.
أنسب توصيف لِـ جورج براسانس هو “صاحب السمعة السيئة”، نسبةً لإحدى أغانيه. ورث براسانس طباع الجنوب الإيطالي النزق والمغامر، وعاش طفولةً شقية في بلدته سات المطلة على البحر، إلى أن وجد خلاصه في الأغاني التي يكتبها “من أجل المرح.” تحدث براسانس عن أنه يكتب أغانيه من أجل المرح في مناسبتين تعقيبًا على بعض الأغاني؛ الأولى خلال مقابلته الشهيرة مع برال وفيري والثانية وفقًا لكتاب براسانس: حياة بأكملها من أجل الأغنية لِـ أندري ساف (صفحة ٤٨-٤٩). شكّل براسانس في وقتٍ لاحق مع جاك برال وليو فيري الثلاثي الأبرز في تاريخ الأغنية الفرنسية، وحاز جائزة الشعر الكبرى من الأكاديمية الفرنسية سنة ١٩٦٧ اعترافًا له بإسهامه في تطوير الكتابة الشعرية، ما أثار حنق المحافظين وقتها.
في مئوية براسانس، نرصد لكم عشرة أغانٍ مفتاحية تمثل مدخلًا لفنّه وحياته ونزقه.
يحتفي براسانس بالصداقة، إحدى أهم ثيمات نصوصه، ويستعمل معجم الملاحة والبحارة على امتداد النص مع لحنٍ مبهج ومرح على الجيتار والكونترباص. امتلك براسانس بعض المراكب في سات، ودائمًا ما حمل معه أصدقائه في جولات بحرية.
يشبّه بيار باروي في كتابه عن سيرة حياة المغني زمرة جورج براسانس بِالبيضة؛ مجموعة صغيرة متلاحمة من الصعب الولوج إليها. Georges Brassens. La marguerite et le chrysanthème. P 11 منذ أيام المدرسة في مدينته سات، شكّل براسانس زمرةً من الأصدقاء المارقين بعد أن سئموا الدروس الطويلة واحترفوا الهروب المبكر من المدرسة، للعب الموسيقى ضمن فرقة صغيرة بأدواتٍ من الخردة، انتهت بعملية سرقة كلفته الطرد من المدرسة.
وضع براسانس الأغنية لفليم لي كوبان للمخرج إيف روبار، وصدرت في ألبومه الثاني الذي حمل اسم الأغنية.
كتب الشاعر الفرنسي لويس أراجون الأغنية سنة ١٩٤٣ عندما كان مختبئًا برفقة حبيبته إلزا في منزل صديقه في ليون، مركز المقاومة ضد ألمانيا النازية، والتي شارك فيها أراجون بجانب الشيوعيين. أترع أراجون النص بإشاراتٍ وطنية، لكن براسانس تخلى عن آخر مقاطع القصيدة وأكثرها مباشرةً. جرّدها من مضامينها الأصلية وحوّلها إلى سياق أغنية حب حزينة ويائسة. يبدو أداء براسانس كـ تأبينٍ جنائزي في طقس غائم، موقّعًا وتريات أرباجيوز مهيبة في الخلفية تنسدل كأمطار شتاءٍ باريسي. تحضر الأغنية بجانب نو مو كيت با لِـ جاك برال كأكبر كلاسيكيات الحب في الأغنية الفرنسية.
تفصل ثلاثة عقود بين لحظة اكتشاف نص الأغنية وتاريخ إصدارها.
سنة ١٩٤٢، عثر جورج براسانس على ديوان شعر قديم Georges Brassens. La marguerite et le chrysanthème. P 34 لِـ أنتوان بول لدى بائع كتب قديمة، وتوقّف طويلًا عند قصيدته العابرات التي كتبها أوائل القرن الفارط. لحّن براسانس النص وأصدر الأغنية في ١٩٧٢ بعد أن طلب الترخيص من الشاعر نفسه سنة ١٩٧٠. كعادته تجاه نصوص غيره، اقتطع براسانس مقطعين من القصيدة الأصلية حتى يحافظ على السياق الذي أراده؛ الأثر اللحظي السحري الذي تتركه النساء العابرات على رصيف شارع أو خلال السفر، والرغبة العالقة التي تبقى مرتبطةً بأثرهن.
الأغنية مربكة. وقفت مجموعة من النساء أمام قفص يحوي غوريلا ضخمة. فجأة فُتح الباب، فزع الجميع ولاذ بالفرار. لم يبقَ غير امرأة عجوز وقاضٍ يرتدي ردائه الطويل. هنا يتساءل براسانس: “لنفترض أن واحدًا منكم مكان الغوريلا، من كنت ستغتصب؟ القاضي أم الجدة؟”. كان القاضي ضحية الغوريلا، وبدأ بالصراخ والبكاء بنفس الطريقة التي “بكى بها أحد الذين حكم عليهم بالإعدام يومها.”
تحتل الغوريلا مكانةً رمزية في مسيرة براسانس، وارتبطت ببداياته في سنة ١٩٥١ عندما كان مغمورًا. أدّاها للمرة الأولى أمام جاك غريلو، مغنٍ كوميدي وممثل، الذي نالت إعجابه. قدّمه جاك إلى دائرة معارفه في أوساط العروض Geogres Brassens. La marguetrite et le chrysanthème. P 64 ، وتوسط له أصدقاؤه لدى المغنية باتاشو التي كانت نجمة كباريهات ودور عروض خلال تلك الفترة. مرةً أخرى، أدى براسانس الغوريلا وكسب اهتمام باتاشو وزوجها اللذان منحاه فرصة تقديم العروض. المصدر السابق، صفحات ٦٦ و٦٧. وقتها، بدأ الجميع باكتشاف هذا الشاب القادم من سات. بعدها بسنتين، أصدر براسانس ألبومه الأول: السمعة السيئة.
صدرت الأغنية ضمن ألبوم يحمل نفس الاسم سنة ١٩٥٣، ومثّلت بطاقة هوية تُعرِّف بِـ براسانس وتكشف عن أسلوبه النزق في الكتابة والحياة. أحدث براسانس ثورةً تجديدية في كتابة الأغاني من خلال اعتماد ثيمات مختلفة، مثّلت السمعة السيئة إحدى بواكيرها.
رمز براسانس بالسمعةً السيئة إلى معاداة النزعة العسكرية؛ فهو لا يأبه باحتفالات ١٤ يوليو / تموز الوطنية، ويقضي يومه نائمًا غير عابئ بالمارشات العسكرية والموسيقى المصاحبة، وينتصر للمهمشين بوجه أصحاب الثروة عند دفاعه عن سارقي التفاح ضد مطارديهم.
منعت الأغنية من الراديو لِتهكمه المبالغ ضد الثوابت الوطنية الفرنسية.
في مجازٍ ظريف وقريب من قصص الأطفال، كتب براسانس أغنيته العمّان عن عدائه للحرب والنزعة العسكرية. يسرد براسانس قصة العمان مارتان وجاستون، أحدهما نصير إنجلترا والآخر ألمانيا، ويسخر من قناعاتهما المتكلسة وحماقة الموت لأجلها: “من الجنون أن نفقد حياتنا لأجل الأفكار”، “أفكار مثل هذه، تُحدث ثلاث لفات صغيرة، تحصد ثلاثة موتى وتتبخر إثر ذلك.”، كما يمكن لها خلال وقتٍ وجيز أن “تقلب الصديق عدوًا” والعكس.
تعرض براسانس لنقدٍ حاد بعد صدور الأغنية، لأنه وضع كل المواقف والأفكار في سلة واحدة، إذ أنه، حسب البعض، ساوى بين النازية والمقاومة.
يسخر براسانس من سرديات الالتزام وضجر المقولات التي تتبنى الموت من أجل الأفكار الكبيرة، حتى عند انضمامه إلى زمرة أناركية في باريس ومشاركته في جريدة لو ليبرتار، لم يلتزم براسانس طويلًا، إذ سرعان ما انفصل عنهم. لكي يرفع الالتباس حوله بعد هجوم الصحافة إثر أغنيته العمّان، أصدر براسانس الموت من أجل الأفكار: “الموت من أجل الأفكار، نعم، وليكن موتًا بطيئًا”. كشف براسانس عن ميوله الأناركية ورفضه للدوغمائيات وعبثية الحرب، معتمدًا على أسلوبه في المصادمة من خلال صور شعرية مربكة. ما يهم براسانس هو أن يبطئ الموت إلى أقصى مدى حتى يتسنى له العيش كفايةً لأجل هذه الأفكار، دون أن يكلّف نفسه عناء التزامٍ أعمى قد يقتله سريعًا في سبيل التضحية من أجلها.
مع اشتداد الحرب العالمية الثانية في فرنسا سنة ١٩٤٤، كان براسانس ضمن خدمة العمل الإجباري التي فرضها النازيون على الفرنسيين لتعويض نقص اليد العاملة في ألمانيا. خلال أوقات فراغه، بدأ جورج بكتابة الأغاني. اكتسب لقب الشاعر بين رفاقه الجدد، وصقل هناك الملامح الأولى لمسيرته الفنية. خطط جورج فيما بعد للهروب، وتعلل بمرض مفاجئ وطلب إجازة للعودة إلى فرنسا. وصل إلى باريس واختبأ في منزل متواضع لمرسال بلانش وزوجته جين. تعرف هناك إلى لويس كامبون صاحب حانة قريبة. افتقدت إقامة براسانس إلى أبسط المقومات في ظل الحرب، لكنه لقي العناية من قبل ثلة الغرباء الذين احتضنوه. خلّد براسانس ذلك الفصل من حياته في أغنية إلى الأوفيرنيا. نسبةً إلى القادم من منطقة أوفارن
تضطرب المراجع في تحديد هوية الأوفيرنيا حول ما إذا كان لويس كامبون أم مرسال بلانش، في حين حضرت جين بلانش بشكل واضح في نص الأغنية وخصّها براسانس بمقطع كامل يمتنها على مساعدتها له وإنقاذه من الجوع. يبدأ براسانس الأغنية بإهداءٍ إلى الأوفيرنيا الذي منحه حطب التدفئة أثناء وقت البرد، وهو ما يعزّز الإشارة إلى لويس كامبون، الذي لجأ إليه للتبضّع والاقتراض وتأمين حاجياته في بيت الثنائي بلانش المتواضع من حطب التدفئة والنبيذ.
أيًا كانت هوية الأوفيرنيا، فإن براسانس قدّم واحدة من قصص الحرب الخلفية التي لم تُحكَ إلا في هذه الأغنية.
يروي براسانس بنزقٍ قصة حب مع زوجة جاره، بائع ملتقطات الصواعق، أثناء هطول المطر واشتداد الرعد. طرقت جارته المرتعبة باب منزله وطلبت منه حمايتها من العاصفة الرعدية في غياب زوجها. تكفل براسانس بحسن الضيافة: “أمّنت لها مكانًا آمنًا بين ذراعي / فيما تكفّل الحب بالباقي.” كفّ المطر ورجعت الجارة إلى زوجها لتجفيف ثيابه، وضربت مع براسانس موعدًا بحلول الصاعقة القادمة. انتظر الشاعر طويلًا وأصبح متضلعًا في قراءة حركة السحب والرياح والتنبؤ بالمطر، لكن دون جدوى. غنم الزوج ثروة كبيرة مستفيدًا من تعكر الطقس، ورحل مع زوجته بعيدًا حيث الطقس المعتدل.
يوظّف براسانس حنكته في السرد لصناعة قصة قصيرة داخل أغنية عابثة مع أسلوبه المرح على الجيتار والكونترباص المرافق.
جعل براسانس من الأغنية تتمةً لِـ الوصية التي أصدرها من قبل، وطلب صراحةً أن يدفن في شاطئ سات حيث نشأ هناك برفقة زمرته. يستعيد براسانس أسلوبه السردي الجذاب ويتذكر أيام طفولته كشقيّ الحي وقصص الحب الأول والأحداث المثيرة على الشاطئ التي “لم يأخذها نبتون (إله البحر عند الإغريق) على محمل الجد”؛ كأن تغرق سفينة ويبادر رُبّانها بإنقاذ قنينات “الباستيس والنبيذ أولًا.”
صدرت الأغنية في ١٩٦٦ بعد مرور سنة على وفاة والده، وصديقه مرسال بلانش، الذي احتضنه برفقة زوجته جين في نهج فلوريمون في الدائرة الرابعة عشر في باريس. طغت نبرة براسانس الساخرة على الأغنية بالرغم من الحزن الجليّ. يقطّع براسانس نص الأغنية ويشدد على استعمال الحروف الساكنة في الأبيات والقوافي، لِيتواتر إيقاعها كأجراس صغيرة تنذر رمزيًا بالموت.