.
تقلّبت أطروحة هذا المقال في ذهني لأعوام طوال، دون أن أخط حرفًا فيها، بين الشك والمراجعة والتدقيق، ثم الشك والمراجعة والتدقيق. يرجع هذا إلى عاملين: الأول هو أنها تورط كاتبها في الصراع الشهير حول مَن يكون أعظم الموسيقيين قاطبةً. غالبًا ما تنقسم الآراء حول المثلث الشهير: يوهان سيباستيان باخ المؤسس والأب، وموتسارت الموهبة الإلهية، وبيتهوفن مُصارع القدَر، وصريعه؛ وغالبًا ما تتدخل الأذواق هنا لتوجه الآراء، بين من يميل إلى التعقيد الزخرفي الهائل عند باخ، أو البساطة الممتنعة غير الزخرفية عند موتسارت، أو التعقيد غير الزخرفي في أعمال بيتهوفن. هذا بالإضافة إلى الكثير من العوامل الأيديولوجية بطبيعة الحال، مثل الموضوعات، التي عبّر عنها كل موسيقار، من المثل العليا المسيحية-البروتستانتية عند باخ، إلى المثل الأرستقراطية عند موتسارت، إلى المثل الثورية والإنسانية عند بيتهوفن. بل تتدخل حتى الموضوعات التي لم يعبر عنها الموسيقار. قد يرى بعض النقاد والمستمعين أن وجود موضوع محدد للعمل هو في حد ذاته ما يحد من قدرة العمل التعبيرية، أي ذلك الرأي الذي يرفع الموسيقى اللا موضوعية فوق الموضوعيةالموسيقى اللا موضوعية، أو الخالصة، هي التي لا يحمل العمل فيها عنوانًا ولا يعبر عن برنامج معين معلن على الأقل، وعكسها الموضوعية أو البروجرامية.؛ وغير ذلك أيضًا من عوامل، ما يجعل الأمر ككل شائكًا، بما يحتمله من خلافات في الأذواق والقيم الجمالية والخُلقية والسياسية، لا حل موضوعيًّا لها.
أما السبب الثاني لذلك التردد فهو ضرورة الإحاطة بأسرار البناء البيتهوفني. البناء عند باخ وموتسارت واضح البنية، لا أعني أنه بسيط عند الاثنين، بل أعني أنه أبسط من بيتهوفن. إن تحليل أعمال باخ وموتسارت نقديًا وفلسفيًا لا تواجهه تلك الصعوبة، التي نجدها بصدد بيتهوفن. السبب أن كلًا من باخ وموتسارت قد قدّم في الأصل بناءً بسيطًا، والفارق بينهما أن بناء باخ البسيط تحوطه الكثير من الزخارف والمنمنمات، التي توحي للسامع للوهلة الأولى، أو للوهلات الأولى، بالتعقيد، فإذا أزلنا كل هذه الزخارف نفاجأ بأن الأمر أبسط بكثير. تخيل مثلًا لوحة الموناليزا ذات الموضوع الواضح، وتخيل أننا أضفنا الكثير من الدانتيلّا والنقوش والتعاشيق في الملابس والخلفية والإطار، عندئذٍ تبدو لنا مهمة تحليل كل ذلك شاقة بلا شك. لكن تخيل أننا – على سبيل التحليل – قمنا بمحو كل هذه الإضافات الداخلة على الموضوع، كما نقشّر الثمرة، ليظهر لنا قلبها جليًا ونقيًا. هذا بالضبط ما قمتُ به في تحليلي لباخ، كما سنرى، بل إن هذا بالضبط ما قام به أعمدة الكلاسيكية من هايدن حتى بيتهوفن المبكّر (قبل تحوله الكامل إلى الرومانسية قرابة سن ٣٠)، كما سنرى أيضًا.
بالتالي لم يكن باخ بهذا التعقيد البنائي، بل الزخرفي، وكان ذلك التكلف مستساغًا، بل ومستحبًا، عند جمهور الباروك في القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر في أوروبا. لكن الكلاسيكية جاءت لتنقض جماليات التكلف، وتستعيد التناظر الرياضي، والوضوح الهندسي، الذي نراه في تماثيل الإغريق مثلًا، وهكذا لم يعد ذلك التكلف مقبولًا بعد ذلك، ولم تقم له قائمة مرة أخرى قط. أما بيتهوفن فحالة مختلفة في هذه المقارنة. لم يهتم بيتهوفن كذلك بالزخارف، ولم يستسغها، طالما هي مطلوبة كمجرد دانتيلّا للعمل وزينة خارجية، لكنه – على عكس سلفَيه – أضاف التعقيد في الموضوع نفسه، دون زخارف، كما سيتضح لاحقًا. ما أنْ وصلتُ إلى هذه النتيجة الأخيرة حتى قدّرت أنني قد أمسكت بطرف الخيط الأساسي لموضوع هذا الطرح أخيرًا.
وعدتُ في مقال أسبق (موسيقى الشيطان) على معازف منذ عامين بتقديم مقال في إثبات كون بيتهوفن الأعظم بين الموسيقيين، وطالبني بعض القراء والمستمعين في المحاضرات بتقديمه أكثر من مرة، وسألوني بصدده، لكنني لم أكن قد عثرت على بداية الطريق بعد طيلة هذين العامين. يلاحظ القارئ المنتبه أن عنوان المقال ليس مقارنة بين بيتهوفن من جهة، وباخ وموتسارت من جهة أخرى، بل يحمل ادّعاءً أكبر، يُدخل كاتبه في مغامرة لا بأس بها، ويقارن بين بيتهوفن من ناحية، وكل الموسيقيين الكلاسيكيين من ناحية أخرى. هذا كله صحيح، ويتطلب إحاطة مرجعية بأساليب التأليف والأعمال وتاريخ الموسيقى، لا يكاد يقدر عليها أحد، فضلًا عن أن يعبر عنها في هذه المساحة المحدودة. ما المنهجية الممكنة هنا؟
إنّ أبسط الحلول هو غالبًا أفضلها، ليس لأنه بسيط، ولكن لأن خلف كل تلك التفاصيل الأسلوبية والتاريخية، وبرغم تفاوت الأذواق والقيم، تقبع معادلات محدودة هي الأساس في تقييمنا النهائي للمنجز الفني الشامل، كالخطة الهندسية لبناء شديد التركيب، التي تمكّننا من فهمه بنظرة واحدة دون أن نضطر لمسح كل غرفه وقاعاته. هذه المنهجية الممكنة بشكل عام لتحليل مادة معرفية غزيرة متنوعة. كل ما علينا أن نرصد المفارقات الأساسية، وأي موسيقار استطاع حلها، والتأليف بين متناقضاتها. في تحليلنا للبنى الهندسية، وكيفية حل المفارقات المنطقية لا نتطرق إلى مشاعرنا تجاه الأعمال، وتجاربنا الشخصية معها، ولا مواقفنا من أصحابها، ولا أذواقنا بشكل عام، بل يكون المجال الوحيد الممكن هو الحوار العقلي، والبرهان المنطقي. هذا كذلك – فيما أرى – هو الحل لتجنب الأحكام الذاتية في النقد الفني. أما التجارب الذاتية مع الأعمال الفنية فلها مجالها في السير الذاتية، وفي الخواطر، وفي الأعمال الفنية الموازية للأعمال الأصلية، وهو ليس مجالًا للإقناع، بل للاعتراف والقَصّ والإمتاع.
سنركز هنا على الجوانب البنائية دون التاريخية، يعني أننا لن نقوم بتقييم الموسيقيين طبقًا لما حققوه من تأثير في التالين عليهم، والسبب أن الأسبقية الزمنية مجرد مصادفة تاريخية. ربما جاء فنان ما في مرحلة تاريخية ظهرت فيها آلة جديدة، كالبيانو مثلًا، فصار مرجعًا في التأليف لها لمجرد أنه جاء في اللحظة المناسبة، واستغل معظم إمكاناتها، ما أضعف دور التالين عليه. مصادفة الرجل المناسب في المكان والزمان المناسبين. كما أن العوامل التاريخية، رغم تأثيرها الذي لا يكاد ينازع فيه أحد بشكل عام، مستقاة من مراجع لا يمكن أن تكون دقيقة تمامًا، أو أن نطمئن لها تمامًا. برغم ذلك قد نتوقف قليلًا عند بعض المنجزات التاريخية للموسيقيين، التي لا يمكن أن تكون مصادفة، ولا يمكن أن تكون غير دقيقة. كما سنلاحظ أننا سننحي جانبًا، وبعين نقدية، ذكر ظروف التأليف تبعًا لذلك، مثل صمم بيتهوفن، أو حداثة سن موتسارت. الخلاصة أن المقال سيستعمل مشرط المنطق الحاد لتشريح بعضٍ مِن أهم أيقونات الموسيقى الكلاسيكية، وربما هدمها.
بيتهوفن الصَّمَد أي الذي لا جوفَ له، الذي لا فراغ فيه. ما هو صمد مُصمَت، لا ضعف فيه، ولا ثغرات، ولا يقبل الإزاحة، أو السحب والطَرْق، ومنه الصمود في المعركة والعذاب، بمعنى التحمّل، ومنه الصمديّة كمصدر صناعي بمعنى استحالة قيام من يماثله معه في الحيز نفسه. إنه الامتلاء الكامل، وسد كل الفجوات والصدوع المحتمَلة، البناء الكامل، الذي لا يمكننا أن ندخله؛ لأنه بلا جوف، وبالتالي بلا داخل. ما لا داخل له – منطقيًا – لا خارج له؛ لا معنى لخارج بلا داخل. هذا مثال العمل الفني الكامل، والفنان الكامل، الذي يحيل دائمًا إلى نفسه؛ وقد كانت موسيقى بيتهوفن فعلًا هكذا، كما أجرؤ على القول؛ وذلك للأسباب التالية.
ليست صفة التعقيد في حد ذاتها قيمةً مضافة للعمل. التعقيد في الحقيقة سهل، مجرد إضافات متناغمة مع الأصول اللحنية الجارية. كلنا يستطيع إنتاج أعقد عمل ممكن في الفن، كل ما علينا أن نزخرف كل شيء، وأن نحشد كل الآلات، والهارمونيات، وأن ننتقل بين كل الأوكتافات. لكننا نقول بنائيًا، أي بحيث يمارس هذا التعقيد دورًا جوهريًا، لا غنى عنه، في تطوير المنتَج النهائي، بحيث لا يكتمل التصور بمنأى عن متابعة التطور. انظر مثلًا تعقيد الجسم البشري، وكيف وصل كل عضو وجهاز فيه، عبر مراحل طويلة جدًا من التطور، إلى ما هو عليه، من الجلد والجهاز الحركي والهيكلي، إلى الأجهزة الداخلية كالجهاز الهضمي والعصبي والدوري … إلخ. تخيل الفارق لو كان نصف هذه الأعضاء مثلًا بلا فائدة جوهرية للقيام بالوظائف الحيوية، أو لو كان “مضافًا” فجأة، دون تطور. في الحالة الأولى (حالة الأعضاء غير الجوهرية) نجد نموذج باخ، أما في الحالة الثانية (حالة الإضافات الفجائية غير المتطورة تدريجيًا) فنحن أمام نموذج موتسارت. بل إننا سنجد أن باخ لم يطوِّر فقط ما لا حاجة به إليه، بل لم يطوره بما يكفي أصلًا ليكون عضوًا كامل التكوين في العمل.
قلنا في التقدمة إن باخ في حقيقة الأمر ليس معقدًا إلا من جهة الزخرف، فإذا استثنينا من التحليل كل زخارف العمل، والألوان الهارمونية، واستبقينا الألحان الأساسية والبناء العام، لوجدناه أبسط بكثير. هذه في حد ذاتها نقطة بالغة الأهمية في حسم أمر مقارنته مع بيتهوفن بشكل عام. سنتناول مثالين لباخ، أحدهما – للوهلة الأولى – آية في التعقيد والتزويق، والثاني أخفّ وأبسط، لنحيط بإمكانات بناء باخ على أقصى طرفيها.
الأول هو التوكاتا والفوجة الشهيرة من مقام ري الصغير مصنف ٥٦٥. لنحاول معًا تبسيط العمل بالطريقة سالفة الذكر، أي إزالة كل تلك التلوينات الهارمونية – المعتمدة على عزف نغمات أخرى بالتزامن مع نغمات اللحن الأصلية – بهذه الطريقة سيتغير العمل، ربما يقل جمالًا، لكننا سنلاحظ ملاحظة مهمة: يمكن عزف الألحان نفسها، وطريقة تفاعلها وإنمائها، بجهد أقل كثيرًا من الجهد الذي يتطلبه العمل الأصلي. صحيح أن العمل الأصلي يعتمد على هذه الزخارف، لكننا نفعل هذا لأغراض التحليل فقط بهدف الكشف عن هيكل العمل. إذا استطعنا ذلك، وبرغمه ظللنا نجد العمل نفسه، والألحان نفسها، والإنماءات ذاتها، كما هي، فإن هذا دال على أن كل تلك الزخارف إضافات غير لحنية، وغير أساسية، ولا هدف لها سوى إشباع الذوق الباروكي الزخرفي، وكذلك السير على تقاليد التأليف الباروكية الصميمة. يمكن استيضاح ذلك بصريًا في هذا الفيديو. سنجد أن دور اليد اليسرى طوال العمل ينقسم إلى مهمتين: الأولى تكرار دور اليد اليمنى لإضفاء المزيد من الهارمونية، بمعنى أنك تعزف اللحن الواحد مرتين في وقت واحد بكلتا اليدين. أما المهمة الثانية فهي المصاحبة الإيقاعية، وهو أسلوب متبع ومعروف في مرحلتي الباروك والكلاسيك، أقرب إلى دور الآلات الإيقاعية في العزف الشرقي. أما المهمة الأولى فهي تكرارية كما قلنا، حيث يمكنك عزف اللحن مرة واحدة بيد واحدة دون أن يختلف في الهوية الأساسية، ستظل مستطيعًا التعرف عليه بوضوح، وأما المهمة الثانية فهي كما قلنا أيضًا إيقاعية يمكن الاستغناء عنها، لأن المستمع ليس في حاجة إلى النبر الإيقاعي، بل يحتاج إليه العازف أصلًا لضبط زمن العزف. كل ما يمكن الاستغناء عنه دون إضرار باللحن وإنماءاته هو ما يصنع فراغًا ممكنًا في العمل، لدرجة التساؤل ربما: إذا كان من الممكن التعبير عن العاطفة المطلوبة ببساطة، فلمَ كل هذا التعقيد؟ وهو السؤال الذي وقف أمامه الكلاسيكيون كما سنرى.
العمل الثاني لباخ هو كونشرتو الكمان الأول في مقام لا الصغير مصنف ١٠٤١. هذا العمل بالذات هو أفضل كونشرتوات باخ في رأيي، وهو أجمل وأكثر تماسكًا من الفوجه السابقة. السبب أنه أبسط في الحقيقة، وتخلّى فيه عن الدانتيلا المخيفة إياها نسبيًا، وإن ظل الهارموني يلعب دورًا أساسيًا في هوية العمل. لكن انظر في الإنماءات في الحركة الأولى، التي هي أهم حركات كل من السيمفونية والكونشرتو والرباعي الوتري والصوناتا، بداية من الدقيقة الأولى والنصف تقريبًا، وتساءلْ: هل هي إنماءات فعلًا أم تنويعات؟ هي في الحقيقة أقرب إلى تنويعات، تنتقل بنا إلى بعض التحويلات المقامية. انظر في علاقة اللحن الأول باللحن الثاني (والحركة في صيغة الصوناتا)، فهما لحنان يحققان شرط التعارض الشعوري، هذا حق، ولكن أحدهما ليس مشتقًا من الآخر، وهي الإضافات الجزافية التي تحدثنا عنها في البداية. ليست تلك الإضافات في حقيقتها ثغرة فنية عند النقاد، إذ لا مانع من إضافة لحن جديد وإدراجه في تفاعل مع الأول، هذه هي الصيغة هنا ببساطة. لو قلتَ لناقد إنها ثغرة لنظر لكلامك باستغراب غالبًا. لكننا حين نقارنها بأعمال بيتهوفن يتضح لنا أنها ليست حتمية، وأنه كان بإمكان باخ أن يعقد الصلة بين اللحنين، كما فعل بيتهوفن مرارًا وتكرارًا. إن توافر نموذج ناجح مختلف هو الذي يصنع معيارًا جديدًا في مثل هذه الحالات، وهو ما يدعَى في علم المنهجية (الميثودولوجيا) بتحويل النموذج Paradigm Shift؛ وهي النقلة التي أحدثها بيتهوفن في الموسيقى، وفي النقد الموسيقي.
ننتقل إلى عمل آخر أيقوني من موتسارت، حيث لا نحتاج معه هنا إلا مثالًا واحدًا من أعماله المتأخرة، فتجربته أقل تركيبًا من تجربة باخ الممتدة. العمل هو السيمفونية رقم ٤٠ من مقام صول الصغير، التي يعتبرها البعض أكمل سيمفونياته. في الواقع أمر موتسارت في هذا الشأن – شأن مدى التعقيد – محسوم مسبقًا، كما قد يلاحظ القارئ. هو بسيط البنية أصلًا بشكل مقصود، لكن إيراده هنا محاولة لتلافي الأحكام المسبقة من جهة، والأهم كذلك لبيان أن البساطة أقل امتناعًا في الحقيقة من التعقيد البنّاء، على عكس الظن الشائع. بمجرد النظر يتبين لنا أن اللحنين الأساسيين في الحركة الأولى لا تجمعهما صفة اشتقاق، وهو ما يتبدى لنا مع رسم الكونتور اللحني الكونتور اللحني Melodic Contour هو خط وهمي يمثل حركة النغمات المنفردة على السلم في اللحن، فعزف سلم دو الكبير مثلًا: (دو ري مي فا صول لا سي دو) يمثله خط صاعد، والعكس؛ وهو رسم بياني لفهم علاقة الألحان ببعضها، ووسيلة لكشف مدى الاشتقاق بينها، فالتقارب في الكونتور بين لحنين يشير إلى قوة الاشتقاق بينهما.. يختلف مسار اللحن الأول بوضوح عن الثاني. لنتتبع الإنماءات بعد انتهاء قسم العرض، وسنجد ملاحظة لافتة، لا أعرف ناقدًا قد أشار إليها باعتبارها ثغرة بنائية من قبل، ربما لأن موتسارت أيقونة فنية لا يجرؤ النقاد على التعرض لها بمثل هذا “التدنيس”. الملاحظة أنّ كل الإنماءات هي تطويرات للحن الأول فقط، وكأن اللحن الثاني مجرد فاصل موسيقي.
أما عن دور اليد اليسرى (العمل سيمفوني لكن يمكن توزيعه تخيليًا على البيانو) فمحدود، مجرد مصاحبة إيقاعية غالبًا، كما وجدنا لدى باخ. لو أزلنا اليد اليسرى لما خسرنا شيئًا من اللحن. لكن الملاحظة الأعم هي أن موتسارت، والمدرسة الكلاسيكية عمومًا، التي ينتمي إليها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قد تخلت عن الزخرفة لصالح وضوح الفكرة ونقاء البناء الهندسي، وهذا حقيقي، وأقرب إلى الكمال الفني، لكنها بساطة، كما قلنا، غير ممتنعة في ذاتها إلى هذه الدرجة، والدليل ضعف الإنماءات، واقتصارها على لحن واحد، ومحدودية دور الآلات الوترية المنخفضة كالتشيلّو والباص.
لنتناول الآن عملًا تكثر مقارنته بسيمفونية موتسارت رقم ٤٠، وهو السيمفونية الخامسة لبيتهوفن من مقام دو الصغير، ولنتتبع الفوارق على المحاور الثلاثة السابقة: علاقة الألحان ببعضها، ودور اليد اليسرى، ومدى أهمية الإنماءات. الملاحظة الأولى في الحركة الأولى من السيمفونية الخامسة هي أن كل ألحانها مشتقة من جملة واحدة هي صول صول صول مي بيمول المعروفة، وهو ليس مجرد اشتقاق؛ فقد يكون الاشتقاق قريبًا وقد يكون بعيدًا. قد يكون قريبًا إلى درجة سهولة التعرف على كون اللحن الثاني مشتقًا من الأول دون رسم الكونتور، وقد يكون بعيدًا فلا يتضح إلا بالكونتور، لكنه ليس بالبعد المؤدي إلى قطع علاقة الاشتقاق ذاتها. ما يعني أن بيتهوفن كان يقدر المسافة المُثلَى بين اللحن وتنويعاته. إنها بالضبط كشعرة معاوية. اللحن الثاني في السيمفونية الخامسة غير قريب من الأول إلى درجة التكرار الممل، بل يبدو لأول وهلة وافدًا جديدًا، لكنه مجرد ربط ليجاتو legato: ربط النغمات المتفرقة في عزف متصل لها دون تقطيع، وهو فرع مما يعرَف في نظرية الموسيقى بالتراكُب articulation. لنغمات اللحن الأول. أما دور اليد اليسرى – الوتريات المنخفضة في الأوركسترا – فهو جوهري تمامًا، حيث لا تنفرد أية عائلة آلات ميلودية: الوتريات أو الخشبيات أو النحاسيات، بعزف اللحن الأول، بل ينتشر بسرعة بعد الضربات الوترية الأولى المعروفة كعدوى سريعة، حتى يستولي على الأوركسترا، وتشترك كل الآلات في عزفه. هو ليس مجرد عزف للحن هنا، بل قصة لانتشار اللحن، وتكوينه، تصنع دراما مجردة. لا يمكن هنا استثناء دور اليد اليسرى فهي مشاركة مع اليد اليمنى في عزف اللحن الواحد، وليست مجرد مصاحِبة لها. هذه إضافة بيتهوفنية أصيلة، منحت دورًا جوهريًا لليد اليسرى، بعد أن كان دورها محدودًا كما رأينا سابقًا. أما الإنماءات فلا نقول فحسب أنها ثرية، ومعبرة عن حالة تحدي القدر – موضوع السيمفونية – في قسم التفاعل، بل إن الملاحظة الأهم هي أنها شاملة للحركة كلها بكل أقسامها، حتى تكاد، بل تكون فعلًا، إنماءً واحدًا ممتدًا لجملة وحيدة في البداية. كان هذا كله بصدد الحركة الأولى فحسب، لكننا إذا تتبعنا خطة تكوين الألحان في بقية حركات السيمفونية لوجدنا أنها كلها تنبع من الضربات الأربع الأولى. هذا في حد ذاته إنجاز بنائي متفرد غير مسبوق، هو الذي أدّى إلى تحويل النموذج، لكنه بدأ عند بيتهوفن قبل سيمفونيته الخامسة. في الواقع بدأ – في السيمفونيات – مع سيمفونيته الثالثة، والتي سنفرد لها فقرة خاصة فيما يلي.
بعد بيتهوفن نتناول عملين لمؤلفين اشتهرا – ربما بشكل سيئ – بالتعقيد الذهني: برامز وشوستاكوفيتش. أهميتهما هنا أنهما كانا من تلاميذ بيتهوفن بشكل ما، فأمْر تأثر برامز ببيتهوفن إلى درجة محاولة إعادة بنائه معروف؛ وقد تعرضنا له في مقال منفرد بعنوان موسيقى الموسيقى.. كيف أعاد برامز بناء بيتهوفن؟. أما الثاني فقد استثمر آخِر ما توصل إليه بيتهوفن في مرحلة صممه النهائي، بالذات رباعياته الوترية المتأخرة، وتعرضنا لذلك جزئيًا في مقال ما وراء الموسيقى.. المشروع التأليفي لشوستاكوفيتش.
ربما لا نختلف كثيرًا أن سيمفونية برامز الرابعة من مقام مي الصغير هي أعقد سيمفونياته بنائيًا، أو على الأقل من أهمها في هذا المجال. لن نكتفي هنا بالحركة الأولى، فالحركة الرابعة من السيمفونية نفسها قطعة فنية كاملة، من الظلم إغفالها. وصل برامز بدرجة التعقيد البنائي، بالمعنى الذي أوضحناه للكلمة، إلى درجة بيتهوفنية تثير الحسد، لا الإعجاب فحسب. على نقيض الحدس المباشر، هذه الدرجة من التعقيد هي نفسها ما توضح لنا ثغرة بنائية، لأننا نتساءل بعد متابعة كل هذا البناء الهائل لبرامز: لماذا إذًا لم يشتهر شهرة بيتهوفن، أو يحُز مكانته؟ السبب أن التركيب عند برامز كان يأتي دائمًا على حساب اللحن، أو العكس، دون توازن؛ وسنفرد فقرة مخصصة للحن. لكن من الضروري ملاحظة أن التعقيد البنائي البيتهوفني حافظ على وحدة اللحن، ووضوحه، حتى يمكنك أن تغنيه، أو أن تلحن عليه قصيدة، حتى في أكثر سيمفونيات بيتهوفن تركيبًا كالسيمفونية الخامسة، أو السابعة. لنستمع إلى الحركة الأولى من الفيديو المرفق لسيمفونية برامز، ونتساءل: هل يمكننا أن نستخرج منها لحنًا واضح المعالم؟ لقد كان بيتهوفن يقدم ألحانًا غنائية، برغم عدم كونه موسيقارًا غنائيًا، لكن الفارق بينه وبين موتسارت من جهة (الذي يقدم لحنًا غنائيًا واضحًا)، وبين برامز (الذي قدم بدلًا من اللحن تركيبًا واضحًا، أو قدم اللحن دون تركيب) من جهة أخرى، أنه – بيتهوفن – كان يشتق الغناء من التركيب.
أما حركتها الرابعة فهي من أكمل، إن لم تكن أكمل، ما وضع برامز من موسيقى. الحركة كلها مشتقة من ثماني نغمات: أربع منهن صاعدة للسلم، وأربع نازلة. هذا إنجاز مهم بلا مراء، ونستطيع تتبع تلك النغمات حين يتّحدْن لتكوين اللحن المكتمل المؤدَّى بالفلوت، في واحدة من أطول معزوفات الفلوت المنفرد في المؤلفات السيمفونية، ما عدا كونشرتوات الفلوت بطبيعة الحال. سندرك فورًا أن الحركة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: العرض، وفيه يتم إنماء النغمات الثماني، ثم التفاعل، الذي يظهر فيه اللحن مكتمل التكوين بالفلوت، ثم إعادة العرض، والتي يجري فيها إعادة جزء العرض بتوزيع مختلف، وتفاعل أثرى. يمكن – بنظرة أولية غير فاحصة – وصف الحركة أنها رحلة تكوين اللحن، وتفكيكه. لكن محاولة البرهنة على هذه النتيجة هي التي تضع أيدينا على مشكلة برامز الأساسية: أنه كان يطبق مبدأ “البيت وحدة القصيد” إلى حد ما. نقول إلى حد ما لأنه فعلًا كان من أهم العقليات التركيبية التي عرفتها الموسيقى، لكن اللحن لديه مُنبتّ الصلة بإنماءاته التي تسبقه والتي تليه أيضًا. أنظر كيف تصمت الأوركسترا كأننا بصدد حركة منفصلة (أي قسم التفاعل حيث يظهر اللحن). بل أنظر كيف تصمت مرة ثانية بعد قسم التفاعل لتعود الإنماءات. قارن ذلك بإنماء لحن الحركة الأولى من سابعة بيتهوفن مثلًا لتدرك الفارق، ففي سابعة بيتهوفن يظهر اللحن الأساسي للحركة الأولى كنتيجة للإنماءات دون فواصل، بشكل تلقائي، كأنه يصور حركة فكرة مجردة، وتطورها. لا تنتهي الحركة الأولى من سابعة بيتهوفن من مقام لا الكبير بتفكيك اللحن، بل بالتأكيد على صعوده، ونشوته، وقوته. في الواقع لا تنتهي حركات أعمال بيتهوفن عمومًا بالتفكيك، بل بالمزيد من التأكيد، والوضوح في التكوين (وأهم مثال هنا هو الحركة الأولى من تاسعته).
كان بإمكان برامز أن يجمع قسمي العرض وإعادة العرض كقسم عرض مطوَّل يخدم فكرة التركيب، ليظهر اللحن في النهاية متجليًا، وبشكل أكثر تلقائية كنتيجة لكل هذه المراحل من التشييد، لكنه لم يفعل. علة هذا أنه كان مغرمًا بالألحان – كغرامه بالتركيب كذلك – كما نجد في رقصاته المجرية الخفيفة؛ والغرام باللحن استجابةً لإغوائه هو إغواء العباقرة من الموسيقيين، الذي ما إنْ استولى على أحد حتى أصاب عمله بالضعف التركيبي. هكذا نرى النتيجة النهائية: لم يستطع برامز أن يوفق بين التركيب وبين اللحن، وجاء أحدهما لديه على حساب الآخَر دائمًا، برغم أنه كان مغرمًا بكل منهما معًا. ربما لهذا قال تشايكوفسكي إنه لا يفهم موسيقى برامز، وإن شيئًا غامضًا فيها باردٌ، وإنه لا يكُمِل جُمله الموسيقية Modeste Tchaikovsky, The Life and Letters of Peter Ilich Tchaikovsky, edited from Russian by rosa Newmarch, university Press of the Pacific Honolulu, Hawaii, 2004, p. 570.. ربما أدرك تشايكوفسكي فعلًا أن شخصية برامز ممزقة بين اللحن، وبين التركيب، فلا هو تركيبي خالص، ولا هو ملحّن مثل تشايكوفسكي نفسه.
المشكلة الثانية الواضحة عند برامز هي اختصاره غير المبرر لأقسام التفاعل (الإنماء) في الحركات السيمفونية، وهو جليّ في الحركة الأولى من سيمفونيته الرابعة. صحيح أن الإنماء ظاهر في أقسام العرض وإعادة العرض والكودا (الختام)، لكن قسم التفاعل، الذي يتوسط قسمي العرض وإعادة العرض مختصر جدًا، وهو أقل أجزاء الحركة أهمية. مشكلةٌ ظاهرة في كل ما وضع برامز تقريبًا من حركات في صيغة الصوناتا.
المثال الأخير في هذا القسم من شوستاكوفيتش. أعتقد أنه لا خلاف حول سيمفونيته العاشرة باعتبارها من أهم سيمفونياته، إن لم تكن الأهم، ومن أهم التراكيب الموسيقية بإطلاق في الحقيقة. تعتبر الحركة الأولى من منجزات شوستاكوفيتش الموسيقية الأصيلة الهائلة، تحفة تركيبية عالية الإتقان وشديدة التأثير، وقادرة على تلخيص حالة التفكك والعبث والآلية Clockwork المميزة لطابع ما بعد الحداثة. لكن لا خلاف كذلك في أن تجربة شوستاكوفيتش الكلاسيكية عمومًا غير لحنية، ولا نسمع فيها ألحانًا واضحة غالبًا. ربما كان شوستاكوفيتش أكثر حسمًا من برامز تجاه التركيب، أو أقل افتتانًا باللحن، فأنتج موسيقى لا-لحنية، لا-مقامية، ملائمة لحالة التفكك واللا معنى التي عاصرها أثناء الحرب الثانية وما بعدها، فأنتج تجربة، حتى إن لم تستسغها، متسقة داخليًا وخارجيًا. داخليًا أي داخل العمل نفسه، وخارجيًا أي مع الظرف التاريخي المحيط. لكن لا ينفي هذا الاتساق كونها تجربة تركيبية شبه خالصة، تجنبتْ التحدي الأساسي في الموسيقى الكلاسيكية: الموازنة بين اللحن والتركيب. في النتيجة نرى أن الموسيقيين قبل بيتهوفن، وبعده، إما أهملوا الإنماء بالنسبة إليه، أي بالنسبة إلى بيتهوفن، أو أهملوا اللحن، أو فصلوا بين العنصرَين الموسيقيَين فصلًا غير مبرر، بالإحالة له أيضًا. شأن النسبة والإحالة في العبارة السابقة هو تحول النموذج القياسي، الذي أحدثه بيتهوفن في الموسيقى.
تستحق هذه الخاصية في التأليف البيتهوفني دراسةً منفصلة هي: البنية الميكرووية micro-structure عند بيتهوفن؛ وهي في الواقع ألمع خواصه التركيبية. لم يقدم بيتهوفن توازنًا بين اللحن والتركيب فحسب، بل أبدع في التركيب في حد ذاته، إلى حد البداية من وحدات نغمية هي ليست شيئًا في ذاتها، بل هي أقرب لقوالب البناء، التي تتراكب معًا لتصنعه، لكنها أبسط من أن تكون بناءً جاهزًا في عقل المؤلف. هذه القضية قابلة كذلك للعكس منطقيًا: فهو اعتمد هذه التقنية – البدء من الوحدات الأكثر أوّلية – ليؤلف أصلًا بين اللحن والتركيب.
كما أشرنا في القسم السابق، تبدأ سيمفونيته الخامسة بأربع نغمات، لا يمكن اعتبارها لحنًا، لكنها تتراكب في تلقائية واندفاع مذهلين، لتكوّن اللحن، دون فواصل، ودون توقف. بدايةً نعرّف تلك الوحدات الصغرى بأنها نبضات pulses، وهو اصطلاح موسيقي يعني الوحدة الإيقاعية التي يتلقاها السامع وتُحدث فيه حركة واحدة، أو هي بالأدق وحدة إيقاعية ما متكررة على مسافات زمنية – فترات – شبه منتظمة في العمل See: Winold, Allen (1975). ’Rhythm in Twentieth-Century Music’, Aspects of Twentieth-Century Music. Wittlich, Gary (ed.). Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice-Hall, 208-269.. المثال الأشهر للنبضة الموسيقية هو الضربة الأوركسترالية orchestral hit التي يمكن للأورج الكهربي (كيبورد) أن يصنعها. النبضة في ذاتها وحدة أصغر من الوحدة الميكرووية، لأنها لا تصنع في حال انفرادها أية بنية؛ إذ لا يوجد معها عنصر آخر، كما أنها لا تنحل إلى ما هو أبسط منها. لكي نقول بنية في أي شكل، على هذه البنية أولًا أن تقبل التحليل إلى ما هو أبسط، لأن الأساس في أي بنية هو العلاقات بين العناصر، وليس العناصر نفسها. بناءً عليه فالمقصود من البنية الميكرووية هو البنية التي تتركب من عناصر وعلاقات بين العناصر، لكنها لا تقبل التحليل إلى بنية أبسط، فهذه البنية الصغرى، اللا منقسمة، إذا ما قمنا بتحليلها فقدت علاقاتها الداخلية. لهذا تعد ضربات خامسة بيتهوفن في مطلعها بنية ميكرووية أو صغرَى: أربع نغمات تصنع علاقة معينة مجردة، هي التي يتم البناء بها، وعليها، طيلة السيمفونية كلها، وليس في الحركة الأولى فقط.
الفارق واضح في هذه الزاوية بين بيتهوفن من جهة، وموتسارت وباخ من جهة أخرى. كل من موتسارت وباخ يبدأ بجملة لحنية واضحة المعالم، سابقة التجهيز، أما بيتهوفن فيدخل بك إلى المطبخ، ثم يدمج المطبخ ذاته في العمل، كما أوضحنا بشأن سيمفونيتيه الخامسة والسابعة فيما سبق. كأنه يعلمك التأليف، أو كأنه يقول أنه “المؤلف”، بالألف واللام. ربما كأنه يُسقط الحائط الرابع، لا بين العازفين والجمهور، بل بين الفنان والعالَم. يمكن تلخيص هذا الفارق كما يلي: تخيل أن كلًا من موتسارت وبيتهوفن يصنع نسيجًا واحدًا ملوّنًا يصوّر مشهدًا، أو شكلًا هندسيًا ما. سوف يقوم موتسارت بتكوين المشهد المراد تصويره بالنسيج أولًا، بشكل بديع، ومبهر، مثل افتتاحات أعماله بالذات بعد عامه الثلاثين، ككونشرتواته للبيانو من رقم ١٨ إلى رقم ٢٧، ومثل افتتاحيات أوبراته عمومًا، والعديد من سيمفونياته، وسيريناداته. سيقوم بتكوين ذلك على الورق أولًا، ثم ينسج على هذا المنوال، ليحقق الصورة. أما بيتهوفن فلن يفعل ذلك. سوف يحلل الشكل المراد تصويره بالنسيج إلى وحداته الصغرى، الميكرووية، التي لا تنقسم، ثم يبني منها الشكل المراد تدريجيًا، حتى كأنك تراه وهو يكوّنه في ذهنه كفكرة، وهو يتراكم، ويتبلور، بتلقائية، حتى يعثر على الشكل في النهاية، ثم يطوّر كذلك هذا الشكل. نلاحظ هنا أن الصورة ككل هي الوحدة البنائية عند موتسارت، أما بيتهوفن فلا يصل إلى صورة بهذا الكمال إلا عبر مراحل طويلة وخلاقة من التركيب، وبالتالي كانت وحدته التركيبية أبسط بكثير، لا تكاد تكوّن ألحانًا كما قلنا، ولا تناهز تلك الصورة الكاملة في ذهن موتسارت في درجة التعقيد. لهذا كان موتسارت – مثل شوبرت كذلك – ملحّنًا أكثر منه مؤلفًا، ولهذا أيضًا اشتهرت ألحانه. صحيح أن ألحان بيتهوفن كذلك اشتهرت إلى حد أن يصير لحن الكورال في تاسعته هو النشيد القومي للاتحاد الأوروبي، لكن عدد ألحان موتسارت الشهيرة أكبر بالتأكيد. لكن انظر إلى ما اشتهر عند بيتهوفن من وحدات صغرى، لا منقسمات لحنية، كافتتاح خامسته. لقد اشتهر ذلك الافتتاح رغم أنه ليس لحنًا في الحقيقة، وهو تحدٍّ أصعب؛ فاللحن أيسر على التلقي، وأثبَت في الأذن، أما النغمات الأربع في خامسة بيتهوفن مثلًا فهي لا تدل على شيء في ذاتها، لكن الناس يذكرونها مستدعين لا شعوريًا الحركة ككل، أو موضوع العمل، وهو مستوًى أعلى من الوحدة الفنية.
هذه الكلمة الأخيرة، الوحدة الفنية، من مربط الفرس هنا. عن طريق البدء بالوحدات الأولية لتكوين اللحن، مرورًا باللحن، ثم إنماءاته وتنويعاته، لا يمكن استثناء أي جزء من العمل، أو اقتطاعه للتغني به على حال انفراده. يمكنك جدًا أن تقتطع اللحن الأول من سيمفونية موتسارت رقم ٤٠، كما غنته فيروز، دون اللحن الثاني، ودون إنماءاته، ودون العمل ككل، لكن افتتاح خامسة بيتهوفن لا يمكن أن يقتطع دون الإحالة المباشرة، أو غير المباشرة، أو غير الواعية إلى العمل ككل، باعتبارها “ضربات القدَر” صحيح أن عبد الوهاب استعملها متغنيًا: ’أحب عيشة الحرية’، لكن هذه أغنية - بخلاف العمل الكلاسيكي - قادرة على تحويل دلالة اللحن الأصلي بسهولة من خلال الشعر.. عدم اشتهار ألحان بيتهوفن بالقدر نفسه الذي لألحان موتسارت نقطة ليست في صالح موتسارت، إذ هو في حد ذاته دليل على مدى الوحدة الفنية، الذي وصل إليه بيتهوفن لدرجة عدم قدرتنا على فصل أي من أجزائه، تمامًا كالأعضاء الحيوية في الجسد الحي. لذلك نغطي في هذا القسم نقطتين مرتبطتين في الواقع: البنية الميكرووية، والوحدة الفنية. بيتهوفن أهم الموسيقيين الكلاسيك من هذه الزاوية، لأنه كان على أرقى مستوى من وحدة العمل.
قلنا أن بيتهوفن في طريقة معالجته للحن يدخلك إلى مطبخ التأليف، حين ترى اللحن وهو يتكون أمامك من وحداته الصغرى. هنا نتعمق أبعد إلى اللحن نفسه بعد حديثنا السابق عن العمل ككل. قلنا سابقًا أن بيتهوفن يبدو وهو يقدم أعماله كأنه يعلمك التأليف، هنا نقول أنه يبدو وهو يقدم “ألحانه” كأنه يعلمك السلم الموسيقي. أغلب ألحان بيتهوفن بسيطة جدًا في تكوينها مقارنة بأي موسيقار كلاسيكي، أقرب إلى صعود السلم، وهبوطه، والتراقص عليه باقتصاد شديد. هذه حقيقة مخالفة للحدس، فكيف يكون بيتهوفن أبسط في بنية اللحن من موتسارت مثلًا، والأخير هو عنوان البساطة نفسها ببساطة؟
إننا نتوقع – في العادة – من الأعقد بنيانًا أن يفكر بالطريقة نفسها على مستوى الوحدات الأصغر الداخلة في البنيان. لكنْ – في الحقيقة – الأكثر منطقية أن يستعمل المؤلف الأبسط من أجل الوصول إلى الأعقد. يكمن سبب ذلك في الموسيقى الكلاسيكية، في أن العنصر الأبسط فيها هو الطريق إلى البناء الأعقد، إلى عمليات الفك والتركيب. من الصعب أن تتلاعب فنيًا بجهاز كمبيوتر مثلًا عن طريق الفك والتركيب، لأنه – بسبب تعقيده – سوف يفقد هويته كجهاز كمبيوتر بمجرد أن نقوم بفكّه. لكن يبدو من الأسهل أن تتلاعب بوحدات أبسط كالمكعّبات مثلًا، وأن تبني وتهدم فيها ما تشاء، وستظل مكعبات. كلما كانت الوحدة الأولية أبسط، ولا تحمل هوية هندسية معقدة خاصة بها، كلما اتسعت مساحة التلاعب. هذا هو الوضع بالضبط حين نقارن بين لحن بيتهوفن، ولحن موتسارت أو تشايكوفسكي أو رحمانينوف، فلحن بيتهوفن هو الأبسط بوضوح، ويستطيع أن يعزفه أي طفل مبتدئ. كان البناء الشامل المكوَّن من هذا اللحن هو التحدي الحقيقي، الذي لا يقدر عليه سوى مؤلف كلاسيكي عبقري.
قلنا أن ألحان موتسارت مثلًا أكثر شهرة من ألحان بيتهوفن، لكن “أعمال” بيتهوفن أكثر شهرة نسبيًا من أعمال موتسارت. رجل الشارع العربي مثلًا لا يكاد يعرف من موتسارت سوى الحركة الأولى من السيمفونية رقم ٤٠، لكنه يسمع عن سيمفونية القدر لبيتهوفن، وسيمفونيته التاسعة. سنأتي على مسألة شهرة الأعمال على أية حال في فقرة منفصلة، لكن الأهم هنا أن ألحان بيتهوفن فعلًا لم تكن بغزارة ألحان موتسارت، ولا تنوعها، ولا شهرتها. بالفعل لم يكن بيتهوفن ملحنًا غنائيًا، فألحانه الغنائية cantabile كلحن الكورال في تاسعته، أو لحن الحركة الثانية من سابعته، قليلة في أعماله، وعادة ما كان يستعمل الجمل البسيطة القابلة للتعاشُق والتراكُب، بدلًا من الجمل “الجميلة” أو المتماسكة غنائيًا. كان جل تركيز بيتهوفن منصبًا على بنية العمل العامة من جهة أولى، وعلى القضية أو المعنى الذي يحمله العمل من جهة ثانية، كالسيمفونية الثالثة في معالجتها لموضوع البطولة والثورة، أو الخامسة في تعبيرها عن الصراع القدري، أو التاسعة في تعبيرها عن الإنسانية. نعني أن اهتمامه لم يكن موجهًا نحو الإحساس بالجمال، بل نحو قيم ومثل إنسانية عليا، عناصر غير موسيقية، يعبر عنها عمل فني يتطلب جهدًا خارقًا لإنجازه، ووقتًا طويلًا لفهمه، ووقتًا قصيرًا جدًا للتفاعل الشعوري معه، لكنه لن يكون تفاعلًا جماليًا بسيطًا. لذلك كان طبيعيًا أن تميل الأذن العربية إلى موتسارت أكثر من بيتهوفن، أو قبل أن تميل إلى بيتهوفن؛ نظرًا لكونها غنائية بالوراثة التراثية.
بل أكثر من ذلك، استعار بيتهوفن جملًا لحنية كثيرة من موتسارت ومن غيره، لكن استعاراته من موتسارت هي الشُّهْرَى، لأنها وقعت في أهم أعماله. من المعروف للبعض أن لحن الكورال في تاسعته مأخوذ على نحو ما من رحمة الله لموتسارت تصنيف كوشيل ٢٢٢. كما أنه معروف للغالبية ومعلن بوضوح أن لحن الحركة الأولى العاتية من السيمفونية الثالثة إيرويكا مأخوذ من افتتاحية باستيان وباستيين من موتسارت. لم تكن القضية عند بيتهوفن هي اللحن إطلاقًا، ولا أين نعثر عليه، ولا مَن مؤلفه، المهم هو العمل الذي يتكون منه. توقفتُ طويلًا أمام استعارة بيتهوفن الأخيرة في السيمفونية الثالثة. لماذا اختار بيتهوفن هذا اللحن المنسوب إلى موتسارت بوضوح؟ لماذا اختار أن يكون مفتتح عمله الأهم – في تلك المرحلة قرابة عمر ٣٠ – والعمل الذي نقل الموسيقى من الكلاسيكية إلى الرومانسية، أن يكون لحنًا لموتسارت؟
لقد كتب المؤرخون الكثير في العلاقة الشخصية بين بيتهوفن وموتسارت (انظر القسم ١١ فيما يلي لتفصيل أكثر)، وكل ما نستخلصه منها أنها كانت إعجابًا متبادلًا؛ فقد أشار موتسارت إلى بيتهوفن الشاب وهو يقدم أعماله، وراقب ارتجالاته وتنويعاته بالذات، وقال أنه سوف يقدم للتاريخ ما يتحدث بشأنه، وهو حكم عظيم من مؤلف عظيم Will & Ariel Durant, The Story of Civilization (11), Age of Napoleon, Simon and Schuster, New York, 1975, p. 568.. أما بيتهوفن فكان يرى أن موتسارت هو إله الموسيقى الذي تجسد في الأرض، وقد كتب تنويعات على ألحان كثيرة لموتسارت، منها في أعماله المصنفة، وغير المصنفة. إذًا هل يمكن تفسير هذا الاختيار – اختيار لحن افتتاحية موتسارت للسيمفونية الثالثة – في ضوء هذه العلاقة؟
قد تكون هناك إجابتان أساسيتان عن هذا السؤال: الأولى أنه قرر تخليد موتسارت بهذه الطريقة. لكن بناء بيتهوفن المعقد لا يخدمنا في هذا الاعتقاد. لقد أخذ بيتهوفن اللحن، ثم اشتق منه لحنين متعارضين في الطابع، ثم أجرى التفاعلات الثرية في هذه الحركة الأولى من ثالثته بين تلك الألحان الثلاثة، مشتقًا منها العديد من التنويعات، والإنماءات المركبة. أعني أنه صنع من لحن موتسارت كيانًا أكثر تعقيدًا بكثير، لا يمكن أن يكون تقديسًا، بل بالعكس: فيه عنصر استهانة وسخرية وتحدٍّ يصل إلى درجة التدنيس. هذا ما يُفرد أمامنا الإجابة الثانية.
ربما اختار بيتهوفن لحنًا لموتسارت ليعلن للجميع أن موتسارت قد انكفأ عند حدود إمتاع الأذن، لا العقل، وعند تخوم معانٍ مطروقة. أراد أن يبين لنا الفارق بأوضح درجة ممكنة بينه وبين أستاذه، فاستعمل لحنًا لأستاذه، كي يكون هناك مجال أكبر للمقارنة. لو اختلف اللحن، أي دون استعارة، فربما وقفنا في هذه المقارنة أمام اختلاف اللحنين. لقد وضع بيتهوفن نفسه في مفتتح أول سيمفونياته الأصيلة ذات الأسلوب الجديد أمام تراث موتسارت اللحني والتركيبي، وعرض نفسه للتشريح بصدر عارٍ؛ فالأعقد تشريحًا لا يخشى التشريح.
حتى إذا أخذنا أمثلتنا من شوبرت وشومان وبرامز من تلاميذه المهمين، الذين قدّم كلٌّ منهم ألحانًا أعقد في تركيبها من بيتهوفن، وعملًا كليًا أبسط منه. بصفة عامة سنجد أن الأجمل ألحانًا بين الموسيقيين عادة ما يكون أضعف تركيبًا. كان موتسارت هو ساحر الألحان بلا نزاع في سياق المدرسة الألمانية، بينما كان بيتهوفن بنيان هذه المدرسة نفسه. كل ما سبق لا يعني أن بيتهوفن كان فقير الألحان، أو كان ضعيفها؛ بل إنه كان يعتبر اللحن مجرد مرحلة في العمل، وليس وحدته البنائية الأساسية؛ فقد كانت وحدة بيتهوفن البنائية الأساسية هي النبضات الموسيقية كما قلنا أعلاه، لا اللحن كما هي حال موتسارت. لحن الحركة الثانية من تاسعته، أو الثانية من خامسته، أو لحن الحركة الأولى من صوناتا البيانو رقم ٨ (العاطفية)، أو الصوناتا رقم ١٤ (ضوء القمر)، أو رقم ٢٣، كلها ألحان تامة، وجميلة. لحن الكورال مثلًا المأخوذ من موتسارت بوضوح ليس عند موتسارت بهذا الثراء، هي مجرد جملة فحسب لا ترقي أن تكون لحنًا في عمل موتسارت؛ ولا نعرف إذا كان موتسارت قد استعارها بدوره من مصدر أقدم، فهذا وارد. أما لحن بيتهوفن للكورال فقد كان لحنًا تام البلورة، ومناسبًا بدرجة تثير الإعجاب لمكانه في العمل بما هو لحن تتغنى به الإنسانية كلها، وقد تغنت به، كلها.
تظهر أهمية اللحن عند بيتهوفن بوضوح أكبر حين نقارنه بالكلاسيكيين المعاصرين، مثل شوستاكوفيتش. لقد قدم شوستاكوفيتش كما أسلفنا تراكيب بالغة الأهمية، وأبنية هندسية فراغية معقدة ومُلغِزة، ولكن ذلك جاء كما قلنا على حساب اللحن. كان التابعون لبيتهوفن، والخارجون عليه، ممن تلاه من الموسيقيين الكلاسيكيين أقل قدرة بدرجة واضحة على الاحتفاظ بالتوازن بين اللحن والتركيب كليهما طيلة العمل. بعضهم كبرامز مثلًا قدم ألحانًا جيدة، وربما في أعماله المتأخرة “سماوية”، لكن ظل اللحن لديه منفصلًا عن تركيبه، كما تدل على ذلك تفاعلاته المختصرة، المقتضبة. الحال نفسها بالنسبة لشوبرت.
لقد أجرى بيتهوفن تحولًا أساسيًا على الموسيقى بأسرها حين لفت الانتباه للقدرة الهندسية لهذا النوع من الموسيقى، والتي تتميز عن غيرها من صنوف الموسيقى بخاصية واحدة أساسية: الاشتقاق. الهندسة الديناميكية للعمل قادرة على الإيحاء بحركة المشاعر والأفكار في حال تدفقها الحيّ، وتفاعلها الجاري. بينما اختار موتسارت مثلًا أن يقدم اللحن أولًا بما هو “لحظة” شعورية. في الواقع لا تتحرك مشاعرنا في لحظات منفصلة. إنه الفارق نفسه بين الفيلم (بيتهوفن) والصورة (موتسارت). قدم موتسارت اللحن، لكن بيتهوفن قدم تكوين اللحن، وهدمه، وبالتالي كان بيتهوفن معبرًا بدرجة أدق، وأشمل عن حركة العواطف والأفكار، وهي تترابط، وتتفكك، وتتكون وتنهار. يستطيع المستمع المدقق أن يلاحظ تطور هذه الخاصية في التأليف البيتهوفني في أعماله المتأخرة نسبيًا – بعد السيمفونية السادسة أي بعد تطور حالة الصمم. في الحركة الأولى من سابعته نلمح بوضوح في المقدمة المطولة، وفي قسم التفاعل، حركة أشبه بحركة فكرة، لا شيء. صحيح أن بعض الموسيقيين قبل بيتهوفن، وبعده، قد قدموا أعمالًا فيها هذا الإيحاء، لكنها كانت نادرة في هذا المضمار، ولا تؤلف مشروعًا فنيًا متكاملًا، كالذي نجده عند بيتهوفن.
لكن حدود الابتكار البيتهوفني لا تتوقف عند هذا الحد، لا تتوقف عند كل ما قلناه من وحداته البسيطة، وأبنيته المركبة، وتقديمه لـ حياة اللحن، وإنماءاته، بل تتعدى ذلك إلى علاقة الألحان ببعضها بطول العمل، إلى الدرجة التي صنعت عملًا موازيًا للعمل الأصلي.
خاصية فريدة لم أجدها سوى عند بيتهوفن استقرائيًا، لكن، حتى بمنهج استنباطي بحت، يكاد لا يمكن أن نجدها سوى عنده. هذه أعلى مراحل التلاعب باللحن كذلك. بعد أن قدم بيتهوفن كل هذه التفكيكات والتركيبات والإنماءات، تخطى كل ذلك إلى مرحلة التعارض اللحني counterpoint، أي عزف أكثر من لحن متعارضين في الطابع، متحدين في الهارمونية، في وقت واحد Laitz, Steven G., (2008), The Complete Musician, New York: Oxford University Press, p. 96.. في تقديري إن من أسباب تطوير بيتهوفن لدور الوتريات المنخفضة كالتشيلّو والباص (اليد اليسرى للأوركسترا) كان نتيجة عاملين: الأول عدم استثمار هذه الآلات بما يكفي لدى من سبقه من المؤلفين، والثاني هو أن الصمم بدأ لديه على اليد اليمنى، أي أنه تدريجيًا صار لا يسمع الأصوات العالية (الحادة كالكمان والفلوت مثلًا)، بينما ظل يسمع – في هذه المرحلة الأولى من تطور صممه – الطبقات المنخفضة. هكذا صار يركز على تلك الطبقات التي يسمعها بدرجة أوضح في التأليف، حتى فقدَ سمعه تمامًا في المرحلة المتأخرة، فتساوى لديه التركيز على الجانبين.
ما نراه في السيمفونية الثالثة بحركاتها الأربع، وبمدة عزفها التي تستمر من ٤٥ إلى ٥٠ دقيقة، وبكل بنيانها المعقد الهائل، هو أمر يكاد يكون بلا نظير في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. لقد صنع بيتهوفن بالوتريات المنخفضة ألحانًا وتفاعلات وإنماءات، هي أيضًا معقدة، وبديعة الهندسة، وكلها توازي اللحن، والتفكيك والتركيب والإنماء، الذي تقوده الوتريات العالية. يعني أننا أمام سيمفونية في سيمفونية، بالتوازي، لا بالتوالي، لأن سيمفونيته التاسعة هي التي حققت ذلك لكن على التوالي، حتى قيل عنها أنها سيمفونية داخل سيمفونية، بالإشارة إلى الحركة الرابعة منها، التي تكاد تكون عملًا مستقلًا فيها. أما في السيمفونية الثالثة فلم يقدم سيمفونية داخل سيمفونية، بل سيمفونية مع سيمفونية. حتى على المستمع المحنك للموسيقى الكلاسيكية، والعارف بأسرار التركيب، سيبدو له ما سبق غريبًا جدًا، وفريدًا، لكنه حقيقي؛ إذا تتبعنا صوت الوتريات المنخفضة بدقة من بداية العمل إلى نهايته.
هكذا وصل بيتهوفن بإمكانية التعارض اللحني إلى قمة بعيدة، إن لم تكن بكرًا تمامًا. كان التعارض اللحني قبله، كما نجده لدى باخ مثلًا، مجرد حلية بديعية، تصنع حركة مضطربة ومتناغمة في النفس في الوقت ذاته، أما عند بيتهوفن فقد تطور اللحن المعارِض counter ليصير عملًا كاملًا موازيًا. لكننا نلمح خاصية أخرى لهذا الأسلوب في التعارض: أننا نلتفت أولًا، وعادةً، إلى الوتريات العالية، كالكمان، وننسب إليها جسد العمل، وعموده الفقري، بينما نتجاهل الوتريات المنخفضة، ولا تلفت انتباهنا للوهلة الأولى بسبب انخفاضها إلا بعد تكرار السماع، وهو ما يمثله الفرق في ردة فعلنا على صرخة امرأة (كمان)، وصرخة رجل (تشيلّو أو باص). بهذه الصفة كان العمل الموازي، العمل المُعارِض counter-work، ليس فقط موازيًا للعمل الأصلي، بل محايثًا له، أو باطنًا فيه، يحتاج إلى مزيد ومزيد من التدبر، والعمق. جعل هذا العامل الجديد – عامل تتبع بنية العمل الموازي المباطن – أعماله أكثر تجسيمًا، أو ربما أعلى بُعدًا، كالفرق بين اللوحة المسطحة، وبين العمل النحتي ذي الأبعاد الأعلى. لذلك حين نقول أن ثالثة بيتهوفن “ظاهرة وباطنة” فإننا لا نبالغ، ولا نضع حكم قيمة، بل وصفًا واقعيًا رياضيًا. لم يقم الموسيقيون، قبل بيتهوفن أو بعده، باستثمار هذا البعد، إذا طالعنا أعمال النمسويين والألمان والطليان والروس والفرنسيين والاسكندنافيين، نجد أنه لم يتخط دور التعارض اللحني عند أي منهم دور الحلية البديعية، كالسجع في الكلام، أما عند بيتهوفن فقد تطور تطورًا هائلًا ليصير عملًا، يمكن أن نسمعه مستقلًا عن العمل الأصلي، وسنجد فيه الوحدة الفنية، والتركيب، واللحن، في حين أنه يعبر عن جانب آخر من الفكرة الرئيسة للعمل، وربما يعارضها. لكن دور إيرويكا، سيمفونيته الثالثة، التي ظهر فيها هذا البُعد كاملًا للمرة الأولى، لا يتوقف عند هذا الحد.
حين جاء بيتهوفن إلى فيينا، عاصمة الموسيقى في زمنه، كان لم يزل متعلمًا صغير السن أقرب إلى المراهقة، لكنه موهوب بإمكانيتين خاصتين، جعلتاه متفردًا في نظر موتسارت وهايدن، هما: الارتجال، والتنويع. يعني الارتجال قدرة المؤلف على وضع إنماءات للحنٍ ما من وحي الخاطر، دون تأليف مسبق، وهو ما أبهر موتسارت؛ ما يعني كذلك أن موتسارت كان يفهم جوهر بيتهوفن، قبل أن يتجلى هذا الجوهر (انظر القسم ١١). يعني التنويع قدرة المؤلف على صياغة ألحان مشابهة للحن الأصلي. تحدثنا عن تنويعاته فيما سبق، وقلنا أنه كان يحسب المسافة المثلَى بين اللحن، وبين تنويعته، بحيث لا تقصر جدًا فيشعر المستمع بالتكرار، ولا تطول جدًا فتفقد التنويعة صلتها بأصلها. على هذا الأساس – الارتجال والتنويع – بنى بيتهوفن مشروعه الموسيقي كله. لا يعوق اللحن من هو مقتدر في هذا المجال، بل يستطيع أن يستعير أي لحن، لكننا سنقارن تلقائيًا – وهو يعرف ذلك – فيما بعد بين العمل الأصلي الذي أخذ عنه اللحن، والعمل الجديد الذي أبدعه، وسنجد الجديد أعقد وأثرى، وأهم في القضايا، وأرقى في المعاني. باختصار سيكون لديه مخزون لا ينضب من الجمل اللحنية، المستعارة، والأصيلة، مع ما يستطيع أن يبني منها، وعليها، بالارتجالات والتنويعات، وما ينمو منها من تفاعلات. باختصار أكبر: الارتجال والتنويع هما أساس الإنماءات والتفاعلات، وطالما برع بيتهوفن فيهما، كان طبيعيًا أن يذهل الناس بقدراته الهندسية التركيبية.
كان بيتهوفن مُخترِقًا (هاكَر) بمعنى أنه – بالإضافة إلى ألحانه الأصيلة – كان لا يستعير شيئًا إلا بعد فهمه بنائيًا، وتفكيكه، وإعادة تركيبه في صورة جديدة. هذا هو ما نجده من كثرة تنويعاته، واستعارته من ألحان السابقين عليه، والمعاصرين له، بل ومن ألحانه هو في أعمال سابقة. من الواضح مثلًا أنه استثمر افتتاحية سيمفونيته الثانية المغمورة نوعًا في افتتاح تاسعته، رغم الفترة الطويلة الفاصلة بينهما.
يعني كل ما سبق أن بيتهوفن كان حاملًا لبذرة نادرة، حتى وهو في مقتبل مشروعه الفني وتعليمه الموسيقي. لكنه لم يكمل ذلك التعليم، ونقده أستاذه هايدن كونه متمردًا على التقاليد الموسيقية، ومبدعًا “أكثر من اللازم” في مرحلة مبكرة، عليه فيها أولًا أن يلم بأساليب التأليف التقليدية Will & Ariel Durant, The Story of Civilization (11), Age of Napoleon, Simon and Schuster, New York, 1975, p. 73.. هذا النقد صحيح على أغلب المتعلمين، لكنه يتوقف عند حدود حاملي المواهب الحقيقية، التي هي أقرب إلى طريقة تفكير. لم يكن بيتهوفن في رأيي متمردًا، بمعنى التمرد النفسي، واندفاعة الشباب، بل كان مقتنعًا فعلًا بأن ما لديه مختلف، وجديد، ولم يقدر عليه أعتى الموسيقيين حتى زمنه؛ وقد هزم كل منافسيه في مسابقات الارتجال، التي كانت فنًا في ذاته في ذلك العهد، حتى كفّ الموسيقيون عن منافسته منذ واقعة شتايبلت عام ١٨٠٠ هو دانييل شتايبلت Steibelt، الذي كان أحد أمهر المؤلفين والعازفين الألمان، توفي في سان بطرسبرج قبل وفاة بيتهوفن في فيينا بأربع سنوات، كما أنه كان يكبر بيتهوفن بـ ١٢ عامًا. في عام ١٨٠٠ (أي أن الصمم كان قد أصاب بيتهوفن بالفعل منذ خمس سنوات تقريبًا)، الذي واكب بداية صعود بيتهوفن، دعا شتايبلت إلى عقد منافسة ارتجالية بينه وبين بيتهوفن (وهي تقوم على استعراض المهارات التأليفية التلقائية بصدد تيمة موسيقية واحدة لأحد المتنافسين)، حيث أخذ بيتهوفن تيمة بسيطة من معزوفة منافسه (ثنائية للبيانو والتشيلّو) وبنى عليها معالجة مركّبة مبهرة (بشكل تلقائي) وساخرة في الوقت نفسه، ما أشعر شتايبلت بالهزيمة والإهانة على الملأ، واشترط على من يدعوه إلى مناسبة عامة أو خاصة ألا يكون بيتهوفن مدعوًّا، كما تعهّد ألا يدخل فيينا طالما ظل بيتهوفن حيًا فيها، وقد توفي قبل بيتهوفن كما سبق، ولم يدخل فيينا بعدها فعلًا حتى وفاته، وسافر للعمل في روسيا حيث توفي هناك. تذكر بعض المراجع أنها كانت فضيحة في تاريخ شتايبلت المهني والفني، قد أعادت توجيه مساره بشكل كبير. بعد هذه الواقعة لم يحدث إطلاقًا أن دعا أحدهم بيتهوفن إلى منافسة، حتى وهو نصف أصم. يذكَر أن شتايبلت كان موسيقيًا محتفًى به كذلك من بعض أهم نقاد الموسيقى ومؤلفيها مثل هكتور برليوز، كما أن الكونشرتو الثامن له هو أحد الكونشرتات النادرة جدًا التي استُعمل فيها الكورال، وقد ألفه بعد أن وضع بيتهوفن الفانتازيا الكورالية للبيانو والأوركسترا والكورال فعلًا عام ١٨٠٨، التي كانت إرهاصًا ذاتيًا بالسيمفونية التاسعة بعدها (أُلفتْ بين عامي ١٨١٢ - ١٨٢٣). المرجع: Ries und Wegeler, Biographische Notizen über Ludwig van Beethoven, Verlegt bei Schuster & Loeffler, Berlin und Leipzig, 1906, S. 96-67.. كان هاكر كما قلنا، لذلك لم يكن المهم عنده كيف ألف القدماء ما ألفوا، فهو يستطيع – على تعقيده العقلي – أن يفهمه بنظرة واحدة، بل كان المهم هو كيف يفككه ويعيد بناءه.
بدأ التأليف الأصيل في صوناتاته أولًا، ملعبه التجريبي، ومختبره التأليفي الأول؛ نظرًا لأنها موسيقى حجرة، قاصرة على جمهور مخضرم، وليست أعمالًا كبرى احتفالية كالسيمفونيات مثلًا، وبالتالي فالخسارة فيها – إن وقعت – محدودة. لكنه حين قرر تطبيق تجاربه في مجال السيمفونية تغير تاريخ الموسيقى في لحظة واحدة. انتقلت الموسيقى من الكلاسيكية إلى الرومانسية مع عمل واحد، وهو إنجازه التاريخي الأول.
كانت سيمفونيته الثالثة إيرويكا هي أولى سيمفونياته التجريبية، وقد حققت النجاح الجماهيري، وصارت ابتكارًا مبهرًا في وقته، وعلامة على تحولات عميقة تجري تحت سطح الموسيقى، الذي بدأ يضطرب، مع دوي مدافع نابليون بونابرت. المعروف أنه وضع السيمفونية عن نابليون، وأن عنوانها الأصلي كان بونابرت، غير أنه قرر شطب العنوان. رغم هذا الشطب، حققت له هذه السيمفونية وحدها مكانة متفردة في تاريخ الموسيقى، فقد صارت له بها مدرسة خاصة فيما بعد، لم يقربها أحد إلا وبانَت عليه المحاكاة، أو أصابه التفكك العضوي.
تنقسم الرومانسية في الموسيقى الكلاسيكية، والتي استمرت قرابة قرن من الزمان، إلى ثلاث مدارس أساسية، هي: الرومانسية البطولية، والرومانسية الشاعرية، والرومانسية الخيالية أو المتأخرة. تضم الرومانسية المتأخرة، التي قدمت موضوعات فانتازية كشهرزاد وأساطير الشمال … إلخ، واستعملت أوركسترا باذخة، أغلبَ الموسيقيين الرومانسيين، وبرز فيها دور الروس بالذات ككورساكوف وبورودين وموسورْسكي وتشايكوفسكي؛ كما تضم بعضًا من أهم الموسيقيين الألمان مثل برامز وفاجنر، وبرز فيها دور الآلة الصولو كما نجد لدى باجانيني وفرانز ليست. أما المدرسة الشاعرية، فقد سبقتها مباشرة، واشتهر فيها شوبان وشومان وشوبرت، وهي تقدم ألحانها بطريقة إلقاء الشعر الحديث، أي بدون تكلف، أو صوت مرتفع، لكن مع لحن غنائي واضح المعالم. أما المدرسة الأولى، البطولية، فلم تضم سوى اسم واحد، بيتهوفن.
أكثر من ذلك، وجّهت إيرويكا أنظار الموسيقيين إلى القدرات العظمى غير المستغلة للتركيب، وللبناء الذهني المعقد؛ فهي أطول سيمفونيات بيتهوفن بعد التاسعة، وتمتد مدة عزفها إلى مساحة يمكن أن تشمل سيمفونيتين لموتسارت، لكن مع تعقيد بنائي أكبر، وارتكاز أقل على اللحن، وأوركسترا أكبر، بل ومع عمل موازٍ كما أوضحنا في القسم السابق، وبالتالي فهي يمكن أن تمتد لتغطي مساحة أربع سيمفونيات من أهم سيمفونيات موتسارت، على الأقل. كما لفتت إيرويكا نظر الموسيقيين إلى التركيب إيجابًا، فقد لفتت نظرهم إلى اللحن سلبًا. لأول مرة يثبِت عمل ناجح نقديًا وجماهيريًا أن الموسيقار، كي يكون مؤلفًا، ليس بحاجة ملحة إلى اللحن، كما أنه ليس بحاجة ملحة كذلك إلى استبعاده كليةً. بالتالي كانت أول مثال، وأوضح مثال، في وقتها، على لا-مركزة اللحن Decentralization of Melody.
أبعد من ذلك، لم يحُز بيتهوفن فقط مكانةً خاصة باسمه في المدرسة الرومانسية، بل أيضًا مكانةً خاصة في سياق الموسيقى البطولية عمومًا، فهو الوحيد، من بين عشرات الموسيقيين البطوليين، الذي قدم الجانب الهشّ، الرهيف، الحساس، في البطل، مركزًا على آلامه ومعاناته وكفاحه، قبل تركيزه على قوته وانتصاره. هذا بينما لم يقدم غيره من برامز وحتى شوستاكوفيتش، مرورًا بتشايكوفسكي وفاجنر ورحمانينوف وجوستاف مالر، وسيبيليوس وكارل أورف وريتشارد شتراوس، سوى جانب القوة والانتصار؛ وتحدثنا عن ذلك باستفاضة أكبر في مقال منفصل، وقلنا أنه “قدم الجانب الرهيف في الإرهاب، والجانب الرهيب في الإرْهاف” إن جاز التعبير النزعات البطولية في الموسيقى، منصة معنى، ٢٠٢٠، كريم الصياد..
أعمق من ذلك، أظهرت إيرويكا مدى سطحية أغلب الإنتاج الموسيقي حتى زمنها؛ إذ عبرت عن موضوع جادّ، وقدمت تفاعلات درامية خطيرة، واشتبكت مع الواقع الحي، وهي التي وُضعت وعزفت أثناء حروب نابليون في أوروبا. أثبتت إيرويكا موقف مؤلفها السياسي المؤيد للثورة الفرنسية، وللجمهورية، لكن ليس على طريقة نابليون حين عاد إلى فرنسا من حملته على مصر لينصَّب إمبراطورًا، ويحوز سلطات شبه مطلقة. هكذا وُضعت السيمفونية لنابليون المبكر، ابن الثورة، ثم شُطب اسمه من عليها حين خالف مبادئ الثورة؛ إثباتًا لموقف مؤلفها. بعد إيرويكا صار الموسيقيون يعتنون أكثر بموضوعاتهم. لا يمكن أن تقدم موسيقى “مُسلية” أو “جميلة” أو “تقليدية” بعد هذا الجد، وهذه الجدة، في الموضوعات.
في إيرويكا ظهر بيتهوفن للمرة الأولى كمركب أطروحة من العنصرين الكلاسيكي والجروتسكي في الموسيقى، أو بالأحرى وسطًا بين البساطة غير الزخرفية، وبين التعقيد الزخرفي، وهو التعقيد غير الزخرفي قد يكون البديل الرابع الممكن: ’البساطة الزخرفية’ هو رحمانينوف، الذي قدم جسد العمل نفسه مفككًا، مكونًا من زخارف، وحلي كثيرة صغيرة. (انظر مقالنا على معازف: ما وراء الليل).. قبل بيتهوفن سادت المرحلة الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي تعتمد على جماليات التناظر، والبساطة، والوضوح، وإزالة كل رواسب التكلف غير الهادف؛ وقبل المرحلة الكلاسيكية سادت مدرسة الباروك، التي تعنى بالزخارف والمنمنمات على حواشي العمل، ولم تكتفِ بجماليات التناظر الرياضي، بل قدمت على العكس جماليات القبح والتجهم والرهبة. أما مع إيرويكا فقد اتحد العنصران لأول مرة: الكلاسيكي غير المزخرَف، المتكامل بنائيًا، مع طابع الصراع، والتوتر، والخوف الجروتسكي.
مع إيرويكا تحقق شرط التعقيد الهندسي في البناء الأساسي نفسه دون الحاجة إلى الزخرف الهامشي، وهي مرحلة تحول في حد ذاتها في الموسيقى كلها، وكسر للنموذج القياسي كما قلنا في الصدارة. في إيرويكا ظهر لأول مرة أسلوب تأليف العمل الموازي، وذلك مع تطوير دور اليد اليسرى كما أسلفنا، وفي إيرويكا ظهر لأول مرة أكبر توازن ممكن بين التركيب واللحن. لم يُعرف عملٌ في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية قد أحدث منفردًا كل هذا الدوي والتجديد، وتبديل الأساليب والموضوعات إلى هذا الحد، مثل إيرويكا.
حين بدأتُ الاهتمامَ الممنهج بالموسيقى الكلاسيكية منذ عشرين عامًا، لفتت نظري ظاهرة غريبة تستحق الذكر، وربما وقعت لآخرين: أنني كنت أستطيع بعد ثوانٍ فقط من الاستماع أن أميز أسلوب المؤلف دون أن يذكر اسمه، وربما أعرف أي عمل هذا بمجرد القراءة عنه، دون معرفة عنوانه أو رقم مصنفه، أو مؤلفه، أو حتى شكله مسبقًا. لكنني كنت عاجزًا بوضوح عن تبين أسلوب بيتهوفن بالذات، وبيتهوفن وحده. تأملت كثيرًا في هذه الظاهرة، حتى توصلت إلى السبب: أن بيتهوفن متجدد كالبحر، في كل عمل تقنيات جديدة، وهو ما قرأته بعد عقدين من الزمان لفردناند ريس، متحدثًا عن بيتهوفن: “لم يبلغ أي فنان ممن سمعتُ قرابة القامة، التي بلغها بيتهوفن في مجاله. إن الثروة التي ملكها من الأفكار، والتي تفرض نفسها فرضًا عليه، وحدة المزاج التي يستسلم لها، وتنوع المعالجة، وصعوبتها، كل ذلك كان رصيدًا لا ينضب عنده.” Friedrich Kerst, H. Krehbiel, Beethoven: The Man and the Artist, As Revealed in His Own Words (Dover Books on Music), 2011, p. 33.
نظرًا للتنوع الدائم عند بيتهوفن، وكراهته لأن يقلد نفسه، بمعنَى أنه منقسم على ذاته، ظل أسلوبه في نظري كائنًا حيًا متطورًا وناميًا، باستمرار، بحيث لا يمكنك تحديد شكله بالضبط، أو تَعرُّفه بمجرد النظر، إلا إذا أضفت محور الزمان، أي متابعة التغير. الصفة الأساسية المميزة له: أنه أسلوب متطور يتجاوز نفسه باستمرار. فعلًا، شملت تجربة بيتهوفن الفنية مراحل عديدة متمايزة، حتى أنه يبدو وحده عَصرًا من المؤلفين المتتابعين، والمتداخلين أحيانًا. شملت مرحلته الأولى قبل إيرويكا عدة مراحل وأساليب، ما قد يبدو طبيعيًا في مراحل التجريب عمومًا، وبالفعل كانت تلك المرحلة تجريبية. لكن الملاحَظ أنه حتى هذه المرحلة الأولى كانت غنية بالتجارب المهمة، بين صوناتاته الأولى للبيانو والتشيلّو التي تتكون من حركتين فقط، بأسلوب متميز واضح، إلى صوناتات البيانو المبكرة الغنائية، والدرامية، إلى كونشرتواته الأولى للبيانو، وتنويعاته على لحن الناي السحري لموتسارت، إلى باليه مخلوقات بروميثيوس ١٨٠١، الذي أعاد معالجة لحنه الختامي في ختام سيمفونيته الثالثة، كل هذا وغيره في مرحلة واحدة يتفرع في عدة اتجاهات، إن لم نقل مَدارس. كما أن مرحلته الأخيرة التي فقد فيها سمعه تمامًا، والتي وضع فيها سيمفونيته التاسعة، والقداس العظيم، ورباعياته المتأخرة، مختلفة بوضوح قاطع عن مرحلته الثانية الأثرى إنتاجًا (البطولية)، التي وضع فيها سيمفونياته من الثالثة إلى الثامنة، وكونشرتواته للبيانو من الثالث إلى الخامس، والفانتازيا الكورالية المبشّرة بالحركة الرابعة من تاسعته، وافتتاحياته الشهيرة ككورليانوس وإيجمونت وإليانورا (١-٣) وفيديليو … إلخ.
لو تتبعنا خط سيمفونياته فقط لوجدنا تنوعًا غريبًا؛ فكل سيمفونية كَوْنٌ مغلَق في ذاته، ومختلف عن غيره بشكل فارق. عادة ما يقسم النقاد سيمفونيات بيتهوفن إلى مراحل ثلاث: الأولى والثانية، واللتين كان لم يزل متعلمًا مجرّبًا فيهما، والسيمفونيات من الثالثة إلى الثامنة أي مرحلته الرومانسية البطولية التي استقر فيها نسبيًا على أسلوب معين، وأخيرًا مرحلة السيمفونية التاسعة التي صار فيها أقرب إلى البناء الفراغي النظري، وطالت فيها فترات الصمت، وصارت معالجاته أكثر تعقيدًا، وأقل رشاقة، لكنها عوضت كل ذلك بالملحمية، والثراء، والتناسبات الرياضية.
حين تسمع خامسته، ثم تسمع سادسته، واللتين قدمهما بقيادته في حفل واحد، تجد أنك إزاء عملين مختلفين تمامًا، موضوعًا وأسلوبًا، وألوانًا وهارمونيةً وإيقاعًا، أكثر بكثير مما نجد الفارق مثلًا بين سيمفونيتي موتسارت الأربعين والحادية والأربعين. بالعكس، موتسارت من أسهل الموسيقيين في التعرف على أسلوبه المميز، والذي استمر عليه حتى وفاته. أولًا تتكون السيمفونية الخامسة عند بيتهوفن من أربع حركات كالمعتاد، بخلاف السادسة التي تتمتع بخمس حركات، وثانيًا تقدم لنا الخامسة موضوع الصراع مع القدر، بينما تقدم السادسة مشاهدًا تصويرية من الريف الفييني (فرحة الفنان حين وصوله إلى الريف – مَشهد مِن جدول ماء – الحفل الريفي – العاصفة – ترنيمة الراعي بعد هدوء العاصفة). السادسة أغنى ألوانًا من الخامسة، لأن الخامسة تقدم أصلًا موضوعًا ذهنيًا لا وجودَ له في الطبيعة، أما السادسة فتقدم مشاهدَ طبيعية حية ملونة، حاولت الآلات محاكاة أصواتها، كأصوات خرير الماء، والطيور، وهبوب العاصفة، والرعد، بل حاولت تمثيل المرئيات نفسها صوتيًا، مثلما استعمل البيكولو والفلوت لتصوير مشهد البرق في السماء. لم يستعمل الطبل إلا بداية من الحركة الرابعة (العاصفة)، ليكُون مشهد دخول الطبل (الرعد) كالدمدمة المفاجئة. من هنا نستنتج أنه كان لا يستعمل عنصرًا موسيقيًا واحدًا، على ثراء عناصره الأصلي، إلا وكانت له ضرورة فنية، مثل الألوان، أو الطبل أعلاه. لم تكن الصوتيات نفسها هي المهمة، أو المعيار الأساسي، في توزيع بيتهوفن، بل كانت الضرورة الفنية. لم ينبهر بالصوت في حد ذاته انبهار التالين له، ربما عدا برامز والشاعريين، كما أنه كان أكثر ثراء في هذه العناصر من السابقين عليه بوضوح. هكذا كان الأثرى، مع كونه مضطرًا لهذا الثراء، دون أي شبهة من البذخ أو الفحش في التلوين بأنواعه.
حين يضع الفنان عملًا، فإما أن يكون العمل موجهًا لخدمة قضية اجتماعية، أو للحصول على منصب، أو جائزة أو شهادة علمية أو مال، وإما أن يكون غير موجه، حُرًّا، يضعه الفنان لأنه يريده هو بالذات أن يكون موجودًا. في الحالة الأولى، حالة الفنان الموجَّه، لنا أن نتوقع عددًا غزيرًا من الأعمال، ما يتخطى الألف مثلًا عند باخ، وما يقترب من الستمائة عند موتسارت، وحوالي ٥٠ أوبرا، و٣٠ أوراتوريو (أي من الأعمال الدسمة) عند هيندل. أما في الحالة الثانية، حالة الفنان الحر، فمن الطبيعي أن تقل أعماله، لأنه لن يكرر نفسه؛ حيث الإبداع والانقسام على الذات من شروطه الأساسية. هذا ما سنجده في الإحصاءات التالية.
قام موتسارت بتأليف ٤١ سيمفونية، اشتهرت منها ثلاث بشكل خاص: ٣٩-٤٠-٤١. وضع كذلك ٢٧ كونشرتو للبيانو المنفرد والأوركسترا، وهو عدد ضخم نسبيًا، اشتهر فيها من رقم ١٨ إلى رقم ٢٧، وخصوصًا: ١٨-٢٠-٢١-٢٤-٢٧. كما وضع عددًا ضخمًا جدًا، يكاد يبلغ التسعين، من الصوناتات للبيانو المنفرد والكمان وغيره، اشتهر منها رقم ١١ للبيانو، التي تتضمن حركتها الثالثة المارش التركي الشهير، كما اشتهرت أرقام صوناتات البيانو المنفرد من ١٢ إلى ١٨. أما كونشرتوات الكمان والأوركسترا فقد وضع خمسة من الكونشرتوات الرسمية، وسيمفونية كونشرتوية Sinfonia Concertante للكمان والأوركسترا تصنيف كوشيل ٣٦٤، وهي التي يمكن ضمها لقائمة الكونشرتو لتبلغ ٦ كونشرتوات. اشتهر من هذه الكونشرتوات للكمان رقم ٢، ورقم ٥، وأخيرًا السيمفونية الكونشرتوية. إذا قسنا عدد الأعمال الشهيرة، الناجحة نقديًا وجماهيريًا بدرجة تحقق إجماعًا معينًا، لوجدنا أنها في السيمفونيات ٣ من أصل ٤١، وفي كونشرتوات البيانو ٥ من أصل ٢٧، وفي الصوناتات ٨ من مجموع ٩٠ تقريبًا. نسبة ضعيفة إذا قارناها بنظيرتها لدى بيتهوفن.
وضع بيتهوفن ٩ سيمفونيات فقط، لكن اشتهرت منها أرقام ٣، ٥، ٦، ٧، ٩، يعني الأرقام الفردية ما عدا رقم ١ ورقم ٦، ووضع خمس كونشرتوات فقط للبيانو، اشتهر منها رقم ٣ و٤ و٥. وضع أيضًا ٣٢ صوناتا للبيانو المنفرد اشتهر منها رقم ٧، ٨، ٩، ١٤، ٢١، ٢٣، ٢٩، ٣٠، ٣٢. وضع كونشرتو واحدًا فقط للكمان، من أشهر ما وضع في مجاله. تبلغ النسبة في السيمفونيات ٥ من أصل ٩، وتبلغ في كونشرتوات البيانو ٣ من مجموع ٥، وتبلغ في كونشرتوات الكمان واحدًا من أصل واحد. لو قارنا فقط نسبة السيمفونيات لوضح الفرق بين موتسارت وبين بيتهوفن: ٣ على ٤١ لموتسارت، أي: ٠٫٠٧، و٥ على ٩ لبيتهوفن، أي: ٠٫٥٠. الفارق أكبر في كونشرتوات الكمان: ٣ على ٦ في حالة موتسارت، أي: ٠٫٥، أما في حالة بيتهوفن فهو ١ على ١، أي واحد صحيح.
ما يعني – بالإحصاء السابق – أن بيتهوفن كان يضع العمل حين تضطره الضرورة الفنية له، لا كمجرد مهنة. بالفعل، في مرحلة الرومانسية توقف أغلب الفنانين بالتدريج في كل فروع الفن عن أن يكونوا في خدمة القصر، أو الكنيسة، وتفرغوا لمشروعاتهم الفنية والجمالية الحرة. توقف الفن في الرومانسية عن أن يظل مهنة. أوضح مثال لذلك أن بيتهوفن وضع كونشرتو واحدًا للكمان، فاحتل مكانه فورًا، وفاق كونشرتوات موتسارت للكمان كلها شهرة وشعبية، ولم يضع غيره في مجاله. إن قلة أعمال بيتهوفن مقارنة بباخ وموتسارت كاشفة عن نظرته للفن والجمال. الفن عنده هدف في ذاته، مهما أمكن توظيفه لهدف اجتماعي. كان بإمكان بيتهوفن أن يضع عشرات الكونشرتوات والسيمفونيات والصوناتات ليتكسب منها ماديًا وأدبيًا، لكنه اختار مصيرًا مِن الرهبنة الفنية.
إذا أحصينا أعمال التالين عليه، من الرومانسيين، لوجدنا نِسَبًا أكبر من نسب موتسارت عمومًا، أو تتعدى حتى نسب بيتهوفن، بسبب قلة إنتاج الموسيقيين نسْبيًا مِن بَعد موتسارت، لكنها في فرع معين دون غيره. أوضح مثال على الحالة الأخيرة هو باجانيني، الذي وضع ٦ من دُرَر كونشرتوات الكمان، اشتهر منها ٢، ٤، ٥، ٦، أي بنسبة: ٤ على ٦، أو ٠٫٦، لكنه لم يحترف في مجال السيمفونية أو الرباعي الوتري أو الأوبرا، ولا يكاد يعرَف سوى بمؤلفاته للكمان فقط. قدم شوبرت مثلًا ٩ سيمفونيات كبيتهوفن، اشتهرت منهن: ٤، ٥، ٧، ٨، ٩، نسبة مماثلة لنسبة بيتهوفن: ٥ على ٩، لكنه أقل شهرة في مجال الكونشرتو والرباعي الوتري والصوناتا، كما أن سيمفونياته أقل شهرة أصلًا من سيمفونيات بيتهوفن عمومًا، ربما دون السيمفونية الثامنة (الناقصة).
كان برامز أكثر ذكاءً، وأكثر بيتهوفنية بالتأكيد، فلم يضع من السيمفونيات سوى ما هو متأكد من نجاحه، وفي فترة عمرية متأخرة نسبيًا ليصل إلى النضج الفني. وضع برامز ٤ سيمفونيات كلهن اشتهرن، يعني نسبة الواحد الصحيح الكامل، ووضع كونشرتوين فقط للبيانو اشتهر كل منهما، ووضع كونشرتو وحيدًا للكمان اشتهر كذلك؛ ما يكشف عن ذكاء برامز الفني-النقدي، وعن طبيعته الإبداعية، التي لا تكرر ذاتها. لكنه لم يضع شيئًا في مجال الأوبرا، وكان مقلًا في أعماله بدرجة أكبر من بيتهوفن، فلم يضع سوى ٣ صوناتات للبيانو المنفرد، ولم يضع سوى ٣ أعمال للرباعي الوتري. أما أشهر أعماله أي الرقصات المجرية التي بلغ عددها ٢١ فكلها غير مصنفة، أي أن المؤلف نفسه لم يعتبرها من تأليفه الأصيل، أو داخل خطه الإبداعي الأصلي؛ وهو حق، لأنها خارجة عن أسلوبه الذهني المعقد المجرد. ليست قلة الأعمال في حد ذاتها ميزة، فربما وضع مؤلف ما عملًا واحدًا فقط، واشتهر هذا العمل، فبلغت نسبته الكلية الواحد الصحيح. الميزة في تعدد الأعمال، وتنوعها، واشتهار أكبر نسبة منها مع ذلك. لذلك أدرجنا عامِل التنوع.
https://youtu.be/0Cdg-5nEeqA
من المعاصرين هناك شوستاكوفيتش، فقط وضع ١٥ سيمفونية، اشتهر منهن أرقام: ٤، ٥، ٧، ١٠، ١٥، وهي نسبة قليلة بالمقارنة: ٥ على ١٥، أي الثلث. وضع كونشرتوين للكمان، واثنين للبيانو، واثنين للتشيلّو، كلها أعمال مشهورة. كما أنه قدم ١٥ رباعيًا وتريًا، اشتهر منه ربما واحد فقط، هو رقم ٨. لم يشتهر شوستاكوفيتش في مجال التأليف للأوبرا أو الصوت البشري عمومًا. أما سيبيليوس فوضع ٧ سيمفونيات، وأحرق الثامنة (انظر مقالنا عن ثامنة سيبيليوس المحترقة). اشتهرت أغلب هذه السيمفونيات في مكانة واحدة تقريبًا، ربما عدا الثالثة الأقل شهرة نسبيًا. وضع أيضًا كونشرتو واحدًا معروفًا للكمان كبيتهوفن وبرامز، لكنه لم يعرف بموسيقاه للحجرة كالصوناتا والرباعي الوتري، ولا بمؤلفاته للصوت البشري.
ختامًا، أنتج بيتهوفن أكمل مجموعة في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بلا جدال تقريبًا من صوناتات البيانو المنفرد (٣٢ صوناتا)، والرباعي الوتري (١٦ رباعيًا)، لم يحاول أصلًا أحد مِن بعده أن يجاريها. هكذا نجد أن بيتهوفن كان أنجح مثال في كل مَن سبق: في جمعه بين التنوع أولًا، ونسبة الأعمال الناجحة إلى ما قام بتأليفه ثانيًا.
كثير من الموسيقيين، بالذات من القدماء، قد أجاد التأليف في كل ما توفر له من أشكال، بل وابتكر أشكالًا جديدة، لكن من أهم النقد الذي يوجه لبيتهوفن – بعد كل ما قلناه – أنه لم يبرع في مجال الأوبرا. بالفعل أوبرا بيتهوفن الوحيدة (فيدليو) أقل شهرة من أوبرات أسلافه والتالين عليه. أرهقت هذه الأوبرا بيتهوفن لمدة عشر سنوات تقريبًا، إلى درجة أنه وضع لها ثلاث افتتاحيات لم يرضَ عنها هي: ليونورا-١، ٢، ٣، حتى رضي عن الافتتاحية الأخيرة لها: بعنوان افتتاحية فيدليو. لم يحاول بيتهوفن أن يؤلف أوبرا أخرى قبلها، أو بعدها.
يقول المايسترو وعالم الموسيقى ليونارد برنشتاين: “واحدة من أعظم أعمال بيتهوفن، تتضمن بعضًا من أمجَد المقطوعات الموسيقية التي سمعها أحد الفانِينَ على الإطلاق. واحدة من أعزّ الأوبرات وأكثرها وقارًا. لحظة خارج الزمن من الحب، والحياة، والحرية. احتفاء بحقوق الإنسان، بحرية التعبير، بحرية المُعارَضة. مانيفستو سياسي ضد الطغيان والقمع. ترنيمة بقداسة رباط الزواج، وجماله، وتأكيد سامٍ على أن الإيمان بالله هو منبع الإنسانية المطلَق. كل هذا، وأكثر، هي أوبرا فيدليو لبيتهوفن.“
لم يكن بيتهوفن مؤلفًا للأوبرا؛ فهي فن مركَّب كالسينما والمسرح، مركب من الفن الموسيقي، والتشكيلي، والديناميكي، والأدبي، أي من الفنون الأوّلية الأربعة. كان بيتهوفن موسيقيًا حصرًا، وصاحب مشروعات موسيقية بحتة ممتدة ومتجددة. كان مجاله الأساسي هو الموسيقى الخالصة، وأحيانًا التصويرية، كسيمفونيته السادسة، التي أثبتت له مكانة بالغة الأهمية في مجال هذا النوع الأخير من الموسيقى، بل أثبتتْ أهميةَ هذا النوع نفسه، الذي كان ابتكارًا في زمنه. لكن هذا لا يعني أنه لم يكن متمكنًا من التأليف للصوت البشري على العموم، وهذه هي القضية الأساسية، وليست فيدليو.
قد لا يركّز الموسيقار على مجال تأليفٍ ما، ويبدع إلى القمة في مجال تخصصه، لكن هذا لا يعني عجزه عن المجال الأول الذي استبعده لضرورات مشروعه الفني. إنْ كان عاجزًا عن هذا فعلًا، وليس لضرورة فنية، كان هذا نقدًا يعتد به. لم يكن بيتهوفن عاجزًا عن التأليف للأصوات البشرية الصولو أو الكورال، أو تلحين الشعر، والدليل هو الحركة الرابعة من سيمفونيته التاسعة، التي تتصف بأنها سيمفونية داخل سيمفونية كما أسلفنا، أو كونها حركة ثقيلة وتفصيلية جدًا لدرجة أنها تصلح لأن تستقل بعمل خاص بها. ولا جديد في أن نبين مدى براعة بيتهوفن في معالجة الصوت البشري فيها، بل وإدماجه في سيمفونية، ولكن ربما يكون جديدًا أن نعيد وضع القضية لتصير: “أن بيتهوفن لم يَخرج من مجال موسيقى الآلات إلى الأوبرا، لأنه أدمج الأوبرا في موسيقى الآلات، أي السيمفونية.“
هذا في رأيي ما أبدعه بيتهوفن في مجال الأوبرا، أنه بيَّن كونها مجرد جزء من الموسيقى، أن الصوت البشري ما هو إلا امتداد لأصوات الطبيعة الأكثر تنوعًا بكثير، وألوان الآلات. معتقدٌ فني، قد نقبله، وقد نرفضه، لكنه يبدو الأكثر تفسيرًا لما قدمه بيتهوفن في تاسعته من حركة كورالية، غريبة جدًا في وقتها، وهو المعروف – كما قلنا – بحرصه على الضرورة الفنية ما وُجدت. كانت الضرورة الفنية للحركة الكورالية، والتي تفسر كذلك عدم تأليفه لأوبرات أخرى، هي رؤيته للصوت البشري كآلة موسيقية، لا آلة للكلام، عليها أن تندمج مع أرقى أشكال التأليف الأوركسترالي، وأعقدها، أي السيمفونية، لا أن تصنع عملًا مستقلًا. كانت السيمفونية بالنسبة له هي التصور الأشمل للعالَم. ما يؤيد هذا الرأي أنه وضع قبل السيمفونية التاسعة: الفانتازيا الكورالية – ١٨٠٨، الأقرب إلى نسخة بدائية من الحركة الرابعة من تاسعته. نسخة بدائية إذا ما وضعت إلى جانب العمل الملحمي العظيم النهائي، لكنها في وقتها كانت إبداعًا مميزًا جديدًا، ولم تزل من أجمل أعمال بيتهوفن، وأشهرها، وأكثرها أداءً في الحفلات السيمفونية.
نستطيع إذًا أن نقول أن بيتهوفن قد أبدع حقًا في جوهر الأوبرا: التأليف للصوت البشري، دون اهتمامه بعوارضها مِن شكلها المسرحي المعروف، وأنه قد أدمج ذلك الجوهر بموسيقى الآلات، ليصنع نوعًا جديدًا من السيمفونية، اقتدى كثيرون بعده به، من برليوز وفرانز ليست إلى مالر ورحمانينوف وسترافنسكي. بقيت ملاحظة أخيرة هامة: أن بيتهوفن – كما قلنا في مطلع المقال وفي صلبه – لم يكن مؤلفًا غنائيًا، بل مؤلفًا إنمائيًا إن جاز التعبير، والأوبرا فن غنائي في الأساس، ليس مجالًا لحركة مؤلف مثل بيتهوفن يعتمد على التركيب مع اللحن. لكنها ملحوظة لا تتعارض مع الحجة السابقة، بل تؤيدها، لأن بيتهوفن حاول كما قلنا استخلاص جوهر الأوبرا، وإعادة إدماجه بطريقة تركيبية، واضحة في الحركة الرابعة من تاسعته، فلحن الكورال واحد بطول هذه الحركة الملحمية، وكل الحركة بما فيها تلحين قصيد شيللر مجرد إنماءات لهذا اللحن، الذي لا يظهر – كالعادة – كاملًا في البداية، بل يتكون أمام أعيننا في بداية الحركة، قبل أن يدخل الصوت البشري. ربما يكون فاجنر هو الذي استطاع – في كل أوبراته الثلاث عشرة – الاستفادة حقًا من تقنية التأليف الغنائي-التركيبي، التي أبدعها بيتهوفن، لكن هذا جاء على حساب اللحن عنده، حتى أن الألحان المشهورة لفاجنر قليلة جدًا، مثل ركوب الفالكيري، ومارش الزفاف، والبعض يذكر لحن افتتاحية تانهويزر بالكاد. أما الحال لدى بيتهوفن فكانت جد مختلفة، حيث لحن الكورال في التاسعة واضح لا غبار عليه، وإنماءاته غزيرة، ومعقدة بما يكفي لأن تكون مقطوعة فريدة في كل ما وضع للصوت البشري من موسيقى كلاسيكية؛ لأنها حققت توازن اللحن والتركيب في مجال لحني في الأساس.
يعني أنه كان مصمتًا في نسيجه المؤلف بعناية. لا نعني هنا أنه كان بلا ثغرات فنية، فلا فنان بلا ثغرات، خاصة إذا كثرت أعماله مع تنوع أسلوبه، وكثافة تجريبه، بل نعني أن نسيجه العام كان يستهلك كل آلات الأوركسترا، ومقاماتها، وأوكتافاتها الممكنة في العمل الواحد. خاصية فريدة، ومميزة جدًا لبيتهوفن. وقف كثير من الموسيقيين والنقاد أمام هذه الظاهرة: أن الآلات كلها تقريبًا تعمل معًا في كل أجزاء العمل دون توقف، وخاصة الحركات البطيئة. الطبيعي، والمعهود، أن يتوزع العمل على الآلات بحسب ما يناسب المقام من طابع الآلة وإمكاناتها، وشدة صوتها وطبقته، وهو ما نسمعه من فيفالدي وباخ وهيندل إلى هايدن وموتسارت، كما نسمع كذلك في أعمال التالين لبيتهوفن، لكن بيتهوفن كان يوزع الموسيقى على الأوركسترا بأسرها كأنها آلة واحدة.
قبل بيتهوفن – كما أسلفنا – كانت المساحة مخصصة بشكل رئيسي للوتريات العالية، الكمان بشكل أساسي، بينما تقوم الوتريات المنخفضة (يد الأوركسترا اليسرى) بدور مصاحب لا أكثر غالبًا، ويُخصص جزء للهوائيات الخشبية كالفلوت والأبوا والباصون والكلارينيت، التي ربما تشترك خاصة في عزف اللحن الثاني، بعد اللحن الأول الذي تعزفه الوتريات، بالإضافة إلى دورها المصاحب. كما يقتصر دور النحاسيات والطبل في مراحل التصعيد التفاعلي أو الختامي. كان هذا قبل بيتهوفن، أما بيتهوفن فقد قسم الأوركسترا إلى أربع عائلات كبرى: الوتريات، الهوائيات الخشبية، النحاسيات، الإيقاعيات، وجعل كلًا منها – طيلة العمل وفي كل جزء منه تقريبًا – في حوار داخلي بينها وبين بعضها، وحوار خارجي مع العائلات الثلاث الأخرى. تحاور الوتريات العالية المنخفضة، وتتناوب الخشبيات القرار والجواب، أما النحاسيات والإيقاعيات فتتبادلان الأدوار، إذ عادة ما يجري استبدال النحاسيات بالطبول أو العكس بين قسمي العرض وإعادة العرض؛ وهما تشتركان في عزف الأجزاء التصعيدية بطبيعة الحال. كل هذا التوزيع معقد ومرهق في تتبعه، فضلًا عن عزفه، فضلًا عن تأليفه، وإنتاج نسيج واحد منه. كل هذا دون أن يشعر المستمع بنتوء صوتي، أو هارموني، أو تكلف، أو سعي إلى الإبهار السمعي الحسي البحت. بعبارة أخرى: استهلك بيتهوفن الأوركسترا ككل، ولكن كلًا في موضعه المناسب، ولضرورة تعبيرية حتمية.
استمع مثلًا إلى سيمفونيته الثالثة أو الخامسة أو السابعة لتجد أن كل الآلات تعمل بلا توقف تقريبًا، وتصعد أوكتافاتها كلها تقريبًا. ربما كان الأجدر بنا أن نستمع إلى إحدى حركاته البطيئة، التي هي مجال تحدٍّ حقيقي في هذا المضمار، مثل الحركة الثالثة المتهادية الغنائية من السيمفونية التاسعة، لنجد أنه حتى الطبل كانت مستعملة طيلة الحركة. كما أن التحويلات المقامية، التي اشتهر بها بيتهوفن، وجعلت موسيقاه أصعب في العزف في عصرها، جعلت هذا النسيج كذلك ثريًا بالمقامات. لا نستطيع طبعًا أن نقول أنه كان ينوع بالمقامات كلها في وقت واحد، لكنه كان ينتقل بينها كثيرًا، وسريعًا، ما جعل نسيجه مصمتًا. نسيج ملوّن متماسك، لكنه يرسم تدريجيًا صورةً واحدة بكل تعقيده، ويستنزف كل قدرات الأوركسترا إلى الحد الأقصى، وإلى حد لم يصل إليه أحد من الموسيقيين الكلاسيكيين بهذه المرونة، والتلقائية. إنه يعزِف “على” الأوركسترا، وليس بها، كأنها بيانو، أو أرغن هائل واحد. بالتالي حقق بيتهوفن هارمونية الأصوات الكبرى، بحيث تتآلف رغم وضوح هوية كل منها في هذا الاجتماع. أساس هذه الصنعة هو التوظيف الدقيق لكل آلة، بحيث لا تفقد صوتها في زحام الأصوات من جهة، كما لا تنفرد بسبب ضعفها أو نعومتها بجزء خاص بها، كما فعل برامز مثلًا في قسم الفلوت الشهير في الحركة الرابعة من سيمفونيته الرابعة. إنها تطبيق مبادئ الثورة الفرنسية من المساواة والعدالة والتآخي بين الآلات، كأنها بَشَر، أو – بالأحرى – كأنها بَشريّ واحد.
بقيت نقطة أخيرة مهمة في هذا المقام، مقام الصمديّة، وهي رغم تعلقها باللحن فقد أدرجناها في هذا القسم، لأنها توضح إلى أي حد كان بيتهوفن مقتصدًا في خامته الفنية إلا في حال الضرورة التعبيرية، ومع ذلك شاملًا في التعامل مع هذه الخامة. النقطة هي مسألة المساحات الضيقة، التي يرغم نفسه – ربما على سبيل لزوم ما لا يلزم – على الحركة فيها. إن خطة بيتهوفن في اللعب ليست “إنجليزية”، ليست القفزات العالية، الطويلة، من نغمة إلى أخرى بعيدة عنها في السلم، بل عادة ما تكون مجاورة، بالنسبة إلى ألحان غيره، وهي طريقة اللعب “البرازيلية”، كي نقرّب إلى الأفهام. حين تَعزِف ألحانَ بيتهوفن، لا تحتاج في الغالب إلى أصابع طويلة، وكف عريضة، بل تتحرك بطريقة أقرب إلى المشي ضيق الخطوات. لعبة أصعب، الهدف منها استهلاك أكبر عدد من النقلات الممكنة على لوحة شطرنج محدودة الخانات. الهدف هو استهلاك كل خانة في اللوحة، وليس كل قطعة لعبٍ فحسب. حركة بيتهوفن هي حركة الملِك في الشطرنج، لا الملكة أو الوزير، الذي يستطيع قطع كل المسافات الممكنة، وفي أي اتجاه، بقفزة واحدة. بيتهوفن يلعب دوره بالبيادق والملوك فقط، التي تتحرك خانة واحدة كل مرة في الغالب، دون الحاجة إلى الأسلحة الثقيلة، والأرجل الطويلة، التي للرخ والوزير والفيل. هي لعبة أصعب لضيق مجالها، ولعبة أجادها بيتهوفن بنجاح كما نرى في مؤلفاته؛ ولم أعرف مؤلفًا موسيقيًا تخصص في اللعب في المسافات الضيقة مثل بيتهوفن.
بيتهوفن هو الذي اخترع التتابع القدَري fate sequence الذي قدمه في سيمفونيته الخامسة، ثم سيمفونيتيه الثالثة والتاسعة بشكل أقل وضوحًا: البداية التراجيدية، المسيرة الجنائزية، الصراع، الانتصار. أو بعبارة أوضح تلك السيمفونيات التي تبدأ بداية متجهمة مخيفة غاضبة، وتنتهي حركتها الأولى نهاية مأساوية، تليها حركة ثانية متهادية جنائزية الطابع، ثم حركة ثالثة سريعة عنيفة متحدية، ثم تأتي الحركة الرابعة والأخيرة انتصارًا للروح المكافح. لم يكن بيتهوفن يعلم أنه بهذا البرنامج سوف يؤسس أحد أهم التتابعات في تاريخ الموسيقى، والسبب هم من قلدوه فيه، وبالتالي شاركوا، بوعي أو بدون وعي، في ترسيخه، وبلورته إلى هذا الحد.
لم تأتِ أقرب محاولة لمحاكاة هذا التتابع من الرومانسيين الأقربين كشوبرت أو برامز، بل من تشايكوفسكي، وذلك في سيمفونيته الرابعة. تبدأ سيمفونية تشايكوفسكي الرابعة بداية أشبه بخامسة بيتهوفن بوضوح، تعزفها الآلات النحاسية كلحن أول مخيف، يتصارع مع لحن ثانٍ خائف. تأتي الحركة الثانية متهادية، ليست جنائزية ككل، بل فيها مزيج من الحزن، واللهو واللا مبالاة، كنوع من التفاعل مع رهبة الحركة الأولى بالهرب والعبث. أما الحركة الثالثة (سكرتسو) ففيها مارش واضح، وتصاعد لحني، يؤكد العودة إلى المعركة، مع جو من العبث شبه الشيطاني. ختامًا تأتي الحركة الرابعة انتصارية، متضمنة كذلك مارشًا واضحًا. تركيب قريب للغاية في كل حركة من تركيب حركات خامسة بيتهوفن. لكن الفرق كبير، والتحدي صعب. تأتي صعوبة التحدي بالأخص من كون موضوع المحاكاة – التتابع القدري – موضوعًا لأهم سيمفونية لبيتهوفن، وأكثرهن كمالًا في رأي البعض، أي الخامسة، التي هي اليد الطولَى في الحقيقة لبيتهوفن. في حالة المستمع غير المدقق، أو المبتدئ، لن تقنعه بسهولة سيمفونيات أكثر تعقيدًا وغرابة مثل ثالثة بيتهوفن، أو تاسعته، أما خامسته فهي أبسط وأسرع وأكثر اختصارًا، وتلخص الكثير من ملامح بيتهوفن في نصف ساعة فقط، وبالتالي هي أوضح مثال.
هكذا وضع تشايكوفسكي نفسه في موقف لا يحسد عليه، رغم أن كثيرين قد حسدوه لألحانه بالغة الجمال، وألوانه المبتكرة، وتوزيعه الرشيق المميز. وضع نفسه أمام خامسة بيتهوفن نفسها، فبان الفارق؛ لوجود مجال للمقارنة بسبب وحدة الموضوع وتشابه البناء العام. لسنا في حاجة للإشارة إلى الصعوبات التركيبية التي عانى منها تشايكوفسكي طيلة حياته الفنية، والمآزق التي وضعه فيها جمال ألحانه، حيث وقع دائمًا في قياس إعضالي سخيف: إما أن يضحّي باللحن، نقطة تميزه الخطيرة، أو أن يضحي بالتركيب، نقطة التميز العامة في التأليف الكلاسيكي. إن خامسة بيتهوفن أكثر درامية بكثير، وبالرغم من أن فيها طابع العبث في الحركة الثالثة المعزوف بالتشيلّو والباص، لكنه أسرع، وأقوى، وأكثر انهمارًا وانهيارًا. الحركة الأولى من خامسة بيتهوفن طلقة رصاص في سرعتها، وقوتها، وفتكها، وتماسكها البنائي المعقد، ووحدتها الفنية. حركتها الثانية مارش جنائزي صريح، تقطعه بعض التأملات المشتقة من اللحن نفسه، كلها تنويعات على المسافة الدقيقة التي وصفناها سابقًا بين التكرار، وبين الاختلاف التام. أما الحركة الرابعة فهي مارش انتصاري ينطلق من الحركة الثالثة أصلًا بعد تحويل المقام من دو الصغير إلى دو الكبير دون فاصل صامت بين الحركتين، وهي في صيغة صوناتا واضحة، لهذا يقوم قسم إعادة العرض باستعادة لحن الحركة الثالثة مرة أخرى، ليعاود لحن الحركة الرابعة النموّ والانطلاق. تركيب جديد تمامًا في وقته (ونلاحظ أنه بقدر جدة تراكيب بيتهوفن، بقدر ما نجد في ألحانه من استعارات من الأنا والآخَر).
حاول برامز محاكاة التتابع القدري في سيمفونيته الأولى، التي هي أقرب إلى مزيج أوركسترالي بحت من سيمفونيتي بيتهوفن الخامسة والتاسعة، وهو ما أكّد عليه برامز نفسه. نلاحظ التشابه بين ضربات القدر إياها لدى بيتهوفن، والضربات الملحة المستمرة التي تبدأ بها أولَى برامز، بل نرى بجلاء ضربات بيتهوفن منسوخة وملصوقة كما يبدو في قسم التفاعل. لكن الفارق الطريف بين معالجة تشايكوفسكي ومعالجة برامز أن الأخير لم يحاول اشتقاق ألحان الحركات من تيمة واحدة، بينما “حاول” تشايكوفسكي ذلك، فاللحن الانتصاري في الحركة الرابعة من رابعة تشايكوفسكي مشتق من اللحن المقبِض المخيف في الحركة الأولى، هذا برغم براعة برامز في الاشتقاق إلى حد بعيد إذا ما قورن بتشايكوفسكي.
هناك كذلك خامسة مالر، التي تبدأ بإعلان الجملة الأساسية بالترومبيت المنفرد، وهنا فارق واضح. مدخل خامسة بيتهوفن رهيب، ولم يقلل من رهبته سوى انتشاره وشهرته؛ سريع، حاد، معزوف بالتشيلّو والباص والكلارينيت لإضفاء طابع جاف، شيطاني، وينطلق بلا نهاية إلّا نهاية الحركة. أما جملة مالر المعزوفة بالترومبيت في البداية فهي مجرد إعلان، وافتتاح لعمل ضخم باذخ يبلغ طولة أكثر من ضعفي خامسة بيتهوفن. حين تنطلق النحاسيات بعد الإعلان، نجد جملة بيتهوفن تقريبًا منسوخة ومكررة بالوتريات، تلك النبضات المتقطعة السريعة، التي تلتقطها الأوركسترا فيما بعد. نلاحظ في هذه الحركة من مالر البطء، والتوقف، ومعاودة القيام، فالمشي، كأننا بصدد حركة قافلة، وهو صحيح؛ لأن خامسة مالر عمل ملحمي كتاسعة بيتهوفن مثلًا، وصفًا لا قيمةً. عنون مالر هذا الجزء البطيء من الحركة بالمارش الحزين Traeurmarsch، وبالتالي يعني أنه بدأ سيمفونيته بطابع أقرب إلى الحركة الثانية من خامسة بيتهوفن، لا الأولى، على مستوى الإعلان، لكنه على المستوى الفعلي حاول الجمع بين الحركتين الأولى والثانية من خامسة بيتهوفن في حركة واحدة ممتدة. لكن الموضوع، والتتابع القدري نفسه، واستعارة جملة بيتهوفن، يضعها في مقارنة صعبة مع خامسة هذا الأخير. ربما قصد مالر تصوير حركة القدَر طويلة الأمد، بعيدة الحكمة والنظر، حتى لو كان مأساويًا. إذا كانت بداية خامسة بيتهوفن تصوّر الموت بطلقة رصاص، فإن بداية خامسة مالر تصور الوفاة بمرض طويل البال وأكيد كالسرطان؛ ولما كان موسيقار السرطان الأول هو شوستاكوفيتش، وموسيقاره الثاني هو رحمانينوف، اللذَين صورا حركة انتشار الورم وتمكّنه، وتوفي كل منهما بالسرطان، فقد انسحبت نوعًا شهرة مالر في تصوير المرض العضوي الطويل.
في سيمفونية مالر ككل مواضع عديدة للتوقف، والمراجعة، والتأمل، مثل تاسعة بيتهوفن، لكنها على عكس التاسعة باذخة في ألوانها إلى حد التكلف في الإبهار السمعي البحت، ففي السكرتسو نكاد ننسى الموضوع الأصلي، وننشغل بالتلاعب الحر بالسمعيات، ما يضعف وحدة العمل الموضوعية. يأتي الختام في الحركة الخامسة (روندو) عند مالر سعيدًا أكثر منه انتصاريًا، وهي إضافة لتتابع القدر، لكنها تُخِل بفكرة الصراع كما هو واضح.
قدم رحمانينوف مساهمته في التتابع القدري بسيمفونيته الثانية. سيمفونية طويلة هي الأخرى، لكنها ليست ملحمية. عناصرها الأساسية بسيطة، وهذا مهم جدًا في مجال المقارنة مع بيتهوفن. في الواقع تعتبر هذه السيمفونية أكمل سيمفونيات مؤلفها، وتجربة فنية في ذاتها، لأنها حققت توازنًا بين اللحن والتركيب، وبشكل لم يتكرر في أعمال رحمانينوف قبلها أو بعدها. تعتمد السيمفونية على استعمال جمل لحنية بسيطة ليسهل فكها، وتركيبها، لكنها تحمل ذلك الجمال الميلودي الروسي الصميم. تعبر الحركة الأولى عن هجمة القدر، والانسحاق تحت سنابكه العظيمة، كأفضل ما يمكن في هذه الظروف الميلودية الثقيلة القاتمة. تأتي حركتها الثانية سكرتسو مثل تاسعة بيتهوفن، في وقتٍ كان الموسيقيون فيه قد كفوا منذ زمن طويل عن ترتيب الحركات تقليديًا بحيث يأتي السكرتسو (أو المينويت) في الترتيب الثالث للحركات بالضرورة. الحركة في صيغة الصوناتا، يتحقق فيها الانتقال من العرض إلى التفاعل بشكل مفاجئ، كالحركة الأولى من سادسة تشايكوفسكي، وبقوة باطشة، وهو انتقال المؤلفين الفقراء، الذين لا يملكون ما يحققون به هذه النقلة بنعومة وتلقائية، فيفضلون الفاصل الصامت على طريقة الكلاسيك. لكن التفاعل جيد، وخلّاق، ثم يجري الانتقال من التفاعل إلى إعادة العرض بشكل أفضل كثيرًا. تعبر الحركة عن طابع شيطاني أكثر منه صراعًا مع شيطان، فهي أقرب إلى الحركة الأولى من خامسة بيتهوفن في الموضوع والحقيقة. أما الحركة الثالثة فهي أجنبية نوعًا على التتابع القدري، هي ليست جنائزية، بل قريبة الشبه في طابعها العام من الحركة الثالثة من تاسعة بيتهوفن: ذلك النسيج الهادئ الملون الغنائي المعزوف بأغلب الأوركسترا عند رحمانينوف، أو كلها عند بيتهوفن. أما الحركة الرابعة فهي انتصارية بوضوح، وتحمل في أحشائها ذلك المارش الرشيق الصغير، بقسم تفاعل قوي، وألوان تتحدى تشايكوفسكي نفسه.
بصورة عامة السيمفونية متماسكة فنيًا، وجميلة الألوان إلى درجة مدهشة، ومحركة للجسم والنفس والعقل، وفيها التجهم الخطير في البداية، يليه سكرتسو قوي شيطاني مميز، وحركة لحنية رائعة الجمال، ثم ختام قوي يليق بالعمل، وكل هذا يستحق السماع مرات ومرات، لكن ما الذي يغيب عنها من التتابع القدري؟ الصراع هو ما يغيب. إن خامسة بيتهوفن تعبر عن الصراع بوضوح في حركة كاملة هي الحركة الثالثة، أما ثانية رحمانينوف فلم تنجح في بلورة هذا العنصر، الذي يحتاج انفعالًا معينًا، وحقدًا هائلًا حقيقيًا على القدر، كي يستطيع المؤلف تصويره. على أية حال فثانية رحمانينوف – بقطع النظر عن نموذج التتابع القدري – هي أفضل أعمال هذه القائمة التي حاولت محاكاة خامسة بيتهوفن، خاصة أنها كخامسة بيتهوفن تتمتع بجملة واحدة يشتق منها أغلب العمل. بهذا كذلك يكون رحمانينوف هو الأقرب هنا إلى التركيب البيتهوفني، وهو ما يخالف الحدس؛ حيث هو موسيقار روسي، أي صاحب ألحان خارقة الجمال، وألوان مبهرة رقيقة. لكن استطاع رحمانينوف تخطي تلك العقبة، التي احتار أستاذه تشايكوفسكي في جل أعماله أمامها، فقرر في سادسته الالتفاف حولها؛ وذلك بالفواصل الصامتة الدرامية بين أقسام صيغة الصوناتا.
أما شوستاكوفيتش فقد قدم معالجتين، لا واحدة، لمحاكاة التتابع القدري، هما خامسته، وعاشرته. تبدأ الخامسة بالوتريات المنخفضة، شأن ثانية رحمانينوف كذلك، لكنها أكثر قوة وظهورًا، وتتتابع الحركة لتوحي بطابع عسكري أبوكاليبتي عبثي، ربما صور بها أجواء الاقتراب الحثيث للحرب الثانية، وأصداء الحرب الأولى التي لم تكد تنقشع بعد، وهي التي وضعت عام ١٩٣٧. مثلما فعل رحمانينوف فعل شوستاكوفيتش بالإبدال بين موقعي الحركتين الثانية والثالثة، فالحركة الثانية سريعة نسبيًا، وهي في صيغة ثلاثية، يتوسطها قسم أهدأ وأقل تلوينًا، يستعاد بعده القسم الأول في شكل متقطع (بتسِكاتو)، وهو ما يذكرنا بقوة بالتقطيع (البتسكاتو) الذي قدمه بيتهوفن وهو يستعيد القسم الأول من سكرتسو الحركة الثالثة من سيمفونيته الخامسة. بعد الحركة الثالثة المتهادية المتأملة تجيء الحركة الرابعة انتصارية مفاجئة؛ وهي ثغرة فنية واضحة: الانتصار البيتهوفني نتيجة للألم نفسه، موضوعيًا وشكليًا كذلك، فلا انفصال عند بيتهوفن بين الألم وبين الانتصار، ولا بين الحركة الثالثة وبين الرابعة؛ أما الانتصار المفاجئ فهو سهل، وأما الانتقال، والتمخُّض التدريجي المضني، عاطفيًا، وعقليًا، وسمعيًا، فهو التحدي الحقيقي، الذي لم يخضه أي من أصحاب هذه القائمة.
أما عن عاشرة شوستاكوفيتش فهي أعقد تركيبًا، وأكثر ملحمية، وقد قدمنا تحليلًا أكثر إسهابًا لها في مقال ما وراء الموسيقى. السيمفونية مبنيّة على التتابع القدري نفسه، مع التبديل بين موقعي الحركتين الثانية والثالثة، وفيها الثغرة نفسها: الانتصار المفاجئ غير المبرر، وغير المدبَّر له. في تقديري هي أفضل سيمفونيات شوستاكوفيتش، وأكثرهن كمالًا، ومع ذلك لم تنجح في محاكاة التدرّج المقامي-الانتصاري (أي تحويل المقام تدريجيًا للإيحاء بالانتصار المتدرّج)، الذي نجده واضحًا في خامسة بيتهوفن.
حاول كل من هؤلاء المؤلفين بطريقته إعادة بناء صاحب أهم إعادات بناء في تاريخ الموسيقى المعروف؛ بالرغم من أن كل أعمال تلك القائمة، التي حاولت محاكاة خامسة بيتهوفن، لبرامز، وتشايكوفسكي، ومالر، ورحمانينوف، وشوستاكوفيتش، أعمال طويلة ملحمية غالبًا، تكاد تتجاوز ضعفي طول سيمفونية بيتهوفن الخامسة، واستعملت أوركسترا أكبر وأغنى، عدا أوركسترا برامز، ووُضعت في مناخ نقدي أكثر انفتاحًا على الجديد والمبتكَر في مرحلة الرومانسية المتأخرة (مثل برامز وتشايكوفسكي)، أو ما بعد الرومانسية (مثل مالر ورحمانينوف)، أو في حقبة الموسيقى المعاصرة (شوستاكوفيتش)، فقد كانت مع ذلك أقل بلاغة، وأضعف تحريكًا للمشاعر المنقبضة، والمنتصرة، وأكثر في الوقفات الصامتة التي تضعف السياق الدرامي، وأضعف في الوحدة الفنية. لقد ضحّى بعضها باللحن جزئيًا في سبيل التركيب، أو استعاض عنه بالموتيفات المتكررة، وهي سمة من سمات موسيقى القرن العشرين الكلاسيكية، لكنها تضعف دور اللحن، أو تقضي عليه. هذا بينما لم يحتج بيتهوفن إلى كل هذه الأوركسترا، ولم يستعمل من الآلات، أو يستغل الهارموني أو يغير فيه إلا ما كان ضروريًا من الناحية التعبيرية والشكلية، مع انطلاقة أسرع، وأكثر حرارة، وهزيم أوركسترالي لا يهدأ إلا في النهاية، واشتقاق لحني أكثر جذرية، وأكثر شمولًا للسيمفونية ككل. بهذا كان بيتهوفن أفضل ممن قلدوه، رغم ما وضعوا أيديهم عليه من آلات أغنى، ومساحة أكبر للتجديد، ورغم أن بعضهم كبرامز وشوستاكوفيتش كانوا من عمالقة التركيب أصلًا.
حين طلبَ منّي أحد الأصدقاء من هواة الموسيقى ذات مرة أن ألخّص له عظمة موتسارت في عبارة واحدة، قلت له: “إنه الرجل الذي أطلق على نفسه إشاعةً بلا دليل واحد، فصدّقها التاريخ.” المعروف أن موتسارت قرب وفاته قد أوعز للمحيطين به أنه مسموم بسم بطيء المفعول Tim Lihoreau, Sam Jackson, The Classic FM Family Music Box, White Lion Publishers, 2019, p. 67. وهو مرجع عام لكنه يشير إلى مدى انتشار هذه الإشاعة على مستوى الكتابات الخفيفة، وربما ألمح إلى أن سالييري هو الفاعل، دون أي دليل. ربما كانت تلك مجرد دعابة من دعاباته، أو هلوسة من هلاوس سكرات الموت؛ وقد نفى سالييري أن يكون قد فعل هذا، رغم أنه ربما فكّر فيه Loc. cit..
الغريب أن الناس قد صدّقت تلك الإشاعة الخطيرة؛ وهي اتهام بالقتل. بالنتيجة قام موسيقيون، وشعراء، وسينمائيون كبار بوضع أعمال ناجحة وشهيرة عن هذه القصة، مثل أوبرا موتسارت وسالييري لكورْساكوف، المأخوذة عن المسرحية الشعرية بالعنوان نفسه، التي وضعها أمير الشعراء الروس ألكسندر بوشكين (+١٨٣٧)، وفيلم أماديوس (١٩٨٤) لميلوش فورمان، المأخوذ عن مسرحية بالعنوان نفسه لبيتر شافَر (١٩٧٩). مع التتبع التاريخي لتلك الأعمال، وتطور تلك الإشاعة، نجد أن ألكسندر بوشكين هو صاحب أول بلورة لهذه الإشاعة في مسرحيته المذكورة. كان بوشكين يهدف بمعالجته إلى طرح السؤال حول مدى مشروعية قتل العبقريات غير المفسَّرة، الإلهية، (كموتسارت) لصالح إمكانية التفسير العقلاني للموهبة (سالييري). هل يمكن تشريع القتل في سبيل العقل؟ Brian Horowitz, The Myth of A.S. Pushkin in Russia's Silver Age: M.O. Gershenzon, Pushkinist (Studies in Russian Literature and Theory), Northwestern University Press, 1996, pp. 46-47. أما معالجة بيتر شافر، التي بُني عليها فيلم أماديوس، فقد هدفت إلى مقصد أبعَد: هل من العدل أن يولَد البعض موهوبين بالفطرة، غير القابلة للتفسير، وأن يخلق اللهُ بقية الناس أنصاف موهوبين، مهما تعلموا، واجتهدوا؟ انتقاٌل من الإنساني (معالجة بوشكين) إلى الإلهي (معالجة شافر) في الطرح.
ثم انتشرت الفكرة من الأدب إلى الفنون المركبة، حين حوّلها كورساكوف إلى أوبرا، وحين انتقلت غربًا، من روسيا إلى إنجلترا، حتى وصلت إلى بلورتها السينمائية على يد فورمان. قامت السينما طبعًا، باعتبارها أشد الفنون المركّبة انتشارًا اليوم، بنشرها على نطاق أوسع، وباللغة الإنجليزية الأكثر انتشارًا في العالم كلغة أجنبية أولى. ذلك حتى وصلت الإشاعة إلى مستوى الثقافة الشعبية، حين قام مسلسل عائلة سمبسون الأمريكي الاجتماعي الشهير بتقديمها في الحلقة الحادية عشرة من الموسم الخامس عشر عام ٢٠٠٤. في تلك الحلقة تقول ليزا سمبسون (في دور سالييري) لبارت سمبسون (في دور موتسارت): “لقد أردتُ أن أدمر ملكاتكَ ومَسرّاتكَ”، فيرد عليها بارت قائلًا: “أعترف لكَ أنكَ الموسيقار الأكثر موهبة، لكنْ لأنني سأموت صغير السن، فسوف أظل محبوبًا إلى الأبد.” في نهاية المشهد يأتي نيلسون مونتز – الاسم ذو الرنين الألماني – بلطجي المسلسل، المتردد دائمًا فيما وراء الخير والشر، ذو الأصل الاجتماعي الوضيع، في دور بيتهوفن، عازفًا لحن الكورال من سيمفونيته التاسعة على البيانو أمام الإمبراطور النمسوي، الذي يقول لليزا (أي لسالييري): “هذا موسيقار جديد، سيقضي على كل ما وضع من قبله من موسيقى”؛ ما يكشف عن عمق تأصل هذه الإشاعة من جهة، ومدى انتشارها من جهة ثانية، وربطها بين الشخصيات الثلاث: موتسارت (بارت سمبسون المتمرد الصغير الباحث عن الذات)، وسالييري (ليزا العقلانية المجتهدة)، وبيتهوفن (نيلسون البلطجي القوي المتردد)، في قصة واحدة من جهة ثالثة. هذا رد فعل العقل البشري على التاريخ، حين يحاول فهمه، فينظمه – ولو على سبيل الفرضية غير القابلة للاختبار – في سردية قابلة للفهم.
كل ذلك مهم لفهم مكانة موتسارت في الموسيقى الكلاسيكية، بل وتاريخ الفن، والإنسانيات بأسرها. موتسارت هو المثال الأوضح في التاريخ كله – إذا أمعنا النظر – للعبقرية غير القابلة للتفسير. هو مهم لنفهم ما هو غير قابل للفهم، وهو متجسد في التاريخ القريب. صحيح أنه ربما سبقت، وربما تلت، موتسارت عبقريات مثله، لكن التاريخ لم يسجلها بهذا الوضوح، وهذا الامتداد في أعماله الغزيرة. ربما نقارن هذه الحالة بوضعية المسيح في اللاهوت المسيحي؛ فهو التجسد التاريخي الأمثل للكلمة (اللوجوس)، وقد أكد القرآن كذلك على هذه النقطة، وإن اختلف اللاهوت المسيحي عن الإسلامي فيما بعدها. المشابهة الأساسية بين موتسارت وبين المسيح هي: أن كلًا منهما كَسْرٌ للمعقول، ولدراما التاريخ المعتادة، وحضور فائق للعقل، وبالتالي كانت حياة كل منهما أكثر تأثيرًا، وأثرى في المعنى، مما تركوا من تعاليم أو مؤلفات.
في ملاحظتي الشخصية، التي يمكن اختبارها بملاحظة القراء كذلك، أن أغلب من يسمعون موتسارت أو يفضّلونه باعتباره الموسيقار الأهمّ – وهو عوْد على بدء في هذا المقال – ينقسمون إلى نوعين، وأحيانًا يجمعون بين النوعين: نوع يفكر فيه باعتباره معجزة نادرة، ونوع يستمع إليه في الخلفية كموسيقى مُصاحِبة، لإضفاء تأثير موتسارت على الجوّ. هذا ما لم يكن المستمع متخصصًا، فيسمعه تحليليًا ونقديًا. يندر أن يستمع المرء لموتسارت منشغلًا بالعمل، بحيث يستغرق جل قدراته العقلية في فهمه، فهو بسيط كما قلنا، ويقلد نفسه كثيرًا، وممكن التوقع، عكس بيتهوفن.
مستمع بيتهوفن نادرًا ما يضعه في الخلفية، وربما نظر إليه باعتباره معجزة هو الآخَر، لأنه وضع بعض أعماله المهمة وهو ضعيف السمع، أو معدومه كليةً. لكن كثيرًا من أعمال بيتهوفن المبكرة المهمة وُضع كذلك في فترة ما قبل الصمم، قبل منتصف عشريناته، كما أن ضعف السمع – في مراحله الأولى – ليس عائقًا للتأليف، إذا كان المؤلف قد اكتمل تعليمًا، وممارسة، بل وتأليفًا، قبل إصابته بالصمم التدريجي. بالإضافة إلى أن أعمال بيتهوفن أقرب إلى أبنية ذهنية معقدة كما قلنا في الفقرات الأولى من هذا الطرح، ولا تحتاج بالضرورة إلى الحواس، بل إلى عقل رياضي بالدرجة الأولى. لقد تغلب بيتهوفن على الضرورة بالرياضة، وهو إنجاز في ذاته، لكنه ذاته ما ينفي عنه صفة “معجزة الموسيقار الأصمّ“. كانت معجزة بيتهوفن هي التركيب، وتصور أبنية هندسية مجردة، مركبة، وديناميكية متطورة. لم تكن معجزته إذن التغلب على العجز الحسي، لم تكن التعالي على الحس، بل كانت التفوق على العقل. هذا التفوق الذي عرفه موتسارت، اللوجوس التاريخي-الموسيقيّ نفسه، بمجرد النظر في بيتهوفن.
نقل المؤرخ الموسيقي، وصاحب أول تأريخ أكاديمي لحياة بيتهوفن: ألكسندر فِيلُوك تايَر (١٨١٧ – ١٨٩٧) قصة اللقاء الوحيد بين موتسارت وبيتهوفن، حين كان الأخير لم يزل متعلمًا صغيرًا في السادسة أو السابعة عشرة، في بداية الطريق، يحاول متعجّلًا العثور على خطّه المميز. بين عامي ١٧٨٦ و١٧٨٧ (حسب تقدير تاير) جاء بيتهوفن إلى فيينا رغبةً في عرض أعماله على موتسارت، وما كان من الأخير إلا أن استحسن المادة المعروضة دون حماس كبير، ما جعل بيتهوفن يصر على أن يختار موتسارت بنفسه لحنًا له، بحيث يقوم بالارتجال عليه دون إعداد مسبق، في اللحظة نفسها، الأمر الذي قبله موتسارت في شك. لكنه بعد أن استمع إلى بيتهوفن، وهو يعيد بناء تيمته، وينوع عليها، ويَبني منها، زاد اهتمامه، وانبهاره، لحظة بلحظة، بمعزوف هذا الشاب الصغير الأقرب إلى المراهَقة، ثم اجتمع ببعض الحضور قائلًا: “ضعوا أعينكم على هذا الشاب، فيومًا ما سوف يمنح التاريخ ما يتحدث عنه.” Thayer, A. W., Life of Ludwig van Beethoven, 1st v. Translated by Henry Edward Krehbiel, London, 1962, p. 90: ’Beethoven, who as a youth of great promise came to Vienna in 1786, but was obliged to return to Bonn after a brief sojourn, was taken to Mozart and at that musician’s request played something for him which he, taking it for granted that it was a show-piece prepared for the occasion, praised in a rather cool manner. Beethoven observing this, begged Mozart to give him a theme for improvisation. He always played admirably when excited and now he was inspired, too, by the presence of the master whom he reverenced greatly; he played in such a style that Mozart, whose attention and interest grew more and more, finally went silently to some friends who were sitting in an adjoining room, and said, vivaciously, ’Keep your eyes on him; some day he will give the world something to talk about.’ ’
علينا أن نبحث عن سبب انبهار موتسارت. هو لم ينبهر بجمل بيتهوفن الموسيقية، ولا بأعماله المبكرة تلك قبل سن العشرين، ولكنْ جذبتْ انتباهه للغاية، لدرجة الانبهار، تلك القدرة على البناء اللحظي، التلقائي، والتي يتمتع صاحبها بالجرأة الكافية، إلى درجة تحدي موتسارت نفسه بجملة موسيقية من جمله هو. هذه هي المعجزة الحقيقية لبيتهوفن. كما قلنا في صدارة المقال: كان بيتهوفن هو الأعقد بنائيًا، دون الحاجة إلى الزخرفة، وكان هذا التعقيد البنائي من صفاته العقلية، حتى في هذه السن الصغيرة، سن السادسة أو السابعة عشرة. ما يعني أنه كان يفكر فعلًا بهذه البنية المعقدة المُشيَّدَة، دون الحاجة إلى إعداد مسبق. يعني أن كل ذلك التعقيد الشاهق، الذي نجده في أعماله المذكورة، وغير المذكورة، في هذا المقال، وغير هذا المقال، هو تعقيد عقله هو، وليس نتيجةَ تأملٍ، ولا تعلُّمٍ، ولا كان فعلًا استراتيجيًا.
النتيجة النهائية أننا حين نسمعه يجب ألا نعتقد في كون هذه الأبنية الذهنية السامقة، المنيفة، حصيلةَ عمل عقلي مضنٍ، بل هي إفراز ذهني تلقائي. أما التعديلات الكثيرة، التي تشي بها مدوناته بخط يده، فهي تعديلات على العمل الفني، وليست عملية التركيب ذاتها، التي تتم في عقله، دون الحاجة إلى تخطيط. ليست القضية هنا أنه فقط أبهر موتسارت، ولكن لماذا أبهره. لم يكن انبهار موتسارت – بعد شكّ – عبثًا، كما أن وجود موتسارت التاريخي نفسه ليس عبثًا، وكما أنه بنفسه لاحظَ أن وجود بيتهوفن بين يديه، وهو يتحدّاه، وهو يقدّسه، في الوقت نفسه، تراجيديا إغريقية؛ حين يتحدى البشر المحدودون الآلهةَ العظيمةَ الخطيرة. لا يمكن أن ينسى إلهٌ مَن يتحداه، وهو يؤمن به في آنٍ واحد، لا يمكن ألا يلفت انتباهه، أو ألا يُدخله بيديه التاريخَ.
١. Brian Horowitz, The Myth of A. S. Pushkin in Russia’s Silver Age: M. ٢. O. Gershenzon, Pushkinist (Studies in Russian Literature and Theory), Northwestern University Press, 1996.
Friedrich Kerst, H. Krehbiel, Beethoven: The Man and the Artist, As Revealed in His Own Words (Dover Books on Music), 2011.
٣. Laitz, Steven G., (2008), The Complete Musician, New York: Oxford University Press.
٤. Modeste Tchaikovsky, The Life and Letters of Peter Ilich Tchaikovsky, edited from Russian by Rosa Newmarch, university Press of the Pacific Honolulu, Hawaii, 2004.
٥. Ries und Wegeler, Biographische Notizen über Ludwig van Beethoven, Verlegt bei Schuster & Loeffler, Berlin und Leipzig, 1906.
٦. Thayer, A. W., Life of Ludwig van Beethoven, 1st v. Translated by Henry Edward Krehbiel, London, 1962.
٧. Tim Lihoreau, Sam Jackson, The Classic FM Family Music Box, White Lion Publishers, 2019.
٨. Will & Ariel Durant, The Story of Civilization (11), Age of Napoleon, Simon and Schuster, New York, 1975.
٩. Winold, Allen (1975). “Rhythm in Twentieth-Century Music”, Aspects of Twentieth-Century Music. Wittlich, Gary (ed.). Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice-Hall, 208-269.
١٠. حوار تليفزيوني مع برنشتاين أجرته شبكة سي-بي-إس الأمريكية عام ١٩٧٠.
١١. الصياد، كريم: الفردوس المسموع- كيف أصبح بيتهوفن بطلَ بيتهوفن، مؤسسة معازف، لندن، ٢٠١٧.
١٢. الصياد، كريم: النزعات البطولية في الموسيقى، منصة معنى، ٢٠٢٠.
١٣. الصياد، كريم: كيف نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية؟ مؤسسة معازف، لندن، ٢٠١٨.
١٤. الصياد، كريم: ما وراء الموسيقى-المشروع التأليفي لشوستاكوفيتش، مؤسسة معازف، لندن، ٢٠١٦.
١٥. الصياد، كريم: موسيقَى الموسيقَى- كيف أعاد برامز بناء بيتهوفن، مؤسسة معازف، لندن، ٢٠١٦.
١٦. مواد أخرى أدبية، وموسيقية، وفيلمية.