بحث | نقد | رأي

وإذا الموءودة سُئلت | مأساة ذكرى

عبد الهادي بازرباشي ۱۷/۰۸/۲۰۲۳

أسرّت ذكرى بهاجسٍ مؤرّق لصديقٍ مقرّب مرّة: “نحس في روحي شنموت صغيرة، وتصير برشا حاجات بعد موتي.” هذا ما حدث. لكن في الواقع، الهزات التي أحدثتها ذكرى في حياتها أكثر وأكبر من تلك التي تلت مقتلها المروّع بـ ٢١ رصاصة، بشكلٍ جعل كثيرًا من أغانيها أقرب إلى فلكلور مطبوع في وجدان الناس. قدرة ذكرى، الخارجة عن سيطرتها، على إحداث هذه الهزّات هي ما يكمن وراء مأساة حياتها ومماتها.

في عام ١٩٨٣ تعطّلت سيّارة الملحن عز الدين العياشي وهو عائد من تستور، ليدلّه أحدهم على ميكانيكي شاطر في منطقة قريبة تُسمّى وادي الليل. ذهب العياشي إلى الميكانيكي الذي وعده أن يُتم الأمر صباح اليوم التالي. لاحظ الميكانيكي أن وجه العياشي مألوف، فسأله إن كان هو ذاك الملحن الذي شاهده على التلفزة التونسية، وأخبره أن له أختًا تغني ليلًا نهارًا وستحب أن يسمعها عز الدين العياشي. غنّت ذكرى ذات الـ ١٦ عامًا وقتها إفرح يا قلبي، وسمع العيّاشي صوتًا لا يؤجَّل فدعاها إلى بروفا، وشاءت الصدفة أن تكون هذه فترة إعداده لبرنامج فن ومواهب.

في البروفا أدّت غنيلي شوية شوية بمصاحبة جلول الجلاصي على الناي. قال الجلاصي عن هذا اللقاء إنه كان يسمع صوتًا يشبه نايه، أشبه بنسمة صيف معطّرة بالياسمين، مؤكّدًا للعياشي استحقاقها المنافسة على لقب البرنامج؛ والذي فازت به بالفعل عن أدائها لأغنية الرضا والنّور. بعدها قدّم لها الملحّن حمادي بن عثمان أول أغانيها، يا هوايا، مطلقًا مسيرتها.

سارت محنة ومسيرة ذكرى جنبًا إلى جنب، فمع يا هوايا كانت تعيش أولى قصص حبها، التي تطورت إلى خطبة، توفّي الخطيب بعدها بفترة قصيرة [Mtooltip description=”لا توجد أي معلومات إضافية بخصوص هذه الخطبة، سواءٌ كانت عن هوية الخطيب أو وقت بدء العلاقة وكم استغرقت.” /]. وقتها كانت قد انضمت إلى الإذاعة والتلفزة التونسية، وتعرّفت على الموسيقار عبد الرحمن العيادي الذي لحّن لها ٢٨ من أصل ٣٠ أغنية قدمتها على امتداد مسيرتها في تونس. نشأت علاقة سامّة بين ذكرى والعيادي، الذي كان أستاذها في معهد الموسيقى وعازف كمان في فرقة الموسيقى العربية، وملحّن، ويكبرها بعشر سنوات؛ أي أنه كان متمتّع بكل ما يجعل ذكرى تتطلّع إليه وتعتبره أهلًا للوصاية الفنية والشخصية عليها. بالنسبة للعيادي، كان ظهور صوت ذكرى في بدايته حلمًا جامحًا تحقق، وأطلق أولى أغنياته بعد الاحتراف، سألت حبيبي لماذا الغياب، بصوتها، وأكّد أنه مع كل لحّن لها كان يطلق عنان خياله لأنه لا يوجد ما تعجز عن أدائه.

تطورت علاقة العيادي وذكرى سريعًا إلى خطبة، لكنها في السر، بطلب من العيادي على الأرجح، والذي أنكر الخطبة وعلاقة الحب حين سئل عنهما، واضطرب ولف ودار بعد الإصرار على توضيح ما جرى بينهما، في حين أكّدت ذكرى أنه كان الحب الحقيقي الأوّل، وأنهما انفصلا بعد خطبة طويلة دامت ست سنوات بسبب غيرته الفنية وحصاره لها. غريبٌ إنكار العيادي ما أعلنته ذكرى على شاشات التلفزيون أكثر من مرة وتكلّمت عنه بحنين وحسرة. ربما كان ذلك احترامًا لمشاعر زوجته وأسرته، وربما، على الأرجح، للتنصُّل من كونه صاحب الجرح الأكبر على مدار مسيرة ذكرى في تونس، وسبب رئيسي في مغادرتها لها دون أية محاولة لاستئناف تلك المسيرة حتى وفاتها.

ظهر العيادي في حياة ذكرى في وقتٍ حسّاس تعرضت فيه لفقدَين متواليَن، الخطيب الأوّل، ثم الفقد الذي غيّر حياتها للأبد. كان والد ذكرى، محمد عبد الله الدالي، هو أكبر معجبيها ومشجّعيها، بعكس أمها، وكان يطرب لتجويدها القرآن ولغنائها. لدى إعلان فوزها بالمركز الأوّل في برنامج فن ومواهب وقف محمّد وقال: “اللهم صلي ع النْبي الله أكبر. بنتي وصلت.” ثم صعد إلى المسرح وعانقها وبكى. صدق حدس الأب وبدءًا من هذه اللحظة لم تتحرك مسيرة ذكرى إلا إلى الأمام.

بعد أشهر توفّي محمّد عبد الله الدالي. لم تبكِ ذكرى، لم تأكل ولم تتكلّم ولم تتجاوب مع أحدٍ أو تنظر إليه لأسبوعٍ كامل. كما اختفت في تلك الفترة أربع مرّات، في كلٍّ منها كان يصحو أهل البيت لا يجدونها وتبدأ أمها بالبكاء والبحث، ليعثروا عليها بجانب قبر أبيها تقرأ له القرآن. بعد استنفاذ الحلول أُدخلت ذكرى إلى المستشفى تحت إشراف طبيب نفسي، وهناك بدأت بالتعبير لأول مرة وبكت وتكلّمت. وصف طبيب ذكرى تعاملها مع إشكالية التخلّي على أنها بدأت بالبحث عن بديلٍ للأب، وتحوّلت إلى أبٍ لإخوتها الصغار، وأبٍ وزوجٍ لأمّها. في نفس الوقت، أقرّت خلال فترة علاجها أنها لا تستطيع تحمُّل كل هذا العبء. أدّت هذه الأزمة إلى تعامل ذكرى مع فقد أبيها من خلال طريقَين، الأول أن تكون الأولى في كل شيء، خاصةً مسيرتها، لتكون قادرة على حمل المسؤوليات الجديدة، والثانية أن تبحث عن رجلٍ وصيّ. هنا ظهر العيّادي، بموهبته التلحينيّة القادرة على مساعدتها في بلوغ القمّة، وسنّه وخبرته ونرجسيّته.

شكّل العيادي مع ذكرى والشاعر حسونة قسومة ثلاثيًا يُنسب إليه الكثير من الفضل في مكانة الثمانينيات الكبيرة اليوم في تاريخ الموسيقى التونسية، رغم كون ميزة الفترة الأساسية مشرقيتها أكثر من تونسيتها، خاصةً في ألحان العيادي التي حاصرت بمعظمها صوت ذكرى في الجوابات. بين سألتُ حبيبي لماذا الغياب وتسأل على اللي راح وإنت معايا وياللي انت حبيبي وكنا في يوم التقينا وودعت روحي معاه وإلى حضن أمي، صنع الثلاثي أمجادًا عزيزة على قلوب التونسيين. في حالاتٍ كهذه من الطبيعي أن يظهر على السطح تساؤل: من صنع الآخر؟ العيادي أم ذكرى؟ في البداية، بدا أن ذكرى قد أقرّت للعيادي بالفضل حتى تركت له الإدارة بشكلٍ كامل، إدارةً لم تسمح إلا للحنٍ وحيد من غيره بالدخول إلى أرشيف ذكرى.

حكت ذكرى أكثر من مرة عن كون السبب الرئيسي لانفصالها عن العيادي هو الغيرة الفنية، في حين أنكر العيادي كونه احتكرها وأكّد أن كل شيء كان باختيارها. يبدو أن الإجابة الحقيقية تكمن بين الاثنين. أراد العيادي احتكار ذكرى، وبحكم خجلها وصغر سنها وحاجتها العاطفية إلى رجل في بداية تعاونهما، كانت سعيدة بهذا الاحتكار. لكن كبرت ذكرى وكبر طموحها، وبدأت حدود تجربتها مع العيادي تضيق بها، وحين أدرك العيادي ذلك أراد تلقينها درسًا، فأعطى لحن أنت مرادي الذي أحبته وأرادت غناءه لمنافستها أمينة فاخت، ليثبت أنه هو وألحانه أساس النجاح لا صوتها. هنا غارت ذكرى وجُرِحَت، وربما أحست أن أقل مقابل يمكن أن يقدّمه العيادي لكونها لا تغني ألحان غيره أن لا يقدّم لغيرها ألحانًا تريدها هي.

في أول حفلة غنت فيها ذكرى سألتُ حبيبي لماذا الغياب، طُلِب منها أن تلقي القصيدة قبيل غنائها، فبدت طالبة مدرسة تحاول القراءة كما يُرضي الأستاذ. تغيّر ذلك بعد سنوات في مقابلتها مع نجيب الخطّاب، زادت الجرأة والثقة، وبدا على وجهها الضيق لدى تحول الحديث عنها إلى العيادي، خاصةً عندما تكلم عن أعماله مع غيرها. عندما يوضع المشهدان إلى جانب مقابلة أجريت مع العيادي مؤخرًا، لم يعطِ فيها أي إجابة واضحة بخصوص كيف ذهب لحن أنت مرادي من ذكرى إلى أمينة فاخت، تصبح الصورة أوضح.

عززت سفرية ذكرى والعيادي إلى سوريا عام ١٩٨٦ من رغبتها في تجريب أشياء مختلفة، إذ تعرفت على الملحن الليبي خليفة الزليطني وسجلت معه أربع أغنيات حققت نجاحًا مدويًا في ليبيا، في الوقت الذي بدأ يكبر فيه الشرخ مع العيادي، بالإضافة إلى مهاجمتها في الصحف في تونس. بحسب العيادي، جاءت الضربة التي قصمت ظهر البعير عندما سجّلت ذكرى أغنية المقدّمة لبرنامج لو سمحتم، ليمارَس ضغط من قبل مطربة كبيرة (يُرجّح أنها نعمة) لمنع الشارة من البث.

دون قصد، منح العيادي ذكرى وجهةً جديدة تتعافى فيها من الصدمات الفنية والشخصية التي أنهكتها في تونس، من خلال سفرية سوريا ولقائها بالزليطني الذي فتح أمامها طريق ليبيا. كانت ذكرى في الأساس متابعة للموسيقى الليبية بفعل التقارب التاريخي بين البلدين، حتى أن تجنيس التونسيين كليبيين كان رائجًا في ذلك الوقت، عدا عن الهجرات المتبادلة، مثل الهجرات الطرابلسية إلى تونس ثم عودةً منها بعد اكتشاف النفط. 

هاجرت ذكرى إلى ليبيا مطلع التسعينيات عابرةً الحدود من جهة قرية راس جدير في تكسي، وكان في انتظارها عبد الله منصور وخليفة الزليطني وعلي الكيلاني ومحمد حسن، بين آخرين من أهم الشعراء والملحنين في ليبيا والمنطقة. كان قدومها حلمًا يتحقق للأغنية الليبية، التي عانت من ندرة الأصوات النسائية، بالإضافة إلى صعوبة إيجاد صوت قادر ومثقف بما يكفي ليتقن ألوانها المتطلّبة. أيضًا، زاد تقارب بدايات ذكرى في تونس وبداياتها في مصر من حظوتها عند الليبيين، إذ أصبحت فنانتهم الأثيرة من نجوم الصف الأول على مستوى الوطن العربي، وأغنياتها بلهجتهم باتت تُسمع على نطاقٍ أوسع من أي وقتٍ مضى.

بالنسبة لـ ذكرى، سحرتها ليبيا وكرم الاستقبال فيها، وسهولة وصولها إلى المكانة التي تعلم أنها تستحقها. كان علي الكيلاني، الشاعر والملحّن المخضرم وابن عم الرئيس معمّر القذّافي، أحد الأركان الأساسيّة والأولى لما حققته ذكرى في ليبيا، وكان أكثر اسم تتطلّع إليه في الوطن الجديد، لذلك كان أول من قصدتهم بعد الهجرة ليقدّم لها عملًا يليق بدخولٍ مظفّر؛ وهذا ما كان. غنت ذكرى أشهدُ من كلمات وألحان علي الكيلاني، معلنةً افتتاح مرحلتها الليبيّة بعمل دسِم.

صنعت ذكرى ملاحمًا موسيقية في ليبيا، من الزخم البدوي الأصلي في سلسلات رفاقة عمر والنجع والسيرة الهلالية، إلى البوب في عدة ألبومات مثل حيرتني ولا تشاكيني واخترتك وحبيتك وما نسيتها سيرتكم، مغطيةً معظم أساليب ولهجات الغناء البدوية والحضرية. أصبحت ذكرى من الأسماء المعدودة التي لا يخجل من سماعها ابن المدينة رغم إغراقها في غناء بدوي كان يترفع عنه الطرابلسيون والبنغازيون.

كان عرّابها على طول مرحلتها الليبية، الأطول والأغنى عبر عقدين من ذكرى، هو علي الكيلاني، الذي كان ممن أثبتوا مرارًا أن صوتها أكبر مما تستطيع هي استيعابه. بدأ الكيلاني أعماله مع ذكرى باستغلالها لتقديم تلقيح سياسي في أغنية أشهدُ لم تدرك خطورته، مسلّمةً لخبرة الكيلاني وبراعته، ولفرحتها بفرصة بدء مرحلة ما بعد هجرتها بعمل فخم كهذا. 

على طول طريق ذكرى لم يبدُ للحظة أنها تهتم بالسياسة، حتى أنها حين ذكرت مرّةً الانتفاضة الثانية كان ذلك في سياق شرح سبب عدم نجاح ألبومها المتزامن مع الانتفاضة، بالإضافة لعدم فهمها الهجوم الذي كانت تتلقاه من حين إلى آخر في تونس ومصر والخليج لأسباب قوميّة، مؤكّدةً أن الفن ليس له جنسيّة وأنها تحلم بتقديم كل الألوان الموجودة في المنطقة. مع أخذ كل هذا بعين الاعتبار تظهر علامة استفهام لدى سماع ذكرى تلقّح على حكومة السعوديّة في أشهدُ وتهجوها بشكل لاذع في مين يجرا يقول، كلاهما من كلمات وألحان الكيلاني، مع شهادة بعض المقرّبين، مثل شقيق ذكرى، أن مُعمّر القذافي بنفسه هو كاتب كلمات الأخيرة لكنها نُسبت لـ الكيلاني. مرّة أخرى، ومن شخصٍ اعتبرته جديرًا بأن يكون مرشدها بعد العيّادي، استُغلّت سذاجة ذكرى وكرمها في ما تجهل عواقبه، وإن لم تكن أيةُ عاقبة منهم مؤكّدة حتى اليوم. المعروف عن ما واجهته ذكرى نتيجةً لتلك الأغاني هو الرواية المغرقة في الاعتماد على نظرية المؤامرة أكثر من الدلائل، والتي تتهم المخابرات السعودية بتدبير ليلة المذبحة في منزل ذكرى، رغم أن الحادثة جاءت بعد الأغاني بقرابة عقد. تعتمد الرواية الأخيرة على بعض الشهادات التي تؤكّد أن الرصاصة في رأس السويدي كانت من الخلف، ما ينفي رواية انتحاره بعد ارتكابه المذبحة. توضع أيضًا حادثة إهدار دمها بعد مؤتمر الدوحة بين النتائج المحتملة للأغاني، بالإضافة إلى ما لم يُوثّق، مثل سبب انتقالها بشكل غامض من هجاء حكومة السعودية إلى الغناء في أوبريت لتمجيد ملكها.

وجدت ذكرى في ليبيا العنصرين اللذَين أنهت بسببهما مسيرتها في تونس دون عودة، المرشد المبدع المستغلّ، والحب المنهِك. لكن على عكس ما حدث مع العيادي، لم يقيّد الكيلاني ذكرى، بل قدّم لها كل ما يستطيعه لتكبر، وتكبر معها أغانيه وتصل إلى حيث يقصد؛ فلم تُدرك حتى أنها مُستغلّة. من جهة الحب، كان يُمكن الابتعاد عن عذاب العلاقة مع العيّادي، أما عذاب الحب الذي عرفته في ليبيا فلا ينقطع، ويزيد ارتباطها بالبلد لا رغبتها بالابتعاد، لأنه من طرفها فقط وميؤوسٌ منه. لم تصرّح ذكرى بهويّة من أحبته في ليبيا، لكنها أكّدت فقط أن ظروفهما تجعل الوصل مستحيلًا.

بالإضافة إلى كل هذا، أحست ذكرى بالانتماء إلى ليبيا لدرجة معاناتها من أزمة هويّة أثقلت على صدرها، فهي تونسية الولادة والنشأة والانطلاقة، وإن حوربت وعانت في وطنها، وليبية الهوى. بقيت ذكرى إلى آخر يوم في حياتها تجتهد في إثبات ولائها التونسيّ رغم كل الاتهامات المتلاحقة، وكأنها، أمام نفسها، تعتذر عن ميلها إلى ليبيا. “وين نبعدوا عنكم تقولوا ملوا / وين نقربوا يا احبابنا تتغلوا / على ما غلبنا فيكم وين تزعلوا / هيهات شن يرضيكم / ياللي زهانا سر بين ايديكم” هذه كلمات الأغنية التي طلبت ذكرى من ملحنها الليبي ناصف محمود أن يعطيها وقتًا أكبر من المعتاد لتحفظها، مبررةً ذلك بأن “الأغنية هذي ربطتني بتونس، فنبغي نغنيها بحجم تونس.” في النهاية أكّد الجمهور التونسي مرارًا، في حياة ذكرى وبعد وفاتها، أن المنع والهجوم وكل ما إلى ذلك كانت مواقف صحفية متطرّفة القوميّة، حققت الشهرة والجدل لندرتها، وأن الجمهور الأوسع مغرمٌ بها ويحفظ أعمالها التونسية والمصرية، لدرجة أنه من الصعب أن يُغني لها أحد ولا يكمل الجمهور التونسي الأغنية دونه، كما حصل مع أمينة فاخت وناصيف زيتون.

تصادف أنه كما وضع العيّادي ذكرى على طريق ليبيا، وضعها الكيلاني على طريق مصر، ومنذ العمل الأوّل. سُجلت أغنية أشهدُ في مصر في استوديو هاني مهنّا، الذي ذُهل بصوتها وحرص على أن يستقطبها ويكون أوّل من يتعاقد معها. عادت ذكرى إلى مصر بعد عامَين أو ثلاثة من أشهدُ، وتعاقدت مع هاني مهنا على إنتاج ألبومَين سنويًا. صدر الألبوم الأول وحياتي عندك عام ١٩٩٥، دون تصوير أغنية عنوان الألبوم رغم إصرار ذكرى، حتى اضطرت لإنتاج الكليب بنفسها، وتفجّرت قنبلة وحياتي عندك رغم عدم تحقيقها أي أثر لسبعة شهور منذ صدور الألبوم. مضى بعد وحياتي عندك عامان دون ألبومٍ ثاني، فاعتبرت ذكرى العقد لاغٍ ليرفع هاني مهنا ضدها قضية ويطالب بحجز أموالها.

منذ البداية ظهرت علامات وصاية مفروضة من هاني مهنا على ذكرى، رحّبت بها ذوقًا ما لم تضر بها؛ فنجدها صامتةً مبتسمة في إحدى المقابلات معهما، عندما يجيب عنها ويقص بدلًا منها ولا يترك لها المجال إلا لتغني أحيانًا. لكن عندما لمست سوء تنظيم هاني مهنا قررت الاستقلال عنه، وإن لم يكن بما يكفي. عندما وصلت ذكرى إلى هاني مهنا كانت أكثر خبرةً من أن تكرر أزمتها مع العيادي، وفي نفس الوقت أكثر طيبةً من أن تميّز مكمن الخطر، لذا أجهدت نفسها في التفسيرات حسنة النية لدعواه القضائية وحجزه على سيارتها، وبقيت على صداقة مستمرة معه حتى وفاتها.

تجسّد حالة ذكرى مع مهنا مثالًا بارزًا على منهجها الثابت في التعامل. ليس هناك من تحسم موقفًا سلبيًا تجاهه مهما بلغ أذاه.

حتى فنيًا، بدا أن ذكرى أبسط من أن تملك مشروعًا كبيرًا ورؤية، رغم قدرة صوتها على حمل أعظم المشاريع. آمنت بعودة الأغنية الطربية، ورحّبت بالطرب في ألحان ليس فيها غيرُه، لذا كانت مسيرتها في مصر، حيث الملحنون أكثر من أن تحسن الاختيار بينهم، هي الأفقر جودةً. أيضًا، وصفت ذكرى ما قدّمته في الأغنية الخليجية بالطرح الجديد، وحين سُئلت عن معنى ذلك استشهدت بجودة كلمات شاعر تعاونت معه. وصلت بساطة ذكرى حد توريط نفسها أكثر من مرة دون قصد، فلا تلاحظ مثلًا أن لحن مذهب أغنيتها إلين اليوم مأخوذ من لحن تناسيني لـ عبد المجيد عبد الله، الذي تحبه وتحفظه، وتغني اللحنين متعاقبَين في مقابلة.

بهذه العقلية وهذا الطبع حمل انفجار نجومية ذكرى إليها دومًا أزمات لم تستطع فهمها. فمرةً يبعث لها مجهول بيتزا مسمومة وأُخرى يُكتب فيها على لسانها تصريحات سببت لها أزمة وجدل ومشادّات، وأُخرى تُهان فيها على الصحف المصرية بطريقة اختيارها ملابسها. عدا عن منع أغانيها لفترة في تونس بسبب حديثها بالمصرية في إحدى المقابلات. لم تدرك ذكرى أنها تحمل صوتًا بهذه الخطورة وقد يستثير حربًا من كل الجهات إن دخلت مفرمة الوصول العربي.

كل ذلك هيّن إذا ما قورن بما واجهته بعد دخولها الساحة الخليجية، التي قدّمت فيها تحفًا يمكن مقارنتها بما قدمته في ليبيا، حيث أَهدر دمها الشيخ الدكتور إبراهيم الخضيري القاضي في المحكمة الكبرى فى الرياض بعد مؤتمر صحفي قيل بعده إنها شبهت نفسها بالرسول. لاحقًا تراجع الدكتور عن فتواه بعد “توضيح سوء التفاهم”، لكن ذكرى قُتلت.

تحكي سيّدة الدالي شقيقة ذكرى الكبرى أنها كانت تصنع لنفسها تاجًا وهي طفلة وتقول: “أنا ملكة الغناء العربي.” أيضًا، عندما سئلت ذكرى نجمةً عن ارتباطها بأم كلثوم أجابت بأنها تحس أنها هي أم كلثوم. حملت ذكرى أحلامًا كبيرة، وكان لديها صوت على قدرها، لكن لم يكن عندها الشخصية التي تستحمل كل هذا العبء. حاولت ذكرى أن تصنع مشروعًا ناجحًا، وأن تكون أم كلثوم، لكن كما يحاول الطالب النجيب المطيع، فيتبع تعليمات أستاذه وإن كانت خارج زمنها. حتى إرثها الكبير اليوم صُنِع على عجل وبحظٍّ كبير، حيث ذكر عز الدين العياشي سرعة حفظها المذهلة، وأكّد ذلك الليبي ناصف محمود حين أشار إلى اعتياده أن يُسمعها اللحن ويذهبا إلى الاستوديو مباشرةً، ومع ذلك، يخرج العمل مطربًا وغامرًا.

جاءت الأزمات بحجم صوت ذكرى فكانت فوق طاقتها، وعلى رأسها أزمة الانتماء، ثم تنقّلها من وصيٍّ مستغل إلى آخر، مدركةً ذلك متأخرةً مرة في حالة العيادي، وغافلةً عنه تمامًا في حالة علي الكيلاني وهاني مهنا، وربما زوجها وقاتلها أيمن السويدي. ذكرت المخرجة وصديقة ذكرى راضية زويوش أن آخر ما قالته لها كان: “أنا حابك تنسي اللي إنتي عندك صديقة إسمها راضية، حتى الموت.” معللةً ذلك بأنه قد أتعبها تجاهل ذكرى كل النصح بشأن ثقتها المبالغ فيها في كل من هب ودب وفتح قلبها للجميع، لم تستطع تحمُّل مشاهدة ذكرى تؤذي نفسها أكثر من ذلك. 

في النهاية، خلدت ذكرى بعيبها الأكبر، فرط الحنان والطيبة. رحل والدها فأصبحت والدًا لإخوتها، ورحلت أمها فأصبحت أمًا لكل من يقترب منها؛ بل وسعت لدراسة الطب النفسي للأطفال. في كل مطب دافع عنها وتلقّفها الجمهور ولفيف من أصحابها المؤثرين من مختلف الميادين، وقد تكون الفنانة الراحلة الأكثر ذكرًا من جيلها، سواءٌ على ألسنة أصدقائها أو دراويشها المخلصين، المتتبعين لتسجيلاتها النادرة ومقابلاتها وقصاصات الصحف التي ذكرتها حتى اليوم، والذين تم هذا المقال بفضلهم.

“كانت طريّة، كانت كعصفورٍ سريع العطب. إنها في نهاية المطاف مجرّد طفلة، وشاء لها القدر أن تفعل أشياءً وأن تعيش أوضاعًا فقدت هي السيطرة عليها.” هكذا لخًص طبيب ذكرى النفسي قصّتها.

المزيـــد علــى معـــازف