.
كتب المراجعة تامر أبو غزالة ومعن أبو طالب.
إذا قلبنا ألبوم بنحيي البغبغان ونظرنا إلى غلافه الخلفي المتقن والجميل بالمناسبة سنجد قائمة طويلة بأسماء موسيقيين وعازفين، ونبطشية معروفين في عالم الموسيقى الشعبية والمهرجانات، أدوا جميعاً جملاً في بنحيي البغبغان تطابق تماماً ما يعزفوه أو يغنوه في أعمالهم المعتادة. في نفس الوقت، الألبوم يسمع من أوله إلى آخره كأنه مقطوعة واحدة منتظمة جاءت من رؤية واحدة، تظهر فيه هذه الجمل بشكل ومعنى مختلفين لا يمت لأعمال مؤديها بصلة.
هذا لأن خلال تأليفه للألبوم، عمل موريس مع كل من هؤلاء الموسيقيين وسجّل لهم جملاً عديدة وطويلة وصل طول بعضها نصف ساعة. تعامل موريس مع مادتهم كألوان يرسم بها، كمواد خام. استخدم بعضها وترك الآخر بحسب ما أحس به كملحن وما أراد أن يصل إليه في كل مقطوعة.
أي أن موريس سار بلا هوادة نحو الموسيقى التي تضج في رأسه. هي لم تكن جاهزة ولم تظهر كما بدأت، بل تطورت وتغيرت تباعاً لتفاعله مع العمل وما سمعه في مخيلته، لتغير بدورها رؤيته واستخدامه للمواد التي جمعها. لم يستسهل ولم يأخذ أنصاف حلول، وأخرج ما في رأسه بتركيبة أصبحت في شكلها النهائي متينة، غير ممكنة دون أي من مكوناتها العديدة، ولا تصلح إلاً بالشكل التي هي عليه. إذا أخَذنا أياً من العناصر المتعددة في أي من المقطوعات وألغيته فسنجد أن المقطوعة تنهار.
فلنأخذ أغنية ماكسيم مثالاً. تبدأ الأغنية بطبقات تتراكم حتى تصل إلى شكلها الذي يكتمل للمرة الأولى بعد حوالي دقيقة ونصف من البداية. ذا عاينا هذه الطبقات أو العناصر المختلفة على حدة سنجد أن بعضها يعمل على ميزان إيقاعي مختلف عن غيرها، وأحياناً على ألحان متباينة ومتضاربة بالمعنى التقليدي، ولكنها تلتئم بانسجام لتبني فيما بينها مساحة غنية تستقبل المستمع وتأخذ بيده للتجلي دون أن يدرك بالضرورة ما يحصل فيها من تلاعب على الموازين والألحان. هذا للمستمع العادي. بالنسبة للمختص، فقد يجد أنه لو أراد كتابة نوتة للاسطوانة سيواجه صعوبات جمة. تعقيد الألبوم وتداخل موزاينه الإيقاعية لا تناسب حدود النوتة المكتوبة. الألبوم سهل على الأذن عند سماعه للمرة الأولى، ويكافئ السماع المتكرر في نفس الوقت لأنه يستخدم عناصر مألوفة نعرفها كلنا، امتصها موريس من وسطه، هضمها وعالجها ثم أعاد إخراجها لنا بشكل جديد. هو إذاً عمل أصلي وتجريبي ومحدث، وهذه كلمات تنبئ عادة عن عمل صعب. لكن أي من سمع بنحيي البغبغان سيقول لك أن هذا غير صحيح. لماذا؟
لأن موريس لوقا عفوي ويلاحق ما يجده جميلاً. الجماليات وحدها تحكم العمل. في سبيل تحقيقها يركّب ويمزج ويحطم عناصر متباعدة شديدة
الاختلاف تقاربها عفويته وحسه الموسيقي المرهف قد يكون ساعده في هذا عدم تدريبه كموسيقي، مما سمح له أن يكسر قواعداً ويخلط إيقاعات وطبقات كانت لن تخطر ببال موسيقي مدرب كلاسيكياً. تمكن موريس من فعل هذا لأنه فنان. هاجسه هو إخلاصه للموسيقى ولا شيء غير الموسيقى. موريس يركض وراء اللحن الأفضل، وفي هذا اللحن يقدم لنا عملاً يقول الكثير. فلنأخذ أغنية مالناش دية مثالاً. “الكلمات عجبتني” يقول موريس عن سبب اختياره كلمات الأغنية في مقابلته مع مريم صالح، ومع ذلك قرأ الكثيرون فيها صيحة لكل عربي مُعرّض للمهانة والأذى في كل يوم وكل لحظة، وقرأ البعض الآخر فيها نعياً للثورة، بينما اعتبرها آخرون أغنية عن حياة البلطجية والعصابات. كل هذا غيرمهم. المهم أنها أغنية جميلة، كلماتها تمسّ المستمع. اختارها موريس لجمالها. لأنها “عجبته“. هذا الإخلاص للجمال هو ما أوصل العمل إلى هذا الغنى في المعنى. في بحثه عن الجمال صنع موريس معان متعددة وغنية كانت في الأغلب آخر شيء على باله.
البنية المتماسكة التي ألّفها موريس في بنحيي البغبغان نُصبت باستخدام قطع متنوعة ومختلفة جاء أغلبها من نوع موسيقي جديد هو المهرجانات. أخذ موريس موسيقى المهرجانات وأضاف إليها عناصر جديدة صهرها ببعضها – مثل الموسيقى الإلكترونية والتعبيرية وحتى الموسيقى الشعبية (مقطوعة البزق) وغيرها – ليخرج بنوع جديد ذي شكل سلس وانسيابي. لهذا السبب يمكننا القول إن موريس لوقا خلق نوعاً جديداً ومبكراً، مبني على موسيقى المهرجانات، والتي هي بدورها ما زالت جديدة. وبناء على هذا، وبعد سنة من الاستماع المستمر والمتكرر للألبوم، يمكننا القول إن بنحيي البغبغان سابق لعصره.