fbpx .
بحث | نقد | رأي

محمود الشريف | حبيب الشعب الذي لم يعرفه أحد

شريف حسن ۲۰۱۵/۰۷/۲۸

ضحّى محمود الشّريف باسمه مقابل اشتهار ألحانه. هذا الملحّن الذي أصبح رمزًا للشغّيل الصّامت الذي أنجز ألحانًا تنوّعت بين الوطني والشّعبي والعاطفي دون أن يستغلّ نجاحه في شهرة مثل منير مراد ابن زكي أفندي مراد وشقيق ليلى مراد.

ولد محمود حسين إبراهيم الشريف في ٢ أيلول / سبتمبر ١٩٢١ في الاسكندرية وبالتحديد في باكوس، لأب يعمل شيخًا في جامع العجمي. نشأ محمود على حلقات الذكر الصوفي التي كانت تقام في البيت، إلى جانب أغاني داوود حسني التي تُسمع دائمًا. عزّز هذا الجو امتلاك شقيقته لمشغل في البيت تعمل به عدد كبير من العاملات اللواتي كنّ يغنّين أثناء عملهن. يتذكر محمود الشريف من تلك الأجواء أغنية يا نخلتين في العلالي، وأغنية قمر له ليالي لداوود حسني وغناء حامد مرسي، وأغاني الأفراح في المناطق الشعبية، مثل يا حنه يا حنه يا قطر الندى، وحلو يا رمان بلاده، وغيرها من أغاني الأفراح في تلك الفترة.

ساعدت حلقات الذكر وغناء البنات والأفراح، بجانب الكُتاب وحفظ القرآن، في بناء مخيلة موسيقية واسعة لدى محمود الشريف الطفل. ومع المراهقة والحب الأول، اكتشف حبه للغناء والموسيقى، واكتشف أيضًا وهو يغني مع شريكته التي تعزف على البيانو أنّه يمتلك صوتُا قويُّا. انتهى حب المراهقة، وبدأ حب الموسيقى، ليتعلّمها من دكان عم فرج حيث جلس يستمع إلى الأسطوانات.

أصبحت الموسيقى حياة محمود الشريف. درس العود على يد جورج طاتيوس ومحمد فخري، ثم تعلم الغناء وأصوله قبل أن يغني في الإذاعات المحليّة، ويجوب قرى ونجوع مصر مع الفرق المتجولة مثل فرقة الجزايرلي وفرقة فوزي منيب. كانت بدايته في التلحين مع فرقة أحمد المسيري في أغنية وعد علينا يا ممثلين من كلمات زكريا الحجاوي، والتي كانت بمثابة ترحيب من الفرقة للجمهور، تُغنّى مع فتح الستارة.

هنا القاهرة

نزح الشريف إلى العاصمة بحثًا عن فرص أفضل، ليبدأ العمل مع فرقة بديعة مصابني كمطرب، ومن ثم يتعرّف على فريد الأطرش وعزت الجاهلي وغيرهم من أعضاء فرقة بديعة مصابني. كما عمل مع فرقة علي الكسار، قبل أن يتمرّد على هذا الوضع، وعلى ضياع الألحان وسط جلسات الصهبجيّة، ليتقدّم للإذاعة عام ١٩٣٦، ويعرض مع الإذاعي محمد فتحي أول أوبرا في تاريخ الإذاعة تحت عنوان روما تحترق، ثم روميو وجولييت، والعديد من الأعمال اللاحقة.

بابا شارو والجلوس بجانب عبد الوهّاب

مع الإذاعي الكبير محمد محمود شعبان المعروف باسم بابا شارو، قدّم محمود الشريف العشرات من الصور الغنائيّة الإذاعيّة، مؤديًّا بصوته في بعضها، مثل: قسم وأرزاق، تأليف عبد الفتاح مصطفى وألحان وغناء محمود الشريف، وغيرها من الأعمال مثل إن طال علي الليل، عذراء الربيع، الراعي الأسمر ومرآة الساحر، من مصر لاسكندرية، الأوبريت الغنائي لولا الندىبدأت شهرة الشريف الحقيقيّة بعد تلحينه لأغنية بتسأليني بحبك ليه لمحمد عبد المطلب ومن كلمات محمد عثمان خليفة. آنذاك حقّقت الأغنية نجاحًا كبيرة، حتّى أنّه ساد اعتقاد بين الناس، بينهم أم كلثوم، بأنّه لحن جديد لعبد الوهّاب الذي أعجب باللحن.

عبد المطلب والثنائي المثالي

لحن محمود الشريف الكثير من أعمال عبد المطلب وأشهرها، وزادت الصداقة، ليتزوج محمود الشريف شقيقة زوجة عبد المطلب، ومن أشهر هذه الألحان، أداري وانت مش داري، يا بايعني وانا شاري، وأنا مالي، معاد حبيبي، ودع هواك، يا أهل المحبة، ما بيسألش عليه أبدًا، بياع الهوى، وغيرها. نستمع هنا إلى جزء من بروفة أغنية في كل يوم بيزيد حبك، التي تجمع محمود الشريف ومحمد عبد المطلب العام ١٩٥٤، وهي من كلمات نجاح الغنيمي.

بعد نجاح هذه الأغنية وإعجاب محمد عبد الوهاب بلحنها، بدأت سمعة الشريف كملحّن تنتشر بين الموسيقيين. ساعد في هذا تميّز ألحانه بالخفّة المستمدّة من الإيقاعات الشعبيّة البسيطة، وامتلاكه من المهارة والموهبة ما يتيح له أن يضع ذلك في إطار موسيقي له خصوصيته المصرية والشرقية.

الانطلاق والشهرة

استمرّ الشريف بتقديم تجارب أخرى بعد عبد المطّلب بنفس الخفة، مثل تجربته مع كارم محمود. فهم الشريف صوت كارم، فلحّن له أغانٍ سهلة على الأذن صعبة في الأداء، وتحتاج إلى مطرب متمكّن قادر على التنقل بين المقامات بخفة توازي خفة اللحن. لحّن الشريف لكارم عدة أغاني مثل عيني بترف، وعلى شط بحر الهوا، والتي تتميّز بأنها ألحان راقصة، يتحرك اللحن بخفة سامية جمال، وثقة تحية كاريوكا، وتمكّن زينات علوي، وبجانب الألحان الشعبية البسيطة، يكفي أن تسمع أغنية لحد بكرا وبعد بكرا من كلمات إسماعيل الحبروك، لترى اللحن السينمائي كما يجب أن يكون، بداية من المقدمة الموسيقية القوية.

لحّن الشريف لكارم أيضًا أغنية عطشان يا اسكندرية من كلمات كامل الإسناوي، وموال نزلت السوق من كلمات محمد علي أحمد، الذي يبدو كأنه لحن من التراث يدمج فيه بين الإيقاع والناي ودخول الكمان بين المقاطع، ويفرد الشريف مساحة لصوت كارم بأقصى مساحته، مع استخدام الكورس النسائي المتناغم مع الأداء.

في بداية الأربعينيّات، كان محمود الشريف يشارك في ليالي رمضان من إذاعة يافا في فلسطين، حيث تعرف على عبد الغني السيد، وبدأا معًا ثنائيًّا جديدًا. من أشهر الأغاني التي أنتجها الثنائي أغنية على الحلوة والمرة، التي وجد كلماتها الشاعر الغنائي مأمون الشناوي على ورقة في أحد بناطيله، ليكتشف أنّها للمكوجي الخاص به والتي يرسلها لحبيبته التي تعمل خادمة عنده، من هنا اكتُشف الشاعر الغنائي سيد مرسي والذي قدم أغان كثيرة لأهم المطربين في تلك الفترة.

كان أول لحن لمحمود الشريف مع عبد الغني السيد أغنية ولا يا ولا من فيلم شارع محمد علي ١٩٤٤، وهي من كلمات أبو السعود الإبياري. وكالعادة قدم الشريف لحنًا شعبيًّا خفيفًا.

غنّى عبد الغني السيد أغانٍ كثيرة من ألحان الشريف مثل البيض الأمارة، يالي بعادك طال، إيه فكر الحلو بيه، وغيرها. ومن الأغاني التي لم تأخذ حقّها أنا وياك خليني وياك كلمات فتحي قورة، من فيلم البيت الكبير. إضافة إلى أغنية قلبي يا قلبي من كلمات حسين السيد.

لحّن الشريف أيضًا للأصوات النسائية، منها عدد كبير لشادية التي رأت أنّه من الملحنين القلائل الذين صنعوا لها ألحانًا خفيفة تناسب صوتها وتبتعد بها عن الجو الكلثومي. من الأغاني التي لحّنها لشادية سواءً مع رفيقه فتحي قورة أو مع آخرين كمأمون الشناوي واسماعيل الحبروك ومحمد علي أحمد: حبينا بعضنا، يا حسن يا خولي الجنينة، الزفة، أبيض يا ورد، خلاص مسافرة، شي يا حماري، خد بالك. إضافة إلى أغانٍ وطنيّة وللثورة، وأخرى يغلب عليها الحزن كأغنية يا عشرة هوني، وأغانٍ طربيّة صعبة الأداء كأغنية مسيرك هتعرف، من كلمات محسن الخياط.

من شادية إلى ليلى مراد التي غنت للشريف عدّة أغانٍ مثل: أمانة تنسى يوم، يلا تعالى يوم، من بعيد يا حبيبي، فين رحتي يا صغيرة. من أجمل ما لحن الشريف أغنية إطلب عينيا لـ ليلى مراد.

بعد سماع الشريف يغنّي من بعيد يا حبيبي، من كلمات بيرم التونسي، وهي النسخة الأطول من تسجيل ليلى مراد نفسه، نتذكر أهم ألحان الشريف مع ليلى: أغنية أسأل عليه. إذ يحكي الشريف أنّه في فترة ما كان متعطشًا للتلحين فجلس وصنع موسيقى، ليكتب مأمون الشناوي الأغنية على اللحن، ومع عود الشريف وصوته، نسمع اللحن من صانعه.

تتنوّع ألحان الشريف إلى درجة يصعب حصرها وردّها إلى أصلها. فمن أشهر وأجمل أغاني محمد قنديل لحن تلات سلامات وما بين البر والتاني، إلى عبد الحليم حافظ في أغنية حلو وكداب، وأغنية يا سيدي أمرك من كلمات فتحي قورة، الأغنية الأقرب إلى مونولوج التي اقتبسها فيها قورة والشريف عدّة أغانٍ قديمة مثل وحقك أنت المنى لأم كلثوم، وموشح بالذي أسكر من عرف اللما، وأغنية على قد الشوق لعبد الحليم نفسه.

من أغاني عبد الحليم قليلة الشهرة أغنية الفجر بدا مع المطربة نادية فهمي، وهي من كلمات مرسي جميل عزيز، ويقدم فيها الشريف لحنًا مختلفًا عمّا اعتاد عبد الحليم تقديمه، إضافة إلى أغنية آه يا سلام على الهوى لنادية فهمي.

لحن الشريف لكل مطربي عصره وجيله، فايزة أحمد ونجاة ونجاح سلام وهدى سلطان وشريف فاضل وصباح ومها صبري ومحمد العزبي ومحرم فؤاد ومحمد رشدي وسعاد محمد وشكوكو واسماعيل يس وحورية حسن وأحلام، وغيرهم الكثير.

أم-كلثوم-مع-محمود-الشريف

رغم ذلك، لم يحظ بفرصة التلحين لأم كلثوم، إلا أنّهما تزوّجا عام ١٩٦٤ لفترة وجيزة قبل أن يحدث الطلاق بتدخل من الملك فاروق نفسه تروي معازف هذه القصة بتفاصيلها في مقال قادم لشريف حسن. في ذلك الوقت، كان من المفترض أن يلحّن الشريف أغنية شمس الأصيل، ويقال إنه بالفعل لحّن الأغنية، لكن بسبب مشاكل الزواج والطلاق لم ينه الشريف اللحن، منهيًا علاقته بأم كلثوم، وممتنعًا عن الحديث عن الزواج حتى وفاته.

الأغاني الوطنية والدينية

للشريف بصمة واضحة في كل نوع من أنواع الغناء من دون أن يُعرف، لتصبح أغنيته رمضان جانا الشعار الرسمي لاستقبال رمضان من وقتها وحتى الآن، ولا ينسى أحد أغنية الله أكبر فوق كيد المعتدي التي لحّنها وهو في بيته بالمنيل تحت الغارات أثناء العدوان الثلاثي على مصر، وبعد الغارة اتصل بصديقه الشاعر عبد الله شمس الدين وطلب منه أن يكمل النشيد، وبالفعل وفي أقل من نصف ساعة كان شمس الدين ينتهي من الكتابة، وذهب في اليوم التالي إلى الإذاعة وطلب من موسيقارها محمد الشجاعي تسجيل النشيد، فوافق على الفور، وجمع الشريف العازفين والمطربين من النقابة والإذاعة في وقتها، وبدأ بتسجيل الأغنية، التي شارك في الغناء فيها كل العاملين وقتها في الإذاعة من موظفين أو عمّال نظافة. وأصبح بعد ذلك النشيد الوطني لدولة ليبيا منذ ١٩٦٩ وحتى ٢٠١١.

أبدع الشريف ألحانًا خالدة في ذاكرة الموسيقى المصرية والعربية، وألّف عدة مقطوعات شهيرة، مثل ست الحسن وسيجارة وكاس والزهور الفاتنة وأم صابر، كان أغلبها من توزيع الرفيق والصديق حسن شرارة، من أجملها مقطوعة باسم أحلاهم.

هذا مرورٌ سريع على مسيرة محمود الشريف الذي حفر اسمه وسط المبدعين، وأرغم الكل على الاعتراف بموهبته وقدرته على صناعة ألحان خالدة. رحل محمود الشريف في ٢٩ تمّوز / يوليو سنة ١٩٩٠، بعد أن قرر الابتعاد عن الوسط الفني، والاكتفاء بما قدمه من تاريخ طويل ومشرف، ليرحل كما عاش في صمت.

المزيـــد علــى معـــازف