.
في التاسعة إلا عشر دقائق من مساء السادس عشر من نيسان انقطع الصوت. مع ذلك، كان الضجيج مستمراً. ضجيج بصري مصدره أعمدة الإنارة الملونة بدرجات وقحة من الأحمر والأزرق، تُلقي بها بروجكترات المنصة كجدار ضوئي يفصل بين الفرقة وجمهورٍ من ثلاثمائة قد شغل معظم المقاعد المرصوفة على المدرجات الحجرية لمسرح الجنينة في حديقة الأزهر في القاهرة. كان موريس لوقا يتفحص المونيتُر القريب منه، بينما تبادل المغني وعازف البزق تامر أبو غزالة نظرات جادة مع باقي أعضاء الفرقة قبل أن يخبر الجمهور بأن خطأً تقنياً تسبب بانقطاع الصوت، وأن الفرقة تحتاج دقيقتين لإصلاح المشكلة. قال تامر ذلك وهو يبتسم ويتمازح بثقة مرهَقَة، واستقبل الجمهور كلامه بصمتٍ مطبق لثانيتين أو ثلاث، ثم صفق الجميع بذات اللحظة وبشكلٍ مفاجئ قبل أن يغادروا المدرج من الباب الذي يتوسط الصف الأعلى. سوء الفهم الأول كان من قبل الجمهور الذي اعتقد أن تامر كان يعلن عن استراحة قهوة وتدخين لبضع دقائق، سوء الفهم الثاني كان من قبل الفرقة التي اعتقدت أن الجمهور يغادر استياءً.
قبل الانقطاع كان كل شيءٍ عظيماً. لم تكترث وجوه أعضاء الفرقة لإخفاء سعادتهم وتفاجؤهم عندما خرجوا لمسرح مكتظ. خلال شُكره الجمهور على حضورهم قاطع تامر ثلاث مرات صراخٌ مصدره المبنى الطويل المطل على المسرح من خارج حديقة الأزهر. طفلٌ يقف على شرفة طابق مرتفع ويصرخ قائلاً ما لست متأكداً من أن أياً من الجمهور قد فهمه، لكن الجميع بما فيهم أعضاء الفرقة كانوا يضحكون. عندما صرخ الطفل مجدداً كانت الضحكة صفراء باهتة، عندما صرخ ثالثةً لم يضحك أحد، فسكت. انتقل تامر لتقديم أعضاء الفرقة ونفسه، بدأ بخيام اللامي، عازف العود والعضو المؤسس للفرقة. عند تقديمه هتفت مجموعة من الصفوف العليا: “خيام الورشة كلها هنا!”، هم المشاركون في ورشة عمل عن الصوت والموسيقى قد حاضر خيام بها لمدة أسبوع وانتهت قبل يومين من الحفل، وبعد خيام كان موريس الذي تلقى هتافاً مماثلاً: “موريس العمارة كلها هنا!”
بدأ العزف، ولم يلزم الجمهور أن يعرفوا الفرقة أو أن يكونوا قد حضروا أياً من حفلاتها ليتيقنوا أن ما يجري أمامهم هو أحد أفضل عروض الألف إن لم يكن أفضلها. الكيمياء بين الموسيقيين الخمسة كانت واضحةً ومرئية رغم ستارة الضوء الملون الثخينة، ومسموعةً في أغانيهم التي كانوا يعزفونها وكأنهم قد ألفوها للتو. لكن الأداء لم يكن متقناً فحسب، بل مشحوناً عاطفياً ومتوتراً، كالساعات الأربعة والعشرين التي سبقت الحفل.
عندما عادت الفرقة لاستئناف الحفل كان معظم الجمهور لا يزال في الخارج. صدف أن معظم هؤلاء كانوا يشغلون مقاعد وسط المدرج، ما جعل المدرج يبدو كرأسٍ أصابه الصلع، وكان على الفرقة أن تعزف لهذا الرأس. قرروا تجاوز الأغنية التي انقطع الصوت في منتصفها واتفقوا لاحقاً على أن هذا القرار كان موفقاً. بسبب ضوء بروجكترات المنصة الذي وُجِّه نحو أعضاء الفرقة، لم يتمكنوا من ملاحظة أن معظم المغادرين قد عادوا بعد لحظات من بداية الأغنية الأولى. في نهاية الحفل كان الجمهور سعيداً منتشياً، ولم تعرف الفرقة شيئاً عن ذلك.
بعد الحفل عادت خيمة الكواليس القماشية الصغيرة دافئة ومضيئة، يدخلها الجميع ويخرج منها ثم يدخلها من جديد. معظم المحادثات ثنائية ومختصرة، يغلب عليها الانفعال أو الإحباط أو الإرهاق الشديد. الإرهاق كان واضحاً بالذات في عيني خالد ياسين الحمراوين، عازف الطبول والإيقاع الذي كان يوضب صفيحتي طبل الهاي هات في حقيبة قماشية دائرية صغيرة، ثم يضعها في حقيبة سفره، منتظراً توصيلته للمطار التي ستعلن وقت إقامته بالقاهرة بالكاد ثلاثين ساعة. تحدث خالد في هذه الأثناء مع مهندس الصوت الفرنسي لودو جوايو، ولم أفهم معظم ما قيل لأن الحديث كان بالفرنسية، ولكني استنتجت أن خالد كان يتحقق من دقة ما سمعه قبل أن يخبر باق أعضاء الفرقة: “لودو بخبرني إنه كان في مشكلة بالمونيتُر والصوت وقت البروفات، ومرة تانية خلال الحفلة، وهو خبّر جماعة المسرح ليحلوها بس ما ردوا عليه (…) المرة الجاي ببساطة منفسخ العقد وما منلعب، وعمره ما صار عرض“. السبب الرئيسي لإحباط خالد لم يكن مجرد انقطاع الصوت، بل أن أداء الفرقة كان غير مسبوقاً إلى أن أفسده هذا الانقطاع.
لم يكن عازف البايس بشار فران بهذا الاحتداد، فهو كان قد فرّغ شحنات غضبه عندما طالب أكثر من مرة بإلغاء الحفل في الساعات التي سبقته. لم يرد أن يقول “قلتلكم لازم نلغيه!” واكتفى بمحاولة الابتسام وعدم الاكتراث، ثم الدخول في نقاش يبدو عليه الاحتداد هزلاً مع تامر وزوجته المغنية مريم صالح. كانت المحادثة عن المطبخين المصري واللبناني، ونظرية بشار بأن الطعام المصري الوحيد الذي حظي برضاه كان من إعداد مريم، لكن فقط لأنها استخدمت مكونات لبنانية يقيم تامر ومريم بين القاهرة وبيروت. مريم كانت الطرف الإيجابي الوحيد، تبارك وتهنئ الجميع على الحفل والمسرح الممتلئ، وتنسّق لسهرة متأخرة في النادي اليوناني في وسط البلد، بعد أن يعود الجميع لبيوتهم وفنادقهم لاستراحة قصيرة. لو أخذنا روايتها عن الحفل لما عرفنا عن مشكلة انقطاع صوت من الأساس.
عند وصول السيارة التي ستأخذه إلى المطار خضت مع خالد محادثة أخيرة، أخبرته خلالها أن الأداء كان استثنائياً وأن الجمهور أحس بذلك دون التركيز على مشكلة الانقطاع. رغم تلقيه كلامي بلطف إلا أنه وجده مفرطاً بإيجابيته. تعانقنا بدل المصافحة قبل انطلاقه إلى المطار. فور مغادرته اقترب مني خيام الذي كان لا يزال يعاملني بنوع من الوصائية، أخبرني عن خطة النادي اليوناني وأنه يمكنني الذهاب في السيارة التي تقل بشار ولودو إلى فندقهم في الزمالك، على أن نجتمع في النادي لاحقاً.
في السيارة تحدثنا أنا وبشار بالإنجليزية لئلا يشعر لودو بالإقصاء. كان بشار مستاءً جداً من الحفل، أخبرني بأن الإضاءة والصخب منعاه من رؤية المدرج وسماع الجمهور، وخلال الحفل بأكمله كان يعتقد أنه يعزف لمدرج فارغ، يعطي ولا يسترد شيئاً بالمقابل، وكان ذلك مرهقاً جداً بالنسبة له. أخبرته بأن الوضع كان عكس ذلك تماماً لكن حتى أنا عند هذه المرحلة كنت أكثر إحباطاً من قول ذلك بحماس مقنع. نزلت من السيارة في وسط البلد، قرب النادي اليوناني، ثم أخذت سيارة أجرة لمنزلي ولم أعد للانضمام للجميع في السهرة المتأخرة.
كنت قد التقيت ببشار للمرة الأولى قبل حوالي ثلاثين ساعة من توديعي له في السيارة. كانت الساعة الثامنة إلا ثلث مساء اليوم السابق، وبشار يقف بحقيبة بايس سوداء على ظهره أمام المبنى الذي ستجتمع فيه الفرقة للمرة الأولى منذ سبعة أشهر. حييته وقدمت نفسي، كان يعلم عن حضوري ولم أحتج لشرح شيء، فانضممت إليه في النظر نحو مصدر الضجيج الذي قاطع هدوءاً نادراً ساد في شارع مصدق في الدقي. كانت القاهرة قد شهدت عدة احتجاجات ظهيرة ذلك اليوم ولم تزل المدينة في حالة ترقب حذر. جاء الضجيج من شقة في الطابق الأول من المبنى المقابل، أسدلت على نوافذها ستائر بيجية اللون مخفيةً العرس أو حفل الخطوبة الذي يجري بالداخل. “ما بعرف كيف الناس جوا متحملين كل هالضجة” قال بشار بالتزامن مع خروج بواب مبنى الاستوديو الذي حمل عصاً خشبية متعرجة وأخذ يؤدي رقصة شعبية بمرح وابتسامة تكشف أسناناً ناقصة. تحول انتباهنا نحوه وقال بشار بعد لحظة: “مو طبيعي شو بسرعة فيك تكون قاعدة معجبين هون!” مشيراً إلى ثلاثة شبان جلسوا على درج المبنى كمدرج ليتابعوا رقصة البواب. دار بيننا، أنا وبشار، حديث عام عن الشؤون الحياتية واليومية بينما وصل موريس مرتدياً بلوزة مقلمة مريعة ستجلب له انتقادات معلنة ومكتومة من كل شخص يقابله تلك الأمسية. حمل موريس بعض حقائب المعدات الصوتية وصعد للاستوديو بينما بقيت أنا مع بشار الذي أشعل سيجارةً.
موريس شخص بسيط ومعقد في نفس الوقت وليس بالمعنى المبتذل. هو شخص له من الرصانة والإنجازات ما يكفي ليصيبك بالارتباك والتواضع عندما تجلس معه، إلا أنه يحرص على ألا يحصل ذلك، حتى أنه يسمح لك أحياناً بالاعتقاد بأنك أنت الطرف المهم من المحادثة. له بار معتاد حيث يعرف بالاسم، يسأل فيه دوماً عن نتائج فريق كرة القدم الزمالك المفضل لديه، وبصمة على مشهد الموسيقى الإلكترونية في مصر قد تكون الأكبر، وعدد كبير من المشاريع الشخصية والجماعية يشارك بها مواسياً نفسه على سنوات القحط التسعينية التي خبر فيها القاهرة مدينةً بلا مشهد موسيقي. حينها كان يحظى بأفضل الأحوال بحفل واحد في العام وغالباً ما يُلغى في اللحظات الأخيرة بسبب تعقيدات لا نهاية لها.
لكن موريس اليوم سعيد، مشكلته الوحيدة هي أنه لا يريد أن يُحصر في الموسيقى الإلكترونية أو يُسجن بين قضبان هذا المسمى. حين بدأ موريس الاشتغال بالإلكترونيات فعل ذلك من باب الحاجة لا القرار. كان يريد صنع موسيقى وفرضت عليه الظروف والمعدات الموسيقية المتاحة أخذ هذا الاتجاه. اليوم، يريد موريس العودة للجيتار باعتباره آلته المفضلة. حتى عمله في الألف يعتمد بشكل أساسي على عينات صوتية من عزف الفرقة. “بفضل أشتغل مع موسيقيين بدل ما اشتغل مع عينات موسيقية” هذا شعار موريس.
بعد وصول موريس بدقائق ظهر خالد الذي وصل القاهرة منذ حوالي ساعة. وصل برفقة سارة، المنسقة الإعلامية للفرقة وصاحبة وكالة سمسارة الفنية، والتي كنت على تواصل معها خلال الأسبوع السابق لتنسيق قضائي وقتاً مع الفرقة. تبادل الجميع تحيات وعناقات سريعة وصعدنا جميعاً للاستوديو حيث كان موريس بانتظارنا، معه ندى، المصورة التي سترافق الفرقة خلال يومي البروفات والحفل، والتي عرفت لاحقاً أنها دعيت مؤخراً للمشاركة في معرض لأفضل المصورات دون الثلاثين في العالم. يشغل الاستوديو طابقاً كاملاً من شقتين. جلسنا في الشقة التي يبدو أنها مخصصة للاستقبال وتوزعنا على ثلاث أرائك ذات ألوان مشرقة. كنت على الأريكة الوسطى أنتزع ورقة لأدون عليها ملاحظات وتفاصيل أخشى نسيانها، بينما كان خالد يتحدث عن رحلته الأخيرة إلى البرازيل، وعن قصص عائلية بدت مألوفة لموريس وبشار وسارة، وأخيراً عن مشاركته على آلات الإيقاع في ألبوم تامر الجديد، والذي عمل عليه خيام أيضاً بعزف الطبول والمزج. موريس الذي استضاف خيام في شقته في العجوزة تسنى له الاستماع إلى الألبوم ولم يكل من التعبير عن مدى انبهاره به. مضت دقائق أخرى وبدأت المحادثة الجماعية بالانحسار إلى محادثتين ثنائيتين، خالد وبشار على أريكة فيروزية اللون، وموريس وسارة اللذان بدا أنهما لم يلتقيا منذ مدةٍ طويلة. استمرت المحادثات الثنائية حتى وصل تامر مرتدياً ملابس سوداء وقابضاً على عنق حقيبة البزق، برفقته مريم التي عادت إلى قاهرة قبل يوم. لم يمر الكثير من الوقت قبل بدء حديث عن ألبوم تامر سيطر عليه موريس بعبارات مثل: الألبوم حلو نيك، خيام عالدرمز جامد نيك، الباكنج فوكالز أحا نيك.
تامر أبو غزالة هو العضو الوحيد في الفرقة الذي كنت أعرفه معرفة لا بأس بها قبل بدئي في العمل على المقال. التقينا عدة مرات وتشاركنا محادثات شديدة البساطة والاقتضاب. مع ذلك كانت هذه اللقاءات العابرة كافيةً كي أشكل صورة عن تامر اكتشفت لاحقاً أنها بحاجة شديدة للتغيير. كان تامر بالنسبة لي ذلك الشخص الذي يبتسم بخيبة عندما ترفض عرضه أن يقدم لك كأس شاي أو زجاجة بيرة. في الأمسيات التي يستضيفها مع مريم، حيث معظم الضيوف زملائهم من الفنانين، يبدو تامر بعيداً، يكتفي بمراقبة الجميع يستمتعون بوقتهم دون أن يفرض دوره كمضيف حضوره كاريزماتي، أو على الأقل بكونه ذاته، مغني وملحن وعازف ذو موهبة نادرة. عندما لاحظني بعد دقائق من وصوله الاستوديو أدون الملاحظات بانهماك سألني ضاحكاً: “من هلق عم تكتب يا منيك؟“.
كان خيام اللامي آخر الواصلين، مرتدياً ثياباً سوداء من ضمنها جاكيت جلدي لا يناسب الطقس لكن يتماشى مع مظهره. شارك خيام في المحادثة الجماعية التي كانت تتغير مواضيعها باستمرار وحماس هادئ، وبدا على أعضاء الفرقة المكتملة الآن ولم يبد عليهم في ذات الوقت أن زمناً طويلاً مر على لقائهم الأخير. يستسلمون لمحادثات مستأنفة كما لو أنهم يكملون سهرة الأمس. يدخنون، جميعهم يدخن، وجميعهم يشتم، عدا خيام الذي شتم بصوت منخفض، على الأقل في البداية. تحدثنا أنا وسارة عن وكالتها خلال إحدى تلك المحادثات السريعة التي تلخص سبع إلى عشر سنوات لمستمع مهتم. بينما بدت ندى مرهقةً أو مصابةً بالصداع، رأسها بين ركبتيها. انهمكت الفرقة بالحديث حتى نهض الجميع فجأة، وتوجهوا نحو حجرة الاستوديو في الشقة المقابلة والتي حجزوها لليلة كاملة.
حجرة الاستوديو كبيرة نسبياً، تأخذ شكل قطرة ماء، تبدأ واسعةً عند الباب وتضيق حتى نهايتها على بعد ثمانية أمتار تقريباً. جدران وأرض خشبية ونسيج فليني رمادي اللون يظهر متعرجاً ليغطي مساحة كبيرة من الجدران لامتصاص الصدى. في القسم الواسع من الحجرة تظهر طاولة كيبورد وكرسي مرتفع خلفها، وعند الجدار الأيمن تظهر فجوة فيها مصطبة ترتفع عن الأرض حتى الكاحل وتحمل عدة الطبول. هناك أيضاً بضعة كراسٍ بلاستيكية ومكبر صوت مرفوع على حامل عمودي معدني. اتجهت لعمق الاستوديو الضيق للجلوس على أحد كرسيين بلاستيكيين. لحظات وجلس تامر على الآخر. أخرج البزق من حقيبته القماشية وأخذ بدوزنته اعتماداً على أصوات بطبقات مختلفة كان يرددها. عندما نهض منتهياً من دوزنة البزق حلت محله ندى التي أخبرتني بحماس عن شعور بالحصرية كوننا في الاستوديو مع الفرقة، لافظةً كلمة الألف بالتشديد عليها: “لما بسمع الألف بشوف ألوان معينة، أسود، رمادي… بني…….. برتقاني! بس الإضاءة بالاستوديو زي الخرا“، هززت رأسي موافقاً واقترحت أن ترفع الـ الآيزو ISO وكأنني أفهم بالتصوير، أخبرتني أنها ستفعل ذلك بالفعل.
بعد ربع ساعة انتقلْت للجلوس على مصطبة عدة الطبول بجوار خالد الذي كان يعزف إيقاعاً ما، يتوقف، ينصت بحذر لما سمعه ويقارنه بما كان في ذهنه، يعيد عزف الإيقاع بتغيير بسيط، وفي نهاية الأمر يفك صفيحتي الهاي هات ويستبدلهما بآخرتين أخرجهما من حقيبة قماشية دائرية سوداء. شعر خالد القصير جداً والذي بدأ لونه يتحول إلى فضيّ يَعبُر به من الشباب للرجولة، وحتى الأبوة. عندما بدأ بالإحماء، لاحظته يعزف بلا ارتباك حول ولاعته البرتقالية ومحفظته الجلدية البنية وهاتفه الأسود الكبير الراقدين على أحد الطبول. داخل عدة الطبول التي تحيطه كحصن من الأمام والجانبين يبدو خالد في بيته، مرتاحاً، متحكماً، حتى قيادياً في بعض اللحظات الهشة. وجد بجواره كيساً قماشياً عليه شعار تسجيلات نوى التي أسسها خيام، ارتداه ممرراً رأسه عبر حمالات الكيس حتى يبدو كمريول. بدأت بتدوين ملاحظاتي عن ربع الساعة الماضية، وعندما رفعت رأسي كان أعضاء الفرقة يعزفون لضبط إيقاع معين ويخوضون محادثة فاتتني بدايتها. كان بشار يقول: “أنا صوتي منتاك أمه“، ويرد عليه خالد: “يعني أنا صوتي أحسن؟“
جالساً على ذات المصطبة الرمادية المنخفضة حول عدة الطبول، حوّلت انتباهي إلى بشار الذي كان يجلس على كرسيٍ بلاستيكي مقابل. وضع إحدى ساقيه على الأخرى محتضناً جيتاره البايس الخشبي ذي اللون الفاتح والجسد المصقول بأناقة والأوتار الستة. في تلك الأثناء عادت ندى لتريني بعض الصور التي التقطتها لاختبار الإضاءة، “الوضع مش سيء أوي” قالت. هززت رأسي موافقاً وأخبرتها أن تزوم في إحدى الصور لنرى مدى سوء أثر رفع الآيزو، حتى هذا الآخر لم يكن سيئاً أيضاً. أخبرتني أنها أسمت إحدى قططها هولاكو على أغنية الفرقة. خلال ذلك كنت أبدل نظري بين الكاميرا وبشار الذي كان ينظر إلي بدوره كل حينٍ وآخر ويبتسم؛ بدا مستمتعاً بوضوح، مسترخٍ، ربما مسترخٍ زيادة عن اللزوم، إذ كان يتذمر من أنه لم ينم سوى بضع ساعات على الطريق وأنه “مش قادر يصحصح“.
عاد تامر الذي غادر الاستوديو قبل لحظات، جلس على الكرسي المجاور لبشار وبدآ العزف سويةً. الكيمياء بين هذين الاثنين واضحة جداً وتجعلهما يبدوان متماثلين لدرجة طريفة. طريقة جلوسهما واحتضان آلتيهما وملامح وجهيهما المعبرة عن استغراق هي ذاتها. أخيراً عاد موريس الذي غادر الاستوديو منذ لحظاتٍ أيضاً ليجلس خلف الكيبورد ويبدأ الجميع عزف لحنٍ لضبط الإيقاع. تبادل الجميع بمودة ملاحظات من قبيل: اطلع فريت، هيك تمام، ارفع التيمبو شوي بعد الكورس الثاني، هو الكورد هون مش زابط، بصير مايجر بعد ما يدخلوا الدرمز. وتشكلت أثناء ذلك لهجة شامية هجينة داخل الاستوديو. خيام قضى سنوات حياته الأول في سوريا وتقع لكنته بين السوري والعراقي واللبناني، تامر فلسطيني نشأ في مصر، خالد وبشار لبنانيين، ولكنة موريس المصرية الهادئة والخالية من اللحن تندمج بسلاسة. توقف العزف عند اكتشاف كبل ناقص، غيابه سيؤدي لمشاكل ليس فقط في بروفات اليوم بل في اليوم التالي أيضاً، في الحفل. لجأ الجميع لمعارفهم الشخصية، نشرت سارة على فايسبوك ما إذا لدى أحدهم في القاهرة كبل من نوع فايرواير 400 لـ 800، وبدأ موريس سلسلة اتصالات هاتفية قصيرة، ثم غادر خيام وسارة لمتجر راديوشاك قريب.
أثناء الانتظار دخل وخرج البقية من حجرة الاستوديو باستمرار، ألقوا النكات، وعزفوا لفترات قصيرة بشكل عابث ومشتت. غادرت الحجرة لأجد بشار وخالد وموريس على أريكة تقابلها طاولة قهوة قرب الباب الخارجي للاستوديو، يدخنون ويتحدثون عن أسرهم، السفر ومشاكل الفيزا، مواضيع صغيرة دافئة. انضم تامر إلينا وجلس بجواري على السجادة الزغبة ثم أومأ إلى الجدار خلف بشار وموريس الذي امتلأ بصور موسيقيين بالأبيض والأسود. أشار إلى صورة تظهر فيها امرأة شقراء وسألني: “بتعرفها؟“، “لأ، انتا بتعرفها؟“، “لأ“؛ تدخل بشار الذي انتبه لمحادثتنا وأخبرنا أنها داليدا. صمت للحظة ثم سأل: “ولو! معقول ما بتعرفوه؟” مستخدماً ضمير المذكر، ثم أخبرنا عن شائعة بأن داليدا كانت بالوقع ذكراً أو متحولة جنسياً. خالد الذي كان يحدق بالصورة بنوستاليجيا واستغراق صاح معترضاً: “لا تقولا! هيك بتنبعص كل مراهقتي!”. في هذه الأثناء عاد خيام وسارة ليعلنا أن الكبل المفقود لا يزال مفقوداً، أكمل خيام طريقه للاستوديو وبعد فترة تبعه البقية. بقيت مع سارة على طاولة القهوة حتى أنهت سيجارتها، تحدثنا بشكل مقتضب عن المقال الذي أكتبه، وعدنا سويةً للاستوديو. باب حجرة الاستوديو الثخين العازل للصوت يصدر صوتاً يشبه إطلاق الريح كلما فتحه أحدهم أو أغلقه. خلال ربع الساعة الأولى كان صوته يسبب إما ضحكاً أو عدم ارتياح، لكن في ذلك الوقت، وبعد عدد لا نهائي من الدخولات والخروجات، أصبح الجميع معتاداً عليه، لذلك عندما دفعت الباب العالق بقوة زائدة بعض الشيء مسبباً إياه إصدار صوت مبالغ به لم يلتفت أحد. عند عودتي للاستوديو وجدت أن مشكلة الكبل قد انحلت بطريقةٍ ما، وبعد دقائق عادت ندى لتعلن حلّ مشكلة الإضاءة. تمكنت إدارة الاستوديو من تأمين عمود إضاءة مخصص لجلسات التصوير. “زنيت“ ألحَحْت بالطلب قالت لي ندى مفصحة عن سر نجاحها. استمرت ابتسامتها الاحتفالية دقيقتان.
خلال هذه الأثناء وصل مهندس الصوت لودو جوايو Ludo Joyeux الآتي من فرنسا. بدأ وصوله حديثاً مختصراً عن الكابلات والتوصيلات ومداخل الصوت، بما في ذلك تخوف تامر من مشكلة باللايتنسي Latency التأخر الصوتي في برامج معالجة الصوت، بينما كانت ندى تعد عمود الإضاءة عبر محاولة تثبيته على زاوية معينة، لكنه لم ينفك يميل نحو الخلف كشخص ينام في المترو ويلقي برأسه للوراء. ربطت ندى وشاحها حول عنق العمود واستمرت بتعديله حتى ثبت على الزاوية الأنسب. كل شيء أصبح في مكانه وأعلن تامر: “عليهم“. كانت الساعة الحادية عشر مساءً عندما بدأت الفرقة بعزف هولاكو قبل أن تتوقف بعد لحظات. بعد ملاحظات عن سرعة زائدة وعن مشكلة اللايتنسي التي لا يزال تامر يشير إليها، أعلن تامر “يللا يا منايك، عليهم!”. بدأت هولاكو مجدداً. أثناء وجوده مع الفرقة لا يصبح تامر أكثر ثقةً وارتياحاً فحسب، بل يتحول لشخص غامض يصعب التنبؤ بتصرفاته، كما يصعب تحديد موقفه إزاء ما يجري بدقة. الحماس والضجر والنزق والمرح مواقف تمتلك حصصاً متساوية في تصرفاته وتعابير وجهه، حتى عمره يبدو لغزاً الآن. قبل بعض الوقت، لما كان موريس يلعب لحناً ما، توقف تامر أمامه مستمعاً بحماسٍ طفولي ثم نادى على بشار: “تعال اسمع يا منيوك“. في مشهدٍ آخر بعد دقائق قليلة كان يتحدث بجدية رجل أعمال يهمه أن تنجز الأمور على وجه السرعة. النسخة منه التي يبدو فيها مهادناً أصبحت ذكرى صعبة التصديق.
ليس تامر فقط، بل أعضاء الفرقة جميعهم يبدو عمرهم لغزاً. يعيشون في برزخ ما بين الشباب والرجولة، أركز من أن يكونوا شباباً، أصيع من أن يكونوا رجالاً. حتى خالد الذي يقول ويفعل باستمرار أموراً تذكرك بأنه رجل أسرة، يقول ويفعل باستمرار أموراً أخرى تنسيك ذلك. لكنهم جميعاً بعيدون تماماً عن الصورة الذهنية للفنانين الشباب. الجنون والعربدة هي مراحل إما انتهت أو تم تجاوزها أو لا تظهر على السطح. وحده خيام يعطيك الانطباع أحياناً أنه يحاول إيجاد موازٍ خاص به لصورة النجم الشاب. خلال البروفات تجده يقف خارج الحلقة التي شكلها أعضاء الفرقة، رافعاً رأسه للأعلى، مغمضاً عينيه بقوة وبادياً عليه استغراقٌ صوفي من نوعٍ ما. هل يتظاهر بذلك؟ عند انتهاء هولاكو بدأت الفرقة بعزف انتظرها ثم الجثة، وعندما انتهى أداء الأخيرة بنجاح فتح خيام عينيه وأفرج وجهه الجاد حاد التركيز عن ابتسامةٍ صافية. كان الشيء الوحيد الذي يهمه في العالم هو جودة الموسيقى، والموسيقى كانت جيدة. لا، لم يكن يتظاهر.
في منتصف البروفة حدثت مشكلة بالـ كليك وتوقفت الفرقة عن العزف. “شيتس هابنز دودز” قال خالد وتوجه خيام لحل المشكلة بجدية، لكن ليس بدرجة تفسد مزاجه. كان لا يزال في مكان جيد، منتمياً للمكان واللحظة. بعد حل المشكلة سأل أحدهم عن الأغنية التالية وأجاب خالد: “هلق في هي تبع دم داح دادا دام“. يخفق بتذكر اسم أغنية الخطبة الأخيرة لكنه يدل عليها بسطر الطبول الأول. تامر بالمقابل يسميها الموتى لأنها الكلمة الأكثر تكراراً فيها أو ربما هو الاسم القديم للأغنية. ازدادت الأريحية بالعزف والأداء خلال نصف البروفات الثاني من أغنية لأخرى، وبدا أن إرهاق أعضاء الفرقة دفعهم للاستسلام للأغاني. الانتقاد بأن موسيقاهم تبدو أحياناً وليدة العقل بدا أثناء ذلك سخيفاً. كانت هناك لحظية فريدة واضحة في الأداء، جميع أعضاء الفرقة في مكان جيد والمستمع مدعو للانضمام إليهم. موريس بالذات يبدو عليه الاندماج بشكل لطيف، غير منتبهٍ للسانه الممدود على شفته العليا خلال العزف، كطفلٍ مستغرق بتركيب قطع لعبة.
في منتصف الليل انتهت الفرقة من عزف الألبوم كاملاً. سأل الأعضاء خيام إن كان هناك مشاكل في بعض الأغاني تستوجب العمل عليها، وأجاب الأخير بأن جميع الأغاني تحتاج العمل عليها مجدداً. أعلن عن استراحة شاي ثم العودة للاستوديو لبروفا ثانية. خلال الاستراحة دار نقاش سريع حول البلد والاضطرابات التي شهدها ظهر ذلك اليوم، ثم سرعان ما عاد الحديث إلى الموسيقى عندما اقترح خيام طريقة من شأنها جعل افتتاحية هولاكو أقوى بما أنها الأغنية التي سيفتتح بها الحفل، بينما أشار موريس لبعض الكوردات في إيش جابكم هون وكيفية ملئها المساحات الصوتية بين الآلات. انتهت المناقشات وعاد الجميع إلى الاستوديو. تامر يعلن عن بدايات الأغاني بـ “عليهم يا منايك“، وخيام يعلن رضاه في آخر كل أغنية بـ “أخو منيوكة!” وابتسامة. في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل اجتمعت الفرقة للمرة الأخيرة لذلك اليوم في بهو الاستوديو لتخطيط اليوم التالي، حيث الاجتماع عند فندق بشار وخالد في الزمالك للتوجه إلى جلسة التصوير، ثم إلى الغداء، ثم البروفات الحية في المسرح قبل بداية الحفل. دار حديث شديد الأريحية حول الثياب التي يُفضّل ارتداؤها للتصوير، واتفق الجميع على منع موريس من ارتداء بلوزته المقلمة.
في الحادية عشرة والنصف من صباح يوم الحفل وصل موريس وخيام سويةً للفندق على الموعد بالضبط. كنت بانتظارهم، ودخلنا البار معاً. طلب خيام فنجان قهوة، ثم بحث عن ولاعته لإشعال سيجارة وخرجت يده بولاعتين. أخبرني أنه يحمل واحدة احتياط لأنه دوماً ما يتطفل أحدهم على ولاعته. خلال دقائق وصلت سارة وصبّحت على الجميع، أشعلت سيجارة وجلست مع خيام ليختارا من بين مقاطع فيديو صورتها على هاتفها الجوال الأمس خلال البروفات. اعتمدا أحد المقاطع واقتطعا جزءاً منه ليتم نشره على صفحة الفرقة على الفيسبوك. عندما خرجت سارة بعد لحظات أخبرني خيام بمرح عن اختفاء إحدى ولاعتيه. تحدثنا أنا وخيام عن جلسة التصوير وأخبرني أن بقية أعضاء الفرقة لديهم موقف متحفظ من أمور مماثلة، بينما يستمتع هو بجلسات التصوير ويجدها مفيدة جداً. جلسة التصوير هذه ستتم في مدرسة مهجورة في الزمالك تبعد مسيرة عشر دقائق عن الفندق. في المساء السابق أطلعتنا ندى على صور المدرسة التي عثرت عليها بعد كثير من البحث. حتى أقل أعضاء الفرقة اكتراثاً للتصوير بدا عليهم الحماس. عندما ظهرت ندى أثنت على ملابس خيام وموريس: “المهم تكونوا مرتاحين باللي لابسينه“. ليس أكثر التعليقات مجاملةً لكن خيام استقبله بابتسامة.
بشار وخالد، فوقنا بعدة طوابق، كانا متأخرين لنصف ساعة وهما يحلقان ذقونهما كما أخبرتنا سارة، بينما كان هاتف تامر خارج التغطية حتى أرسل لسارة قائلاً أنه على الطريق. خرج كل من موريس وسارة وندى لأمام الفندق بينما بقيت أنا مع خيام الذي أنهى قهوته ببطء ومتعة. لخيام ابتسامة رواق تظهر على وجهه في لحظات ومواقف معينة تلغي الحاجة للحديث، ابتسامة تنزع العنصر غير المريح من الصمت وتسمح لأياً كان معه بالاسترخاء. جلسنا بصمت لعشر دقائق وفي الخلفية موسيقى إيقاع وبلوز هادئة، أنا أعبث بهاتفي وخيام يحدق بابتسام بإحدى زوايا البار الخالية، يبدو عليه الاستغراق في فكرة تبعث على السرور، يحمل كل بضع لحظات فنجان القهوة لفمه لرشفة صغيرة، ثم يعيده ممسكاً إياه بحذر من أذنه الصغيرة. ظهر بشار، ذقنه حليقة تماماً عدى عن محيط الفم، ورائحة كريم حلاقة منعشة تنبعث منه، ولم يتوقف عن الحديث بانطلاق ومزاج مشرق عن الساعة التالية لافتراقنا بعد منتصف ليلة الأمس، حيث سلطه الله هو وخالد على مطعم برجر بالزمالك، أكلو فيه كالوحوش وناموا، وفق تعبيره، كالكلاب؛ قلَّد صوت جروٍ مرهق ثم صوت شخص ينام بعمق؛ “لما صحيت اليوم الصبح بكير، اكتشفت في ضو بعده شغال من البارح، طفيته وكفيت نوم. رجعت صحيت مرة تانية بعد ساعتين ولقيت في ضو تاني ناسيه شغال من البارح، طفيته وكفيت نوم“، عندما لاحظني أدون الملاحظات بسرعة سألني: “شو؟ كتبت إني أكتر واحد سكسي بالفرقة وإني ملك البورن هَب؟“، أجبته بأن ذلك يقتضي رشوة. ضحك بشار ثم أخبر خيام أنه يحبه، عشر مرات تقريباً، ثم سأله: “أنا بحبك خيام، كنت بتعرف؟“، “لا ما كنت بعرف” أجاب خيام عابثاً وضحكا.
عند انتهاء خيام من قهوته خرجنا لأمام الفندق حيث كان الجميع عدا تامر. خالد الذي انضم للشلة منذ دقائق كان يرتدي بزة نصف رسمية بتي شيرت أزرق داكن بدلاً من قميص، يُظهر أناقة هادئة ويرعى كرشاً ليست صغيرة تماماً ساهم فيها عشاء الأمس المتأخر، يضع رجلاً فوق الأخرى ويدندن إيقاع طبول قبل أن يبدأ قرعه على ساقه العليا. انطلقنا على الأقدام لموقع التصوير حيث أخبرنا تامر أنه سيلاقينا هناك.
المدرسة القديمة التي لم يتح لنا استيضاح عمرها مقسومة لمبنيين، ربما كان أحدهما مخصصاً للبنين والثاني للبنات أو واحد للدراسة الإعدادية والآخر للثانوية. أحد هذين المبنيين تم ترميمه ولا يزال بالخدمة، لكن اليوم كان عطلة ولم يكن فيه أحد. اهتمامنا كان في المبنى الثاني المتهالك. خلال انتظار تامر دعتني ندى للصعود معها وفتح النوافذ وتفقد الطابق الذي سيتم التصوير فيه. كان المكان خلاباً. كل شيءٍ وكأنه نحت خصيصاً لجلسة تصوير: الرطوبة تأكل الجدران، الغبار يغطي الأرض، شظايا وبقايا عدد لا نهائي من الأشياء، شبابيك خشبية متأرجحة لا يمكن فتحها تماماً بسبب طبقة الغبار الرطب التي تحاصر مفاصلها، أرضية كحقل ألغام مهتّك، إحدى الغرف تكتسي أرضها ببقايا كمنجات مكسورة ومهترئة بفعل الغبار والرطوبة، الإضاءة الطبيعية المنعكسة بالغالب عن الأشجار تحيط المكان بالكامل وتدخل من كل جوانبه لتستجوب الألوان استجواباً من كل شيء يقع في الداخل. فتحنا معظم النوافذ القابلة للفتح، تناقشنا في أفضل الغرف للتصوير ثم خرجنا من الناحية الأخرى حيث رأينا قسماً مهجوراً آخر تظهر على أبوابه أقفال معدنية ضخمة. سألنا البواب إن كان بالإمكان فتحه واستخدامه وكان الجواب بالنفي. التففنا حول المبنى وصولاً لمكان وقوف الفرقة لكن لم يكن أحد هناك. سمعناهم ينادون لنا من داخل المبنى، كان تامر قد وصل.
خلال الدقيقة الأولى من اجتماعنا في الطابق، حين كان أعضاء الفرقة يتأقلمون مع المكان ويبحثون عن وقفتهم الأنسب أمام الكاميرا، وندى تلتقط صوراً تجريبية لاختبار الإضاءة، سمعنا صوت خطوات سريعة تصعد الدرج بصخب ولهاث لا يقل صخباً. استمر الضجيج بالتصاعد حتى ظهر بواب المدرسة الذي بدا الذعر في كل تصرفاته. أخبرنا بارتباك وتوسل أن علينا جميعاً الخروج فوراً استجابةً لرجل مباحث من مكتب رئاسة الجمهورية. حاولنا استيضاح المشكلة إلا أن البواب لم يكرر سوى “لازم تخرجوا” بهلع بدأت عدواه بالانتقال إلينا. عرضت سارة أن تنزل معه لتستوضح الأمر على أن نبقى نحن. بعد عناد وافق البواب ونزل هو وسارة. خلال الدقيقتين التاليتين تمكنت ندى من التقاط ثلاث صور تجريبية لأعضاء الفرقة أثناء تجولهم حول الغرفة واستطلاعهم المكان، ثم سمعنا من بيت الدرج صوت خطوات شخصين هذه المرة، هما البواب وسارة التي أخبرتنا بأن الموضوع جدي وأن علينا أن نغادر المكان على الفور، على الأقل لنفهم ما يحصل.
أثناء نزولنا صادف أن تُطل نافذة ضخمة من بيت الدرج المتداعي على المبنى المجاور الذي يقف رجل الأمن على إحدى شرفاته. حاول تامر استيضاح المشكلة عن بعد، معتقداً أنه لو أقنع الرجل بأن كل ما يحدث هو فرقة موسيقية تقوم بجلسة تصوير ستنتهي المشكلة دون اضطرارنا لمغادرة المكان. جاء الرد مقتضباً وقاطعاً: “اللي حمسكه معاه صور حيتحبس“. لم يرغب أحدنا باختبار جدية التهديد.
تابعنا النزول برفقة بواب المدرسة ومن أعتقد أنه بواب المبنى المجاور الذي بعث به رجل الأمن. عند وصولنا باب المدرسة الخارجي المعدني الأسود خرج الجميع عداي أنا وسارة وندى. بسرعة وخفة، أخرجت ندى شريحة الذاكرة التي استخدمتها الليلة الماضية واستبدلتها بأخرى موجودة في الكاميرا. وقفنا أنا وسارة معها للتغطية، ثم خرجنا سويةً لنجد تامر وموريس بانتظارنا عند الباب، وخيام على بعد عشرين متراً في آخر الشارع. خالد وبشار كانا خارج مدى بصرنا تماماً واكتشفنا لاحقاً أنهما قد أصبحا في طريقهما إلى الفندق. اتجه خمستنا إلى مدخل المبنى المجاور حيث كان رجل الأمن بانتظارنا. بدأ بمطالبتنا بحذف الصور قبل بلوغنا إياه، وقبل بلوغنا إياه أيضاً دفعت ندى الكاميرا باتجاهه وقالت له أن يفتشها.
قال الرجل لندى إنه لا يعرف كيف يستخدم الكاميرا لكنه يعرف أننا أخفينا الصور بطريقة ما. كان متأكداً من أننا صورنا، ومصراً على أن نحذف الصور أمامه. “ما الكاميرا أهو، فتشها” ردت ندى. بدأ جدال محتد لثلث ساعة، حاولت سارة وندى خلاله العثور على طريقة لإقناعه بالسماح لنا باستخدام المدرسة للتصوير، الأمر الذي كان من واضح أنه لن يحصل. تامر الذي كان أكثرنا عمليةً وهدوءاً ركز على التملص من المشكلة وِإقناع رجل الأمن بأننا لم نصور شيئاً من الأساس، دون أن يعرف بموضوع تبديل شرائح الذاكرة. في مواجهته انتقل الرجل لاتهامنا باقتحام المدرسة باعتباره جريمة جنائية. “انتي ترضي حد يخش بيتك بلا إذنك ويبدا ياخد صور؟” وجه سؤاله لندى، “بيتي ملكية خاصة مش مكان عام” أجابته مُستفزةً المزيد من الردود العدائية: “دي إجابة دي!” و“اللي انتو عملتوه دا اقتحام”، “ما فيش أي احترام للقانون”. بعد ذلك قال شيئاً عن رؤيته لنا أنا وندى نصعد درج المدرسة بمفردنا، “هو دا منظر دا!”. تدخّل بواب المبنى قائلاً إن والدي ندى شخصان محترمان جداً ويعيشان في ذات المبنى ومن الممكن استدعاؤهما. لم يكترث رجل الأمن وحوّل أسئلته لموريس بمزيد من العدائية: “انتا، انتا مصري مع أن ندى وسارة مصريتان أيضاً وتامر ولد ويعيش في القاهرة، قللي بصراحة، آه أو لأ، انتو كنتوا بتصوروا؟“، أصيب موريس بتوتر مُبرر، وأخذ يراوغ، مجيباً على أسئلة لم تطرح من الأساس. بدأ الحديث يأخذ طابع اللف والدوران والمناورة، حتى تملصنا مبدئياً من المشكلة التي بدأ رجل الأمن بمحاولة تعليقها على بواب المدرسة الذي لم يبدُ أقل خوفاً من شخص أسندت عنقه على حافة مقصلة. بدأنا بالدفاع عن البواب وتفسير المشكلة بطريقة ثانية، لف ودوران ومناورة وانتهت الأمور بسلام، على حد علمنا.
عندما غادرنا المكان باتجاه الفندق كان خيام لا يزال واقفاً في نهاية الشارع. انضم إلينا عندما بلغناه واستفسر عن المشكلة من سارة وموريس. حاولنا أنا وتامر التخفيف عن ندى بسبب فشل جلسة التصوير ولا أستطيع الجزم بأننا كنا أقل إحباطاً. تناقشنا في إمكانية العثور على موقع آخر للتصوير لكن الوقت المتبقي حتى المغادرة للمسرح، والذي لم يتجاوز في ذلك الوقت الساعة ونصف الساعة، قد وضع آمال جلسة تصوير أخرى في قبرها. كان من الضروري على الفرقة التوجه لمكان ما لتناول وجبة عليها أن تكفيهم حتى وقت متأخر من الليل. وصلنا الفندق وانضم لودو إلينا في البحث عن مطعم قريب لا يستغرق إعداد الطعام فيه وقتاً، وانتهى الأمر بنا بمكان تظهر على بابه الزجاجي لصاقة “طعام صحي، غير مقلي“. بانتظار الطعام دونت تفاصيل معظم ما حدث خلال الساعة الأخيرة، بينما تبادل الجميع محادثة متخمة بالنكات العصبية. الإحباط كان سيد الموقف، لا الغضب ولا الاحتجاج، الإحباط فقط. تحدث الجميع كيف كانت جلسة التصوير على بعد ربع ساعة من المثالية، ثم كيف أصبحت فجأةً شديدة البعد. قال أحدهم أنها كانت لتكون حركة تسويقية فظيعة لو تعرضت الفرقة للاعتقال قبل ساعات من الحفل. لم يضحك أحد على الفكرة السوداوية بل أجاب أحدهم: “مو لهالدرجة!”، شخص آخر تخيل سيناريو تنهار فيه المدرسة ويموت الجميع عداي لأروي القصة.
بعد مغادرتنا المطعم باتجاه الفندق مجدداً ادعى الجميع بأنهم يشعرون ببعض التحسن، لكني أشك أن أياً منهم شعر بتحسن فعلاً. اتجه تامر لمنزله وأخبرنا أنه سيلتقي بنا في المسرح، بينما انضم إلينا بشار وخالد مجدداً. رصد خالد خللاً بلهجتي السورية وقال لي أنني نصف سوري نصف جنسية أخرى لا يحزر ما هي. أجبته بأن لي أصولاً شركسية تضيع لهجتي المحلية. بعد نصف ساعة من المحادثات المشتتة وصلت سيارة الفان المخصصة للفرقة. جلس خالد بجوار السائق، أنا بين موريس ولودو، بشار وخيام وبضعة أطباق غداء حصل عليها بشار وخالد من الفندق في الخلف، سارة وندى في سيارة سارة. بعد تحرك السيارة بقليل بدأ بشار بالتسلط على وجبات الطعام، بما في ذلك حصة خالد، الأخير حبيس مقعده الأمامي لم يقوى سوى على التهديد والتذمر بعبث، لكن رائحة الطعام انتشرت في السيارة خلال لحظات. تحدثنا أنا وخالد على طول الطريق عن عمله بتدريس الموسيقى في الدوحة. أخبرنا عن تلميذه الأمير القطري ذو الست سنوات، تحدث عنه بإسهاب وقدر لا بأس به من الرضى. كان مفعول الغداء الصحي قد بدأ ينفذ، وبدأنا أنا وموريس بالتحدث عن مطعم يمني في الدقي نعرفه جيداً، ووضعنا خططاً هشة للذهاب إليه بعد الحفل.
على مدخل السيارات عند الباب الخارجي لحديقة الأزهر كانت مشاكل الفرقة على وشك أن تبدأ من جديد. تلاشى طابور صغير من ثلاث سيارات أمامنا بسرعة، بلغنا البوابة وخلفنا سيارة سارة، لنكتشف أن موظفي البوابة لا علم لديهم بقدوم الفرقة. لما أخبرهم السائق بأنه يُقل فرقة تؤدي حفلاً في مسرح الجنينة سأل أحد الموظفَين زميله: “هو في أصلاً حفل بالجنينة النهارده؟“. سائق السيارة ينقل فنانين من وإلى المسرح كل أسبوع، وبدا أنه اعتاد هذا النوع من المشاكل. أطفأ محرك السيارة على الفور وبلا انفعال، معلناً أننا لن نتنحى حتى تنحل المشكلة. موظفو البوابة لم يكونوا على عجلة بدورهم، على خلاف قافلة سيارات خلفنا تشارك بزفة عرس. بدأت أبواقهم بالتعالي، وتبعتها هتافات عدائية، ثم نزل أحدهم من سيارته قادماً ليمارس حقه بحرية التعبير عن الرأي. بعد ربع ساعة من مكالمات اللاسلكي رديئة الصوت فُتحت البوابة أخيراً. دخلت السيارتان، سيارة الفرقة وسيارة سارة، وقطعنا ما لا يزيد عن مئتي متر داخل حديقة الأزهر قبل أن نتوقف مجدداً عند بوابة داخلية أخرى تقطع الطريق المؤدي لمسرح الجنينة. “هو أصلاً في حفلة بالجنينة النهارده؟” تساءل بذهول الموظف الواقف على البوابة. تجاوز انتظارنا عنده هذه المرة العشرين دقيقة ونزل الجميع من السيارتين بينما بقيت أنا أدون ملاحظاتي. سمعت من الخلف صوتاً ضاحكاً يعلن: “كسم الحالة دي” بعبث، ثم ظهرت ندى تصوّر الجميع. في هذه الأثناء عاد خالد إلى السيارة والمقعد الخلفي بالذات حيث ارتكب بشار مجزرته بأطباق الغداء. الصندوق الأول كان فارغاً، الثاني فقط سلطة، ولكنه وُفِّق بالثالث. حرّض بشار على إلغاء الحفل وناقش سارة بجدية حول إمكانية ذلك. مطالباته بإلغاء الحفل تكررت لعدة مرات ولم تكن مجرد تذمر. في نهاية المطاف قيل لنا أن نسلك طريقاً آخر لأن الطريق الحالي اكتشف فيه ميل في الأرض ولم يعد آمناً للاستخدام. “في ميل بالطريق!” قال سائق السيارة، “عشان اكتشفوا الأرض كروية؟” أكسبته سخريته شعبية فورية لدى الجميع.
عندما وصلنا مسرح الجنينة الممتد بمحاذاة سور قلعة صلاح الدين الأيوبي كان الوقت عصراً، كما كان المسرح المكشوف خالٍ تماماً سوى من اثنين من المنسقين. نقل أعضاء الفرقة أمتعتهم ومعداتهم من السيارة للكواليس، التي كانت بدورها خيمة قماشية بيضاء مكعبة تقريباً، طول كل من أضلاعها ثلاثة أمتار، تتدلى على نهاية حبل يمتد من أحد جدرانها الداخلية مرآة ربع بنصف متر. عندما يدخل أحد الخيمة تتأرجح المرآة لتعكس مظهر الأرائك الجلدية البنية، ثم مظهر الميني بار الذي يوجد على ظهره ظروف مشروبات ساخنة وبعض البسكويت والشيبس، وكأسين بلاستيكيين مكشوفين مليئين بالسكر. بجوار الميني بار انتصب بتردد خزان مياه، أعلن خالد بدهشة احتفالية أن التسخين فيه يعمل، ومن الممكن تحضير الشاي أو النسكافيه. بعد دقائق من وصولنا ظهر تامر الذي أخذ بنصيحة سارة ونزل من سيارة الأجرة عند الباب الخارجي من حديقة الأزهر ليكمل الطريق مشياً تفادياً حوارات من قبيل: “هو في حفل بالجنينة النهاردة؟“. عند ظهوره اقترحت سارة فكرة لجلسة تصوير: تامر يذبح حمامة ويفرك دمها بجدران سور القلعة بينما يقف أعضاء الفرقة حوله. تسلل ضحك كان الجميع بحاجة إليه، إلا أن الإحباط كان لا يزال سيد الموقف.
تجول الجميع بقيادة ندى بحثاً عن موقع لجلسة تصوير ثانية، وعلى بعد أقل من عشرين متراً من المسرح عثرنا على بداية خندق يمتد بمحاذاة سور القلعة، نصفه مكشوف ونصفه الآخر يصبح نفقاً تحت الأبراج الدفاعية للقلعة. نزلنا للخندق الذي كانت أرضه مفروشة بالحصى المغطى ببعض بتلات زهور وردية وقمامة. حاولنا ركل والتقاط الأوساخ الكبيرة ثم ابتعدنا أنا وسارة لنُخلي المشهد للفرقة. صعدت ندى إلى الأعلى، تجاوزت سور أمانٍ معدنيٍ قصير وعثرت على موقع تصوير مناسب على أحد الجوانب الحجرية المتعرجة لجسر يؤدي إلى برج حجري. أصرّت سارة على خالد أن يرمي السيجارة من يده لئلا يشجع الناس على التدخين. بعد مناورات عابثة رمى خالد السيجارة وبدأ التصوير. تبادل أعضاء الفرقة نكاتاً مشتتة، وتحدثوا وتبادلوا المواقع بأريحية. بعد عشرة دقائق انتقلنا عشرين متراً أخرى على طول السور، وصولاً إلى درج حجري عريض في نهاية الخندق. وقفنا أنا وسارة وندى على قمته فوق الفرقة تماماً، ونظروا هم إلينا بدورهم. التقطت ندى بعض الصور من زاوية عمودية قامت سارة بنشر إحداها بعد بعض الوقت على صفحة الفرقة على فايسبوك مع عبارة: “منتظرينكم في مسرح الجنينة. الحفلة الليلة الساعة ٨. التذاكر على الباب“. خلال جلسة التصوير كان يبدو على الجميع أنهم في مكان جيد. لا توتر، لكن أيضاً لا حماس وجدية كما في الجلسة السابقة.
اقتربت مني سارة وأخبرتني أنه في الساعة الأخيرة قبل الحفل سيحتاج أعضاء الفرقة لقضاء بعض الوقت بمفردهم. قلت لها أنني أتفهم ذلك تماماً. اتجهت الفرقة إلى خيمة الكواليس لبدء تنصيب المعدات بينما عثرت لنفسي على مقعد أحمر غير مغبر للجلوس ومتابعة تدوين الملاحظات. المقاعد لن تُنظّف حتى ساعة أخرى. امتلأت الورقة التي كنت أدون عليها فاتجهت لخيمة الكواليس حيث تركت حقيبتي ودفتر الملاحظات. في الخيمة كان بشار وتامر لوحدهما، يتناقشان بنبرة صوت شديدة الهدوء ولا تخلو من رسمية تفضح أهمية الموضوع محل النقاش. ظللت في الخيمة من الوقت ما يكفي بالكاد لإخراج دفتري وانتزاع ورقة، وضع الورقة القديمة في الحقيبة، ثم الخروج مجدداً. خلال هذه اللحظات سمعت الحوار التالي:
بشار: بالأخير لو بوصل لهالشي، صير درس بالجامعة وبمجال الموسيقى وهيك، بكون عظيم، إي…
تامر (بابتسامة تعاطف وأسف): بس بتعرف انو هالشي راح يحطك بغير عالم، بغير التوجه اللي انتا ماشي عليه تماماً…
بشار (مقاطعاً): بعرف… لأ.. كيف؟
تامر: ما راح يكون فيك تلعب وتعزف حفلات وتعيش هالحياة كل ليلة زي ما انت متصور.
بشار (الذي هز رأسه موافقاً خلال استماعه لتامر): بس أنا خلصت مان. تعبت. بجد تعبت. أسلوب الحياة هيدا بيستهلك البني آدم، وأنا خلصت…
تامر: طيب، لو حاسس حالك أخدت واستوعبت كل شي من هالـ… تضاءل صوت تامر خلال خروجي من الخيمة. عندما عبّر بشار عن إرهاقه كان صوته صادقاً لدرجة جعلت متابعة المحادثة أمراً مرهقاً. عدت لمقعدي غير المغبّر لتدوين الملاحظات وانضمّت لي ندى بعد لحظات. جلست على مقعد حالته مؤسفة دون أن تكترث. شغلت كاميرتها ثم صوبت العدسة باتجاه الفرقة التي بدأت الصعود على المسرح لبدء الساوند تشك، أجالت بصرها عبر المنصة خلال عدسة الكاميرا، حرّكتها لتجريب مجال بصري أقرب وأبعد، بحثت عن صورة، ثم أنزلت عدسة الكاميرا مجدداً وأطفأتها دون التقاط أي صورة. تبادلنا أنا وندى ملاحظات عن الإحباط المخيّم. لم تكن راضية تماماً، أو أبداً، عن جلسة التصوير الأخيرة.
في السادسة والنصف مساءً غابت الشمس متيحةً المجال لأولى نسمات الهواء الباردة لتزيح الجو الفاسد من ظهيرة ذلك اليوم. الأمور بدت أفضل واستمرت بالتحسن ببطء، انخرط أعضاء الفرقة بالبروفات الحية التي استمرت حتى السابعة وعشر دقائق، واختفوا بعدها في الكواليس. في السابعة والأربعين دقيقة تقريباً كان المسرح مظلماً وشبه خالٍ. المقاعد الحمراء تم تنظيفها أخيراً، وبعض الحركة في أعلى المدرج دلت أن الموظفين يختبرون الإضاءة. لمحت ندى تقف عند الجانب البعيد من المنصة، تعبث بكاميرتها وتحدّق بنوع من الذهول في الإضاءة المريعة، خمنت أنها تشتم همساً بصوتٍ يخلو من الاكتراث.
اتجهت للكواليس مجدداً حيث كان الجميع، إلا خالد الذي خرج للمنصة للتدرب على الطبول. كانت الخيمة القماشية مضيئة ودافئة، تطفو على الوجوه فيها ابتسامات عابرة. قبل فتح البوابات للجمهور خرجت سارة لاستدعاء خالد الذي عاد معها وهو يسأل محتجاً عن سبب استدعائه. أجابه أحدهم بأن المنصة يجب أن تُخلى قبل دخول الجمهور. لم يقتنع وعاد باتجاه المسرح فخرج خلفه اثنان من الفرقة وأعاداه معهم. استمرت الأحاديث وساد قلق حول عدد الحضور؛ خرج خالد لاختلاس نظرة وعاد معلناً أنه لا يوجد سوى خمسة عشر شخصاً بالكاد؛ سارة التي كانت تطوف بين المسرح والكواليس باستمرار نقلت للفرقة أولاً بأول أخبار وصول كل دفعة جديدة، “الناس بلشت تصل“، “لا بجد وصلت دفعة كبيرة من شوية“؛ بشار يتساءل: “كبيرة؟ يعني كم؟ خمسطعش؟“؛ مبتسماً، روى موريس قصة لم أفهم إن كانت لبث التفاؤل أم الإحباط: “لا بالعكس، أنا متحمس جداً للحضور النهارده، بتذكر مرات كنت أعزف فيها بالجنينة وما يحضرش أكتر من عشرين حد، كلهم صحابي وناس أعرفهم، يروحوا موزعين حالهم بكل حتة بالمسرح عشان يبان مليان“.
في الدقائق الأخيرة السابقة للحفل، متجولاً بين خيمة الكواليس ومحيطها، تذكرت مقالاً عن فرانك سيناترا قرأته تمهيداً لكتابتي هذا المقال، عنوانه سيناترا مصاب بالزكام، يبدأ بمشهد يجلس فيه سيناترا على بار بين شقراوتين، يمسك بإحدى يديه كأس ويسكي وبالأخرى سيجارة، يحدق بلا شيء ويبدو عليه الاستغراق. في تلك اللحظات كان أعضاء الفرقة يفعلون ذلك، سوى أنهم لم يشبهوا سيناترا في شيء. فكرت كيف أن مراجعي حول ديناميكية الفرق وكاريزما الموسيقيين كانت دائماً مستمدة من نماذج غربية، وكيف أن معظم الفرق العربية تنقاد بولاء تام خلف هذه النماذج. الألف، كما استنتجت في تلك اللحظة، لا يفعلون ذلك. ولا يلاحظون كم تعكس ديناميكيتهم بصدقٍ جميل المجتمعات التي ينحدرون منها: التعاطي مع الإحباطات ومحاولة استثمارها بشكل فوري، التماوج العنيف بين السعي للكمالية وعدم الاكتراث المطلق، الكروش، ولاعة ومحفظة وعلبة سجائر على أحد الطبول، حلق الذقون ذلك الصباح وعدمه، مشاكل تأخير الصوت والجمهور الذي يسمعهم بعد ثلاث ثوانٍ. بإمكان الألف أن يشربوا الويسكي ولن يصبحوا سيناترا، بإمكان سيناترا أن يشرب الشاي ولن يصبح الألف.
خرجت الفرقة من خيمة الكواليس ووقفت خلف ستارة المنصة. اثنان على يمين الستارة واثنان على يسارها وتامر في الخلف يتقافز. اجتمعوا عند الزاوية اليمنى من الستارة، تعانقوا جميعاً أو عانق الجميع تامر على التوالي، ثم خرجوا أخيراً للمسرح لمواجهة مدرج يكاد يمتلئ. آخر محادثة جمعتني مع بشار قبل الحفل كانت عن النحل الذي يتغذى بأنواع معينة من الزهور لإنتاج عسل ذي مواصفات صحية خاصة. “هيدا، صديقي، اسمو أكل خرا“، أخبرني بشار بصوتٍ واثق ينم عن خبرة، “أنا من الجنوب بلبنان وبيربوا عنا نحل، الفرق الوحيد لو النحل مربى بمزرعة طبيعية، بعيدة عن البشر والتلوث، هيك بكون عسله تمام، غير هيك لا تصدق“؛ ما أشعل المحادثة كان تذوق بشار من مطربان عسل صغير وجده في الميني بار في الكواليس، عندما اكتشف المطربان وأثناء فتحه كان شديد الحماس، بشكل يكاد يكون طفولي، لكن خلال تذوقه الإصبع الأول والأخير منه أفرج وجهه عن ملامح شخص تعرّض للخيانة ويشعر بالدهشة والخذلان.
محادثتي الأخيرة مع تامر كانت قبل خروج الفرقة للمسرح بدقائق، عندما فرغت خيمة الكواليس سوى مني ومنه. بدا تأثير الويسكي واضحاً عليه، يحدق بنظرات جادة إلى لا مكان ويبتسم بطريقة لا تُطمئن. عيناه تلمعان وتحتجزان نصف دمعة تجبرك على إعادة تفسير ابتسامته بألف طريقة. سألته عن مغزى تلك النظرات وأجابني بابتسام مرح لا يقل غرابةً وإثارةً للقلق: “تعبنا يا أخي، خلص، بدنا نمشي… بدنا نروح عالبيت“.
بعد دقائق كان تامر، وسائر أعضاء الفرقة، يقتلعون قلوبهم من أحشائها ليمنحوا جمهورهم أفضل حفلٍ قد شهدوه في حياتهم. والموسيقى، عزيزي القارئ، كانت مذهلة. مذهلة. كانت موسيقى فرقةٍ قد عادت للتو من الاعتزال.
جميع الصور بعدسة ندى إليسا، سوى صورة ندى وعمار، صورتها سارة المنياوي.