.
ما زلت أذكر مقطع الفيديو القديم ذي الجودة المأساوية لمديح بدوي قديم، يعلو فيه صوت امرأة، تبينت من تكرار المقطع اللا نهائي أن اسمها فريدة، بلحن حزين “نا دمعي سكّاب” المديح، هو أحد مدائح بدو الهمامة في الولي الصوفي سعد بن عروة، الجد الصوفي الأسطوري لعدد من فروع قبيلة الهمامة، ومن بينهم أولاد صالح، موضوع المقال.. لم أتبين وقتها، عام ٢٠١٩، كثيرًا من الكلمات أو ملابسات المقطع والحاضرين فيه، ففي تلك الفترة لم تكن مقاطع الأغاني والمدائح الصوفية التراثية لبر الهمامة نستعمل هنا عبارة بر الهمامة، كناية عن المجال التاريخي الذي استقرت فيه قبيلة الهمامة بالوسط التونسي منذ القرن السابع عشر، تحديدًا ولاية سيدي بوزيد وشمال قفصة. يعود استعمالنا لهذا المصطلح، لسبق اعتماده في دراسات مماثلة أبرزها: أغاني النساء في بر الهمامة، لنعيمة غانمي وأحمد الخصخوصي . دارجة على مواقع التواصل، لكنني لم أنسه.
أعاد لي المقطع ذكريات ضبابية قديمة، لطفولة عايشت مثل هذه المشاهد قبل عقدين ونيف، مع عجائز بملاحفهن السود ورجال بعمائم بيضاء، طواهم الزمن. وحدها الصدفة بعد سنتين شفت غليلي، يوم تعرفت على صاحبة الصوت القوي في مقطع آخر يحمل اسمها، فريدة، واسم قصّاب يعزف معها لحنًا بدويًا آخر. من هناك اكتشفتها ومن معها يوم غزت مقاطعهم مواقع التواصل، لأعلم أنهن فلاّحات من قرية تبعد عني أقل من أربعين كيلومترًا، وإلى جانبهن اكتشفت فلاّحين أيضًا، أكملوا النصف الآخر من الصورة. هذه قصتهم جميعًا، وقصة تسربهم حاملين تراث بر الهمامة إلى عالم الإنترنت.
عام ٢٠٠٠، حقق الأسعد بن عبد الله ومن معه من مجموعة مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف حلم عرض طال انتظاره هو عرض المنسيات. من خلاله تمّ تجميع عدد ضخم من الأغاني والمقطوعات الموسيقية التراثية لمنطقة الكاف وشمال غرب تونس عمومًا بكل روافدها، صوفية كانت أو غزلية، وإعادة تقديمها للجماهير من قرطاج إلى مهرجانات الجهات. إلى اليوم ما زالت إعادة بث العرض على شاشة القناتين الرسميتين مستمرة بشكل دوري.
لم يحظ التراث الموسيقي لكل جهات تونس بفرص مماثلة للتوثيق مثل تلك التي نجح أبناء الكاف في منحها لجهتهم. مناطق غرب السباسب العليا، والتي تشمل اليوم أساس الوسط الغربي للجمهورية التونسية وتحديدًا ولايتي سيدي بوزيد والقصرين، مثال واضح لا فقط على عجز المؤسسات الثقافية المحلية على إعادة توثيق وإنتاج تراث الجهة، وإنما أيضًا على التهميش من طرف العروض الوطنية الكبرى بشتى أصنافها.
بقي التراث الصوفي البدوي المخصوص لهذه الجهات، باعتباره لونًا خاصًا من الإنشاد المختلف في ألحانه وكيفية أدائه وأدواته عن نظيره الحضري أو القروي، مستبعدًا من كلّ العروض الركحية الصوفية بداية من عرض الحضرة للفاضل الجزيري لسنة ١٩٩٣، أكبر العروض وأشهرها، وصولًا لعرض الزيارة لسامي اللجمي الذي غادر الأطر المدينية لحضرة الجزيري، المقتصرة على مدونة الإنشاد “البلدية” لحواضر العاصمة والقيروان، متوجهًا أكثر نحو الجهات وأريافها. بذلك أعاد تقديم مدونة صفاقس وقرى الساحل (عوامرية المنستير خاصة) وبدرجة أٌقل نماذج من بلاد الجريد جنوب غرب تونس. مع ذلك، بقيت المدونة البدوية، خاصة مدونة الوسط، خارج عرض اللجمي كليًا.
بعيدًا عن المدونة الصوفية، لم يختلف مصير أغاني السباسب كثيرًا، فعرض النوبة ١٩٩١ (للفاضل الجزيري مرة أخرى) لم يهتم بالأنماط البدوية كثيرًا باستثناء تجربة إسماعيل الحطاب، الذي أدى مقطوعتين في طبع الصالحي، الطبع البدوي الذي نشأ على تخوم الوسط، وبقي نسبيًا مستقلًا عنه كنمط مخصوص بقبائل الساحل وريف القيروان، كانتا من أشهر أغاني العرض.
وسط كلّ هذا التجاهل تمثل الاستثناء الوحيد والمبكر في حفل افتتاح مهرجان قرطاج لسنة ١٩٨٠، الحفل الذي وقع تخصيصه كليًا للفن الشعبي التونسي بكل تعبيراته المختلفة من شعر وغناء الأدبة والملالية وغيرها. خلال هذا العرض شاركت ولاية سيدي بوزيد بالأديب الشاهد الأبيض الذي غنّى مر فراقك في حين شاركت القصرين بالطفلة صليحة خاتمي في موال رافقها فيه أخوها الأصغر.
من لحظة الإعلان عن العرض وصولًا ليوم الافتتاح، لم تتحرج الأوساط الحضرية من التعبير عن رفضها وامتعاضها لتحويل ركح مهرجان الطرب والموسيقى العالمة لفضاء لموسيقى “القعر” القادمين من “وراء البلايك” (أي من وراء لافتات المدن، كناية على البداوة والأرياف القاحلة القادمين منها). في يوم الافتتاح المجاني، تواصل التصفير وصيحات الاستهجان لأكثر من نصف ساعة شهادة السيد علي سعيدان، الباحث في التراث الشعبي التونسي.، قبل أن تخمد في النهاية على وقع احتفاء وابتهاج الشق الآخر من الجمهور، جلّهم من نازحي البوادي من العملة والطلبة والموظفين. لم تتكرر هذه التجربة على صعيد وطني، باستثناء محاولات محلية وجهوية، لم تقدر في أفضل الأحوال على الفصل بينها وبين مقاربة حماية فلكلور مهدد بالزوال.
في نوفمبر ٢٠١٨، نشرت الفنانة أسماء بن أحمد فيديو كليب أغنيتها الجديدة، مرّ فراقك، الأغنية القديمة للشاهد الأبيض، والتي لم يبق منها غير الكلمات، في حين تغير اللحن ودخل الإيقاع على الخط، وهو ما لم يكن الشاهد الذي رحل قبل خمسة عشرة سنة، ليقوم به أبدًا. لفهم هذه الاستحالة لابد من العودة للنمط الموسيقي الذي انتمى الأخير له وهو فن الأدبة – جمع أديب، اللقب الذي يطلق على الفنان هنا – والذي يقوم على المزج بين الشعر وغناء الصوت دون سواه. حيث يقف الأديب حاملًا عكّازه وسط حفل، عادةً ما يكون زفافًا، لإنشاد القصائد بأنواعها من غزل وفخر وحتى هزل، دون الاستعانة بأية آلة موسيقية، مع أصوات عدد من المرددين. يختلف ذلك جذريًا عن الشكل النهائي لأغنية أسماء بن أحمد.
بعدها بثلاث سنوات، ظهرت محاولة أخرى، هذه المرة من طرف فنان محلي أصيل معتمدية المزونة – موطن الشاهد الأبيض – رمضان هضب. في إعادته للأغنية، عاد هضب للّحن القديم الذي اعتمده الشاهد، ولنفس بنية القصيدة التي ألقاها كاملة دون اجتزاء أو تحوير لكيفية نطق بعض الكلمات. مع ذلك فإن محاولته لم تكن قادرة على استرجاع تجربة الشاهد بشكل كامل، إذ اضطر للالتجاء للإيقاع في محاولة لتعصير الأغنية، وتحديدًا للطبل، الآلة الايقاعية الأحب للبدو، مع إيقاع ضرب موحد ورتيب على امتداد الأغنية، محاولًا قدر الإمكان المحافظة على هويتها الأصلية.
بقيت محاولة رمضان هضب النسبية في إعادة إنتاج تراث الجهة في أصالته شبه يتيمة، إذ لم تعضدها إلا محاولات قليلة أخرى، كان لأستاذة الموسيقى زهرة الأجنف، أصيلة بر الهمامة الجنوبي: قفصة، الفضل الكبير فيها. في المقابل، ازدهرت حركة الاقتباس والبتر؛ اقتباس نصوص الأغاني دون سواها وإعادة تلحينها وتوزيعها ضمن أنماط مختلفة كليًا، بعضها وتري وبعضها شعبي كموسيقى المزود الغريبة عن المنطقة. بذلك فقدت أعمال شهيرة من قبيل يا جاري رد النبا (تعرضت هذه الأغنية بالذات للبتر، حيث حذف فنانو المزود أصيلي مدينة قفصة، المقطع المخصص للاحتفاء بقبيلة الهمامة) وريم الفيالة لا يمكن الجزم بأصل أغنية ريم الفيّالة، إذ يتواتر غناؤها على امتداد الوسط والغرب التونسي. أي ارتباط بمجالها البدوي القديم.
قبل خمس سنوات، ظهر على يوتيوب تسجيل لتظاهرة محلية جرت في منطقة الريحانة من ولاية سيدي بوزيد، وفيه غنّت عدد من النسوة المشاركات في التظاهرة أغنية بدوية قديمة، عين الشراد. كتب على عنوان المقطع أنه من إنتاج التلفزة التونسية، أي القناة الرسمية. لم تطل المدة حتى تكرر حضور نفس النسوة، هذه المرة في تسجيلات نُشرت على صفحة جديدة حملت اسم أولاد صالح للتراث، وهي تسمية الفرع القبلي الذي تنتمي له جل النسوة.
لم تكن أقدم تسجيلات هذه الصفحة سوى مقاطع مصورة بهواتف محمولة وبجودة سيئة لمشاهد من الحياة الاجتماعية اليومية للمنطقة وأهلها، حيث ظهر النسوة بثياب العمل الفلاحي أو المنزلي. جاء الغناء في هذه المقاطع عفويًا، كامتداد لتلك المناسبات، من رفع الصوت بالمواويل أثناء جني الزيتون أو الغناء الجماعي في إحدى الزرد المحلية – زيارة موسمية لولي صالح. تغيرت هذه الصورة في السنوات القادمة، من مجرد نقل عفوي لأجواء عائلية حميمية بهدف مشاركتها مع الأقارب وسكان الجهة، نحو نشاط فني مهيكل ومنظم. لكن متى حدث هذا الانتقال بالضبط؟
تفترض الإجابة على هذا السؤال البحث عن نقطة زمنية أو حدث فاصل، وضالتنا هنا هو حدث أيام الجهات في مدينة الثقافة بالعاصمة التونسية، والمخصص كل مرة للاحتفاء بالإنتاج الثقافي بشتى أصنافه لولاية محددة من الولايات التونسية. كان يوم الأحد، الرابع والعشرين من نوفمبر ٢٠١٩، اليوم المخصص لولاية سيدي بوزيد، موطن بنات أولاد صالح.
في هذا الحدث شاركن أوّل مرة مشاركة تمت في إطار جمعية محلية لمنطقة الريحانة ولأول مرة حضرن بالزي التقليدي الكامل لنساء قبيلة الهمامة، وعوض الغناء المختلط بجني الزيتون أو غيره، غنّين قدها علام من أجل الغناء فقط. بذلك دُشّنت مرحلة جديدة من عمر المجموعة، فخلال الأشهر اللاحقة اتخذ العمل اتجاهًا مختلفًا، من الواضح أنه يتجاوز مجرد المجهودات الأولية لصاحب القناة الأستاذ الكهل محمد الناصر صالحي. إذ جاءت مقاطع الفيديو أكثر وضوحًا ودقة، وعلى عكس التسجيلات القديمة التي يختلط فيها الغناء بأصوات الأطفال أو رنين الهواتف، يبدو أن الأخيرة قد تمت في غرف مغلقة إلا من المغنيات، مؤثثة بالمرقوم – صنف من المنسوجات التقليدية – المحلي.
في مرحلة ما، أضيفت كلمات الأغاني لمقاطع الفيديو، وهو ما يشي في النهاية بأن أطرافًا أخرى، ذات دراية ولو بسيطة بالتكنولوجيا أو الإخراج، تدخلت من أجل تطوير عملهن. لعل أدل تسجيل يعكس الفارق بين المرحلتين، مقطع أغنية خويا والع بالغرام من تراث بر الهمامة، والتي تروي قصة شاب أحب فتاة، ليكتشف فيما بعد أنها أخته من الرضاعة.، الأغنية البدوية القديمة التي بقيت بعيدة لعقود عن التجديد أو التوثيق.
مع ذلك، بقي نشاط المجموعة افتراضيًا بالأساس إلى حدود فترة غير بعيدة، باستثناء مناسبات خاصة، غنّت فيها المجموعة ونُشرت تسجيلاتها فيما بعد. بدايات سنة ٢٠٢٣، عاشت مرحلة انتقالها الأخيرة، خاصة مع التحاق عنصر آخر لها، هي الأستاذة صباح الخضراوي، الأستاذة والإعلامية بإحدى الإذاعات المحلية. لم تشارك الأخيرة في الغناء، وإنما لعبت دورًا محوريًا في انتقال الفرقة من مجموعة أولاد صالح إلى أهازيج قولاب، نسبة لأشهر جبال المنطقة.
تجاوز الانتقال مجرد اختيار اسم فني مختلف؛ فمن مجموعة ذات طابع عفوي لا يربط أفرادها سوى الانتماء لنفس القرية، إلى مؤسسة قانونية مهيكلة، جمعية تولت صباح الخضراوي مهمة تقديمها إعلاميًا في صنف مختلف من الفضاءات التي لم تجربها نسوة المجموعة من قبل، هي المهرجانات. بدايةً من المهرجانات المغرقة في المحلية كمهرجان قرية النصر ببلدة المكناسي حتى المهرجانات الجهوية الكبرى كمهرجان عيد رعاة سمامة بولاية القصرين المجاورة، وصولًا إلى مهرجانات العاصمة مع عرض هطايا الذي شاركت فيها فرق أخرى للموسيقى البدوية بجهة القصرين.
ما يهم هنا، لا عدد المهرجانات، ولكن تلك المرونة والحركية التي أدت في بحر خمس سنوات إلى الانتقال من الريحانة إلى قولاب، من تسجيلات للذكرى والتوثيق إلى تسجيلات عرض ومنافسة، ومن تعليقات على مواقع التواصل من قبيل “إيه يعطيكم الصحة ذكّرتوني في صغري” أمسى الاحتفاء تصفيقًا حقيقيًا في المهرجانات وإشادة بفن حيّ لا على شفى الانقراض.
الحضرة الحرشانية
الحضرة كما هو متعارف عليه في الأوساط الحضرية والريفية لجزء واسع من شمال إفريقيا وغيرها، هي الوصف الذي يطلق على المدح والسماع الصوفي أو الفضاء والمناسبة التي يجتمع المدّاحون فيها من أجل ذلك. الحضرة الحرشانية، نسبةً لعرش الحرشان، أحد الفروع الكبرى لقبيلة الهمامة، شكل بدوي من أشكال المديح، ونموذج آخر للقدرة على الاستفادة من مواقع التواصل، ولو أن النتيجة الختامية لهذه التجربة مختلفة بشكل ما عن أهازيج قولاب.
بدايةً لا نعلم على وجه التدقيق متى برز مصطلح الحضرة الحرشانية ومتى اكتسب رواجه، خاصةً أن المجموعة التي نتحدث عنها ما زالت تحمل بناديرًا – جمع بندير، وهو الدف المستعمل في المدح الشعبي – كتبت عليها أسماء حضرة أولاد إبراهيم وأرقام هواتف أصحابها.
حتى صفحة الفيسبوك وقناة اليوتيوب اللتان ظهرت فيهما أول تسجيلات هذه المجموعة، حملت تسمية مختلفة كليًا: الهيشرية جوهرة فلاحية، نسبةً لمنطقة الهيشرية، المكان الذي ينتمي له أفراد المجموعة، قبل أن يتغير فيما بعد إلى الحضرة الحرشانية، تغيير يمكن عزوه بكل بساطة لتصاعد شعبية تسجيلات المجموعة والصفحة ورواجها. بالتالي كان من اللازم على مشرف الصفحة إعادة تسميتها بهدف حصر المحتوى على هذه التسجيلات دون سواها ومنحها اسمًا أكثر دلالة ودقة. ناهيك أن عبارة الحرشانية منحت اتساقًا أكثر للمجموعة مع الألحان والمدائح التي تتغنى بها، ومكانتها بين الفرق الصوفية الأخرى في منطقة الوسط والجنوب، خاصةً أنها ترفع من النسب الحرشاني وتؤكد على بركته وجذوره الأسطورية “الشريفة” في إحدى المدائح تتغنى المجموعة بعبارة ’حرشان يا سرية / دزّوا فزعكم يلفى يهوى على ما بيّا’ أي يا حرشان يا سريعي تلبية النداء، أغيثوني بالمدد وانظروا حالي..
ما يميز هذه المجموعة الصوفية، أنها لم تنشأ عن طريق الصدفة، إذ ظهرت منذ التسجيلات الأولى كمجموعة مستقرة من ضاربي البندير حول شخص منشد رئيس، الشاذلي اليوسفي، إلى الآن. بالتالي جاءت مرحلة تسجيل المدائح ونشرها كمرحلة لاحقة لعمل المجموعة التي شاركت على امتداد السنوات في المدح داخل أحواش الأسر الريفية بالجهة أو في مقامات الأولياء الصالحين، وبذلك لم يتغير شكل المقاطع في قناة المجموعة، منذ افتتاحها أول مرة سنة ٢٠١٧، ومقاطعها الأولى، وصولًا إلى أحدثها قبل أسابيع فقط. خلالها جميعًا، ظلّ الهاتف ذو الجودة المتوسطة وسيلة التصوير الوحيدة، وبقي الديكور نفسه ثابتًا في كل المقاطع؛ بهو أحد المنازل، والذكّارة قاعدون على الأرض بين البرانيس والأغطية وهكذا. رغم شهرة عدد كبير من مقاطع المجموعة وتداولها الكبير على مواقع التواصل وشهرتها محليًا كأحد أفضل مجموعات الذكر البدوي الصوفي، لا يبدو أن الحضرة اهتمت أصلًا بتطوير الشكل والديكور أو خوض تجارب مختلفة.
على عكس أهازيج قولاب لا تدين الحضرة لمواقع التواصل الاجتماعي بنشأتها، ومع ذلك فإن جزءًا من شهرتها يعود لها، خاصة ذلك المقطع المبكر بعنوان لمّوا فزعكم ’لمّوا فزكم ولحقّوا تاليك’ أي اجمعوا الأمداد وأغيثوا المتأخرين منكم، وهي إحدى المدائح المتأخرة نسبيًا في الزمن، نظرًا لأنها مخصصة أساسًا للولي الصالح (الهادي الحفيان) المتوفى سنة ٢٠١٣. والذي تتصدر فيه إحدى نسوة الهمامة الذكر إلى جانب الفرقة. تعود هذه الشهرة أيضًا لعامل آخر، ضعف وغياب المحتوى الصوفي البدوي، الذي بقي أكثره خارج التوثيق، ناهيك عن غيابه كليًا عن محاولات إحياء تراث السماع التونسي. صحيح أن بعض المحاولات وجدت طريقها إلى مواقع التواصل، وتحديدًا اليوتيوب مثل مدائح محمد بولعراس العليمي، أصيل ولاية قفصة والذي يتشارك مع الحضرة الحرشانية في الانتماء لنفس القبيلة وقالب المدح البدوي، إلا أن الفرق يكمن في غياب الصورة، فتسجيلات بولعراس كانت صوتًا فقط، باستثناء بعض المقاطع المتأخرة، في حين منحت الحضرة الصورة والصوت والمشهد الكامل كما يجب أن يُعاش؛ صحن الزاوية، ليلة الخميس والبنادير والزغاريت والزيّار القادمون للمبيت.
تحدي التجديد
في لي ساق رحل، أحد أشهر أغاني بر الهمامة، وأحدث أكثر الألحان تكرارًا في تسجيلات قولاب، يوجد بيت من أبيات الحكمة – في المجمل جلّ أبيات الأغنية تدخل في هذا الصدد – كالآتي: “هاك السراب نحسابه ماء / استعجلت بزّعت مايا” بعبارات أبسط، يتحدث البيت عن تلك اللحظة التي يرى فيها البدوي نبع ماء في الخلاء، فيسارع بسكب ما في حوزته من المياه، قبل أن يعود بخيبته. هنا تعيش المجموعتان نفس اللحظة، لحظة الاختيار وعواقبها: اختيار التجديد والتطوير، أم الثبات على الألوان الموسيقية القديمة كما هي.
في حقيقة الأمر يبدو السؤال مشكلة حقيقية خاصة أمام أهازيج قولاب – بالنسبة للحضرة الحرشانية يبدو أن الخيار قد حسم منذ فترة لصالح المحافظة على نفس الصيغ الموسيقية والركحية – لصعوبة النمط الذي يغنينه خاصةً الملاّلية، النمط البدوي الذي يخلو من كل معاضدة إيقاعية، وبالتالي يأتي الصوت فيه وحيدًا والكلمات ممططة، على عكس جلّ الأنماط الحديثة، مما يزيده غرابة بالنسبة لذائقة موسيقية حديثة لم تعرفه من بين الأجيال الشابة.
شخصيًا، كنت شاهدًا على مثل هذا، في حفلة الهواء الطلق التي أحيتها فرقة الأهازيج في أول عرض لها بمهرجان الولي الصالح سيدي علي بن عون في صيف عام ٢٠٢٣. ليلتها كان الحضور منقسمًا انقسامًا رهيبًا بين المنسجمين مع “أطراق البدوي” والمستنكرين لهذا الصنف من الغناء الأقرب “للنواح”. ليلتها سألت أحد الشبّان من الحضور عن رأيه في الحفل، ليجيبني: “حقًا لا أعرف ما هذا، ليتهم غيروا البرمجة وعوض هؤلاء قدموا لنا بفنان شبابي يغني الراي أو الراب، سامارا مثلًا.” تحققت الأمنية فعلًا في دورة هذه السنة، إذ لم تقع برمجة المجموعة مرة أخرى، ووقع تعويضها بفنانين شبّان يغنون السطايفي وغيره من الأنماط الحديثة.
يبدو أن المجموعة والقائمين عليها مدركون لهذا التحدي، إذ نجد من جملة التسجيلات بضع محاولات لإدخال آلات من قبيل الأورغ أو الدرَمز في بعض العروض المباشرة. محاولات لا يمكن الجزم بنجاحها، إذ سرعان ما وقع التخلي عن الفكرة والعودة لغناء الصوت فقط، والمصحوب نادرًا بالبندير أو القصبة. لكن التوجس من خوض تجربة التجديد، قد يصدم بشق آخر، هم صنف واسع من محبي المجموعة ومتابعيها، الشق الذي يمكن نعته بالأرثوذكسيين – على الأرجح أن كاتب المقال ينتمي لهذه المجموعة – أي أولئك الذين أحبوها في صيغتها الأولى الخام والنقية.
في تعليق على أحد التسجيلات، كتب أحد المتابعين محذرًا: “والله لو تخلوا عن كل آلة موسيقية وخلّوا المجال لحناجرهن، ذلك أنها أصغى وأرقى وأروع من جميع آلات العالم، وخاماتهن البيولوجية يفسدها ويدمرها التهجين” كُتب التعليق بالدارجة التونسية وهو في الأصل كالآتي: ’والله كان يتحو عليهم أي آلة موسيقية أو طبال وخلوهم حناجرهم أصغى وأرقى وأروع من جميع آلات العالم لأن خاما تنهن البيولوجية يغسدها ويدمزها التهجين فيا تليتهن يدركن مدى روعة وخصوصية ما يقمن به فاحذرن مسخ أصواتكم باستعمال الآلات اللهم إني بلغت فلا تنصاعوا مع من يحاول تغيير منهجكم وروعة تراثكم فهناك من بخاف أن تغزون الساحة بكل بساطة.’، بل إنه يعزو كل محاولة تجديد لمؤامرة أطراف تخشى من منافسة المجموعة وقدرتها على اكتساح الساحة.
لا يخلو التعليق من شطط ومبالغة معجب، خاصة في علاقة بالحديث عن المؤامرات والتهجين وغيرها، إلا أنه يكشف تقاطع طرق، وصلت له أهازيج قولاب اليوم: أي طريق نسلك؟ التوجه نحو جمهور جديد وأوسع واحتمالية فقدان القاعدة الأصلية من المتابعين، ربما على قلتها، والالتحاق بشكل أو بآخر بكل محاولات التجديد السابقة أم المحافظة على اللون البدوي في صيغته الأولى، وبالتالي خصوصيتها، ولو كلفها ذلك محدودية الانتشار.
هي جميعًا أسئلة أو ربما مقايضات آن أوان اتخاذها، أما نتيجتها فيصعب التكهن بها، على الأقل هذه الفترة، والمجموعة خضراء فتية وفي أوج نجاحها المحلي. نجاح عسى أن يدوم ويتواصل من أجل مدونة موسيقية وشعرية وتاريخية كاملة نجحت المجموعة – ومعها الحضرة الحرشانية – في توثيقها وحفظها لجيل، تم اجتثاث جلّ ما يربطه بماضيه القبلي لعقود.