.
بعيداً عن جو التجريب لأجل التجريب، بدأت فرقة سيتي أف جن City of Djinn مسيرتها بألبوم تجريبي يبدو ذو هدف واضح: الإطراب والتخدير معاً. يتجه عضوا الفرقة، مروان كامل وميخا بيزولد، نحو هدفهم بمقاربة بين الطرب في الموسيقى العربية، بما في ذلك من انغماس باللحن غناءً وعزفاً بشكل مطوَّل ومكرّر، والنشوة الموسيقية من الروك الهلوسي المتأثر بالمخدرات في ستينات القرن الماضي. تجد سيتي في جن في قالب بوست روك مساحة قادرة على احتواء الصوتين، وأسر المستمع في تجربة موسيقية دسمة وسهلة في ذات الوقت.
يتألف الألبوم من أغنيتين ثم أربع مقطوعات آلاتية، جميعها طويلة نسبياً، تتراوح بين خمس دقائق ونصف وثلاث عشر دقيقة. يتيح ذلك المجال لمقاطع عزف مطولة، غلبت عليها التقاسيم الارتجالية في مقامات بيات وكرد ونهاوند، كما عزز طول مقاطع العزف وطابعها الارتجالي فرصة الوصول إلى الطرب والنشوة.
تأثّر العزف واستخدامه للإطراب بالبنية التي اختلفت بشكل واضح بين الأغاني والمقطوعات. ففي الأغنيتين تسود بنية مقطعية مكونة من مقاطع غنائية وآلاتية مختلفة تتبدل بسلاسة، خصوصاً أن التبدل يجري فوق قسم إيقاعي كبير صوتياً ومستقر نسبياً، ما يجعل جزءاً كبيراً من الصوت ثابتاً عند الانتقال من جزء لآخر. تعد الأغنيتان أيضاً الأكثف عمودياً إذ استخدم فيهن عدد كبير من الآلات والمؤثرات الصوتية في آن، وأكثر سرعةً وصخباً من المقطوعات بمؤثرات تتراوح من استخدام الفيدباك إلى توصيل الجيتار الكهربائي الهوائي المعدل بمكبر صوت بايس، الأمر الذي يجعل السمة الغربية الهلوسية أكثر وضوحاً.
أما المقطوعات الأربعة، والمقتبسة عناوينها من قصيدة منطق الطير لفريد الدين عطار شاعر صوفي فارسي عاش في عصر الدولة العباسية، فتمتاز ببنية مختلفة، إذ تصبح مستمرة بلا أجزاء أو تقطعات، مرتكزة بشكل أساسي على قسم إيقاعي مستقر وعزف ارتجالي هادئ كما في To Recognize The Passions in Your Heart أو أكثر احتداداً كما في Your Folly Keeps the Prowling Beasts Alive، لكنها بشكل عام أقل كثافة عمودية من الأغنيتين. أدى هذا الجو الأكثر هدوءاً وبطءاً وإتاحةً للتكرار وتنويع التكرارات في المقطوعات لتوطيد الطابع الشرقي الطربي وتغليبه على الغربي.
بالنسبة لقرارات التوزيع والإنتاج التي اتخذتها الفرقة، فقد بدأت بتعديل بنية بعض الآلات وطريقة عزف أخرى، لإنتاج صوت أصيل بريء من شبهة المزج الفج. يضم القسم الوتري بزقاً كهربائياً له الدور الرئيسي في خلق الصوت اللحني الشرقي، وجيتار كهربائي هوائي معدل بإضافة دساتين Frets ربع نوطة في بعض المواضع لأجل عزف المقامات الشرقية عليه، وجيتار كهربائي بلا دساتين، وكمان ظهر في مقطوعة واحدة وعزف بطريقة أعطت صوتاً قريباً للربابة. أما القسم الإيقاعي فضم عدة طبول تقليدية بالإضافة للدربكة والدف (الرق بالتحديد) ودواسة إيقاع Stompbox آلة إيقاعية عبارة عن صندوق خشبي يعزف عليها بالدوس.
إنتاجياً، اختارت الفرقة معايير الجودة التسجيلية والإنتاجية المنخفضة Lo-Fi Aesthetics والاكتفاء الذاتي في كامل الألبوم تمت مراجعة الألبوم بناءً على نسخة فائقة الحجم بصيغة غير مضغوطة الصوت أرسلتها الفرقة لمعازف. لم تكن الجودة الإنتاجية والتسجيلية الضعيفة أداةً معهودة في خلق حالة الطرب أو النشوة، رغم أنها تميز العديد من أعمال البوست روك التي يظهر أثرها الواضح في موسيقى الفرقة، خصوصاً من حيث الصفات العامة للألبوم كطول الأغاني ومقاطع العزف المتكررة أو المسترسلة وتغليب العزف الآلاتي على الغناء. على كلٍ، لم يكن انخفاض الجودة التسجيلية والإنتاجية في الألبوم – إن كان متعمداً وليس نتيجة محدودية الإمكانيات والمعدات – في محله. خصوصاً أن هذا الانخفاض لم يستخدم بشكل فعال جمالياً.
على صعيد التأليف، أتاحت البنية المقطعية للفرقة في أول أغنيتين تأليف ألحان متغيرة تتكرر أحياناً على تباعد وبدرجات مختلفة من الاحتداد، وكشفت أن تمكن الفرقة يكمن في أسطر الجيتار المكررة Guitar Riffs الأكثر صخباً والأسطر اللحنية الأقصر ذات البداية والنهاية، والتي لا تورطهم بضرورة التطوير الارتجالي ولا تتطلب حملها لمسافات زمنية طويلة. حصل العكس تماماً في المقطوعات الأربعة المتسمة بالاستمرارية والاتصال والمتطلبة لقدرات ارتجالية قوية طويلة المدى، وهو الأمر الذي يبدو أنه أربك الفرقة بعدة أشكال، فإما أن تلجأ لتدفق موسيقي أكثر إيقاعيةً لا يستطرد بالتقسيم اللحني بوضوح، كما في المقطوعة قبل الأخيرة التي تمتد لعشر دقائق، والتي يغدو سلاحها الوحيد للإطراب أو الوصول للنشوة هو طولها الذي قد يسترخي معه المستمع أو يصاب بالملل. أو أن تلجأ الفرقة لتدفق أكثر لحنيةً وارتجاليةً وتلوناً، كما في مقطوعتها الأخيرة التي قد لا تصيب المستمع بالملل، لكنها لن توصله للطرب أيضاً لعدم قوة لحنها والتمكن من عزفه بشكلٍ كافٍ.
في العزف حققت الفرقة إنجازاً مهماً ووقعت في مشكلة تساويه أهمية. الإنجاز هو تطويع الآلات عبر تقنيات العزف لتحقيق الموازنة الشرقية الغربية، ظهر ذلك بشكل واضح في مقطوعة To Recognize The Passions in Your Heart التي عزف فيها الكمان بطريقة ميَّلت صوته نحو صوت الربابة، وأضافت طابعاً شرقياً بدوياً ممتازاً في الخلفية كان رئيسياً في النسيج الصوتي للمقطوعة وتجربة السماع النهائية. المشكلة هي ضعف العزف وتلكؤه في بعض المواقع، علماً أن الفرقة لم تؤد ألحاناً شديدة الصعوبة والتعقيد، وقد يعزى ذلك لأزمة الآلات المعدلة أو الغربية مع المقامات والألحان الشرقية. يظهر ذلك بوضوح في المقطوعة الأخيرة التي اجتمع في بعض مقاطعها تلكؤ في العزف وضعف في التأليف. مع ذلك، من الصعب إطلاق حكم شامل على الألبوم، إذ لا تتحرك كل أغانيه على ذات الخط الموسيقي ولا تتبنى نفس البنية ولا تحافظ على مستوى ثابت، وهو أمر إيجابي بالنسبة لعمل يستكشف منطقة موسيقية تتسع لمزيد من الجدية. ففي الوقت الذي يبدو فيه أن بعض فرق البوست روك مثل Godspeed You! Black Emperor وEsmerine تأخذ الطابع الشرقي بشكل سطحي إلى حد ما لخلق صوت غرائبي، تتبنى مدينة الجن مدخلاً أكثر جديةً بالتعامل مع الآلات والمقامات لإدخال الصوت الشرقي لقالب البوست روك ومجاورته مع الروك الهلوسي.
تقدم هذه الأغاني والمقطوعات ما هو خام وجديد ومثير للاهتمام أكثر مما هو مصقول وناضج ونهائي، كما تكشف عن توزيعة آلاتية ممتازة ناجحة ونسيج صوتي غني. يسير الألبوم في الاتجاه الصحيح رغم العثرات التقنية، ما يجعلنا ننتظر ألبوم مدينة الجن المقبل بحماسة.