انقطاع القصبجي أم كلثوم صمت مأساة
عربي قديم

أحلام أكبر من صوت الست | نكسات القصبجي

عبد الهادي بازرباشي ۲٤/۰٤/۲۰۱۹

قام ياسر عبد الله بكتابة تحليل أغنية يا قلبي بكرة السفر.


في الثلاثينات اتخذت أم كلثوم القرارات التي شكّلت مسيرتها عبر الثلاثة عقود ونيّف اللاحقة، وما زالت هناك أسئلة لم تُجب وأسئلة أكثر لم تُطرح بعد حول تلك المرحلة؛ فقلما نجد سؤالًا عن سبب عدم أداء الغالبية العظمى من أغاني حفلات الثلاثينات في الأربعينات، أو عن سبب كون مفقودات أم كلثوم تنحصر تقريبًا في ألحان زكريا أحمد ومحمد القصبجي[Mtooltip description=” إن استثنينا الفاروقيات، وهي الأغاني التي أُعدّت لمناسبات تخص أسرة الملك فاروق واعتبرت من مخلفات العهد البائد بعد ثورة ١٩٥٢؛ فبعد أقل من أسبوعين على قيام نظام يوليو، بدأت أم كلثوم حملة ‘تطهير’ – بحسب نص مجلة الكواكب الصادرة في ٥ أغسطس ١٩٥٢، إذ ‘توجهت إلى محطة الإذاعة لتشرف بنفسها على تنقية بعض اﻷغاني من فقرات خاصة بالعهد الماضي.’ (الغناء المصري أصوات وقضايا، نبيل حنفي محمود، كتاب الهلال يناير ٢٠١٤)” /]. بشكلٍ ما، تتقاطع أجوبة السؤالَين، وتضيء على جزءٍ جديد من الأحجية الأشهر والأهم في سيرة أم كلثوم وملحنيها: ماذا حدث للقصبجي؟

منذ البداية، كان بين القصبجي وأحلامه عائقَين، غياب الصوت القادر على جعله يُدرك أحلامه، وصعوبة إقناع أي صوت بجدوى تلك الأحلام. بعد لقاء القصبجي بـ أم كلثوم في مطلع العشرينات حين كانت تنشد المدائح النبوية، تلاشى العائق الأول، الصوت؛ لكن مع صعوبة تخيل الانتقال من المدائح النبوية إلى ما يطمح إليه من أساليب الأداء التي تستقي من الأوبرا والأنغام المعقدة التي تحمل طابعًا تدوينيًا، أدرك القصبجي أن طريقه ما زال طويلًا. لم تكن المشكلة فقط في إيجاد طريقة لإقناع أم كلثوم بأن تجاريه في مغامراته، المشكلة أن أم كلثوم لم تكن مستعدة للاستماع، فقد ملأ عليها فؤادها تأثرها بأبو العلا محمد، المطرب والملحن الكبير البعيد عن أسلوبية وتفكير القصبجي، وأستاذها وراعيها الأول.

“ادبحي كل الفراخ اللي عندك واللي عند الجيران كمان، عندنا النهاردة أحسن واحد في الدنيا.” صاحت الطفلة أم كلثوم لأمها معلنةً قدوم الشيخ أبو العلا محمد. حين ناداه أبوها عند لقائه صدفةً في محطة السنبلّاوين، لم تكن متخيلةً أن رجلًا بمكانته الفنية ما زال حيًا، ثم تعلقت به حتى وافق على مرافقتهم إلى المنزل. منذ كانت تستمع إلى أسطواناته على فونوغراف العمدة، اختارت أم كلثوم أبو العلا أستاذًا أوّل، وكان لها ذلك على أرض الواقع. كان أبو العلا من أهم من شجعوا أم كلثوم على القدوم إلى القاهرة، وأول من رعاها وأعطاها من ألحانه أغانٍ في قالبها المفضّل، القصائد. استمرت أم كلثوم طوال حياتها في التأكيد على أن أبو العلا أحسن من غنى وأحسن من لحّن.[Mtooltip description=” كتاب أم كلثوم وعصر من الفن لـ نعمات فؤاد.” /]

لا تأكيد على الروايات التي تقول إن أبو العلا كان حب أم كلثوم الأول والأكبر، لكن ما لا شك فيه أنها حملت له عاطفةً وإجلالًا لم تحمل مثلهما لغيره، سواءٌ كان ذلك لحبها له أم لشغفها بفنه الذي نشأت عليه. كان جواره بمثابة جوار الخليفة، هنا القمة الفنية قيمةً وصيتًا، ولا خوف عليها من شيءٍ طالما هي في ظله. سرعان ما حلت ساعة رحيل أبو العلا عام ١٩٢٧، وفي ظل حاجة أم كلثوم إلى موجهٍ وراعٍ في تلك المرحلة المبكرة من مسيرتها، لم يكن حولها من أعلام ذلك الوقت بعده إلا القصبجي. كان زكريا أحمد مشغولًا بانتصاراته في المسرح الغنائي، وتأخر تعاون داوود حسني معها حتى مطلع الثلاثينيات. أما القصبجي فقد أعطى لها ما لم يعطِ مثله لغيرها، واعتبر صوتها درب أحلامه. حتى أنه أسس لها فرقةً من أساطير العازفين في عام رحيل أبو العلا، ثم قدم لها المونولوج العربي المتكامل الأوّل في العام التالي، إن كنت اسامح وانسى الأسية، لتتربع به سريعًا على القمّة وتحقق أسطواناته مبيعاتٍ غير مسبوقة. اجتمعت كل هذه الظروف إلى جانب العِلم الموسيقي الكبير الذي حمله القصبجي لتجعله الشخص الأنسب لاحتلال موقع الأستاذ المباشر بعد أبو العلا. لكن على عكس أبو العلا، سعى القصبجي بكل ما لديه لشغل تلك المكانة في حياة أم كلثوم، والاستئثار بها.

مضت ثلاث سنوات ظن القصبجي أنها ستستمر أبدًا، قافزًا خلالها مع أم كلثوم من قمةٍ إلى أُخرى، هو باطمئنانٍ وثقة، وهي بقلقٍ متجدّد يُغالبه النجاح. كان القصبجي عالمًا بالموسيقى الشرقية والغربية، بينما كانت أم كلثوم صاحبة موهبةٍ تاريخيّة على أول طريق العلم. اعتزم القصبجي استثمار علمه في القيام بالثورة الموسيقية تلو الأُخرى، وهو ما كان صعبًا على أم كلثوم أن تستوعبه دون امتلاك علمه. الشيء الوحيد الذي حافظ على ثقتها بطموحاته هو النجاح الجماهيري الكبير مع كل خطوة، فقبلت أن يكون صوتها مشروع ثورته الأدائيّة وطريق ثوراته الموسيقية. “لولا الآفاق المتجددة التي قاد محمد القصبجي أم كلثوم وأحاسيسها الفنية إليها عبر فن المونولوج، الذي طغى على كل أعماله لـ أم كلثوم، ومنها تلك الملحنة على شكل القصيدة أو الطقطوقة، لما حدثت مسيرة التهذيب والتشذيب والتلميع والصقل التاريخية لأوتار حنجرتها وأسلوبها في الأداء وإحساسها بأبعاد النغمات الموسيقية التي تغنيها.” وصف الياس سحاب دور القصبجي في تطور أداء أم كلثوم[Mtooltip description=” كتاب السيرة لـ الياس سحاب من موسوعة أم كلثوم.” /].

ينوبك إيه من تعذيبي

بحلول عام ١٩٣١ انضم إلى ملحني أم كلثوم زكريا أحمد، أحد رعاة ومشجّعي موهبتها منذ كانت تنشد المدائح النبويّة، وهو إلى جانب ذلك ملحّنٌ مُخضرمٌ في اللون الأقرب إلى موسيقى النهضة، والذي ترتاح له أم كلثوم بالدرجة الأكبر. شكّل ذلك تهديدًا للقصبجي، فلم تعد النجاحات الكبرى بصوت أم كلثوم حكرًا عليه، كما أن ألحان زكريا لم تتطلب الأساليب الأدائيّة المرهقة التي ما زال القصبجي مواصلًا تطويرها وتدريبها عليها، وأفردت لها مساحاتٍ أوسع للارتجال بدل الشبكة اللحنيّة المعقّدة عند القصبجي. ربما الأشد خطرًا من كل ذلك التباين الواضح في اتجاهات الملحّنَين التطريبية، حيث يسود الطرب الغريزي الأقرب إلى تراث النهضة عند زكريا، الذي لا يستقيم دون صيحات وتصفيقات الجمهور، بينما يغلب الطرب النفسي عند القصبجي، الذي تأخذ قفلاته المستمع إلى حالات أعمق من التأمل والاستغراق، وتجعله يستبدل صيحات وتصفيقات الانطراب بآهاتٍ خافتة أشبة بأنّات[Mtooltip description=” استُخدمت مصطلحات الطرب الغريزي والنفسي كما استخدمها صميم الشريف في كتابه السنباطي وجيل العمالقة.” /]. كان تطريب زكريّا هو الأكثر جماهيريّةً على المسرح، المكان الذي اختارته أم كلثوم منبرًا أول لفنها، إذ أتاح لها أن تمد كل دقيقة من تسجيل الاستديو إلى عشرة، ملأى بارتجالات وأخذ ورد بينها وبين الجمهور.

خلال سنوات نشاط أم كلثوم المبكرة على جبهتَي زكريا والقصبجي، بدأت تتردد ألحان شابٍّ عشرينيّ قادمٍ من المنصورة اسمه رياض السنباطي، بأصوات نادرة أمين وفتحية أحمد ومنيرة المهدية وأحمد عبد القادر ومحمد عبد المطلب وصالح عبد الحي وعبد الغني السيّد، بل واتضح أن له صوتًا جميلًا وبراعةً استثنائيّة في عزف العود لدى تعاقد الإذاعة معه عام ١٩٣٤ على فقرةٍ أسبوعيّة. ظهر جليًّا أن ثورة القصبجي قد سحرت السنباطي، فتردد صداها في معظم ألحانه في تلك الفترة، ببراعة الدارس لتلك الثورة لا مجرّد المقلّد لها. من الطبيعي أن يسُر تلميذٌ مجتهدٌ كهذا أستاذه القصبجي، الذي استمر في إزكاء السنباطي في مجالسه حتى وجد أم كلثوم تستقطبه إلى فريق ملحنيها عام ١٩٣٥.

بين القصبجي المغرق في الرومانسية، وزكريا المغرق في الطرب، جاء السنباطي رومانسيًا صوفيًا طروبًا؛ وبين أستاذَين في العقد الرابع من العمر وأطول خبرةً من أم كلثوم، جاء السنباطي حديث السن والتجربة، ما جعله أليَن عند الاختلاف وأسهل في التفاهم، على الأقل في البداية. كما زاد أمرٌ آخر من حظوته في نفس أم كلثوم وجمهورها بسرعة كبيرة، هو ترافق بدء التعاون بين الاثنين مع إطلاق الإذاعة في عام ١٩٣٤ (التي نص عقد أم كلثوم اﻷول معها على تقديم وصلة شهرية مسجلة، تقدم للإذاعة قبل أسبوع من بثها ولأم كلثوم الحق في أكثر من تجربة على أن تذاع الخميس والسبت اﻷولين من كل شهر بعدد ٥٢ حفلة كل سنة)، ثم انتقال حفلات أم كلثوم إلى قاعة إيوارت في الجامعة الأمريكية ومسرحَي الأزبكية و الليسيه فرانسيه – الذي ﻻ نملك من حفلاته أي تسجيل حتى اﻵن[Mtooltip description=” في تسجيل بمناسبة اليوبيل الفضي للإذاعة أشارت أم كلثوم إلى حفلات الليسيه فرانسيه.” /]، حيث تعاقدت الإذاعة مع أم كلثوم على بث إحدى الوصلات في كل حفلة. بدأ الأمر بـ على بلد المحبوب والنوم يداعب عيون حبيبي، مرورًا بـ هوى الغانيات ومقادير من جفنيك وسلوا كؤوس الطلا وإفرح يا قلبي وفاكر لما كنت جنبي وأتعجل العمر، ثم يا طول عذابي واذكريني، مونولوجات وقصائد وطقاطيق فيها من الصوفية السنباطية ومن العجائبية والدراما والسرد القصبجيين، والكثير من الطرب ومساحات التطريب، لتمتد دقائقها التي تتراوح بين ٥ و٨ دقائق على الأسطوانة إلى أكثر من خمس أو ست أضعاف هذه المدة على المسرح. صحيحٌ أن التطريب لم يكن السبب الوحيد في اختلاف المدة على المسرح، وإنما كانت المقدمة واللوازم تُدعّم كذلك، لكنها لم تُطبع بعد بذاك البنيان الهندسي المبهر الذي تُعرف به كلثوميّات السنباطي اليوم.

كان القصبجي في هذه الفترة، حتى عام ١٩٣٨، متابعًا مشروعه التاريخي ومحققًا النصر الفني تلو الآخر، من طالت ليالي البعاد إلى ياللي جفاك المنام وفين العيون وأيها الفلك وحيرانة ليه وياما ناديت، ثم يا مجد ومنيت شبابي اللتَين تربّع بهما على ذُرًى لم يقترب منها غيره حتى اليوم. لكن ذلك الاحتضان الجماهيري غير المسبوق الذي قوبلت به مونولوجاته الأولى كان أقصر بكثير من الأبد الذي تخيله، وسُرعان ما شغلت الشارع ألحان زكريا والسنباطي الأكثر مرونة على المسرح. كان لا بد له أن يستعيد ثقة أم كلثوم بأنه سيبقى الخيار الأمثل لكل ميدان، وبالتالي التكيُّف مع ظاهرة الحفلات الشهريّة، وبالنسبة له، كان على الظاهرة أيضًا أن تتكيّف وتلاقيه في منتصف الطريق، ليتسنى له الإتيان بمنعطفٍ موسيقيٍّ جديد سيترك أثره على موسيقى ما تبقى من القرن.

ربما جاء هذا المنعطف مع أغنية ينوبك إيه من تعذيبي، التي لا نعرف عنها اليوم سوى أنها من كلمات علي شكري وألحان القصبجي، وأنها افتتحت موسم الحفلات الشهرية لعام ١٩٣٨ إلى جانب يا طول عذابي لـ السنباطي، لتكون أولى مشاركات القصبجي في هذه الحفلات. لم يظهر أيُّ تسجيلٍ للأغنية حتى اليوم، ولا أيُّة شهادة ممن نالوا فرصة سماعها. حتى وقتٍ غير بعيد، كنا سنذكر يا قلبي بكرة السفر – التي اختتمت موسم ١٩٣٨ –  بالكلمات ذاتها، لكن لحسن حظ أرشيف أم كلثوم، ظهر تسجيلٌ لها بعد أن عُدّت مفقودة، مشرعةً الأبواب أمام الخيال لدى التفكير فيما يمكن أن تحمله مفقودات القصبجي الأُخرى.

أحلامي، هذا الاسمُ الذي أطلقه القصبجي على مقدمة يا قلبي بكرة السفر الموسيقية. في هذه الأغنية بالفعل إحدى ذُرى أحلام القصبجي، وذُروة رومانسيته التي أشادت صرح موسيقاه التاريخي، لتقصم هي ذاتها ظهره بعد سنواتٍ قليلة.

لكن صبرت وعزاني | تحليل يا قلبي بكرة السفر

تمنحنا يا قلبي بكرة السفر مفتاح مقارنة بين تسجيلات اﻷسطوانات وتسجيلات الحفلات الحية المنقولة عبر الإذاعة. كذلك تفتح بابًا للإجابة على تساؤلات تخص انتقال أم كلثوم من التخت إلى الفرقة الموسعة. تبدأ اﻷغنية بمقطوعة أحلامي، وهي مقطوعة حرة استبدل بها القصبجي القوالب اﻵلية الموروثة (مثل سماعي طاتيوس الذي افتتحت به أم كلثوم حفلتها في مؤتمر الموسيقى العربية عام ١٩٣٢)، وبينما تؤطر القوالب اﻵلية الموروثة وتحكُم مقام الوصلة النهضوية، اعتاد القصبجي البوح بسر اﻷغنية في مقطوعتها اﻵلية، أو باﻷحرى رسم خطة عمل محتملة للبناء الهندسي الغنائي التالي؛ فكما تخبرنا مقطوعة ذكرياتي إلى حد ما ببنية رق الحبيب التالية، تنبئنا مقطوعة أحلامي عن خطة عمل يا قلبي بكرة السفر القائمة على الحوار بين المرسل المنفرد والمُوقّع الجماعي، بشكلٍ يجعل من الصعب جدًا رسم صورة واضحة للحن يُمكن لأي مطرب السير وفقها، ما يُذكّرنا بلحن الأولة في الغرام لزكريا، لكن الفرق أن زكريّا يتعمّد إفراد مساحات كبيرة بحرية كبيرة للمطرب، بينما مع يا قلبي بكرة السفر، من شبه المستحيل ترك مساحات الخلق لمطربٍ لا يرافقه عود القصبجي. مرسلٌ أم موقع، كل شيء مرسوم بالشعرة.

تبدأ مقطوعة أحلامي بجملة مرسلة (أدليب حر) تعزفها الوتريات يليها جملة موقعة من الفرقة جميعًا كما لو كانت صيغة سؤال وجواب، والملاحظ غياب العود – آلة المُلحن وقائد الفرقة – عن القيادة بحيث ﻻ نكاد نسمع منه سوى ضربات خافتة تاركًا القيادة لعازف الإيقاع، وﻻ نسمع صوته بوضوح سوى قبل نهاية المقطوعة ودخول الجملة التمهيدية للأغنية، حيث يبدو وكأنه يلعب دور المغني، ثم ينسحب بهدوء مسلمًا الغناء لأم كلثوم، ومماهيًا نقرات ريشته مع صوتها، حاضرًا غائبًا كطيف الحبيب البعيد.

كحاله مع كل مونولوجات رامي، استفاد القصبجي من التقطيع الشعري للنص، فقسّم الشطرات إلى مشاهد لحنية، مستبدلًا بهذه الهندسة التلحينية منطق الأغصان (الكوبليهات) في الطقطوقة، فالمشهد الأول “يا قلبي بكرة السفر” مكون من بيتين بأربع شطرات على إيقاع هادئ، وتغني أم كلثوم من المنطقة الوسط بين قراراتها وجواباتها، دون تحويلات مقامية أو إيقاعية ملحوظة. بينما يأتي التحويل المقامي عند “ازاي أشوف القمر”، حيث يستعمل القصبجي الشطرات الثلاثة بوصفها جسرًا يعبر به من اللحن السابق إلى اللحن التالي، ملحنًا “وازاي أشوف القمر” مرتين على مقامين وإيقاعين مختلفين، وهي نفس الفكرة التي طبقها لاحقًا في جملة “ولقتني طايل م الدنيا” في رق الحبيب، حيث لحن الجملة أول مرة سريعةً ومضغوطة بلا سلطنة، ثم عاد ففككها بإيقاع أبطأ وبسلطنة أكثر، وهو ما يمكن تسميته بالارتجال المُلحّن حيث يجري التلاعب بالمستمع وجعله حائرًا بين المرتجل والملحن، تلاعبٌ يستمر طوال الأغنية.

ينتقل القصبجي إلى المشهد اللاحق بلازمة عجيبة لا يستقر فيها على مقام إلا في نهايتها، كاشفًا عن ملمحٍ يغلف الأغنية التي يتعامل فيها القصبجي مع المقامات وكأنها كرة ملونة. المشهد مكون من أربع شطرات مطلعها “والنسمة تسري وتتكلم”، وتُلاحظ اللازمة العزفية التالية لـ “النسمة تسري وتتكلم” التي يقطّعها القصبجي تقطيعًا سريعًا، حيث تمهد اللازمة للمشهد التالي البادئ بـ “ياما بعد عني حبيبي”، فنسمع جوابات أم كلثوم الصداحة للمرة اﻷولى، كما لو أن القصبجي أشار لها بخفية لإفلات صوتها الجامح من لجامه. التلميح الدائم للارتجال والتمويه بينه وبين الارتجال المُلحن يجعل الارتجال وعدًا مؤجلًا يتمنى المستمع تحقيقه، وهو ما يشرع الاثنان، القصبجي وأم كلثوم، في التمهيد له، حيث بلغ ذروته في الشطرات التالية ومطلعها “لكن صبرت وعزاني”.

يستخدم القصبجي شطرَي بيت “لكن صبرت وعزاني” موحدَي القافية جسرًا للعبور إلى الشطرات التالية: “إن النسيم اللي باشمه”، ونلاحظ التوتر ما بين انفعال لحن “لكن صبرت وعزاني في بحر وجدي وأشجاني” مقابل سلطنة “إن النسيم اللي باشمه فايت عليه”، كما لو كانت راحة صوت أم كلثوم في أدائها هي العزاء بالفعل. هنا تبلغ الأغنية ذروة تطريبها ويتحقق الوعد المؤجل بالارتجال، يتصاعد صوت العود الخافت مصاحبًا لها خطوة بخطوة ويتماهى صوته مع صوتها. ﻻ يفقد القصبجي الخيط أبدًا في الارتجال، بل يشاركها في اختيار السكك التي ستسلكها، ليعود بسلاسة إلى المُلحّن عند “أقابله ع البعد وأضمه” ممهدًا للازمة التالية، ومستخدمًا شطرتي “وإن ردد الطير من لحنه” جسرًا للعبور بين المشهد السابق والتالي، فيأتي لحن ترديد الطير راقصًا وسريعًا قبل دخول بيتَي “سمعت منه نجوى الحبيب”، حيث تتضح نقرات العود مع كلمة الحبيب ونسمع بها نجواه.

ينقلنا جواب “لكن يا قلبي فين النسيم” الصارخ إلى مرحلة جديدة في تصاعد اﻷغنية بطلها عناق صوت أم كلثوم وعود القصبجي في ردَّين مشبِعَين طربيًا بعد “فين النسيم” و”فين يا قلبي ساعة النعيم”، فتصمت الفرقة ويصمت الجمهور وﻻ نسمع سوى العناق الطربي بين الغناء والعود، مع ذروة صوتية يصعب تكرارها عند كلمة الليل، تَفي أم كلثوم وعودها الارتجالية بتكرارات مشبِعة سمعيًا بطلها العود وعازفه المتصوف في حرم صوت أم كلثوم. أصبح العود بطل الفرقة كما حدث في مقطوعة أحلامي حيث برز العود في نهاية المقطوعة ﻻ بدايتها، يمهد هذا العناق بين العود والغناء لختام اﻷغنية عند “لما ابقى وحدي غريب” سريعًا وهادئًا دون تكرار، كما لو كانت عودة المستمع إلى قرار انفعاله بعد أن تلاعب به لحن القصبجي وصوت أم كلثوم.

اكتشاف تسجيلات حفلات الثلاثينات مثل هذا التسجيل يعيد اكتشاف أم كلثوم نفسها، فرغم إبداع اﻷغنية نلحظ ارتباك الفرقة التي تقع في الحدود بين التخت كما ظهر في مؤتمر الموسيقا العربية اﻷول عام ١٩٣٢، والفرقة الموسعة التي ظهرت في نشيد اﻷمل، بينما يختفي هذا الارتباك في السنوات اللاحقة.

أول الرواة

قدم القصبجي لأول مرة المقابل المثالي للوصلة في موسيقى النهضة[Mtooltip description=” ‘الوصلة بتبدأ بالمعزوفات ثم يكون فيه موشح ثم الليالي والموال ثم في الآخر دور والوصلة الأخيرة ممكن يبقى فيها قصيدة على الواحدة بدل الدور وبدل الموال ممكن قصيدة مرسلة (…) نقدر نقول إن الأغنية الطويلة على النمط الكلثومي هي في الواقع عبارة عن وصلة، لأنها بتجمع ما بين قطعة موسيقية في المقدمة أو بين الكوبليهات بيكون فيها المُرسل وبيكون فيها المُوقع، بيكون فيها جمل موسيقية ملحنة تمامًا وبيكون فيها ارتجال فبالتالي تشبه إلى حد ما الوصلة في هذا التنوع والتناوب ما بين الأجزاء المرسلة والأجزاء الموقعة ما بين الأجزاء الملحنة والأجزاء المُغناة فبتبقى إلى حد ما وصلة’ من مقال أم كلثوم مشروع وطني على معازف.” /]: لحنٌ مطوّلٌ في الأصل بقفلات تطريبية ينفعل بها الجمهور، بإيقاعات تُدعّم ذلك التطريب وتفسح المجال للتفريد والارتجال بحضورها وغيابها، لكنه ارتجالٌ محكوم زمنًا واتجاهًا، فللسرد وبنيته الأولوية، لا مجال هُنا لفواصل تطريبية نعود بعدها لإكمال القصة. مساحات الارتجال ركنٌ في البنية، لكنه بدل أن يكون مُدعّمًا بحفظٍ مُسبق، يُدعّمه لحظيًا عود القصبجي وبراعة أم كلثوم في التجاوب معه، حيث ينير لها الاتجاهات الأمثل لتنطلق فيها ارتجالاتها، فيما يشبه حرية جزئية، يختارُ هو الغاية وتختار هي الوسيلة. أما باقي الأركان فحدّث ولا حرج، بين مقدّمة أشرعت الأبواب أمام حشد كل مهارات تأليف موسيقيي عصره في مقدمات أغانيهم لتُستعاد وتُقدّم كقطع موسيقية مستقلة، ولوازم عجائبية تفتح الفصل الجديد تلو الآخر في الحكاية، وألحان ثريّة بعاطفة غامرة للمقاطع الغنائية ألهبت خيال أم كلثوم كما لم يحصل من قبل، وباعتقادي، ولا من بعد. هذه الأغنية هي أصعب ما قدمت أم كلثوم.

يمكن القول إنه في البداية، كانت يا قلبي بكرة السفر. هُنا بدأت المؤلفات الموسيقية العربية الضخمة، شيءٌ يشبه الانتقال من القصص القصيرة إلى الروايات، ويجمع الموسيقى السردية المبنية بعناية لبنةً لبنة، إلى السمة الجوهرية في الموسيقى العربية: الخلق الآني على المسرح، لكنه خلقٌ يقوده لأول مرة الملحّن لا المطرب، لأنه في هذه الحالة أحد أهم أعلام عزف العود في التاريخ، قائد الفرقة التي تنفّذ اللحن، وأستاذ المطربة التي تغنيه، المايسترو.

في العام التالي اكتفى السنباطي بمشاركة وحيدة في الحفلات الشهريّة هي قصيدة اذكريني، في محاولة لتلمّس طريقه بعد الذهول المتوقع إثر زراعة القصبجي لرايته مرة أُخرى في ميدانٍ جديد، مرفرفةً على ارتفاعٍ مجنون. نلاحظ في مقدّمة اذكريني أن السنباطي بدأ بتقديم قطعة موسيقية متكاملة كمقدمة موسيقية، لكنه عدا ذلك أبقى على اللوازم قصيرةً ومال إلى الصوفية. أما عبد الوهاب فقدّم أول أغانيه الطويلة، قصيدته الخالدة الجندول، بزخمٍ تأليفيٍّ وأدائيٍّ نادر. في حين استكمل القصبجي طريقه مع الحفلات الشهرية بمفقودة أخرى اليوم هي هايم في بحر الحياة. ثم في ١٩٤٠ أصبحت يا قلبي بكرة السفر هي القاعدة، إذ وجد السنباطي طريقته الخاصة لبناء الأغنية الطويلة في هلت ليالي القمر، ودخل زكريا إلى هذه الساحة بـ الأمل، بعد أن افتتح القصبجي العام بـ أحب أقول اللي ف بالي، المفقودة.

كان ١٩٤١ عام القصبجي بلا منازع في ساحة الحفلات الشهريّة، افتتحه بـ روح كلامك في حنيني ثم لاح نور الفجر، المفقودتَين أيضًا، ثم ختم العام بالمعجزة رق الحبيب. في أغلب الأحيان، يُحدّد تاريخ بدء انقطاعات القصبجي عن التلحين في الميدان تلو الآخر بأنه يوم ولادة رق الحبيب، وتُذكر أسبابٌ عديدة منها المنطقي والقابل للتأمُّل ومنها ما هو الجامح برومانسيته، كاعتبار أن وصوله إلى إنجاز رق الحبيب لم يُبق له شيئًا لينجزه فتوقف. لم تكن يا قلبي بكرة السفر أقل من رق الحبيب، وأنجزها قبلها بثلاث سنوات، ولم يتوقف. في الواقع، هنا تكمن المشكلة، أنه لم يتوقف عن الأحلام التي رسم صورتها في يا قلبي بكرة السفر، الأغنية التي فتحت باب المستقبل للجميع، بينما تركته مواربًا أمام مبدعها.

ذكر محمد الموجي أنه بين مشاركتَيه الوحيدتَين في حفلات أم كلثوم يُفضّل إسأل روحك على للصبر حدود، لأنه امتلك سلطةً إبداعيةً كاملة في الأولى بينما أكثرت أم كلثوم من تدخلاتها في الثانية. بينما ذكرت أم كلثوم في سياق آخر أنها تغار من صوتها في هلت ليالي القمر، يمكن تفسير هذا التفضيل بأسباب الموجي ذاتها، فقد ذكرتها دون رق الحبيب، وحتى دون يا قلبي بكرة السفر. يمكن فهم عدم ذكرها لـ الأمل مثلًا بنتيجة الخلاف مع زكريا، لكن من الصعب أن تغيب عن ذاكرتها الذروة التاريخية التي بلغها صوتها وأداؤها في مونولوجَي القصبجي لدى الحديث عن المرحلة الذهبيّة لصوتها. التبرير المنطقي أنه لم يكن ملحّن هلّت ليالي القمر هو أستاذها الجالس وراءها ممسكًا بعوده ومراقبًا لها وهي تؤدي لحنه، ولا القائد لفرقتها الموسيقية في كل أداء. كانت حرّةً في هلّت ليالي القمر، وفي اختبارٍ دائم مع رق الحبيب ويا قلبي بكرة السفر.

لدى سماع أغانٍ مثل قولي لطيفك ينثني ١٩٣٩، حرّمت أقول بتحبيني ١٩٤٠، فضلت أخبي ١٩٤١، ياللي صنعت الجميل ١٩٤١، غنى الربيع (الحفلة الوحيدة عام ١٩٤٣)، ورق الحبيب (حفلة النادي الأهلي ١٩٤٤) بترتيبها الزمنيّ، سنلاحظ التأثير التدريجي للعمر على طبيعة صوت أم كلثوم، ومدى ارتياحها في الطبقات الأعلى، المفضّلة لدى القصبجي. لن يعي أحدٌ ذلك مثل أم كلثوم، وربما أحست بخطورة الأمر حين “أفلتت زمام صوتها لحظة” – بحسب تعبير فيكتور سحاب – لدى الوصول إلى أعلى جواب في ارتجالٍ على كلمة الشكاة في حفلة غنت بها أتعجّل العمر. لكن على الأقل، كان ذلك في ارتجالٍ لا في أصل اللحن، على عكس الحال مع يا قلبي بكرة السفر حيث يتحرك اللحن الأصل من أقصى صوت أم كلثوم إلى أقصاه، عدا عن أن اعتياد الجمهور على بلوغ الذروة في أغنية معينة سيجعلهم يلاحظون تعمُّد الابتعاد عن تلك الذروة في الأغنية نفسها في حفلات أُخرى، لذلك نجد ندرة في أداءات أتعجل العمر ويا قلبي بكرة السفر رغم نجاحهما الكبير، حيث اقتصر تقديم كلتيهما على أربع حفلاتٍ جاءت في بداية المرحلة الانتقاليّة في صوت أم كلثوم، وبداية مرورها بأزمات صحّيّة رافقتها طوال حياتها.

علمت أم كلثوم أن القصبجي أكثر رومانسيةً وجموحًا بخياله من أن يتكيّف مع تأثير الزمن والمرض على حنجرتها، ومن أن يعي أن إجهادها باستمرار سيدعّم ويُسرّع ذلك التأثير، ويقصّر بالتالي عمر مسيرتها؛ بل وأثبت لها القصبجي ذلك مرّتَين في العام ذاته (١٩٤١)، فأعطى أسمهان لحن يا طيور الأوبرالي التاريخي الذي يُظهر الغايات البعيدة التي ما زالت نصب عينيه، ودفعها هي لتقديم أوبرا عربية في فيلمها عايدة واجهت بسببها فشلها الأوّل والأكبر والأخير، والذي أتلفت بسببه ما لحنه القصبجي من الأوبرا ليضاف إلى مفقوداته. بدأ بعد عايدة انقطاع القصبجي الثاني. كان انقطاعه الأول عن الحفلات الشهرية بعد رق الحبيب، وبعد عايدة انقطع أي تعاونٍ ممكن في الأسطوانات أو الأفلام بينه وبين أم كلثوم لست سنواتٍ لاحقة، كانت له بعدها عودة خجولة وأخيرة في فيلم أم كلثوم الأخير عام ١٩٤٧.

الإقصاء

عشاق القصبجي مولعون بعلمه والهندسة والفكر المُعملَين دومًا في ألحانه، لذلك يميلون بأغلبهم لنفي الرواية الشائعة القائلة بوجود قصة حب في حياته يمكن لفشلها أن يكون سبب انقطاعه، من باب أن عقلًا كهذا لا يذله قلب. لكن هناك دليل دامغ على قصة حب القصبجي لأم كلثوم، هو صورة لمحضر واقعة دخول القصبجي بمسدسٍ إلى منزل أم كلثوم لدى سماعه بأنها تزوجت من الملحن محمود الشريف. إذًا فقد أحبها بالفعل، لكن صد أم كلثوم لم يولد بعد رق الحبيب وفيلم عايدة، بل كان موجودًا منذ البداية واستمر حتى النهاية، إذًا، ما حقيقة دور الحب في مأساة القصبجي؟

كان على أم كلثوم التفكير بالقصبجي في كل مرة أدت فيها أغنية وأحست بأن العمر أثّر على قدرات صوتها. ربما منعها كبرياؤها من أن تقول له: “لا أستطيع الاستمرار في تحقيق أحلامك، وتقصير عمر أحلامي”، كما أنه ما زال يثبت مرةً تلو الأخرى بأنه على رأس حرفته. كان يجب أن يعطيها الحجّة لتمتنع عن ألحانه، وكون علاقتهما إنسانية بقدر ما هي احترافيّة، كان يجب أيضًا أن تغطّي الحجّة هذين الجانبَين للعلاقة.

احتل القصبجي مكانة الأستاذ في حياة أم كلثوم بعد رحيل أبو العلا، وحمل مسؤولية إطلاق مسيرتها على عاتقه بتشكيله فرقتها وقيادته لها، وحتى إدراته أعمالها بمشاركته الحاسمة في صنع قرارتها إلى جانب أحمد رامي عبر قرابة عقد ونصف، بما في ذلك قرارَي التعاون مع زكريا والسنباطي. بالإضافة إلى كل ذلك أحبها. لهذا، حين زوّد القصبجي حنجرة أسمهان بألحانٍ جعلتها المنافسة الوحيدة لأم كلثوم على قمتها، من غير المستغرب أن ذلك أشعرها بالخيانة، ففي حين كان له قولٌ في كل قرارٍ اتخذته، لم يترك لها قولًا في ذلك؛ عدا عن أن تأكيده على حبه يصوّر تصرّفه هذا على أنه إما عقابٌ على أنها لم تبادله الحب، أو دليلٌ على أنه لم يحبها أصلًا، خاصةً أنه يقوم بذلك في الوقت الذي اقتربت فيه أم كلثوم من أربعينياتها بمشاكل في الكبد والمرارة والغدة الدرقية، وتقدير هذه الظروف لا يتطلب حتى الحب، بل مجرّد تقدير العشرة. حتى لو لم تشعر أم كلثوم بذلك، لكن مجرد سنوح هذه الفرصة لتبرير التوقف عن مجاراة القصبجي في مغامراته كافٍ لتتصرف كما لو أنها شعرت بالخيانة. بهذا امتلكت أم كلثوم الحجة الإنسانية.

أما على الصعيد الاحترافي، هنا كانت المفاجأة الكبرى، فقد فشل القصبجي لأول مرة بأن تلاقي أحلامه حب الجماهير بما حصل مع الأوبرا التي قدمها في فيلم عايدة. مع عدم نجاة أي تسجيل للأوبرا، لا يمكننا اليوم معرفة هل كان الفشل جماهيريًا فقط أم جماهيريًا وفنيًا، بل وما حققه في العام ذاته مع أسمهان في يا طيور يجعل الأرجح أن القصبجي نجح فنيًا لكن فيما لم تكن الذائقة العامة مستعدةً له وقتها وضمن فيلم. المهم أن القصبجي فشل جماهيريًا لأول مرة، وكان سبب أول فشل في مسيرة أم كلثوم، بالتزامن مع تقديمه لأسمهان ألحانًا أطلقت نجوميتها وخلدت اسمها. أصبحت الحجة الاحترافية جاهزة.

جدول أعمال نقابة الموسيقيين لمناقشة قضية شروع محمد القصبجي في قتل سكرتير النقابة محمود الشريف

لدينا دليلَين اليوم على قصة حب القصبجي، المحضر المذكور، وحديثٌ دار بين محمود كامل، صديق القصبجي وصاحب أول وأهم كتاب عنه، والياس سحاب كاتب سيرة أم كلثوم. ذكر كامل لسحاب حديثًا بينه وبين القصبجي سأل فيه كامل عن سبب قبول القصبجي لأن يكون مجرد عازف وراء أم كلثوم وهو من هو بين أكبر الموسيقيين، فأجاب القصبجي: “يا محمود، أنا أمنية عمري إني أموت وانا بعزف العود وراها.”[Mtooltip description=” كتاب السيرة لـ الياس سحاب من موسوعة أم كلثوم.” /] أصبح الأمر معقدًا أكثر، كيف يمكن فهم كون القصبجي بنفسه وراء نجومية أسمهان، أخطر منافسة لأم كلثوم في تاريخها بعد كل هذا الحب؟ قد يكون أكثر تفسير منطقي أن القصبجي أحب الموسيقى أكثر من أم كلثوم، وكان مستعدًا للمضي في أي طريق يقرّب إليه أحلامه، أيًا كانت النتائج، خاصةً أن تاريخه يثبت أنه كان بحاجة أصواتٍ كهذه ليبدع، إذ لم يظهر له أي لحنٍ شامخ يرقى إلى المقارنة بإرثه مع أم كلثوم قبل لقائه بها، وغابت عنه ملكته التاريخية بعد حرمانه من صوتها وصوت أسمهان.

إذًا كان لإقصاء القصبجي ثلاثة آثار: تدمير كبريائه بانقلابه من قائدٍ لتابع بين ليلةٍ وضحاها – بعد عقد ونصف من امتلاكه السلطة على المشروع الكلثومي واستغلالها للقيام بأهم الإنجازات في تاريخ الموسيقى العربية المسجّلة، وإجباره على قبول أن يموت ويختفي عملٌ وضع فيه جل طموحاته، هو الذي يرى في ألحانه أولاده الذين لم يُرزق بهم، وخسارته لصوتٍ تاريخي لم يكن له أن يُحقق دونه أي حلم. كما زاد الطين بلة أن أسمهان توفيت بعد ثلاث سنوات فقط من قطيعة أم كلثوم له. انكسر ظهر القصبجي، لا أمل باستعادة مكانته، ولا أمل في استمرار أحلامه الموسيقية التي بنيت على الطاقة الصوتية الهائلة بعد منعه من صوتٍ له تلك الطاقة ورحيل الآخر. لم يبق إلا أمل الحب طالما هو محتفظٌ بالقرب من أم كلثوم عازفًا على المسرح، وصديقًا قديمًا يزورها ويحادثها ويطرح رأيه وإن لم يؤخذ به. مرةٌ وحيدة عاوده فيها الأمل وأطلق فيها آخر ألحانه الخالدة، وهي حين منحته أم كلثوم فرصة تقديم ثلاثة ألحان (يا صباح الخير ياللي معانا، نورك يا ست الكل، ياللي انحرمت الحنان) في فيلمها الأخير فاطمة ١٩٤٧، هي اليوم من مآثره وإن لم تكن بين أفضلها، وبنتيجة هذا الأمل قدم في العام ذاته أنا قلبي دليلي لـ ليلى مراد فكانت صيحته التجديدية الأخيرة.

لم تنتظر أم كلثوم طويلًا قبل أن تنفذ في القصبجي عقابها الأخير وتجرده مما تبقى لديه من الأمل، حيث أعطته في نفس العام – ١٩٤٧ – أغنية سهران لوحدي ليلحنها، وحين انتهى لم يعجبها اللحن فأعطت القصيدة للسنباطي وقالت جملتها الشهيرة: “يبدو يا قصب إنك محتاج راحة طويلة.” بدأ بعد ذلك انقطاع صوت القصبجي الخاص كملحن، ليتبع ذلك انقطاعه الأخير عن التلحين بالكامل حتى وفاته عام ١٩٦٦. قدم القصبجي بين نهاية الأربعينات ونهاية الخمسينات عدة ألحان لم يكن بينها ما يحمل بصمته وفكره، وتشهد على ذلك أغنيتين مطوّلتين قدمهما لشهرزاد هما نويت أحبك وبتحب ليه وبتشكي ليه، وإن لم يعزهما الجمال. في تلك الفترة كانت أم كلثوم تسجل للإذاعة بعض أغانيها القديمة والجديدة لطبعها على أسطوانات، ووقع بينها وبين زكريا الخلاف الذي كان سبب عدم تسجيل ألحانه وشغلها القسم الأكبر من جداول مفقودات أم كلثوم. من جهة أُخرى كان تسجيل ألحان القصبجي متاحًا وسجّلت رق الحبيب، لكنها لم تسجّل أغانيه الطويلة من الثلاثينات، يا قلبي بكرة السفر وينوبك إيه من تعذيبي وهايم في بحر الحياة وناسية ودادي وجافياني. ربما لم يساعدها صوتها في ذلك الوقت، وربما أكد لها ذلك أنها اتخذت القرار المناسب مع القصبجي، وفي الوقت المناسب.

كان القصبجي رومانسيًا أكثر مما يجب، فغفل عن الزمن حين هاجم حبيبته وأعانه عليها دون أن يدري، وكانت أم كلثوم معتدةً بنفسها أكثر مما يجب، وحين توجّب عليها أن تتخذ قرارًا تحمي به مسيرتها من مغامرات القصبجي التي لم تعد تستقيم مع تقدمها في العمر وإصابتها بأمراض مزمنة، كان أمامها خياران، مصارحته أو تحيُّن فرصة تجعل مقاطعتها إياه حقًا مشروعًا، فاستقرت على الخيار الثاني لتبقى في نظر نفسها والجميع أقوى من أن تخشى على نفسها من أن لا تستطيع تقديم كل ما يطمح إليه القصبجي.

في جلسةٍ مع الأستاذ نزار ناصر، أحد عتاولة السمّيعة ومن أهم الشغوفين بمشاركة هواهم الكلثومي مع الجميع على قناته على يوتيوب، جاء ذكر الغموض في قصة القصبجي وأم كلثوم، فقال نزار: “أنا دايمًا يستوقفني إن القصبجي بدأ مع أم كلثوم بأغنية اسمها إن حالي في هواها عجب، وختم بأغنية اسمها ياللي انحرمت الحنان.”

المزيـــد علــى معـــازف