.
كان للشعر الإباحيّ دور محوريّ في تطور الشعر العربي، منذ أن أصبح فاحشًا فاضحًا، له أسلوبه وصوره الخاصّة، يعبّر عن شهوات الشعراء الحسيّة بخيال جامح متحرّر من كلّ القيود. راج الشعر الإباحيّ في عصر الأمويّين (تأثيل كلمة غزل) وارتبط بروزه بعوامل سياسيّة. إذ نقلت الدولة الأمويّة فترة الخلافة الأموية إلى حدود ٧٥٠ م عاصمة الخلافة إلى الشام لتحجيم المعارضين في الحجاز، وأغدقت على أهله الحجاز بالعطاء ووفّرت لهم كلّ أسباب الرخاء كتعويض عمّا خسروه، فتحوّل الحجاز من إقليم نافذ سياسيًّا إلى إقليم غارق في ملذّات الحياة، وصار الشعر الإباحيّ خزّان الأغنيات التي تهتزّ على وقعها خصور الجاريات.
يُسمّى الشعر الإباحيّ أيضًا بالحضري نسبة إلى ظهوره في المدن وارتباطه بشعراء نالوا نصيبًا وافرًا من النعيم مثل عمر بن أبي ربيعة. يذكر لنا التاريخ أمثلة لشعراء مثل الأحمص الأنصاريّ، دانوا بدين المتعة والشهوة واتخّذوا من قصور الخلفاء مجالسًا للهو وتنظيم القصائد الغزليّة. لكنّ التاريخ نفسه يغفل عن ذكر شعراء مغمورين مثل شعراء البادية في تونس وسنذكر بعضهم في المقال لم يكونوا حضرًا، بل من سكان البادية وأبناء القبليّة المُغمّسة في الدّين، ومع ذلك نظموا قصائد غزليّة معطّرة بالشبق.
الشعر الأخضر في تونس هو الوجه الملحون للشعر الغزليّ والإباحيّ الفصيح، سقط من اهتمام الباحثين لعدم اهتمامهم بشكلٍ عام بالأدب الشعبيّ، رغم محاولات بعضهم تدوين التراث الشفويّ ودراسة عادات وتقاليد أهل الحاضرة على وجه الخصوص، فيما ظلّ الموروث الثقافيّ لسكّان البادية قصيًّا منسيًّا. حاول الأديب والمؤرّخ التونسي محمّد المرزوقي (توفي سنة ١٩٨١) أن يخصّ سكّان البادية والقرى بكتب تتحدّث عن شعرهم الملحون وأفراحهم وأتراحهم والأغاني التي ترافق مواسم الحصاد وجني الزيتون. من بينها كتابه الأدب الشعبيّ في تونس، والذّي يعدّ مرجعًا مهمًّا في هذا المجال. تحدّث المرزوقي عن الشعر الأخضر في بعده الغزليّ الناعم لكنّه لم يتحدّث عن هذا الشعر في بعده الإباحيّ، أو كما يحبّ أن يُسمّيه بعضهم بـ الأخضر الغامق.
يعتبر محمّد المرزوقي أنّ الشعر الملحون أعمّ من الشعر الشعبيّ لأنّه يشمل “كل شعر منظوم بالعاميّة سواء كان معروف المؤلف أو مجهوله وسواء رُوي من الكتب أو مُشافهة وسواء دخل في حياة الشعب فأصبح ملكًا للشعب أو كان من شعر الخواص” محمد المرزوقي، الأدب الشعبي في تونس، الصفحة ٥١ وعليه، يُضيف المرزوقي: “فوصف الشعر بالملحون أولى من وصفه بالعاميّ، فهو من لحّن يُلحّن في كلامه أي أنه نطق بلغة عاميّة غير مُعرّبة“. ومعلوم أن العرب حاولوا الحفاظ على اللغة الفصيحة وقواعد نُطقها السليمة تصديًّا للّهجات غير المُعرّبة والتي كانت بمثابة تهديد للعصبية العربية رغم اختلاطهم بالبربر والفرس والروم، فكان كلّ شخص يُلحّن في كلامه مثاراً للسخرية، ومن أولئك الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك المعروف بدمامة وجهه، والذي كان غير قادر على النُطق الفصيح الصحيح رغم حرص والده على تعليمه علم النحو وأصول الإعراب. مع أن الوليد كان خليفة لحّانًا، كما يُقال، إلاّ أن اللّحن لم ينتشر بين النّاس في عهده على عكس ما حصل في العصر العباسيّ، وتحديدًا أثناء خلافة المعتصم بن الرشيد المعروف بضعفه في الكتابة، حيث تذكر بعض المصادر أنّه نظم بعض الأبيات باللّهجة العاميّة عندما كتب له أحد الأتراك أبياتًا ملحونة اعتراضًا على ردّه كلب صيد أعرج كان قد أرسله إليه يذكر محمد المرزوقي تفاصيل هذه القصة في كتابه الأدب الشعبي في تونس ويُورد حتّى هذه الأبيات في الصفحة ٥٣ بالتحديد ستجد مرفقًا صورة للصفحة. ساهمت هذه الحادثة، إلى جانب عوامل أخرى من بينها تشريك الفُرس في الحكم وردّ الاعتبار إليهم بعد تهميشهم من قبل الأمويّين، في انتشار اللّحن وبالتالي في ظهور الشعر الشعبيّ بمختلف لهجات القبائل العربيّة. مع انتشار الشعر الشعبيّ أصبح لهذا الفنّ فروعٌ عديدة ظهر بعضها في فترة الحكم العبّاسي، ومنها القوما وهو زجل يتغنّى به البغداديّون في رمضان لإيقاظ الناس وقت السحور، والموليا الذي جاء به البرامكة بعد نكبتهم على يد الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد، حيث تقول بعض الروايات أن جارية من البرامكة “كانت تندبهم إثر نكبتهم بهذا اللون من الشعر الشعبيّ وتختم أنشودتها دائما بقولها يا مواليه” الأدب الشعبي في تونس لمحمد المرزوقي، دون أن ننسى طبعًا الكان وكان اسمه الكان، مثلما نقول كان يا مكان في بداية كل حكاية لذلك هو شعر شعبي خاص بالحكايات وهو نظم خاص بالحكايات والخرافات والمواعظ والأمثال.
تختلف أقسام الشعر الشعبي في تونس عن نظيرتها في الشرق، حيث تتفرّع إلى أربعة فروع من حيث الشكل لا من حيث الموازين والإيقاع، وهي القسيم والموقف والمسدس والملزومة. تتباين هذه الأقسام بتباين القوافي والأبيات. وسنهتمّ هنا بموازين هذه الفروع الأربع وتماهيها مع إيقاع الطبيعة في البادية. من أشهر موازين القسيم العوارم، والعارم في اللهجة التونسية الدارجة هي المرأة الجميلة، ويساوي إيقاع هذا الوزن السير السريع للجمل، لأن الغصن الواحد الغصن هو الشطر الأوّل من البيت من القصيد يمكن تقسيمه إلى قسمين، وبالتالي يصبح الإيقاع سريعًا. ومن موازين القسيم الأخرى المحدور، وإيقاعه شبيه بالسير المنحدر. أمّا موازين المسدس فقد استوحت إيقاعها من صخب الأفراح في الجنوب التونسيّ، ومنها المضموم الذي يتماشى مع ضربات الطبول، والسعداوي المساير في إيقاعه لرقصة السعداوي الشعبيّة المعروفة أيضًا في الصحراء الجزائريّة. أغراض الشعر الشعبيّ أو الملحون عديدة ولا تختلف عن أغراض الشعر الفصيح، كوصف الطبيعة ووصف الوقائع الحربية ووصف الخيل والغزل أو ما يُصطلح على تسميته بالأخضر شعراء الملحون يُسمون الغزل بالأخضر. وقد تم توراث هذه التسمية جيلًا بعد جيل دون البحث في أصلها. حسب تقديري الشخصي سُميّ بالأخضر لأنه يقال في اللهجة العاميّة: هذا الشيء أخضر، أي غضّ وطريّ ونَضِر - ما يتماشى مع مضمون الغزل وما يحتويه على جمال في الوصف.
يُعتبر الغزل من أهمّ أغراض الشعر الملحون، وقد كتب أغلب الشعراء قصائد وجدانية لم تتجاوز مواضيعها الحديث عن العواطف واللوعة والأشواق، وخاصّةً وصف محاسن وجمال الحبيبة وتشبيه الأجزاء الظاهرة وغير الحميمة من بدنها بعناصر من الطبيعة، فالرقبة تُشبّه برقبة الرّيم (الغزال) والشعر بالليل والوجه بالبدر والعين بعين البقر والأنف بمناقير الطيور، ولنا في المدوّنة الشعبيّة أغنيات عديدة تساوق هذه التشابيه، منها أغنية منقار الطير لفنّان القصبة (نسبة إلى آلة القصبة النفخية الشبيهة بآلة الناي) رضا المساهلي.
يُبيّن لنا محمّد المرزوقي في كتابه الأدب الشعبي في تونس الصادر سنة ١٩٦٧ أن قصائد الشعر الأخضر متّحدة الأسلوب والاتّجاه، وقد يتفنّن الشاعر فيها فيأتي بأسلوب في النظم يحشوه بأنواع من المحسّنات البديعيّة، فيقطع القصيدة إلى تفاعيل ويجعل قوافي التفاعيل متّحدة فتسمع لها موسيقى خاصّة عند إلقائها، وهو ما يُسمّى في الفصيح بالتسميط. وقد يكون التفنن، حسب المرزوقي، بشكلٍ آخر، فيعمد الشاعر مثلًا إلى تكرار لفظة مرّتين أو أكثر للتأكيد، وتتكوّن من ذلك موسيقى تعبّر عن معنى الإلحاح الذي يقصده الشاعر. تعدّ قصيدة الشاعر أحمد البرغوثي الشهيرة، غروضات، من أهمّ الأمثلة عن الشعر الأخضر الناعم، حيث يقول متغزّلًا بعيون حبيبته التي اجتاحته بسحرها وجمالها: “غروضات ريت الغرض بين هدبهم (أي أهدابها) / رعوبات رعبوا خاطري يرعبهم”، وقد غنّى هذه القصيدة الفنان التونسي مقداد السهيلي بتوزيع وإيقاع عصري مع الحفاظ قليلًا على الطابع البدوي المتمثّل في صوت آلة القصبة.
يعدّ شعر الملحمة غرضًا مستقلًّا بذاته بالنسبة إلى شعراء الملحون، ولكنّه لم يخلُ من غرض الغزل فكان مخضوضرًا في العديد من قصائده، ومنها ملحمة حسونة اللّيلي التي تروي قصّة وزير أحبّ فتاة بدويّة لحقها حيثما رحلت وولّت إلى أن تزوّجها، لكنّ السلطان حاول انتزاعها منه وفشل في ذلك.
نَظَمَ الشاعر سالم العيدودي قصيدة عن هذه الملحمة يقول مطلعها: “يَا عُوم الغيد ما نَحساب تديريلي / كيف بنت دريد غرّت بحسونة اللّيلي.” إلى جانب ملحمة الجازية الهلاليّة وعلاقتها بزوجها الشريف ابن هاشم. تروي هذه القصائد ملاحم تاريخيّة حاضرة بقوّة في المخيال الشعبيّ، إلاّ أنّها لم تُلحّن مثلما هو الحال مع ملحمة الدغباجي قاوم الاحتلال الفرنسي في تونس والإيطاليّ في ليبيا وأعدم أمام أهله التي أدّاها اسماعيل الحطّاب، أحد قامات الفنّ الشعبي في تونس.
يُعيدنا الحديث عن اسماعيل الحطّاب إلى حكاية أغنية ما بين الوديان الشهيرة، والتي كتبها أحد أهمّ روّاد الشعر الأخضر في مدينة الكاف، وهو محمّد بالصيد الطالبي الذي لم تُنصفه الذاكرة الشعبيّة ولم تذكره كتب التاريخ، وظلّ قلّة من أهالي الكاف يتناقلون حكاياته شفويًّا دون تدوين. حاول المسرحيّ التونسي البحري رحّالي إعادة الاعتبار إلى هذا الشاعر المغمور في عمل مسرحيّ بعنوان نوّار الملح. كان محمّد بالصيد الطالبي شاعرًا يتغزّل ببنات الدوّار الدوّار هو تنظيم سكني تسري عليه القواعد العشائريّة إلى أن أحبّ ابنة شيخ كان يمثّل آنذاك السلطة السياسية والدينيّة في هذا التجمّع السكنيّ، فنظم فيها شعرًا يتراوح بين الغزليّ والإباحيّ، وهو ما لم يُعجب والدها الذي أمر بقتله لكنّه نجا من موتة مُحققة، فكتب: “ما بين الوديان دمّي يقطّر / نموت ونحيا على الغنجة (المرأة صاحبة العيون والحواجب السوداء) حلال“.
يزخر التراث الكافي (نسبة إلى مدينة الكاف) بأغنيات إباحيّة كتبها شعراء لا نعرف عنهم شيئًا. تعامل البعض مع هذا الموروث بنزعة أخلاقوية وبانتقائيّة شديدة، حيث أهمل ولم تتمّ دراسته بالشكل الذي يستحق. قام المخرج المسرحي الأسعد بن عبد الله بضخّ الروح في هذا التراث في عرض يحمل اسم المنسيّات، من أهمّ العروض التي نبشت في التراث المنسيّ. من بين الأغاني التي أدّيت خلال العرض أغنية صالحة لزرق واتاك، والتي تجسّد بحقّ الشعر الأخضر في بعده الإباحيّ. تتحدّث الأغنية عن عاشق مرّت أمامه حبيبته صالحة فسلبت عقله بفستانها الأزرق الذي طار بفعل الريح فظهر تبّانها الأبيض، واسترسل بعد ذلك الشاعر في وصف أجزاء حميمة من جسد صاحبة الفستان الأزرق.
لم يتعامل الصادق الرّزقي – أحد أشهر رجالات الفكر ومن أبرز أعلام الصحافة في ثلاثينات القرن العشرين – بانتقائية مع التراث التونسي، رغم موقفه الأخلاقي الرافض لكلمات أغاني سكّان البادية المتحرّرين في أشعارهم مقارنة بسكّان الحاضرة. أورد الرّزقي في كتابه المرجعيّ الأغاني التونسية أمثلة عن أغانٍ إباحيّة عديدة، منها أحد الأبيات في وسط أغنية ذكر أنها من نوع الزندالي، “وهي أغاني السوقة لا تتورّع عن البذاءة أحيانًا، منحطّة في أخيلتها وتعابيرها لأنها في الأغلب من نظم اليهود المحترفين“. جاء في هذه الأغنية: “وشمة على البزّول (الثدي) يا ما أزرقها / حرقت قلبي قبل ما نلحقها.” كما أورد أغنية أخرى في نفس السياق تقول: “وشامك أزرق، الشركة (العقد) في الرقبة تشرق / وبزّولك على الصدر نطق، مثيل تُفّاح من برّ الرّوم”، أي أن وشم الحسناء أزرق وعقدها حول رقبتها مُشرق وثديها بارز شبيه بتفاحة من بلاد الرّوم. للأسف لا نجد طريقًا لهذه الأغاني اليوم نظرًا إلى اقتصار بعض الباحثين على تدوين كلماتها دون تسجيلها صوتيًّا لمعرفة لحنها وإيقاعها وكيف كانت تُغنّى.
إلى جانب الأغاني الإباحيّة التي تزخر بها مدوّنة الشعر الأخضر والتي لا تخلو من صور شعريّة جميلة، هناك أغانٍ للمجون يردّدها الناس في الأعراس أو في مجالسهم الخاصة خلسة، مثل أغنية زبّور ونونة (أي القضيب والبظر). تصف هذه الأغنية فرج المرأة بدقّة متناهية، كما تصف الانتصاب وتحسّر رجل على أيّام شبابه وفحولته، وفيها الكثير من الصور الطريفة والمُضحكة التي تشي بزمن كان للناس فيه فسحة من الحريّة ومجال للانعتاق من الرقابة الأخلاقية والدينيّة. وجدنا لهذه الأغنية تسجيلًا قصيرًا لشيخ قرويّ يردّدها وفق إيقاعها السريع الخاصّ.
نفهم من خلال كل هذه الأغاني الإباحية والقصائد الشَبقة أن تفريغ الرغبة الجنسية الجامحة كان هاجس شعراء الأخضر الغامق، فالكتابة عندهم نوع من الاحتماء الوجوديّ ضدّ سلطة تريد التضييق على حريتهم. كان هذا بالأمس. اليوم، ورغم رواج الكتابة الآيروسية المستمدّة جذورها من موروثنا الأدبي الزاخر بالنصوص الإباحيّة، إلاّ أنّ غول المحظورات والمحرّمات قد كبر وبدأ في ملاحقة المخيّلات الفاجرة التي تريد أن تصنع من العدم كاماستورا جديدة.