ورقٌ مباح | مدخل إلى قصائد غازي القصيبي المغناة

قوائم - كتابة: عمر آل عبد الهادي - ٢٠٢٥/١١/٠٧
ورق مباح | مدخل إلى قصائد غازي القصيبي المغناة
تحميل...

بعد مرور عقود على وفاة أصحابها، تحولت مؤلفات الكلاسيكيين أمثال باخ وموتسارت وبيتهوفن إلى ملكية عامة، ما أتاح فرصة استخدامها في سياقات معاصرة دون قيود قانونية، لتندمج الموسيقى الكلاسيكية مع ذاكرتنا الثقافية؛ مثل مقطوعة من أجل إليزه لبيتهوفن التي لا ننفك عن سماعها في صالات الانتظار، مكالمات الدعم الفني، بعض غسالات الملابس الحديثة، أو في أغنية لا تقارني لحسين الجسمي الذي استخدمها في المقدمة. كذلك السيمفونية رقم ٤٠ لموزارت الموظفة في أغنية يا أنا لفيروز. في الأدب العربي، أعطى غازي القصيبي لشعره هذه الميزة في حرية الاستخدام والتغني به حتى قبل وفاته.

ذكر القصيبي في مذكراته التي نشرت في جريدة المدينة أنه لا يدفع قصائده للمطربين ليتغنوا بها، مثلًا ذكر أن وزير الصناعة اللبناني – آنذاك – كان من المقربين لفيروز، وطلب من القصيبي قصيدة لتتغنى بها فيروز لكنه رفض وطلب منه أن تقوم بقراءة دواوينه وتختار ما تشاء عوضًا عن أن يكتب لها قصيدة معينة. أيضًا، طُلب منه كتابة قصيدة للراحل محمد عبد الوهاب لكنه اعتذر وعرض نفس الفكرة السابقة.

يقول في كتابه سيرة شعرية: “لقد قلت في أكثر من مناسبة وأكرر هنا إنني لا أعتبر نفسي شاعرًا عظيمًا، ولا أتوقع أن أصبح في يوم من الأيام شاعرًا عظيمًا.” رغم أن هذه ليست مسألة متروك للشاعر أن يحددها، وإنما للقراء. ترك القصيبي قصائد رائعة مغناة أقوم بترتيبها لكم هنا لا على جودة النص فقط، بل أركان الأغنية كاملة، مع استبعاد الأوبريتات أو الأغاني التي تعتمد على الكورال فقط.

لِمَ أحلم

في عام ١٩٦٥ نشر غازي القصيبي ديوانه الثاني قطرات من ظمأ، وتضمن ٢٤ قصيدة من ضمنها لا تلهين التي غنائها البحريني أحمد الجميري. تبدأ الأغنية بالتساؤلات الثلاثة: لِمَ أحلم، لِمَ أعشق، لِمَ أسكر، وفي مطلع كل كوبليه يكشف مبررات هذا السؤال، حتى يعلن الحالم في نهاية الأغنية: “أنا أحلمُ، أنا أسكرُ، أنا أعشقُ” هروبًا من الواقع وانغماسًا في اللذة. تذكرني الأغنية من ناحية الإيقاع وانسيابية اللحن بأغنية توصيني لحميد منصور، التي لحنها محمد جواد أموري.

“لِمَ أحلمُ؟ ‏
ونهاية الأحلام دربٌ مظلمُ
غضبت عليه الأنجمُ ‏
والحالمون توهموا
أن النعيم يطوف حول جفونهمْ”

أجرى الجميري تعديلات وإضافات على القصيدة، إذ تضمن النص الأصلي “لِمَ أنظم” بدلًا من “لِمَ أسكر”. يقول الجميري في الأغنية: “لِمَ أسكُرُ؟ والليلُ صاحٍ لا ينام والهمُّ صاحٍ لا ينام”، أما في النص الأصلي في الديوان: “لِمَ أنظم؟ ما يهمس القلب الجريح ويلهم؟ وقصائدي ورق مباح، تلهو به هوج الرياح.”

أجل نحن الحجاز ونحن نجد

في أعقاب حرب الخليج ١٩٩٠، بدأ الإعلام العراقي بترديد “الحجاز ونجد” بدلًا من المملكة العربية السعودية؛ فردّ غازي القصيبي في أمسية شعرية في الكويت بعد تحريرها، بقصيدة مرثية فارس سابق وتلاها بقصيدة ونحن فهد، المعروفة بـ أجل نحن الحجاز ونحن نجد.

“أَجَلْ نَحْنُ الْحِجَازُ وَنَحْنُ نَجْدُ / هُنَا مَجْدٌ لَنَا وَهُنَاكَ مَجْدُ
وَنَحْنُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ افْتَدَاهَا / وَيُفْدِيهَا غَطَارِفَةٌ وَأُسْدُ”

يمكن تصنيف هذه الأغنية كأحد أهم الأعمال الوطنية السعودية، ويجري استخدامها واستحداثها بشكل متكرر في المناسبات الوطنية سنويًا. بعد تلك الأمسية بعامين، في ١٩٩٢، نشر القصيبي كتاب مرثية فارس سابق، وهو عبارة عن مجموعة قصائد في رثاء الكويت وشهدائها.

نحلم 

مطلق الذيابي أو سمير الوادي هو أكثر من غنّى لغازي القصيبي، غير أن أغانيه اليوم تكاد تكون مفقودة أو نادرة التداول. باعتقادي كان الذيابي الأقرب إلى روح القصيبي وشعره، ولو تزامنت تجربته مع ذروة حضور القصيبي، لربما استمرت الثنائية بينهما. لكن يبدو أن الذيابي سلّم الراية لمحمد عبده، الذي ارتبط اسمه لاحقًا بكلمات القصيبي، خصوصًا أن سمير الوادي كان من أوائل من آمنوا بموهبة محمد عبده وشارك باختياره في بداياته عبر إذاعة جدة.

“تعالي دقائقَ نحلمُ فيها / بنافورةٍ من رذاذ القمر
بأرجوحةٍ عُلّقت في النجوم / بأسطورةٍ من حديث المطر” من ديوان قطرات من ظمأ، ١٩٦٥.

تُعد أي لغزٍ ذلك الحب (١٩٦٢) أول قصيدة مغناة من كلمات غازي القصيبي ومن ألحان وأداء مطلق الذيابي، لكنها غير متاحة اليوم. 

ملف لورا والكتابة التشاركية

ضمن قائمة أغاني القصيبي المشتركة مع شعراء آخرين رائعة محمد عبده، لورا، التي كانت سجالًا شعريًا بين الأمير خالد الفيصل وغازي القصيبي وعبد الرحمن الرفيع. تطول قائمة النظريات في هذه الأغنية وتكثر الأسئلة عن هوية لورا، ولقطع الشك باليقين ذكر غازي القصيبي في مذكراته، جريدة المدينة (١٩٩٤)، التي تحولت لاحقًا لكتاب حكاية اسمها غازي القصيبي، أن لورا فتاة شرقية بصرف النظر عن كونه اسمًا غير عربي، وهو ما ينفي تمامًا أن المقصودة هي الأميرة ديانا، كما ذكرت بعض النظريات، ويقطع الجدل نهائيًا حول كونها ابنته يارا. أشار القصيبي بعد صدور الأغنية بعامين أن آخر مرة التقى فيها بمحمد عبده كانت قبل عشرين عامًا؛ ما يعني أنها كمعظم قصائد القصيبي كانت متاحةً لمحمد عبده ولم يعطها القصيبي له.

تضاف إلى لورا أغنية كمنجة للفنان البحريني خالد الشيخ، التي كانت تعاون بين غازي القصيبي وعبد الرحمن الرفيع وعلي الشرقاوي. اتسم خالد الشيخ بالتجريب في أغانيه، سواء في اختياراته للألحان أو للكلمات، وكذلك باتباع أسلوبه الخاص في الغناء؛ على سبيل المثال في فترة انتشار أشرطة الكاسيت كان وجه الكاسيت الأول يضم الأغاني التي يطرب لها الجمهور، أما الوجه الآخر فيحتوي الأغاني التي تعبّر عنه شخصيًا، وقد تفاجأ حين لاحظ أن الناس بدأت تستمع لتلك الأغاني التي ظن أنها جانبية، ما زاد ثقته لإنتاج أعمال مشابهة.

في الأغنية تجلت الكمنجة بصور متعددة: فهي الآلة الموسيقية المقصودة بالمعنى والمستخدمة في الموسيقى، وهي صوت الحنين الذي يسري في الروح، كما أنها كانت مساحة للتلاعب بالمفردة “فليس من راح عنّا / راح عنّا كمنجة (كمن جاء)”، وفي البيت “من الأشواق عندي هواك منجى (كمنجة)”. بدل أن تكون الكمنجة إحالة إلى الآلة ذاتها صارت استعارة صوتية للمشاعر التي توقظها، وهذه النوعية من الأغاني التي نفتقدها الآن.

تنويهات

إضافة إلى ما سبق، هناك أعمال أخرى تكشف عن عمق تجربة القصيبي، أبرزها مشرق النور ١٩٩٧، الأغنية الوطنية التي قدّمت لأول مرة وأخر مرة في حفلة لندن بحضور القصيبي، وكأنها لم تر النور، وشارك في تنفيذها وليد فايد كمايسترو لأول مرة مع محمد عبده.

تُريدين لون حنيني إليك، أغنية أخرى تستحق السماع، من ألحان مطلق الذيابي وغناء حسين أحمد، كتبها غازي القصيبي بعنوان حنين ونشرت عام ١٩٨٢. هناك أيضًا أغانٍ مثل: سلمت يداك من ألحان محمد شفيق، مغرورة، كالحلم جئت، يارا والشعرات البيض، وعروس الربى الحبيبة أبها.

يظل القصيبي رجلًا حالمًا سبق عصره بفكره ورؤاه، وجعل من الحلم ثيمة أساسية في واجهة وخلفية قصائده، مثل يارا والشعرات البيض وكالحلم جئت؛ كما نستذكر قوله: “ما كانت الدنيا سوى الحلم عابرًا / وإن ظنَّه المأخوذ بالحلم سرمدًا.”


المصادر 

جريدة الرياض: عبدالرحمن الناصر: القصيبي وفنان العرب.. تجليات فنية تصوغ ذاكرة وطن – أغسطس ٢٠٢٠ 

صحيفة عكاظ: محمد عبده: «لورا» كتبها شاعران.. فمنعت من المسرح! – ديسمبر ٢٠١٩

العربية: مريم الجابر: كيف دفع صدّام “القصيبي” لكتابة قصيدة شهيرة؟ – نوفمبر ٢٠١٦

مجلة العربي: أحمد الواصل: القصيبي: الوطن والفن والسخرية – العدد ٦٢٥

كتاب: سيرة شعرية – غازي عبدالرحمن القصيبي

كتاب: المجموعة الشعرية الكاملة – غازي عبدالرحمن القصيبي

كتاب: حكاية اسمها غازي القصيبي – كمال عبدالقادر

قائمة أغاني غازي القصيبي

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف