.
أثناء متابعتي آخر عامين للكتابة الصحفية والنقدية عن الموسيقى عن كثب، بالإضافة إلى النصوص الترويجية للمهرجانات، اتضح لي تكرار ديباجات وتناقلها من كاتب إلى آخر بشكل متزايد. جمل دعائية مصاحبة بنبرة احتفائية مبالغ في إيجابيتها مثل: دفع حدود الموسيقى Pushing boundaries، حواف قاطعة Cutting edge، صوت مستقبلي Futuristic، موسيقى متقدمة Forward thinking، موسيقى تعيد تشكيل مشهد أو منطقة ما Shaping/re-shaping، موسيقى تغزو العالم Taking the world by storm/making waves، موسيقى صارت عالمية gone global.
جعلني كل هذا أتساءل عن جدوى هذه المصطلحات وتناقلها وتكرارها بشكل عمياني، واستخدامها لوصف أي عمل أو فنان مهما تفاوتت جودته وإمكانياته. الأهم، دلالة ذلك على وضع الصحافة الموسيقية والواقع الذي نعيشه.
ليس هناك أسلوب واحد للكتابة عن ألبوم أو نص ترويجي عن فنان ما. قد تكون المداخل اجتماعية أو تحليلية تقنية، أو معنية عن الكشف عن إسهام العمل في محيطه الثقافي، أو كتابة تعتمد الخيال والمجازات، كما في حالة ما يعرف بالخيال الصوتي الذي اعتمده كودوو إشون في التسعينات لمواجهة حالة الركود والكليشيهات الغربية في تعاطيها مع موسيقى السود.
يمكن أيضًا دمج هذه الأساليب معًا، لكن الأهم هو وجود عمق ما في الكتابة ورؤية نقدية نفتقدها بالتأكيد في السنوات الأخيرة. ما من المفترض أن يكون بديهي وأساسي عند الكتابة جرى استبداله باحتفاء مبالغ فيه وديباجات حماسية مستنزفة، إضافةً إلى استخدام مصطلحات تقنية في غير موضعها.
على سبيل المثال يوظّف مصطلح بوليريذمك أو متعدد الإيقاعات لوصف إيقاعات تخلو تقنيًا من ذلك، عادةً ما يستخدمها الكاتب لوصف تراك يكتظ بالعناصر الإيقاعية. كما أنه لسبب مجهول، بات من الشائع وصف كل موسيقى غير راقصة بالموسيقى المحيطة. يمكن ملاحظة هذه العيّنة من الأخطاء في الصحافة الغربية، والتي سرعان ما انتشر أسلوبها ونبرتها في المجلّات الموسيقية في منطقتنا.
هناك أمثلة عديدة لا يتسع لها المقال، والتي من الممكن أن يتجنبها الكاتب إذا كان ملمًا بالمصطلحات والثقافات الموسيقية ومبادئ بسيطة في الإنتاج الموسيقي. من ناحية أخرى، كل ما يعجز الكاتب الغربي تحديدًا عن فهمه، وقد يرجع ذلك إلى قلة السمع، أو على سبيل التفخيم والحماس الزائد أو نظرًا لتواجد أصوات مجرّدة غريبة، يتم اختزاله في ما هو مستقبلي أو متقدم فكريًا. كلمات رنانة فقدت معناها من فرط استخدامها ولا تحمل عمقًا، تبدو كعناوين أخبار لجذب الانتباه.
كما يصبح الأمر أكثر إحراجًا وكسولًا حين تكون الموسيقى قادمة من الجنوب العالمي ومستمدة من ثقافة يجهلها الكاتب، فيختزلها في كونها مستقبلية. حيث يصير ما هو غريب بالنسبة للكاتب الغربي تحديدًا مستقبلي. بدلًا من البحث عن ذاك المكان “الغريب والمجهول” والإلمام بكيانه وتحولاته المادية التي أسفرت عن هذه الجنرا أو المشهد أو الصوت، يصير الأمر مستقبلًا؛ فرضية كسولة ذات رواسب استعمارية تعزز من فكرة الآخر، حتى وإن كانت نيّة الكاتب جيدة ونابعة من تقدير.
قلما أقرأ نقدًا لظاهرة موسيقية أو ثقافية ما، أو مراجعة ذات بعد نقدي؛ أي الإشارة إلى ما يمكن تحسينه أو الفرص الضائعة في ألبوم ما، أو إضافة ألبوم إلى مشهده أو إلى مسيرة الفنان نفسه، أو مدى تعلّق المفهوم مع صوت الألبوم، أو حتى وجود حجة قوية لكون الألبوم استثنائيًا، أو مقاربات على مستوى الثقافة أو التاريخ أو البعد التقني بين الألبوم وأعمال أخرى.
يمكن القول إن هناك خلطًا واضحًا في مفهوم النقد والمراجعات، التي من المفترض أنها تكشف للمستمعين عن أبعاد إضافية وتضيف إلى الإصدار رأيًا شخصيًا أو موضوعيًا ونقديًا؛ حيث صارت مع الأسف أشبه بخبر احتفائي طويل.
كان هناك فرصة لتعزيز الحس النقدي خلال العقد الماضي، خصوصًا مع وجود وفرة في المجلات والمنصات الموسيقية الغربية التي أغلق العديد منها خلال الأربع سنوات السابقة. لكن مع انتعاش صناعة موسيقى البوب ونمو السوشال ميديا بشكل متسارع، وانفتاح الغرب على العديد من المشاهد في الجنوب العالمي أكثر من أي وقت مضى، غلب الطابع الإيجابي في التغطية؛ بدافع ضمان الزخم بشكل رئيسي. مع الوقت باتت هناك قاعدة إيجابية احتفائية، أثرت بدورها على مجلّات أخرى عُرفت من قبل بسياستها النقدية.
انعكس ذلك مثلًا على المشهد الإلكتروني والمشاهد غير الجماهيرية التي من المفترض أن لا تسلك نفس طريق الموسيقى الجماهيرية، وزادت النبرة غير النقدية، وصارت جميع الأعمال والفنانين “يدفعون حدود الموسيقى” مهما كانت الموسيقى شديدة التكرار.
ينطبق الأمر نفسه على منطقتنا، ففي البضع سنوات الماضية ظهرت العديد من المجلّات التي تكتب بالإنجليزية والتي تعد تغطيتها ترويجية تطابق البيانات الصحافية مع طابع حماسي. حيث تبدو نظرتها للفنانين وكأنهم جميعًا ظواهر حتى إذا كنا بصدد تراك راب على بيت تراب من نفس عينة الأداء والمواضيع والكلمات والفلوهات من ٢٠١٩.
في حين نجد مصطلحات مثل مستقبلي أو دفع حدود الموسيقى تتربع على قائمة المصطلحات المستهلكة في الصحافة الغربية، والتي يتم ترديدها أيضًا في منطقتنا، رأيت لاحقًا مصطلح “تشكيل أو إعادة تشكيل مشهد ما” يحقق أرقامًا قياسية من حيث الاستخدام في مجلة معنية بالموسيقى ذات متابعات كبيرة في منطقتنا. بجانب النبرة غير النقدية والإيجابية الأشبه بحس كورسات التنمية الذاتية في مجلّات منطقتنا، نلاحظ منصات موسيقية ناطقة بالعربية لا يتعدى معظم محتواها أخبار فنانين ونميمة وعناوين مثيرة.
يربّي انعدام الحس النقدي شعورًا غريبًا بالاستحقاق لدى الفنانين وجمهورهم ومتابعي مشهد بعينه. لعل أفضل مثال كشف لي عن ذلك، مقال سايمون راينولدز صعود الكونسبترونيكا، الصادر على بيتشفورك عام ٢٠١٩. تناول المقال نخبوية الموسيقى الإلكترونية وتبنى جدلية ذات وجاهة متحليًا بقدر كبير من النقد. كان بمثابة المقالات المطوّلة التي نفتقدها، وترصد ظاهرة متفشية حتى الآن. برغم ذلك، واجه راينولدز، وهو ناقد وكاتب ذو وزن، هجومًا مثيرًا للدهشة ودون حجّة، بالأخص على تويتر. كانت واحدة من تلك الهجمات ذات الروح المدمرة الثأرية، حيث لسبب ما، انزعج الكثيرون من مصطلح كونسبترونيكا وتلقاه البعض إنه مسهب في التنظير.
كان الهجوم سريعًا وساخرًا، وبالفعل تأكدت حين سألت المحيطين بي من المشهد الإلكتروني أنهم لم يقرأوا المقال بالكامل أو لم يقرأوه من الأساس. يعد هذا مثالًا لما تؤول إليه ردود الأفعال حين ينعدم الحس النقدي، فيصير النقد تحليلًا زائدًا أو كراهية ويصبح الفنانون ومعجبوهم شديدي الحساسية ودفاعيين.
حتى في معازف، كثيرًا ما تمر علينا تعليقات ساخرة من عينة أن الكاتب أو الكاتبة يفلسفون الأمور وأن موضوع المقال لا يحتمل هذا القدر من التنظير والتحليل. لا شك أن السوشال ميديا ساعدت في ذلك كثيرًا، أي تقليل الطابع النقدي، حيث أن مستخدِم الإنستجرام مثلًا يجري إغراقه بشحنات ترويجية إيجابية نابعة من منطقة ليبرالية قلما تحتوي طابعًا نقديًا، ما يؤدي إلى الحفاظ على الجماليات اللامعة والكتابة الإيجابية التي تضمن مزيدًا من المتابعين على حساب المجلة على السوشال ميديا، وتتجنب الاشتباك والجدال حول عمل ما، إضافةً إلى إبقاء الوضع الآمن على ما هو عليه.
منذ أربع سنوات وأثناء فترة كورونا، دعوت ثلاثة نقاد موسيقيين جادين في مجالهم إلى ندوة على ديسكورد لمناقشة “جائحة اللطافة”. كان موضوع الندوة يركّز بالتحديد حول انعدام المراجعات السلبية أو النقد الجاد بشكل عام. بعد نقاش طويل، كان ضمن ما اتفقنا عليه أنه هناك إصدارات كثيرة جدًا وفي تزايد أكثر من أي وقت مضى، فالأفضل أن نركّز على ما نجده “جيدًا” من الإصدارات أو ما يدعو للكتابة عنه نظرًا لطرحه إضافة لمشهد ما أو لقيمته الجمالية. أعتقد أن ذلك منطقي وأثّر بالفعل في طريقة اختياري للإصدارات التي أكتب عنها؛ مع ذلك، توقفنا كثيرًا عند انعدام المراجعات ذات الطابع النقدي، التي لا يمكن اختزالها في إيجابية أو سلبية.
تحدثنا عن الأسباب وتوصلنا إلى التالي: العديد من الإصدارات عادةً ما يجري إرسالها إلى المجلات من قِبل وكالات ترويج، وعادةً ما يكتب عنها أحد أعضاء فريق التحرير أو كتّاب مساهمين في معظم الأحيان. مع هذا النموذج في تلقي الإصدارات، من المهم أن تستمر المجلات في علاقتها مع الوكالات والفنانين، لذلك لا تجازف بأن تكون المراجعة نقدية أو تذكر نقاطًا سلبية لأن هذا قد يعود عليها بخسارة علاقتها مع الفنانين ووكالاتهم.
من ناحية أخرى، وفي ظل أزمات اقتصادية تلاحق الجميع في العالم ومع تضاؤل المجلات الموسيقية، لا يجازف الكتاب المساهمون كثيرًا بأخذ منحنى نقدي، تجنبًا أن تلاحقهم “سمعة سيئة” في حالة استياء فنان أو جمهوره منه. قد تضر هذه النوعية من المراجعات بكاتبها، ويقل الإقبال عليه. يترتب عن ذلك زوال فكرة الناقد من الأساس، وانعدام دور المجلّات في صناعة المعرفة.
بعد الندوة تفهمت أكثر الظروف الصعبة التي يعاني منها الكتاب والمجلّات وقلة مصادر التمويل الثقافي في الوقت الحالي، حيث هذا ما يؤول إليه الحال في ظل نظام رأسمالي يجعل حياة الناس على المحك وفي صراع دائم لتوفير الحد الأدنى لتغطية المصاريف الشهرية. بالتالي ليس هناك مساحة لما نطمح إليه من كتابة إبداعية أو نقدية التي تعد بمثابة مخاطرة بمستقبل الكاتب.
مثلًا، قرأت العام الماضي العديد من مراجعات ألبوم برات لـ تشارلي إكس سي إكس بعد كتابة مراجعتي له. كان رد الفعل في كل مجلة احتفائيًا بقدر مبالغ فيه مع أن هناك مساحة للنقد في هذا الألبوم بالتحديد، إذا قارناه بألبوماتها السابقة. فقط كان هناك عمود لكاتبة غامرت في حصاد العام في ذَ واير وذكرت شيئًا نقديًا. بدا لي أن الصحفيين والمنصات تمت برمجتهم على الكتابة الآمنة عند تلقي إصدار ما، بالتالي بات المستمعون والجمهور غير مهيئين لمن يكسر هذا النمط.
لا زال هناك مساحة للوصول إلى صيغة مناسبة ومتوازنة نقديًا في حالة تغيّر السياسات التحريرية لدى المجلّات، ما رجعنا نراه مجددًا في بيتشفورك أو مع كتاب مستقلين على سبستاك. لكن الأغلبية العظمى لما هو متواجد الآن يفوق الطموح للحد الأدنى من النقد أو حتى الكتابة الآمنة، حيث باتت المبالغة معتمدة بشكل مثير كما ذكرت في بداية المقال، وتتبنى عقلية السوشال ميديا الترويجية. إذ تكمن قوة أي منصة مهما بلغت جديتها في حساب السوشال ميديا الخاص بها أكثر من محتوى الموقع نفسه.
يجري اختزال كثير من محتوى المجلّات في بوستات بجماليات ملائمة للإنستجرام وعناوين كبيرة حماسية مرضية للجميع لضمان عدد أكبر من المتابعين، هو أحد أعراض واقعنا نفسه المختزل في السوشال ميديا. لا يريد مستخدم الإنستجرام بطبيعة الحال أن يصطدم بما هو سلبي على التطبيق، بالتالي تفرض تلك القاعدة الضمنية نفسها على المجلّات.
في ظل هذه الأجواء، لا يوجد بالطبع مكان مناسب للنقد، حيث يسود إنكار الواقع والبهجة الكاذبة، إذ يضمن تحفيز الجميع دون نقد استمرارية المشهد مهما بلغت أزماته ومهما بهتت موسيقته، وهو ما يعكس روح الليبرالية التي تعبأ فقط باستمرار العجلة والدعاية والترويج وتعزيز الروح الفردية دون نقد يذكر.
الأزمة هنا هي عدم وجود معايير أو تراكم خبرات سمعية ونقدية لدى المحررين لتقرير ما يجب الاحتفاء به، فالقاعدة هي أن كل إصدار متفرّد وكل فنان استثنائي ومن الواجب خلق ظاهرة ما للاحتفاء بها؛ إذ مهما بهت الواقع سيكون للطاقة الإيجابية والإلحاح عليها مفعول السحر. لا عجب إذًا في ترديد شعارات من عينة أن منطقة “السوانا” في انتعاش موسيقي غير مسبوق نظرًا أن مستخدمي سبوتيفاي يستمعون إلى موسيقى عربية أكثر من قبل، أو هناك منتجين أمريكان يسمبلون موسيقتنا أو أسباب تبدو أتفه من ذلك معزولة عن الواقع الصعب على الأرض في منطقتنا.
نرى أيضًا نبرة سائدة أن المشهد الإلكتروني والراقص في تفجر دائم في أوروبا بالرغم من معاناة نسبة كبيرة من المهرجانات والقاعات والكلَبّات وتقليل نشاطها أو غلقها. بالطبع تساعد السوشال ميديا على إعطاء انطباعات خادعة.
من المهم التوقف عند ديباجة استهلكت كثيرًا في الصحافة الغربية مثل دفع الحدود وذي فكر متقدم. تستخدم هذه الصيغة لوصف الموسيقى ذات المنحى التجريبي أو من يخاطر ويغامر للخروج عن صوت مألوف. لكن مع كثرة استخدام هذه المصطلحات وإسقاطها على نسبة كبيرة من الفنانين وأعمالهم، تفقد قيمتها وتصبح مجرد ألفاظ فضفاضة لجذب الانتباه وإعلان صفة التفرّد. هنا دائمًا أتسائل، هل نحن فعلًا محظوظون بهذا الكم الهائل من الأعمال التي تدفع حدود الموسيقى؟
عند الاستماع إلى معظم الأمثلة التي تحمل هذه الصفة، قد تكون متواضعة المستوى والتأثير، وقد تكون جيدة بالفعل ولكن في كل الأحوال يحمل المصطلح بعدًا مجازيًا لا يتّسع للتحليل والنقد. قلما نجد مراجعة ألبوم تحمل جدلية حول كون الألبوم فريدًا، أو بمعنى أصح ما هي الحدود الموسيقية التي يدفعها، وذلك ينقلنا إلى التساؤل عن مَن قرّر وفرض هذه الحدود وما معايير أو المرجع الموسيقي الذي على أساسه يقرر المراجع اعتماد ختم دفع حدود الموسيقى.
يقلل الإسهاب في استخدام مصطلح كهذا من المعايير ومن شأن الأعمال التي بالفعل تطوّر وتجدد وتبدع موسيقيًا. لتبسيط الفكرة فحتى بالمفهوم الليبرالي التنافسي البائس؛ لا يتّسع فصل بأكمله لخمسين طالب حاصلين على المركز الأول.
من الواجب التوقف عند حالات أخرى، كتكرار مصطلح مستقبلي كطريق مختصر للإشارة إلى موسيقى مجددة أو غير مألوفة. عادةً يستخدم النقاد هذا المصطلح للدلالة على موسيقى ذات تصميم صوتي يميل إلى التعقيد أو إيقاعات تبدو غير مألوفة أو صوت منتج أو فريق غريب عن الناقد، حتى وإن خلت سردية الفنان من ثيمة المستقبلية.
كثير من الموسيقات التي يطلق عليها الآن مستقبلية وُجدت بالفعل في زمن سابق، ومن العادي أن تتبع مصادرها وتأثيراتها في الماضي. في كثير من الأحيان، صفة المستقبلية – ذات المعايير الضبابية عامةً – مستمدة من تصورات حقبة في الماضي عن المستقبل، أي أنها مستقبلية بأثر رجعي، وبالتالي تسقط عنها صفات المجهول والجديد وربطها بالمجاز المستقبلي. لكن ما زال هناك إصرار لاستخدامه دون البحث في دلالاته أو مثلًا دون التأمل في أن ما يبدو متطورًا أو جديدًا أو “مستقبليًا” لناقد أو مستمع غربي قد يعد أمرًا عاديًا ومسموعًا من قبل أحد من ثقافة أخرى أو لدى مستمع نهم، حيث أن صك المستقبلية وبالتبعية ما هو جديد محمّل بالمركزية الغربية وبانعدام الخبرة السمعية.
يتغافل الكثيرون أن ما هو جديد أو مجدد يحدث فقط من خلال طفرات في صوت موجود من قبل أو مجموعة أصوات. بالتالي فإن المستقبلي ما هو إلا وهم بصري/سمعي، وهذا التطوّر المسفر عن طفرة كالجانغل في إنجلترا أو المهرجانات في مصر أو التكنو في أمريكا، مجرّد حدث لا يتكرر كثيرًا. من هنا يعد غريبًا ومتسرعًا ودعاية فارغة إلصاق صفة الجديد الكامنة في مصطلح مستقبلي، والحديث عن “تشكيل أو إعادة تشكيل” الموسيقى أو مشهد ما والحدود التي لا آخر لها التي يدفعها الفنانون كل يوم.
يرى البعض أنه من المشروع استخدامه في حالة تكهنه بالمستقبل وينقلنا ذلك إلى هوس الغرب بشكل عام والمشهد الموسيقي بشكل خاص بالمستقبل كما وضحت من قبل في مقال جماليات الظلام في الموسيقى الإلكترونية. أرى في المقال نفسه أن الغاية في جماليات أو مفاهيم مستقبلية ديستوبية أو يوتوبية أو السايبربانك في مواجهة السولار بانك هي مجرد هروب من الحاضر أو فشل صريح في التعاطي مع الحاضر، مثله مثل الهروب إلى الماضي، تشتيت عن الواقع، وهي نفسها غاية الليبرالية.
أيضًا هناك هوس قوي بالتقدّم وتسريعه، وبالتالي ما هو “مستقبلي” تصبح أكثر وجاهة وإغراءً وجذبًا للفضول من أي شيء يعبأ بالحاضر. إن السعي للتقدم والتهافت لما هو جديد في فترة زمنية قصيرة – ولا أقصد السعي لذلك بدافع الملل – يحمل هاجسًا استعماريًا قلقًا يدفع صاحبه لمزيد من السيطرة، فبعد السيطرة على المكان يصير هناك هاجس السيطرة واحتواء المستقبل. يفسّر هذا عدم انتشار ثيمات المستقبلية بين العوام في منطقتنا ومن ثم قلما يلجأ إليها الفنانين. لكننا قد نجدها في حالة المشاريع الثقافية الممولة من بلدان الاتحاد الأوروبي وإنجلترا.
تقتصر ثيمة المستقبلية في منطقتنا، والتي تتضح بقوة في العمارة، في الأنظمة المستبدة المحملة بالقيم الفاشية أو شديدة الرأسمالية كما في الخارج، لتعود المستقبلية إلى حيث نشأتها من الفاشية في إيطاليا. في ظل الصراع حول امتلاك الزمن وسردية المستقبل، أتعجب كثيرًا حين يتبنى كاتب من منطقتنا نفس الخط والمصطلحات وأيضًا الأسلوب الغربي في الكتابة والنقد، إن وُجد. يعود ذلك أن العديد من المجلات الموسيقية أو التي تحتوي الموسيقى ضمن أقسامها في المنطقة تنشر بالإنجليزية بالفعل، بالتالي فإنها تستهدف فئة معينة من المتابعين قد ينظرون بنوع من الخجل أو الغرابة عند الحديث والكتابة عن الموسيقى بالعربية. الأمر الذي لاحظناه في بدايات معازف إلى أن تشجّع البعض مع مرور الوقت وبات هناك كتابة عن الموسيقى بالعربية لدى منصات أخرى. لكن لم يكن ذلك محفزًا كافيًا لبعض الذين يتعاملون مع اللغة الإنجليزية في حياتهم اليومية كوسيلة للتميّز، وبالتالي تعد العربية لغة أدنى مثيرة للاستغراب عند توظيفها في التعبير عن الموسيقى.
بما أن هناك نوع من الإحساس بالدونية النابع من عقدة المستعمَر التي ترسخت في العديد من شعوب منطقتنا، تصبح مصطلحات وأسلوب ونبرة ولغة الغرب مرجعًا للصحافة الموسيقية الإنجليزية في منطقتنا. فإذا انعدم النقد أو انتشرت المصطلحات أو تلك النبرة الاحتفائية في الخارج، تم اعتماده لدينا كنموذج يحتذى.
من المهم التحلي بالاستقلالية على مستوى الأسلوب والمصطلحات والنبرة في منطقتنا، وأعتقد أن الخطوة الأولى لذلك هي اعتماد لغتنا في الكتابة عن الموسيقى أو الفنون عامةً. قد يكون هذا دافعًا لإعادة التفكير في تغيير النبرة والأسلوب، فلا شيء أكثر تصنعًا حين يحاول كاتب يكتب لقراء من منطقتنا بالإنجليزية وأيضًا بالعربية أن ينقل ما يتم تداوله في الصحف الموسيقية الأجنبية، فالعديد من مصطلحاتهم إضافةً إلى نبرتهم وأسلوبهم السائدين لا تمت لواقعنا بصلة.
السؤال الأهم، لماذا نحن في موقع الناقل أو المحاكِي دائمًا، لماذا لا نعكس المعادلة، لماذا لا نصير المرجع، خصوصًا أننا نشهد بالفعل صحافة موسيقية وفنية في منطقتنا منذ أكثر من عشر سنوات؟ لماذا يقتصر الأمر في معظم الأحيان على الصحافة الإنستجرامية وأسلوبها المختزل؟
بجانب التقليد والنقل من أسلوب ومجلّة وصحفي ومحرر إلى آخر وسيادة الصحافة الإنستجرامية على المستوى المحلي والعالمي، يبقى الحديث عن أكثر العوامل التي من المتوقّع أن توحّد المعايير وتسطّح البحث والنقد والأفكار التحريرية، تشات جي بي تي. مع تأثر الجميع ببعضهم وانتشار نبرة ومصطلحات واحدة في المقالات والمراجعات ونصوص الألبومات والترويج وتغذيتها للإنترنت ومن ثم تشات جي بي تي، ستأتي أجيال صاعدة تعتمد كليًا على تشات جي بي تي لتستمد لغتها ونبرتها وأسلوبها وطريقة بحثها منه، ما بدأ يتحقق فعليًا مؤخرًا.
النتيجة على المدى الطويل غير مبشرة بالمرة ومقلقة؛ خالية من النقد وتعدد الأصوات. بما أنه بات هناك صوت واحد، كان من المفترض أن يضمن استمرارية الصحافة الموسيقية، سيسفر بالطبع عن متلقٍّ واحد.
في النهاية من الواجب الالتفات إلى ما يمكن تجنبه في الصحافة الموسيقية، جميعها أعراض واقع غير وردي نعيشه في الحاضر، لكن ليس من العسير إصلاحه. أرى أن الشغف الموسيقي لدى الصحفيين الموسيقيين يتطلب ترك الاستسهال والديباجات المستنزفة الآمنة والنبرات الكسولة والروح المبالغ في حماسها واحتفائها بالإضافة إلى السعي إلى هامش من النقد. النقد في حد ذاته مهم بالنسبة للفنان والجمهور وعلاقتهم ببعضهم وعلاقة الاثنين بمشهد موسيقي ما ككل، هنا تظهر أهميته على المستوى الجماعي. الأهم من ذلك التحلي بالفضول، فالفضول جميل.