fbpx .
بيروت لبنان معازف عمر ذوابه مقال ملف انفجار مذكرات

لازم تعرفي | مذكّرات بيروت ما-بعد الانفجار

عمر ذوابه ۲۰۲۰/۰۸/۲٤

هذا المقال جزء من ملف مذكّرات بيروت ما-بعد الانفجار. ساعدوا ضحايا الانفجار عبر التبرّع إلى الصليب الأحمر اللبناني.

صورة الغلاف ملتقطة في نهاية ٢٠١٩، لـ ماكسيم جاي (وكالة أنسبلاش). الصورة في المقال إهداء من ريتا قبلان.


إنها أطول عشر ثوانٍ في حياتي.

كنت وصديقتي ريتا قبلان في مقهى في حي السوديكو، الذي يبعد ثلاثة كيلومترات عن مرفأ بيروت. دوّى أول انفجار واعتقدنا أنه قادم من داخل المقهى، زلزل كل شيء حولنا. توجّسنا من الصمت اللحظي، الذي سرعان ما تبعه هدير صارخ يصم الآذان.

“سيتوقف الصوت عندما تهبط البناية فوق رؤوسنا” قلت لنفسي، فيما عصفت بنا سحابة زجاج وحجارة وغبار. علت صافرات الإنذار في البنك المجاور. هل فجروا البنك؟ مشينا إلى الشارع الذي صار مفروشًا بالزجاج. لا بد أنها ضربة إسرائيلية، ما يعني أن ضربة أخرى قادمة بلا شك.

ظهرت السحابة الحمراء في السماء.

انطلقنا صوب بيتي الواقع في ذات الحي. كدت أنسى مفاتيحي على الطاولة، حيث لم تُمسّ مشروباتنا وقطعة الكعك. أحسست بلسعة تأنيب ضمير لعدم دفع الفاتورة، زالت مع رؤية الشاب الذي قدم لنا طلبنا منطلقًا على درّاجته. “بظن هيدي آخر مرة بطلب ليموناضة ونعنع” قالت ريتا دون أي تعبير على وجهها.

أبواب جيراني مفتوحة، يبدو أنهم لم يُصابوا بأذًى جسدي. تبادلنا غمغمات أشبه بالكلمات المتقاطعة: حمدلله على سلامتكن، انفجار، الباب انخلع، صاروخ، بيت الوسط، الغيمة الحمرا، المرفأ، مخزن فرقيع.

فرقيع.

ذهبت ليلتها مع ريتا – المصوّرة الصحافية – إلى الجميزة ومار مخايل. تضاهي بشاعة المشاهد في هذين الحيّين صور الدمار من ذاكرة الحرب الأهلية والحروب الإسرائيلية العديدة على لبنان. مررنا بأحد دكاكين مار مخايل الذي أصرّت صاحبته باكيةً أن تدخله وتحمي ما تبقى منه، على الرغم من خطورة وضع البناية. “صراحة معها حق” همس أحد المارة لريتا، “السوريّة عم يجوا يسرقوا على الموتوسيكلات!”

بيروت لبنان معازف عمر ذوابه مقال ملف انفجار مذكرات

كانت الأيام الثلاثة التالية مُرّةً ضبابية، لم تخفف من وطأتها سوى إطلالات رياض قبيسي على التلفزيون، ورسائل الأصدقاء. منها رسالة صوتية من نور عز الدين: “صرت حاضرة خمس انفجارات. صرت بعرف دغري عالج صدمة ما بعد الانفجار وهول كلن. كون منيح، وأي شي عن جد ما تعوفني.”

بحلول السبت، غابت شعارات: “لبنان رح يرجع” و”قلن إنك لبناني” و”صار الوقت” و”قوم اتحدى”، وأخواتها، وحضر الغضب والمشانق ومجسمات الزعماء المتدلية من حبالها. حضر الجيش والدرك أيضًا، أولئك الذين دخّنوا والتهموا الساندويشات وتحرشوا بالمارة، ووقفوا يتفرجون على آلاف المتطوعين ممن ملؤوا شوارع بيروت، يكنسون وينظفون ويساعدون المنكوبين. حضر الجيش والدرك، وأمطروا المتظاهرين بالرصاص الحي والمطاطي، وسُحُب الغاز المسيل للدموع. لم أنل يومها سوى جرعة غير معتادة من الغاز المسيل، قربتني بعض الشيء من شعار “المسيل عندنا تعاطي” الذي برز مطلع الانتفاضة اللبنانية، وسنفرت بحياتي دون إصابة. أما صديقتي ريتا فكسر عسكري كتفها الأيسر بكعب بارودته عندما كانت تصوّر اعتداء الجيش على المتظاهرين. لم يصادر كاميرتها أو يأمرها بمسح الفيديوهات، فهو يعلم أنه وأقرانه وأسيادهم فوق المساءلة أو المحاسبة.

يوم ٤ آب / أغسطس، قبل ساعة من الانفجار، شاهدتُّ لسببٍ ما فيديو على اليوتيوب صنعته طالبة سابقة في جامعة القديس يوسف عام ١٩٩١. يضم الفيديو صورًا لبيروت خلال الحرب الأهلية، وترافقه موسيقى شوبان وتعليق صوتي للطالبة تقول في مطلعه:

لازم تعرفي إني بحبك
لازم تعرفي إنه رغم كل شي ما بقدر إتركك

لست منجّمًا على شاكلة ميشال حايك، ولا أدعي أنني أحسست بقدوم الكارثة. ربما هو ثقل الأيام التي سبقت الانفجار، ورغبة مني بالتنفيس على مبدأ إبكي بترتاح. لا أعرف كيف أصف علاقتي بهذه المدينة، لكن هذين السطرين يعبران عما أحسّ به تجاه بيروت. حتى بعد ساعتين من الانفجار، عندما اتصل بي صديقي علي من الأردن ونهرني: “خلص ارجع، مشان الله!” لم أمنع نفسي من الضحك من فكرة ترك بيروت، التي انتقلت إليها حبًا وطواعية قبل أكثر من ثلاثة أعوام ونصف. لا أحاول رش السكّر على الموت، وأرفض اللجوء إلى صور الفينيق وأساطير الهدم والإعمار وخزعبلات الصمود وحب الحياة، لكن سأشهر صورة واحدة عند أي لحظة شك: كتف ريتا الملفوف بحمالة بيضاء، ووسطاها اليمنى مرفوعة في وجه الكاميرا مع تعليق: “للسلطة”.

المزيـــد علــى معـــازف