؤسَّس على فكرة أن للموسيقى قدرة تعبيرية، ويجب أن تبلغ أقصى مدًى ممكن لها، ليس في التعبير عن عواطف الموسيقار، بل عن حقيقة الكون.
أخيرًا، الهندوسية في النهاية دين، وأحد أهم الديانات حتى اليوم، بل هي أقدم الديانات الحية في عالمنا المعاصر، ولها أتباع بمئات الملايين. هي أيضًا ديانة مرنة، يصل فيها عدد الآلهة إلى الآلاف، وقد استوعبت بوذا نفسه، الذي يُرَى كمنشق عنها، في بعض مذاهبها، باعتباره هو نفسه من الآلهة، بل استوعبت حتى المسيح، ووضعته بعض المذاهب الهندوسية في أوروبا في مجمع الآلهة. لهذا، وبسبب مرونتها الفائقة، فقد عاشت إلى اليوم، وحافظت على حضورها القوي. يختلف هذا عن مدى حضور فلسفات فيثاغورس، أفلاطون، وأرسطو، وفيلون، وأفلوطين؛ فكل هذه الفلسفات لم تصل إلى هذه القوة من الانتشار والحضور.
صحيح أن أرسطو قد سيطر على تاريخ العلم لمدة عشرين قرنًا تقريبًا، لكن الهندوسية ديانة يبلغ عمرها حوالي خمسة وخمسين قرنًا. كما أن حضور أرسطو كما قلنا كان علميًا، قاصرًا على العلماء والفلاسفة، الذي خرجوا عليه في النهاية مع عصر النهضة، ثم عصر العقل في القرن السابع عشر، ولم يكن ديانة بالمعنى المفهوم من الكلمة؛ ففي أوج قوته كان الإسلام والمسيحية أيضًا في أوج صعودهما في العصر الوسيط، وعلى المساحة الجغرافية نفسها التي انتشرت فلسفته عليها؛ ما يوضح إلى أي حد أثرت فلسفة الموسيقى الهندوسية في التاريخ.
يمكن تحديد أسس فلسفة الموسيقى الهندية طبقًا لما سبق كما يلي: أولًا ماهية الموسيقى نفسها هي كون الموسيقى تجسيدًا لروح العالم، البراهمان؛ وثانيًا: الموسيقى نشاط ديني في أساسها؛ وثالثًا: هي وسيلة ممكنة للتواصل مع العالم العلوي، أو ما وراء العالم. بشكل ما يمكن القول إنها ميتافيزيقا العالَم، أي عِلم ما وراء الطبيعة والإنسان. على هذه الأسس تمت صياغة المقامات، وتحديد أطوال النغمات، بشكل يختلف عن المقامات الغربية، والعربية، كما تم انتخاب اللحن بما هو العنصر الأهم كما ذكرنا.
على هذه الأسس كذلك يقوم اللاهوت الموسيقيّ الهندوسي؛ فلكل إله صوت، ولكل صوت لون، كما رأينا في فقرة سابقة. يتجلى فشنو في صوت الصَّدَف، ويتجلى كريشنا في صوت الناي، بينما يتمثل شيفا في صوت الطبل. ذلك بحيث يرمز الأوركسترا، مجموع هذه الآلات وغيرها، لمجموع نشاط الآلهة؛ وهو تأليف العالم الإلهي المقصود في فقرة سابقة. تعمل الآلهة عند الهندوس في عالمنا عمل الأوركسترا في العمل الموسيقي، إنهم يعزفون – حرفيًا كما ذكرنا بصدد شيفا مثلًا – صوتًا مباطِنًا للعالَم، هو صوت البراهمان المقدس.
إذا كان لا يمكن تصوير البراهمان، فهو بحسب العقيدة الهندوسية يمكن عزفه؛ لأنه متجسد في الموسيقى بالقدر الذي يمكن له به أن يتجسد. هكذا بينما كان الهارموني عند أفلوطين هو خطة تآلف العالَم، فإن التوزيع الأوركسترالي عند الهندوس هو هذه الخطة. بعد ذلك يتجسد البراهمان في العالم عن طريق الموسيقى، الطاقة الأنثوية الخلاقة في الآلهة، التي تنفذ إلى النفس البشرية فتترك فيها شيئًا من الآلهة، تترك فيها القدرة على الخلق ذاته. ما يعني بالتبعية أن الموسيقى عند الهندوس هي مبدأ كل إبداع في العالمين الإلهي والإنساني. يمكن القول إن ما سبق هو مبادئ اللاهوت الموسيقي عند الهندوس، والتفاصيل أكثر من أن يحصيها المقام، لكن يمكن فهمها، ونظمها، طبقًا لهذا المنظور.
ماذا يمكن أن تضيفه لنا فلسفة الموسيقى عند الهندوس، التي تصل إلى مرحلة اللاهوت الموسيقي؟ وما السبب الذي أدى بها إلى هذه المرحلة القصية، وأعجز غيرها من المذاهب السابقة عنها؟ إن فلسفة الموسيقى الهندية تمنحنا منظورًا ممكنًا لفهم الموسيقى العربية كذلك بما هي موسيقى شرقية؛ فالموسيقى العربية كذلك مونوفونية في الأغلب، ومرتبطة بالشعر في أكثر إنتاجها، كما أنها تتمتع كذلك بأشباه أنصاف نغمات هي ربع التون.
رأينا فيما سبق كيف أن عقيدة الخلق بالكلمات مشتركة بين الأمم الشرقية؛ وبرغم أن المسيحية اليوم منتشرة إلى حد أكبر بكثير في الغرب، فهي ديانة شرقية في المنشأ، واستمرت في المشرق لقرون طويلة، وحتى بعدما انحسر وجودها في الشرق، فقد حل محلها دين شرقي آخَر هو الإسلام. كما أشرنا إلى أن فلسفة أفلوطين كذلك فلسفة شرقية في الأصل. ربما كان هذا هو السبب في أن الموسيقى الشرقية تمتعت بعلاقة قوية بالشعر في شكل الغناء. لقد شعرت كل هذه الحضارات في وجدانها الجمعي بأهمية الكلمة واللغة في تكوين تصور عن العالم، وفي التعبير عما هو لا نهائي، ومطلَق في الوجود؛ ولأن الهدف من الموسيقى الشرقية كان التعبير عن معنى، وليس مجرد التلاعب بالأشكال المجردة الرياضية، فقد دققت في تقسيم النغمات على نحو يخالف فيثاغورس، بهدف إكساب النغم حساسية أكبر في التعبير.
المقامات الفيثاغورية، سواء صحت نسبتها إليه أم لم تصح، أقدر على تحقيق نوع من التوحيد بين المقامات، وتقليل عددها، فهي تناظرية (سيمترية) إلى درجة أكبر مقارنة بالمقامات العربية مثلًا، وهو ما قلل عند الموسيقيين الغربيين المساحة الممكنة للتلاعب اللحني، والمقامي، فلم يبقَ لهم إلا الانطلاق في مساحة بديلة هي الأشكال الموسيقية الخالصة في الغرب كالصوناتا والسيمفونية … إلخ. من هنا يمكن أن نضع أيدينا على أساس مقامي للأشكال الموسيقية الغربية.
قد يرى البعض أن الشرقيين اهتموا بالشعر، بالأدب عمومًا، بدرجة أكبر من الموسيقى مقارنةً بالغربيين. لكن تتبع حال الأدب الغربي يكشف عن العكس؛ فقد اهتم الوجدان الغربي كذلك في كل عصوره المعروفة بالشعر وبالدراما، بما لا يكشف عن تفاوت كمّي في الاهتمام. لكن الفارق كان في نوع الاهتمام؛ فبينما اهتم الغرب بالشعر مثلًا من حيث الصياغة، والمضمون، فإن الشرقيين اعتقدوا أن له طاقة سحرية ما، غامضة، لا يصرح بها البعض أحيانًا، لكنها قارّة في النفس الجمعية قرارًا مكينًا، له تأسيسه في الديانات الشرقية. فإذا كان الله نفسه يخلق بالكلمة، فمن الممكن التواصل معه من جهة، ومع الخلق من جهة أخرى بالكلمة.
من الصحيح أن الغرب كذلك في أغلبه مسيحي، وبالتالي يؤمن بعقيدة الخلق بالكلمات، فكيف أنتجَ لنا الموسيقى الكلاسيكية، التي لا تحمل معنًى محددًا في ذاتها، وتنفصل عن الغناء؟ السبب أن الغرب لم يفعل ذلك إلا بعد انتصار العلمانية بعد عصر النهضة، وبالتالي تحررت الموسيقى من الكنيسة، شأنها في ذلك شأن شتى الفنون في مطلع القرن السابع عشر، وهو بالضبط نقطة بدء الموسيقى الكلاسيكية تاريخيًا، تلك الموسيقى التي يمكن لنا اعتبارها فيثاغورية؛ بناءً على ما دعوناه أعلاه بالأساس المقامي للأشكال الموسيقية الغربية. هذا هو مفتاح الإجابة عن السؤال الثاني: ما السبب الذي أدى بفلسفة الموسيقى عند الهندوس إلى هذه المرحلة القصية؟
في رأيي قد يكون السبب هو أن اللاهوت الموسيقي مؤسس بعمق في الديانة نفسها، وأنها ديانة وليست مجرد وجهة نظر فلسفية فردية كفلسفة أفلاطون، أو أفلوطين؛ بالتالي كان لها من قوة التأثير، واتساع مساحة الانتشار، ما أهّلها سطحًا وعمقًا أن تؤسس لهذه الوضعية الخاصة جدًا للموسيقى بين كل الديانات الحية. قد يسأل سائل: ولماذا لم تتوصل المسيحية، أو يتوصل الإسلام، إلى مثل هذا اللاهوت الموسيقيّ؟ الإجابة أن الديانات الشرقية أكدت على جوهرية الكلمة، لا الموسيقى. أوقعَ هذا ارتباطًا بين الكلمة والنغم، لكنه لم يرفع النغم إلى درجة الكلمة. كما أن الهندوسية ديانة وثنية؛ وكما يرى بعض الباحثين مثل شارل رينوفييه ولوي مينار، الديانات الوثنية ديانات ديمقراطية بطبيعتها، ولها قدر أكبر من المرونة الإبداعية. محمد عثمان الخشت، تطور الأديان- نظرية جديدة في منطق التحولات، دار نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط١، ٢٠١٧، ص ١٩١.
الإبداع في الديانة لا معنى له في الديانات الإبراهيمية، لأن الإله واحد فيها ببساطة. أما في الديانات التعددية فمن الممكن طرح وجهة نظر بصدد إله معين دون غيره، أو بصدد إله جديد، كبوذا أو المسيح، كما أشرنا سابقًا، ولن يعتبَر ذلك “بدعة”، ولا ضلالة؛ وهو معنى كونها ديمقراطية. سمحت هذه المساحة الحرة في الديانة ببناء لاهوت معقد جدًا مقارنة بالديانات الإبراهيمية، يحتاج إلى نظام معين للتناغم بين الفاعلين فيه من الآلهة، وأنصاف الآلهة، وأشباههم … إلخ؛ وكانت الموسيقى وسيلة ممكنة للتأليف بين تعددية هذا العالم، وجمع شتاته.
من العوامل كذلك لحل السؤال السابق هو طبيعة الإله نفسه. الإله مشخَّص في الديانات الإبراهيمية الكبرى الثلاث، بمعنى كونه شخصًا محددًا، لا مجرد مبدأ، أو كروح غير عاقل، أو طاقة الحياة مثلًا، كما هو البراهمان عند الهندوس؛ وهو حين يتجسد، كما في المسيحية، يتجسد في هيئة شخص معين. أما لو افترضنا إلهًا مجردًا غير مشخص، فإننا نحتاج للتعبير عنه صيغة مجردة، وغالبًا ما ستكون الموسيقى هي هذه الصيغة؛ لأنها أقرب إلى المُطلقية والتجريد من أي فن آخَر.
مما نخرج به كذلك هو الوضعية الخاصة للموسيقى في المذاهب الصوفية. إذا كان ما يميز التصوف هو العلاقة الوجودية بين الإله من جهة، ومخلوقاته من جهة أخرى، بمعنى كونه على اتصال دائم، أو يمكن له أن يتجسد في شخص، وهو ما يعرف بالحلول، أو كونه حالًّا في العالَم طيلة الوقت، وهو ما يعرف بوحدة الوجود، فهذه الخواص متوافرة بقوة في الهندوسية والمسيحية؛ ففي الهندوسية يمكن للآلهة أن تتجسد، وأن تتصل مباشرة بالمخلوقات، وأن تحل في كل شيء كالبراهمان.
يمكن القول إن المسيحية ديانة صوفية في جوهرها؛ فقد وقع التجسد حسب معتقداتها فعلًا في لحظة تاريخية معينة. لهذا اهتمت الكنيسة، كما اهتم الهندوس كذلك، بالموسيقى في شكل الترانيم. أما في اليهودية والإسلام فلم يكن التصوف عنصرًا أساسيًا فيهما، ومع ذلك لعبت المذاهب الصوفية دورًا لا ينكَر في الثقافتين اليهودية والإسلامية؛ ومن المعروف إلى أي حد يهتم صوفية الإسلام بالموسيقى، وبالرقص. لا يفتنا كذلك أن نلاحظ أن مذهب أفلوطين كان صوفيًا في جوهره. من هنا جاء الاهتمام بالموسيقى في كل تلك المذاهب.
على كل حال كانت الموسيقى في اعتقاد كل تلك المذاهب، وغيرها، خطة ممكنة لتحقيق التماسُك في العالمين الإنساني، والإلهي. الموسيقى بما هي علم التأليف، بحسب ما أورده الفارابي، خطة تأليف عامة، مجردة، وصالحة للتطبيق على الإنسان، والأرض، والسماء. الرياضيات كذلك أكثر العلوم تجريدًا، ولهذا السبب صارت لغة علم الطبيعة. إذا كانت الموسيقى خالية تقريبًا من المضمون، وأكثر الفنون تجريدًا، فقد استطاعت بهذه الميزة، التي اعتبرها المثاليون الألمان عيبًا، أن تصير لغة كل ما يصير ويتغير ويتحرك، لغة الصيرورة ذاتها، وربما بما يؤهلها في المستقبَل أن تصير لغة علم الصيرورة الكونية في العالمين، الأرضي والسماوي.
١. Alexandra Michalewski, “Plotinus on Music, Rhythm, and Harmony”, Music and Philosophy in the Roman Empire, Cambridge University Press, Edited by Francesco Pelosi, and Federico M. Petrucci, 2020.
٢. Alfred North Whitehead, Science and the Modern World, A Pelican Mentor Book, 1997.
٣. Aristotle, Metaphysics, trans. by W. D. Ross, Random House, New York, 1941.
٤. Danny, M. Fredrick, in his introduction to: Guy Beck, Sonic Theology: Hinduism and Sacred Sound, Motilal Banarsidass Publishers, Delhi, 1995.
٥. David T. Runia, Helena Maria Keizer (Editors), Philo of Alexandria: An Annotated Bibliography, 1987-1996, Brill Academic Publishers; 2000.
٦. Francis Macdonald Cornford, The Republic of Plato, oxford university press, 1970.
٧. Gene H. Anderson, “Pythagoras and the Origin of Music Theory”, Indiana Theory Review, Vol. 6, No. 3 (SPRING, 1983).
٨. Guy L. Beck, “Sacred Music and Hindu Religious Experience: From Ancient Roots to the Modern Classical Tradition”, Religions, 2019, 10, 85; doi:10.3390/rel10020085.
٩. Hamilton, Andy, (2007), Aesthetics and Music, New York, Continuum.
١٠. Hanslick, Eduard, Vom musikalischen Schönen- Ein Beitrag zur Revision der Ästhetik der Tonkunst, Druck und Verlag von Breitkopf & Hartel, 13.-16. Auflage, Leipzig, 1922.
١١. Heninger, S. K., Touches of Sweet Harmony: Pythagorean Mythology and Renaissance Poetics, Huntington Library Pr; 1st Edition (June 1, 1974).
١٢. Jameson, John H. Jr., John E. Ehrenhard and Christine A. Finn (editors), Ancient Muses: Archaeology and the Arts, vol. 1, The University of Alabama Press, 2003.
١٣. Jutta Leonhardt, Jewish Worship in Philo of Alexandria, Mohr Siebeck, 2001.
١٤. Lessing, Gotthold Ephraim, Laokoon, oder über die Grenzen der Malerei und Poesie, The Clarendon Press, Oxford, 1892.
١٥. Louis H. Feldman, Studies in Hellenistic Judaism, Brill Academic Publishers; 1993.
١٦. Nattiez, Jean-Jacques, (1990), “Music and Discourse: Toward a Semiology of Music”, Musicologie générale et sémiologue, translated by Carolyn Abbate, Princeton University Press.
١٧. Paramhansa Yoganada, Autobiography of a Yogi, Yogoda Satsanga Society of India, 1946.
١٨. Plato, The Republic, trans. by Benjamin Jowett, Oxford : Clarendon Press, 1888.
١٩. Plotinus, The Enneads, translated by Stephen MacKenna, Faber and Faber Limited, London, 1956.
٢٠. Robin Barrow, Plato and Education, Routledge; 1st edition (February 25, 2014).
٢١. Saoud, Rabah, (2004), The Arab Contribution to Music of the Western World, Lamaan Ball, FSTC Limited.
٢٢. Scruton, Roger, (1983), “Understanding Music”, The Aesthetic Understanding: Essays in the Philosophy of Art and Culture, Manchester: Carcanet Press.
٢٣. Siegmund Levarie, Philo on Music, The Journal of Musicology, Vol. 9, No. 1 (Winter, 1991).
٢٤. Susanne K. Langer, Feeling and Form- a Theory of Art, developed from Philosophy in a New Key, Charles Scribner’s Sons, New York.
٢٥. Swami Sivnada, Music as Yoga, The Divine Life Society, India, 2011.
٢٦. Walter Burkert, Edwin L. Minar Jr., Lore and Science in Ancient Pythagoreanism, Harvard University Press (1972)
٢٧. سعيد توفيق: ميتافيزيقا الفن عند شوبنهور، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط ١، ١٩٨٣.
٢٨. الفارابي، أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان: كتاب الموسيقَى الكبير، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة، ومراجعة وتصدير ٢٩. محمود أحمد الحفني، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، دون بيانات أخرى.
٣٠. كريم الصياد: الزمان الموسيقيّ- دراسة مقارنة بين الزمان الموسيقي والزمان الطبيعي، المجلة السعودية للدراسات الفلسفية، عدد ٢، ٢٠٢١.
٣١. كريم الصياد: اللا مفسر القرآني- هل بالقرآن ما لا يمكن تفسيره أصلًا؟ مجلة تأويليات، العدد الرابع، صيف ٢٠٢٠.
٣٢. محمد عابد الجابري: مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط ١، ٢٠٠٦.
٣٣. محمد عثمان الخشت، تطور الأديان- نظرية جديدة في منطق التحولات، دار نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط ١، ٢٠١٧.