.
حين أغمضت ماريان إيلين عينيها للمرّة الأخيرة في آب/أغسطس الماضي، أدرك ليونارد كوهين أن الموت بات قريباً منه. فمريان هي حبيبته السابقة التي منحت اسمها لأشهر أغانيه So Long Marianne والتي كان طيفها حاضراً أيضاً في Bird on A Wire و That’s No Way to Say Goodbye. في ساعاتها الأخيرة قبل الرحيل، طلب كوهين أن تُقرأ لها هذه السطور:
إذاً، ها قد وصلنا يا ماريان إلى تلك اللحظة التي كبرنا فيها حتى انهارت أجسادنا. أظنني سألحق بك قريباً. فاعرفي أنني قريب منك، خلفك تماماً، يكفي أن تمدّي يدك حتّى تمسكي يدي. تعرفين أنني لطالما أحببتك لجمالك وحكمتك. ولكني لا أريد أن أتحدث عن أشياء تعرفينها. الآن أود فقط أن أتمنى لك رحلة سعيدة. مع السلامة يا صديقتي وحبي الأبدي. أراكِ عما قريب.
في هذه الكلمات بعض من الحب والفقدان والرؤيا، الركائز الثلاث التي شكلت مسيرة كوهين التي امتدّت خمسين عاماً. ففيها ما يشبه كوهين حقاً، ذاك الحزن الهادئ الذي يسلّم مسبقاً أنّ الحياة المادية كما الحب، إلى زوال. تشبهه أيضاً تلك القدرة على النظر إلى الحياة من موقع الخارج منها. اليوم وقد حدس الشاعر والمغني الكندي أنه ربّما وصل إلى النهاية، أعلن أنه بات جاهزاً للموت، وإن عاد عن كلامه لاحقاً. في لحظة الانتظار الأخيرة هذه يأتي ألبوم You Want it Darker الذي تتكثّف فيه كل ركائز تجربة كوهين الموسيقية.
تعود اليوم قصيدة الحب التي سكنت أغنيته منذ Dance Me to the End of Love وصولاً إلى I’m Your Man و You Got Me Singing. يستهلّ كوهين If I Didn’t Have Your Love بإيقاع رتيب للأورغ الكنسيّ قبل أن ينتقل إلى الغيتار الكهربائي في وتيرة تزداد سرعة لتصل إلى ذروة الحزن والبهجة معاً عندما يقول “هذا ما سيكون عليه حطامي/ وهكذا ستبدو لي حياتي/ إن لم يكن لديّ حبّك ليجعلها حقيقية” That’s how broken I would be What my life would seem to me If I didn’t have your love To make it real.
لكن حتى في أغنية الحب هذه، ثمّة غياب للإشارات المادية. فالآخر ليس إلا روحاً تتجلى في الطبيعة التي تعطي الحياة إيقاعها ومعناها. تتحول فجأة أغنية الحب الوحيدة في الألبوم إلى قصيدة تقرُّب من الله. فيبدو كوهين اليوم وكأنه انتقل إلى عوالم أخرى ليس للحب المادي أثر فيها. كأنّ أغاني الحبّ السابقة له التي دأبت على تصوير الحياة في غياب الآخر كاحتمال وحيد لها، لم تكن إلا تمهيداً للوصول إلى هذه اللحظة الصوفية.
في الألبوم عودة أيضاً إلى أغنية الفقدان والانفصال التي شكّلت مسيرة كوهين في أغانٍ عدّة، خصوصاً في ألبوم New Skin for the Old Ceremony. تقوم أغنية الفقدان في الألبوم على تناقضات بين الإيقاع السريع واللحن الفرح وأداء كوهين الذي يسخر من الحب وجدواه. فيستعيد كوهين مع البيانو والوتريات صوراً توراتية ترسم نهاية العلاقات وخيبة الحب. بعدما كان الحبيبان شبحين في Is This What You Wanted أصبح الفرد في Treaty وحده شبحاً يسكن الآخر دون أن يغريه. في Traveling Light ترافق كوهين جوقة نسائية قد يُفسَّر وجودها كمحاكاةٍ ساخرة لرومانسية Dance Me to the End of Love. مقابل أداء الكورال لرومانسية بائدة، يعلن كوهين بصوتٍ رتيب ومُرّ نهاية العلاقة. في لحظة الانفصال الأخيرة هذه يبدو كوهين وكأنه تخلى عن الغناء تماما، فيتلو بصوت أجشّ وبرودة قاسية Leaving the Table بعد وصلات بطيئة من الجيتار: “سأنسحب من الطاولة، انا خارج اللعبة”. هنا أيضاً تأتي أغنية الفقدان في سياقٍ وداعيّ يعلن فيه كوهين تخليه لا عن الحب وحسب، بل عن لعبة الحياة أيضاً.
سبق لكوهين أن قدّم أغنيات يمكن وصفها بالرؤيوية visionary، كـ The Future وDemocracy وEverybody Knows، أغنيات تقوم على وصفٍ قاسٍ لمن جرّب العلاقات الإنسانية ويئس منها، من سبقنا إلى المستقبل ورأى فيه انهياراً كاملاً للنظم الأخلاقية وعاد ليحذرنا منه. قد تكون الأغنية الرؤيوية الركيزة الثالثة في أغنية كوهين التي احتلت حيزاً كبيراً في الألبوم. يطغى على عدد من هذه الأغنيات العزف المنفرد للجيتار والكمان من جهة، وصوت كوهين المتردد في الغناء من جهة أخرى. في It Seemed the Better Way، وعلى إيقاع كورال جنائزي وصوت الكمان، يرثي كوهين الحقيقة في تجلياتها المسيحية الداعية للحب والتسامح والعدل: “بدت كأنها الحقيقة” يقول، “ولكنها ليست حقيقة اليوم”. ثمّ يعود كوهين إلى التشكيك بكلّ المسلمات في Steer Your Way حيث ترافقه الوتريات في إيقاع سريع يبدو فرحاً للوهلة الأولى لكن سرعان ما تعترضه كلمات كوهين وسوداويتها. في You Want it Darker وهي عنوان الألبوم وأغنيته الأولى، يصور كوهين الحاضر بتشاؤم مفرط وقد انهار منه مفهوم العدالة في بعديه الإنساني والديني. بهدوء تام ترافقه درامية صوت المنشد جدعون زلرماير وجوقة كنيس هاشوماييم The Shaar Hashomayim Synagogue Choir، يرثي كوهين من كان قادراً على كل شيء وفقد سلطته وجُرّد منها. يحاكي سفر التكوين عائداً إلى لحظة اختبار الإيمان الأولى حيث نادى الله إبراهيم ليضحّي بابنه فأجاب “هِنيني” في العبرية أي “ها أنا”. إذاً، أمام السلطة الإلهية التي أضاعت مفهوم العدل، يقف كوهين متفرجاً حيناً، مشاركاً احياناً، ولكن مسلّماً دوماً في لحظة النداء الأخيرة:
إن كان المجد لك فالعار لي
تريد ظلمةً أكبر، فلنقتل الشعلة
هِنيني هِنيني، أنا مستعدّ يا رب
تأتي أغنية String Reprise/Treaty الأخيرة في الألبوم إستعادةً لـ Treaty. يخصص فيها كوهين كل الأغنية للوتريات كالكمان والتشيلو الذي غالباً ما يحضر في محاولات إحياء الموسيقى اليهودية قبل أن يختم بكلمات مقتضبة: “انتهت الآن لعبة الماء والنبيذ“. يتراجع صوت كوهين في الأغنية الأخيرة، هو الذي قاوم اللحن طوال الألبوم، فيخلي المكان ويعطي الكلمة الأخيرة للموسيقى، كأنّه ينسحب على مهل من الألبوم ومن الحياة معاً.
لن نعثر على ما هو جديد في ألبوم ليونارد كوهين. فهو الذي يتحضّر للرحيل لن يدخل في متاهات التجريب، بل سوف يواظب على كتابة أغنيته الأخيرة. سيكتب قصيدة الحب الأخيرة وقصيدة الفقدان الأخيرة وقصيدة الرؤية الأخيرة. سيقول لنا إن كل ما قد كتبه كان استعداداً للقصيدة الأخيرة التي قامت على تجارب بداياته وأخذتها إلى عوالم شعرية يطغى عليها مزاج جنائزي استعاره المغني من التراث اليهودي، ذلك المخزون الثقافي والروحاني الذي طالما ملأت حكاياته وشخصياته قصائد كوهين والتي جعلت من هذا الألبوم الأكثر روحانيةً وسحراً واكتمالاً طوال مسيرته. ولأن ليونارد كوهين أمسك اليوم بكل معالم أغنيته، قد يكون ألبومه هذا هو الأخير فعلاً.