.
في بداية الألفينات، عندما بدأت أهتم بالموسيقى جدياً وكان تركيزي منصباً على الراب والآر ان بي، كنت أعتبر أغانٍ مثل بيوتيفُل لإمينِم، طويلة. كنت أسمع في ذات الفترة موسيقى شرقية فولكلورية وكنت على اطلاع على الكلاسيكية الغربية. في الحالتين لم يكن أي عمل بطول ست دقائق ونصف كأغنية إمينم ليعد طويلاً، لكن كان من السهل تمييز معيار طول مختلف في الأغاني الغربية السائدة، قدَّرته آنذاك بثلاث دقائق ونصف. لاختبار تقديري جمعت حوالي ثلاثة آلاف أغنية راب وهيب هوب وآر آند بي وروك وبوب معاصرة، قسمت طولها البالغ سبع أيام ونصف على عددها، وكان الناتج بالفعل ثلاث دقائق ونصف.
لم أدرك عندها أن طول الأغنية كان شرطاً من نوعٍ ما، وليس خياراً مفتوحاً صدف أن اعتمده معظم مؤلفو الأغاني المعاصرة. بدأت بسماع الروك الخمسيناتي الأقدم، حين كان متوسط طول الأغنية أقصر بشكل ملحوظ بالغاً حوالي الدقيقتين. تقدمت بسماع الروك بشكلٍ متسلسلٍ زمنياً ولاحظت أن تغيرات فردية وعامة طرأت على طول الأغنية مع كل حركة فنية وصنف فرعي، لأكتشف مع الوقت أن طول الأغنية في الروك بالذات مرتبط بعدة عوامل، والأهم من ذلك أن تغيره له توابع نوعية.
نشأ الروك في ظل أغاني الجاز الرائجة التي سادت في الولايات المتحدة وغرب أوروبا منذ مطلع وحتى منتصف القرن العشرين. اعتمد الجاز، الذي تشارك مصدر نشأته في نيو أورلينز مع البلوز، على قالب شهير يعرف بالـ أ أ ب أ AABA يقوم على مقطع رئيسي يظهر في البداية، ثم يتكرر تماماً أو بتغيرات طفيفة لمرة ثانية، ثم ينتقل لمقطع مختلف ليس جذرياً لكن بوضوح، يعرف بالجسر Bridge، قبل العودة للمقطع الرئيسي مرةً أخيرة. عرف هذا القالب بقالب الاثنان وثلاثين باراً كون كلٍ من المقاطع الأربعة يتكون من ثمانية بارات زمنية. أدى اعتماد هذا القالب في الغالب على ضبط طول الأغنية على دقيقتين ونصف في المعدل. لم تلتزم أغاني الروك دائماً بذات القالب، أو التزمت به بتصرف وخرجت بتنويعات كـ أ أ ب أ ب أ، لكن سيطرة الجاز الرائج على البث الإذاعي ولاحقاً التلفازي حددت معايير الأغنية الرائجة بما في ذلك طولها، وهي معايير التزم بها الروك حتى منتصف الستينات.
مهتماً بالتجديد على صعيد كتابة الأغنية، اكتشف بوب ديلان أن دقيقتان لا تتسعان لكتابة أغنية جدية، فحاول التمرد على ذلك في بعض أغانيه الأولى، كـ مطرٌ عنيف سينهمر A Hard Rain's A-Gonna Fall ذات السبع دقائق والنصف، والتي كانت إحدى أولى الأغاني التي كسبت له اهتمام المستمعين والنقاد ككاتب أغانٍ. لكن الأمر أخذ منحاً راديكالياً في ألبوميه الأبرز من تلك الحقبة Highway 61 Revisited وBlonde on Blonde الصادرين في ١٩٦٥ و١٩٦٦ على التوالي، حيث تجاوز متوسط طول الأغنية فيهما الخمس دقائق، واحتوى كلٌ من الألبومين على أغنية تتجاوز الإحدى عشر دقيقة. سمح هذا التغيير لديلان باستعراض قدرته ككاتب أغانٍ بشكل أوضح، الفرصة التي اتخذها لدفع الحدود في الروك من حيث مواضيع الأغاني ومدى جديتها وتفردها على الصعيد الكلماتي، كما في أغنيته الملحمية المليئة بالمراجع والإشارات الأدبية، طابور الخراب، التي تجاوز طولها الإحدى عشر دقيقة.
أعلن ألبوما ديلان عن بداية التمرد على الفهم السائد لطول الأغنية الرائجة، وتبعه العديد من الفنانين كـ البيتلز والرولنج ستونز. كان هذا التمرد ضرورياً لما بدأ بالحدوث في الروك مع مطلع الحقبة الهلوسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الستينات.
لم يبدأ مفهوم الروك الهلوسي بتأليف الأغاني تحت تأثير المخدرات بقدر ما بدأ مع العزف تحت تأثيرها. وليتضح الاختلاف الذي تحدثه المخدرات في العزف كانت الفرق الهلوسية تأخذ أغانٍ قديمة لها أو لفنانين آخرين وتضيف مقاطع عزف منفرد موسعة تتيح الفرصة لروحهم الأدائية المنتشية بالظهور. كانت الأغاني ذات الدقيقتين والثلاثة تصل في أداءاتها الحية لما يقارب العشر الدقائق، لكن ذلك اقتصر إلى مدىً بعيد على الأداءات الحية وتسجيلات هذه الأداءات. بقيت الإصدارات المسجلة بالاستوديو حول الثلاث دقائق. قامت بعض الفرق مثل ذ جريتفل دِد بإصدار تسجيلات تحاكي أسلوبهم في الأداءات الحية، لكن حتى هذه كانت تحمل شعوراً واضحاً بأن الأغاني تفقد جزءاً من روحها خلال عملية التسجيل وبعد انتزاعها من المنصة.
كانت فرقة ذ دورز من أوائل من قدموا أغانٍ هلوسية طويلة مكتوبة بالأساس للتسجيل بالاستوديو، وأفضل مثال على ذلك أغنيتهم ذ إند. تحاكي الأغنية رحلة هلوسية سوداوية، الأمر الذي يتطلب كثافة صوتية تحاكي الكثافة الروحية للرحلة، مع ذلك كان على هذه الكثافة ألا تجعل الأغنية مضغوطة وسريعة التطور بشكل يمنع المستمع من عيش الحالة، لذا بنت الفرقة الأغنية على طول قرابة اثنتي عشر دقيقة. تمكنت الأغنية بفضل مساحتها الزمنية الواسعة من التطور براحة والتنقل من حالة نفسية لأخرى، من الملحمية إلى الاضطراب إلى الهلوسة ثم السعار والجنون وأخيراً الهدوء الرثائي. ترافَق كل ذلك مع اختيارات آلاتية موفقة وأداءات متينة وغناء ينجح بإقناع المستمع بهلوسيته. ساهمت الأغنية بتأسيس طور جديد من أغاني الروك تستغل طولها لبناء حالة نفسية معينة لا تسمح ببنائها الأغاني القصيرة.
رغم ظهور البانك وانتشاره في منتصف السبعينات، وبشكل رئيسي في نصف السبعينات الثاني، إلا أن مصنع آندي وورهول Andy Warhol's Factory كان له رأيٌٌ آخر. كان وورهول فناناً بصرياً مهتماً بالفنون الرائجة، فتح أبواب ورشته في نيويورك التي عرفت بالمصنع لأبرز فناني العالم وأكثرهم تجريبيةً في كافة المجالات. من هذا المصنع ولدت أولى فرق البانك وإحدى أفضلها، ذ فِلفِت آندرجراوند.
صدر أول ألبومات الفرقة ومن ضمنه أغنية هيروين في ١٩٦٧، بعد شهرين من صدور ذ إند لـ ذ دورز. تتشابه الأغنيتان في الميول الهلوسية الزخمة السوداوية، لكن هيروين تعمقت في استغلال طول الأغنية لبناء حالة نفسية. تحاكي الأغنية التي تتجاوز السبع دقائق آثار تعاطي الهيروين على صعيدين، الأول لحظي يصف تعاطي الهيروين نفسياً وجسدياً، والثاني فكري طويل الأمد يصف حالة فلسفية من الصفاء والاتفاق مع الذات وما يفرضه ذلك من رؤية مختلفة للذات والعالم والحياة والناس. تبني الأغنية بالتالي موازياً موسيقياً عميقاً ودقيقاً لحالة التعاطي، بدءاً من الترقب السابق لدخول الهيروين للدم، ثم الدخول الذي يتبعه تسارع إيقاعي يوازي نبض القلب ويتفجر بسرعة هائلة، تليه النشوة التي يذوب فيها العقل في مستنقع أصوات حادة حارة تخدش وتلتحم ببعضها، وأخيراً حالة ما بعد التعاطي التي تصف صفاء عقلٍ أفرغه الهيروين من أي أفكار.
مع خروج الروك من الستينات الجامحة، امتدت آفاق واسعة تنتظر استكشافها وتطويرها ضمن هذا الصنف الموسيقي الفتي. كان الروك التقدمي Progressive Rock أحد أول وأبرز حركات الاستكشاف التي انطلقت في هذا السياق. متمسكاً بالجماليات الهيبية Hippie Aesthetics، بحث الروك التقدمي عن طرق لنقل الروك من أغانٍ تجارية تختفي بالسرعة التي تنال بها الشهرة إلى أغانٍ أكثر جدية وبقاء على المدى الطويل، فالتفت إلى الموسيقى الكلاسيكية والجاز التقليدي من ناحية، ولِما تم إنجازه في الروك خلال الستينات من ناحية أخرى، مستخلصاً ملامح الجدية الموسيقية بكونها: تتصف بالتمكن بالتأليف والقدرات الاستعراضية بالعزف والكلمات الجدية وسياقية الألبوم والروح التجريبية.
كان من شأن ظهور فكرة الألبومات السياقية Concept Albums أن يضعف أهمية الأغنية الطويلة، حيث أصبح من الممكن الحديث عن مواضيع جدية أو بناء حالات نفسية عبر سلسلة من الأغاني المتعاقبة مختلفة الطول. لكن ما حافظ على أهمية الأغنية الطويلة هو الميل الاستعراضي في الغناء والعزف، الأمر الذي يمكن سماعه بوضوح في أغاني لِد زيبلِن على سبيل المثال، والتي جاءت طويلة بالمتوسط لتفسح المجال لمقاطع عزف منفرد موسعة على الجيتار والطبول، مقاطع غنائية تحتاج تمهيداً لإعداد المستمع لها، وفرص للاستعراض في الهندسة الصوتية والإنتاج. يظهر كل ذلك في أغنية How Many More Times ذات الدقائق الثمانية والنصف، أو في أغنية الفرقة الأكثر شهرةً Stairway to Heaven ذات الثمان دقائق.
أخذت الكثير من الفرق في السبعينات منحى لد زيبلين، مثل يِس وجِنسِس، محولين الروك التقدمي لصيغة واضحة يمكن لأي فرقة تمتلك ما يكفي من البراعة في التأليف والعزف أداءها، وكانت معظم أغاني هذه الصيغة طويلة في متوسطها. حتى البلوز والهارد روك اللذان واكبا الروك التقدمي وماثلاه بالكثير من الجماليات، كما عند فرق كريم وذ جيمي هندريكس إكسبيرينس وكوين، فقد استخدما أغانٍ أطول من المتوسط بشكلٍ متكرر. ثم كان هناك فرق مثل بينك فلويد التي كانت الجدية في الروك بالنسبة لها تأخذ أشكالاً أكثر تجريبية وتغيراً، خصوصاً على مستوى التوزيع وبنية الأغنية، في توجه يميل لخلق حالة أكثر طربيةً هذه المرة، تهدف لإشباع المستمع موسيقياً عبر أغانٍ تجريبية ذات طول يكفي المستمع للاعتياد عليها ثم الاستسلام لها، كما في أغنيتي Shine on You Crazy Diamond ذات الست وعشرين دقيقة أو كمنج باك تو لايف التي تتجاوز الست دقائق.
خلال سيادة البانك وبعده البوست بانك ثم الروك المستقل والبديل والجرانج وأخيراً حركة إحياء ما بعد البانك، أي الفترة ما بين منتصف السبعينات وحتى الآن، تقهقرت الأغنية الطويلة في الروك دون ظهور أصناف فرعية تتطلب وجودها، عدا البوست روك الذي لم يضف الكثير لتطور الروك عامةً وأصبح صنفاً فرعياً نائياً، اعتمد متوسط طول أغاني طويل نسبياً لا استجابةً لضرورة إنما كخيار استعراضي محض، بينما عاد متوسط طول أغنية الروك عامةً لثلاث دقائق ونصف. في ٢٠١٤ أطلق جوليان كازابلانكاس ألبومه الفردي الثاني طغيان مع فرقته المساندة ذ فويدز. كان كازابلانكاس من رواد حركة إحياء ما بعد البانك مع فرقته ذ ستروكس The Strokes، أو خلال ألبومه الفردي الأول، لكنه انتقل لصوت جديد في طغيان. فهم كازابلانكاس الأغنية الطويلة وإمكانياتها، وقال في مقابلة إنه يريد في طغيان تسجيل أغانٍ طويلة كـ هيروين وذ إند ونوفمبر رين وبوهيميان رابسدي، وكذلك فعل.
جاءت أغاني الألبوم طويلة، لكن هيومان سادنس من بين باق الأغاني تستحق الملاحظة بشكلٍ خاص. تبدأ الأغنية بضجيج يبدو كغبار صوتي مبعثر، يتماسك جزءٌ منه ويشكل أول الأصوات، صوت البايس. يستمر الغبار المتبقي بالتكاثف على طول الأغنية مولداً أصوات آلات جديدة، الواحدة تلو الأخرى. يبدأ كازابلانكاس بالغناء بصوت متداخل مشوه بشكل متعمد، لكن ملامحه تأخذ بالاتضاح والتشكل مع الوقت، مارّاً خلال الأغنية بعدة انفجارات إلكترونية تترك وراءها صوته في طبقات حادة تنبثق منها مقاطع عزف جيتار المنفرد. مقطع العزف المنفرد الأول يأتي مزدوجاً، بجيتارين ولحنين مختلفين، واحد في القناة الصوتية اليمنى وآخر في اليسرى، قبل أن يتحدا بصوت شديد التشوه والحرارة يخرج منه صياح كازابلانكاس الحاد مجدداً. تستمر الأغنية بعنف، تعزز الطبول أصوات ارتطام الإيقاعات الإلكترونية بالأسطر الوترية التي ينتج عنها أصوات منصهرة تبرد وتتشكل، بينما يروي كازابلانكاس حرباً ملحميةً تجري داخله بين الأنانية والغيرية، مستخدماً اقتباساتٍ من حياته الأسرية وبيت شعر لجلال الدين الرومي. تأخذ الأمور بالبرود مجدداً مع اقتراب الأغنية من نهايتها، وتتفكك الآلات لغبارها الصوتي الأولي.
على خلاف أعمال الروك الملحمية التي كانت تبحث عن العنصر الجدي من التأثر بالبلوز أو الجاز أو الموسيقى الكلاسيكية أو كتابة كلمات بليغة شعرياً، لم تعتمد هيومان سادنس ذات الدقائق الإحدى عشر سوى على أصوات مألوفة في الروك، لتصهر البانك بالروك التقدمي رغم خلافهما، وتقدم سيمفونية ملحمية صاخبة وقاتمة لم تسمع من قبل.
يستمر الغياب العام لأغنية الروك الطويلة عدا عن حالات فردية أو عند أصوليي أصناف فرعية تتطلبها كالروك التقدمي، وأرى أن لغياب الأغنية الطويلة هذا دلائل قوية على أهميتها. حيث تزامن الغياب مع بدء حقبة في تاريخ الروك سادت عليها فكرة الإتاحة و”الروك للجميع”، انطلقت مع بانك أواخر السبعينات وتلاه الروك البديل وليد الجامعات عرف ببدايته بالـ College Rock، الغرانج Grunge سليل البانك، والروك المستقل سليل الغراج روك Garage Rock. اتفقت كل هذه الحركات على معايير الكفاية الذاتية DIY التي لا تتطلب الكثير من الموسيقي. تفسر هذه الحقبة غياب أغنية الروك الطويلة التي تشكل تحدياً لمؤلفها، وتحتاج لأكثر من بضعة دورس جيتار وبضعة ساعات في الاستوديو لخوض غمارها.
يمتد سبب غياب أغنية الروك الطويلة ليشمل ظواهر أخرى تؤثر بسواها من الفنون أو الأصناف الموسيقية. في مقابلة إذاعية غير موثقة أجرتها إذاعة سورية مع صباح فخري منذ حوالي عشر سنوات، سؤِل فخري عن الأغاني الجديدة السريعة القصيرة، قال إنها حالة مؤقتة ناتجة عن عيشنا حياة عجولة مكتظة لا نجد فيها الوقت لسماع مووايل طويلة، وأن الأوقات ستتغير لتعود الأغنية الطويلة مع تغيرها.
لا أعتقد أن الأوقات ستتغير إلا لتزداد سرعةً واكتظاظاً، لكن فكرة أن الأغاني الطويلة هي حالة بحد ذاتها هي ما يستدعي التوقف. ليس الأغاني الطويلة فقط، بل العديد من الأعمال الفنية الأخرى كالروايات الطويلة التي خالفت التنبؤات وعادت بقوة Infinite Jest, The Luminaries روايات، والأفلام الروائية التي لا تزال مهيمنة على حساب القصيرة تجارياً ونقدياً، والأعمال الموسيقية الكلاسيكية، الغربية أو الشرقية، التي لا تزال حاضرةً ورائجةً في مواجهة أطنان الموسيقى المعاصرة التي تصدر كل يوم. كل ذلك يدل على قوة الأعمال الطويلة الأكثر قدرةً على إخضاع المتعرض لحالتها ومزاجها. مووايل الروك ليست استثناءً وعودتها غير مستبعدة، خاصةً كونها تستغل قوة الروك التعبيرية وتطوره المنحوت بمواكبة حركاتٍ وثقافات أقرب للفردية الاحتجاجية، لتخلق تجربة تعرُّض لا تقربنا فقط من عالم الموسيقي ومزاجه، بل تضعنا في كثيرٍ من الأحيان على مسافة أقرب من عوالمنا الخاصة، إذ تتحول الأغنية إلى موضوعها، إلى تجربة أو رحلة أو علاقة أو ملحمة، نتفاعل معها بشروطنا الخاصة ونخرج منها بطرب وجودي أصيل.