fbpx .
ظلموه | لمحة من مقامات عربيّة منسيّة

ظلموه | لمحة من مقامات عربيّة منسيّة

وليد الرباط ۲۰۲۵/۱۰/۲۹

اعتاد والدي أن يصحبني لحضور بعض الأمسيات الموسيقية البسيطة التي يعزف فيها أحد أصدقائه القدامى، عم أسامة العازف العجوز الذي لا يفارقه العود أينما ذهب. بعد انتهاء الأمسية ينير عم أسامة جلستنا لنتبادل أطراف الحديث وحكايا الماضي والكثير من النقاشات حول الموسيقى.

كنت أسعد بالتحدث معه عن هذا الكنز الفني الذي بين يديه، العود والطرب والمقامات الموسيقية، علمني أن التأمل في الموسيقى يعيدك إلى ذاتك، كالتأمل في الطبيعة للتخلص من ضغوطات الحياة، فقط ركز نظرك على الآلة ودع حواسك تستمتع. في كل لقاء معه أشعر بأنني أسافر في رحلة في عمق الهوية الموسيقية العربية، وفي كل مرة يذكر فيها أسماء المقامات التي لم تعد تعزف تتقافز إلى ذهني عديد التساؤلات، أهمها:

كيف لهذه المقامات البديعة أن تذهب طي النسيان؟ هل نحن مهددون بفقدان هذا الجزء من هويتنا الثقافية إلى الأبد؟

نبذة

المقام الشرقي ليس مجرد سلم موسيقي بالمفهوم الغربي، بل نظام من مجموعة جُمل موسيقية مرتبة تصاغ في درجات متتالية ومتفق عليها. يبلغ عدد المقامات الأساسية ثمانية مقامات هم الصبا، النهاوند، العجم، البيات، السيكاه، الحجاز، الراست، الكرد.

أما ما حصره الباحثون خلال خمسينات القرن الماضي فقد اقترب من ٣٦٠ مقامًا موسيقيًا، غاب أغلب أشكالها وفروعها عن الآذان. منها مقامات معقدة كانت تُعزف يومًا ما في القصور والمقاهي والمجالس الخاصة، وقد تبدو أسمائها غريبة مثل شد عربان وبستنكار وزنجران، لكنها تحمل في طياتها عبق تاريخ الطرب العربي.

شد عربان

يبرز مقام شد عربان على قمة هذه المقامات النادرة، ويعد أكثرهم تعقيدًا وأغربهم اسمًا. تعني شد عربان بالتركية القديمة جذب العرب لأنه كان يعزف في القصور العثمانية خصيصًا للتأثير على المستمعين العرب وجذبهم. ينتمي هذا المقام إلى عائلة الحجاز، ودرجة ركوزه نغمة اليكاه أو صول قرار، ويحمل في نغماته طابعًا حزينًا عميقًا يميزه عن باقي مقامات عائلته. نغماته تتدرج كالتالي: صول، لا بيمول، سي، دو، ري، مي بيمول، فا دييز، صول.

كان يُعزف شد عربان في الأمسيات ويُستخدم في السماعيات والتقاسيم، ومن أواخر من أبدعوا فيه الراحل زياد الرحباني في أغنية فيروز بعت لك يا حبيب الروح. لكنه أصبح اليوم من المقامات النادرة التي لا يتقنها سوى قلة من العازفين المتخصصين، حتى أن أرقى مؤلفاته، سماعي شد عربان للموسيقي العثماني جميل بيك الطنبوري، تُعزف اليوم في مناسبات محدودة وخاصة.

زَنجَران

استكمالًا للحديث عن عائلة الحجاز، ينبغي أن نذكر مقام الزنجران ببصمته الخالدة، حيث يجمع بين وقار الحجاز وعذوبة العجم، ويعرف بعدة أسماء عبر البلدان العربية، فيطلق عليه أيضًا زنكُلاه أو زيركلاه.

يتألف من طبع الحجاز على نغمة دو صعودًا بجنس العجم على الدرجة الرابعة فا بالتتابع النغمي التالي: دو، ري بيمول، مي، فا، صول، لا، سي بيمول، دو.

من أشهر أعمال الزنجران أغنية يا حلاوة الدنيا من ألحان الشيخ زكريا أحمد وغنتها لأول مرة فتحية أحمد، لتشتهر فيما بعد بصوت الشيخ سيد مكاوي؛ وأيضًا دور في شرع مين لسيد درويش.

كما نجده حاضرًا بقوة في الموشحات والمواويل لما يتيحه من قدرات تعبيرية عالية، مثل موال أمانة يا ليل لمحمد عبد الوهاب، وموشح أيا دارها بالحزن للمنشد حسن الحفار.

إلى جانب التحول الجذري للذوق العام، لطالما ظلمت الزنجران ندرة المؤلفات، ما أسهم في انسحابه من المشهد الموسيقي المعاصر.

بستنكار

البستنكار أو بَسته نِكار ضمن عائلة السيكاه، من أكثر المقامات تعبيرًا في وصف المشاعر الإنسانية. يحمل في اسمه الفارسي معنى المغلق أو المقفل، وكأنه لا يفتح إلا بمفتاح خاص في يد عازف ماهر. يتكون من طبع السيكاه وجنس الفرع هو الصبا، ونغماته سي نصف بيمول، دو، ري، مي نصف بيمول، فا، صول بيمول، لا، سي بيمول.

كان هذا المقام القيِّم شاهدًا على العديد من الأعمال الفنية الخالدة، مثل أغنية ظلموه لعبد الحليم حافظ من ألحان محمد عبد الوهاب. كما جاء في مقطع “ويقصّروك يا ليل على هنا وسرور” من أغنية أهل الهوى لأم كلثوم، ألحان زكريا أحمد.

كان المقام شائعًا في الموسيقى العثمانية والعربية الكلاسيكية، لكنه اليوم من المقامات المعقدة التي تتطلب مهارة عالية وفهمًا عميقًا للتراث الموسيقي.

مُستعار

يعد المستعار من أندر مقامات التراث الموسيقي العربي. يُفترض أنه أحد فروع عائلة السيكاه، لكنه يحمل شخصية مختلفة تجعله أكثر غموضًا في معالمه اللحنية، وبالتالي أكثر استعصاءً على معظم العازفين والملحنين المعاصرين.

يتكون من تركيبة مقامية معقدة تتألف من جمع ثلاثة أجناس موسيقية متتالية، وسمي بالمستعار لأنه يستعير نغمات من مقام السيكا من درجة مي نصف بيمول، وهو الجنس الأول للمقام، يليه جنس النهاوند على الغماز صول، ثم جنس الراست على الدرجة السادسة دو بالسلم التالي: مي نصف بيمول، فا دييز، صول، لا، سي بيمول، دو، ري، مي نصف بيمول.

من النماذج التي توثق استخدام هذا المقام أغنية أكتب لك جوابات من ألحان محمد الموجي وغناء ليلى مراد، ومقطع “وفضلت أفكر في معادي” من أغنية رق الحبيب التي لحنها محمد القصبجي وغنتها أم كلثوم.

حراس التراث

محمد القبانجي

لا يمكن الحديث عن المحافظة على التراث المقامي دون ذكر محمد القبانجي، أحد أعظم قراء المقام العراقي في التاريخ. كان أول قارئ مقام عراقي تُسجل له أسطوانة، وقد حفظ وأدى المقامات العراقية السبعة الرئيسية: الصبا، الراست، السيكاه، البيات، الحسيني، العشيران عجم، الحجاز ديوان. الأهم من ذلك أنه حافظ على العديد من المقامات الفرعية والنادرة التي كانت مهددة بالاندثار، حيث نجده في تسجيلاته التاريخية يؤدي مقامات نادرة بمهارة فائقة، محافظًا على الأصول الموسيقية والزخارف التقليدية. كما وصفه الناقد عبد الأمير المجر: “محمد القبانجي علامة بارزة في تاريخ المقام العراقي، ويعتبر من رموز الثقافة لارتباطه بالمزاجية الشعبية.”

نصير شمة

يُعرف نصير شمة بأسلوبه المبتكر في عزف العود، ويكمن إسهامه الأبرز في تفانيه في البحث عن المقامات العربية القديمة التي كادت أن تندثر، وإعادة إحيائها وتقديمها للجمهور المعاصر بثوب جديد من خلال أسطواناته، مثل أسطوانة مقامات زرياب الذي قدم فيه العديد من هذه المقامات في سياق موسيقي معاصر.

إدراكًا منه لأهمية نقل هذا التراث إلى الأجيال القادمة، أسس شمة بيت العود العربي في القاهرة كمدرسة عود لتنمية المواهب الشابة وصقل قدراتها، مع التركيز على المقامات العربية وتاريخها وأساليب أدائها.

محاولات الإحياء في العصر الحديث

شهدنا في السنوات الأخيرة إقامة فعاليات ثقافية متخصصة في التراث الموسيقي في بعض الدول العربية لتتيح الفرصة للموسيقيين المتخصصين لأداء المقامات النادرة أمام الجمهور. كما تساهم في نقل هذا التراث إلى الأجيال الجديدة، مثل الأمسيات الاستثنائية بدار الأوبرا المصرية، ومهرجان بغداد الدولي للتراث الموسيقي، وليالي المقامات في دمشق ومهرجان قرطاج الدولي.

تتبنى أيضًا بعض المعاهد والأكاديميات الموسيقية العودة إلى التراث وإمكانية دمجه مع أنماط موسيقية حديثة، إضافةً إلى إنتاج مواد تعليمية رقمية تشرح كل مقام بطريقة تفصيلية مع أمثلة صوتية مثل موقع عالم المقامات.

خاتمة

“أنا متفائل”، قالها عم أسامة وهو يطرق العود طرقات خفيفة، ثم نظر إلي وأردف:

“رغم أن الأمور قد تسارعت بشكل كبير في عالم الموسيقى، وزادت تحديات الحفاظ على هذا الإرث في مواجهة التحولات الثقافية، أنا متفائل بعودة هذه المقامات إلى أحضان الأغنية العربية. أنا ضد من يصرح أن اختفائها عن المشهد يعني نهايتها، إذا فكرت قليلًا ستجد أن كل لحن قديم نسمعه هو مصدر إلهام يحثنا على إعادة اكتشافها ومنحها حياة جديدة. في كل نغمة من نغمات الزنجران، وفي كل عبارة موسيقية من البستنكار، وفي كل تقسيمة في حضرة الشد عربان، وفي كل مقطوعة من المستعار، تكمن قصص شعوب تذوقت الموسيقى وتأسست على الطرب. الرحلة طويلة لكن الأمر يستحق، يمكننا إحياؤها إذا تضافرت الجهود من السادة الموسيقيين ووسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية.”

ربما في يوم من الأيام نجدها تُعزف من جديد، محملةً بقصصنا القديمة والجديدة معًا.

المزيـــد علــى معـــازف