.
تعاني صناعة الموسيقى من ما يمكن وصفه بالـ إيه دي إتش دي في الآونة الأخيرة. الأغاني التي تتجاوز دقيقتين في تناقص، وبات من الشائع أن نرى ألبومًا مكونًا من ١٠ أغانٍ مدته ١٥ دقيقة. ظاهرة تفشت في الصناعة، فأصبح أغلب إنتاجها محتوى سريع، مختزل، وغير مشبع في المجمل.
بالنظر إلى تاريخ الموسيقى، فقد سبق أن تغير متوسط مدة الأغنية الناجحة على مدار العقود السابقة، لكن ما حدث في هذا العقد قفزة أكبر من أي وقتٍ مضى نحو الأغاني القصيرة، وهي إحدى الأعراض التي تعاني منها صناعة الموسيقى والتي يمكن إرجاعها إلى العديد من الأسباب.
تبرز تلك الظاهرة بشكل واضح في الهيب هوب والبوب، فإذا فحصنا الألبومات والأغاني التي سيطرت على قوائم الاستماع محليًا وعالميًا، نرى أن معظمها لا يقترب من سقف الثلاث دقائق. على سبيل المثال، في ألبوم ويجز الأخير، أطول أغنية لا تتخطى الدقيقتين ونصف، واثنتان من أصل ثمانية أغاني بالكاد تتجاوز الدقيقة والنصف. كذلك ألبوم مجنون لـ للا فضة. لا تقتصر تلك الظاهرة على المينستريم فحسب، بل تسللت حتى إلى الأندرجراوند مثل ألبوم فوليوم ١ لدي جي قواد وألبوم الطبع غلاب لداود المنطقي.
لطالما تأثرت مدة الأغاني بطرق استهلاك الموسيقى وتطورها، ففي الحقبة الأولى من تاريخ تسجيل الموسيقى، سيطرت أسطوانات الفاينل ذات السبع إنشات، والتي كانت معيار الأغاني الناجحة في الخمسينات والستينات، حيث كانت تستطيع تخزين حوالي ٤ دقائق فقط لكل وجه بسبب قيودها التقنية.
لهذا السبب، كانت معظم الأغاني الناجحة تجاريًا في ذلك العصر، مثل أغاني البيتلز وإلفيس بريسلي، قصيرة لتناسب الإطار الزمني لأسطوانات الفاينل. لذا إذا كانت الأغنية طويلة، هي ببساطة لا تتناسب مع الأسطوانات الفردية، ما يجعلها أقل قابلية للبيع والبث على الراديو.
أدى انتشار الأسطوانات الطويلة (LPs) إلى السماح بتسجيل أغانٍ أطول، حيث كان بإمكانها استيعاب ٢٢ دقيقة على كل جانب، ما ساهم في انتشار وظهور أغانٍ تجارية أطول وأكثر تجريبية، خاصةً في الجاز والبروجريسيف روك مع فرق مثل بينك فلويد وكينج كريمسون.
مع عصر السيديهات في الثمانينات والتسعينات، والتي كانت سعتها التخزينية تصل إلى ٨٠ دقيقة، تمتع الفنانون بحرية شبه كاملة، فأصبحت الأغاني الرائجة آنذاك تتراوح بين ٥–٧ دقائق في المتوسط، خصوصًا في أنواع موسيقية مثل الروك والهيب هوب.
تغيرت اللعبة تمامًا مع ظهور منصات الاستماع الرقمي مثل سبوتيفاي وآبل ميوزيك وغيرها. باتت مدة الأغاني مقيدة بمعطيات الصناعة وسياسات الربح من خدمات البث، التي تدفع مقابل عدد الاستماعات وتفضل بالتالي الأغاني القصيرة سريعة الاستهلاك، بينما تتجاهل فكرة الألبومات الكاملة والتجارب السمعية الطويلة، رغم أن الأغاني الطويلة تحافظ على المستمع داخل المنصة لفترة أطول.
يمثل سبوتيفاي العدو الأكبر لصُنّاع الموسيقى حاليًا، حيث أصبحت المنصة متحكمة بشكل شبه كامل في ديناميكيات صناعة الموسيقى، واضعةً قواعد اللعبة الخاصة بها، والتي تصب في مصلحتها بشكل أساسي.
يعتمد النموذج المالي لسبوتيفاي على توزيع العوائد للفنانين وفقًا لعدد الاستماعات، وبالتالي، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق مكاسب مالية من البث هي إعطاء الأولوية لقابلية إعادة الاستماع، ما أدى إلى تهميش جوانب ومكونات مهمة في صناعة الأغنية مثل البريدج والبري-كورس وجعلها عناصر ثانوية. أدى هذا بطبيعة الحال إلى التركيز الكامل على جعل الأغنية قابلة للتكرار بأكبر شكل ممكن، ما صب في مصلحة أنواع موسيقية مثل البوب، بينما هدد أنواعًا أخرى ذات بنى موسيقية أطول.
تلعب السوشال ميديا، وخاصةً تيك توك، دورًا أساسيًا في صعود هذه الظاهرة. يمكن القول إن تيك توك غيّر مفهوم استهلاك الموسيقى بشكل جذري، حيث أصبحت المنصة مساحة لاختزال الأغاني في مقاطع قصيرة لا تتجاوز الثلاثين ثانية. بالتالي، يعتمد نجاح أي أغنية على المنصة بشكل أساسي على إمكانية استخراج مقاطع قصيرة منها؛ لذا غالبًا ما يتم التضحية بعناصر في التوزيع لصعوبة اقتطاعها واستخدامها بشكل مستقل.
رغم أن هذا التغيير ربما لم يكن متعمدًا في البداية وجاء نتيجة لتفضيل المنصة للمحتوى القصير سريع الاستهلاك، إلا أنه أدى لاحقًا إلى توجه صُنّاع الموسيقى نحو اختزال صناعة الأغاني نفسها لتتناسب مع خوارزميات تيك توك وتركب موجة الفيرَلة. بات العنصر الأساسي في الأغنية هو الهوك أو الكورس الذي يمكن اقتطاعه واستخدامه كمحتوى تيك توكي، حيث تُبنى الأغنية حوله فقط. بينما أصبحت عناصر مثل التركيب الموسيقي، القوام الصوتي، والتطور اللحني والإيقاعي، مجرد تفاصيل ثانوية، وفي كثير من الأحيان غير مهمة على الإطلاق.
اليوم، كل ما تحتاجه لصناعة أغنية ناجحة هو أن يستخدم بعض صُنّاع المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي الكورس في فيديوهاتهم. أثبتت هذه الظاهرة نجاحها لدرجة أن أكبر منصة استماع موسيقي في العالم، سبوتيفاي، استلهمت النموذج ذاته، حيث أضافت خاصية تتيح للمستخدمين الاستماع إلى مقاطع قصيرة وممارسة السكرولنج عبر التطبيق، ما يسمح لهم بسماع ٢٠ ثانية فقط من كل أغنية، في حلقة لا نهائية من الاستهلاك السريع والاستماع غير الواعي للموسيقى.
أدركت شركات التسجيل الكبرى، مثل يونيفرسال وسوني، تلك التغييرات سريعًا، واستغلّتها لصالحها للتكيف مع تحوّلات الصناعة ومواءمة عادات الاستماع الجديدة. فأصبحت تستفيد من انخفاض سعة الانتباه الجماعي لدفع فنانيها إلى صناعة موسيقى تُقدَّم أساسًا كمحتوى، كما فرضت قيودًا على مدة الأغاني وأساليب إنتاجها لإرضاء خوارزميات تيك توك وسبوتيفاي. وصل الأمر إلى إجبار الفنانين على المشاركة في حملات دعائية عبر تيك توك للترويج لألبوماتهم.
ما يحدث هو بالفعل اختزال قدرات الفنانين في صناعة أغانٍ محكمة ذات تراكيب متنوعة بنيويًا، قدرات أثبتها الفنانون أنفسهم في أعمالهم السابقة وأسهمت في تشكيل صوتهم لدى الجمهور. غير أن عوامل مثل البريدج والوصلات الإنسترومنتال والبري-كورس وغيرها يتم التضحية بها في كثير من الأحيان لصالح تقليل مدة التراك، مع التركيز على قوة الكورس والهوك، حتى الفيرسات نفسها لم تسلم من هذا الاختصار.
على سبيل المثال يُعد ألبوم ليجي سي الأخير من أفضل ألبومات الهيب هوب هذا العام، لكنه يعاني من العلة ذاتها، حيث نجد أن متوسط مدة التراكات لا يتجاوز دقيقتين. في المقابل، إذا قارنا ذلك بألبومه السابق بلاسيبو، نرى أن متوسط مدة الأغنية فيه يتجاوز الثلاث دقائق، ما أتاح له استعراض قدراته في تقديم تراكيب موسيقية أكثر تنوعًا وإظهار نقاط قوته التي رأيناها من قبل، كالوصلات الآلاتية التي تسفر عن توزيعات موسيقية غير تقليدية تعتمد على تفاوت بين مساحات صوته والموسيقى، وبالتالي إعطاء المستمع تجربة أشمل وأعمق.
الأمر نفسه نجده في ألبوم سوري فور ذا ويت لتقيل، وألبوم بروجكت بلو بيم لمروان بابلو، كما يتضح هذا التوجه عالميًا في ألبومات تصدرت قوائم الاستماع، مثل ألبوم دوتشي أليجيتور بايتس نيفر هييل، حيث لم تتجاوز أنجح أغنيتين فيه بالكاد حاجز الدقيقتين.
الجانب الأوضح فيما يمثله هذا الاتجاه هو الفرص الضائعة لكل من الفنان والمستمع، فلا يخدم أي منهما بينما يخدم الخوارزمية فقط. من ناحية الفنان، يؤدي ذلك إلى تسطيح مهاراته واختزال قدراته، وتحجيم إمكانياته الإبداعية. أما بالنسبة للمستمع، فيُترجم هذا إلى مساحة أقل لاكتشاف جوانب أعمق من الفنان، سواء على المستوى التقني أو المفاهيمي.
رغم تزايد هذا التوجه وترسّخه في الصناعة، فمن الخطأ اعتباره قاعدة فعّالة. فعلى النقيض، نجد أن ألبومات طويلة نسبيًا لا تزال تحقق نجاحًا تجاريًا كبيرًا ويقدرها الجمهور من الناحية الجمالية، ما يؤكد أن ما يهم المستمع في نهاية الأمر هو جودة الموسيقى ذاتها. لا ينشغل المستمع بمعطيات الصناعة وسياساتها، ولا بطرق صناعة الموسيقى وأساليب ترويجها، ولا بعبثية الخوارزميات.
ألبوم جي إن إكس لكيندريك لامار يحتوي مثلًا على أغانٍ بمتوسط زمني يقارب أربع دقائق، بينما في ألبوم سلطان لشب جديد والناظر، تتجاوز معظم التراكات حاجز الثلاث دقائق، وألبوم معكوس لهادي معمر كذلك، ما يشير إلى أن هناك مجال لا يزال قائمًا للأعمال التي تتحدى هذا الاتجاه السائد.
في ظل هذا الحصار تظل بعض الأنواع الموسيقية خارجة تمامًا عن أطر الاستماع الرقمي وضغط شركات التسجيل وقادرة في الوقت ذاته على تحقيق نجاح تجاري ضخم، مثل المهرجانات التي يكون متوسط مدتها خمس دقائق.
تنفرد المهرجانات بهذا لأنها لم تلعب يومًا قواعد لعبة الصناعة وتعتمد بشكل كلي على أسلوب دي آي واي (DIY) إنتاجي، غير مقيد بسياسات إصدار ولا يعترف بالألبومات أو ثقافة الترويج. ما يمنح المهرجانات ميزة أكبر هو إدراجها الذكي للجزء الكاتشي من الأغنية في عناوينها والمواد الترويجية.
علاوة على ذلك، بنية المهرجانات التركيبية غير التقليدية تميزها، حيث لا تتبع كثيرًا من الصيغ المعتادة للأغاني من حيث الفيرس والكورس، بل يكون المهرجان تدفقًا مستمرًا من العبارات القوية والمقاطع الجذابة طوال الأغنية فلا يضطر صناعها الى اقتصاص أجزاء التراك وتقليل مدته. بالتالي نجد أن المهرجانات هي ربما الجنرا الوحيدة على قمة قوائم الاستماع الشهرية التي لا تزال محتفظة بعناصرها الأساسية، غير مكترثة بما هو رائج وبما تشجعه الخوارزميات.
مثل كل شيء في عالم خاضع للرأسمالية، يعود الأمر كله إلى المال. في الوقت الحالي تمثل أرباح منصات الاستماع الرقمي ونموذج الستريمنج ٧٠ بالمائة من إجمالي أرباح صناعة الموسيقى. مع استمرار هيمنة تلك المنصات على الصناعة، وتحول الموسيقى إلى محتوى سريع الاستهلاك بفعل تيك توك، والعقلية الرأسمالية الجشعة شركات التسجيل الكبرى، يُجبر الموسيقيون على مجاراة اللعبة أو المخاطرة بخسارة أكثر جوانب الصناعة ربحًا.
يخدم ذلك الآلة الرأسمالية فقط، بينما يدفع الفنانون والمستمعون الثمن ويحاصر الصناعة بأكملها في دائرة ضيقة. من الواجب التصدي لأكذوبة اقتران نجاح الأغاني بقصر مدتها. يكمن الحل في تجاهل التريندات والوصفات السهلة التي تفرضها الصناعة، إذ يبدأ موت الفنان لحظة استسلامه لسياسات صناعة الموسيقى، وتقديم تنازلات فنية لصالح منتجات أكثر قابلية للتسويق، والتعامل مع الموسيقى بوصفها منتج سريع الاستهلاك، حتى وإن كانت كذلك بالنسبة للمستمع أو شركات التسجيل.
تثبت الموسيقى الجيدة نفسها، لأن نجاح أي عمل فني في جوهره يعتمد على تفاعل الجمهور معه عاطفيًا وحسيًا. حتى لو بدا هذا الطرح مثاليًا، يثبت التاريخ صحته مرارًا، فالأعمال التي تصير كلاسيكية أوالتي تعلّق في وجدان المستمعين لم تكن يومًا معنية بالاستهلاك السريع والوصفات الترويجية المؤقتة. حتى الآن، يبدو أن تجاوز قيود الصناعة لا يتحقق إلا من خلال التمسك بالقيمة الفنية، إلا إذا ظهر بديل قوي يعيد التوازن ويضع قواعد جديدة، وهو ما يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي.