.
كانت سنة ٢٠١٨ غنائمية في تاريخ الراب المغاربي مع صعود قوي لـ سولكينج وإلجرانداي توتو وسمارا، واستمرار آخرين بنفس الثبات والإنتاجية مثل تي-فلو وكلاي وسانفارا، إلى جانب اكتساح موجة جديدة من الرابرز للساحة على غرار سافِج بلج من الجزائر، شادي وتوتو من تونس، ومنال وإنكونو من المغرب. بدأ التراب يستقر أكثر فأكثر في تونس والجزائر بفضل تعاوناتٍ بين رابرز من البلدين، وتقاطعاتٍ إنتاجية ساهمت في تثبيتها وجوه صاعدة في الإخراج وصناعة البيتات وهندسة المزج والإتقان. كذلك ساهمت الحروب المفتوحة بين الرابرز في تونس في التقاء أساليب أدائية مختلفة وصقلها، فيما تميزت المغرب بإنتاجيةٍ غزيرة، وأفضى التقارب الكبير بين ساحتي البوب والراب إلى تطعيم جماليات الراب ليكون الأكثر إقناعًا في المنطقة.
جزارة هي أول تعاون رسمي بين كلاي وبليدوج، بعد أن التقيا سابقًا في عمل واسع جمع رابرز آخرين في حادثة سجن ولد الكانز. قدم الثنائي فيديو جمع بين الثوابت المشهدية لدى كل منهما، فيما ظهرت سجية عصاباتية غير مفتعلة، نصًا وأداءً، يشحذها التناغم المفلت بين الاثنين. تتشكل الأغنية كسباق تتابع بين بليدوج الذي يستهل بأسلوبه التصاعدي، وكلاي الذي يتأبط شرًا في كل مرة يستلم فيها دفة الأداء. تظهر تقاطعات مثيرة في الإحالات اللغوية لبليدوج مع كلاي لتظهر لنا حجم الأثر الذي صنعه الأخير.
يكيل بليدوج بعض البارات المتفرقة التي تظهر فيها إحالات لغوية قريبة جدًا من أسلوب كلاي: “مانتي مانتي جيبو في أكو” مستحضرًا أغنية كلاي وكوكي زم أكو التي لعب فيها كلاي على الألفاظ واستنبط حيلًا لغوية جديدة، معتمدًا على إلمامه بصنوف القجمي وبراعته في استعماله (زم أكو تحريف لشتيمة تعني زك أمو وهي المرادف التونسي لـ كس أمو الشرقية). حتى مخاطبة بليدوج لتونس كخصم “آه يا تونس نيك القمامة”، تتقاطع مع خطاب كلاي القائم على نصب عدائية واضحة لتونس كدولة وسلطة. ترددت هذه النبرة العدائية كثيرًا في أغاني كلاي منذ جونتة قبل النوم “تونس ليست صديقتي” أو “يا تونس فاتك الفوت تحب تحطمني ما تنجمي / حتى كان نموت في تاريخك ناحت اسمي” في كومبا أو “في تونسكم شفنا الويل” و”تونس معكرة مزاجي” في من الصفر.
تسهم حروب الرابرز بشكل كبير في إشعال سباق التسلح الخاص بها من خلال شحذ الأساليب الغنائية ورفع مستويات الأداء. اندرجت سيكو سيكو في هذا السياق وبرزت كإحدى أهم الديسات في الراب التونسي، لتشعل صراعًا مدويًا بين سانفارا وإل كاسترو انخرط فيه رابرز آخرون.
حمل عنوان الأغنية إيحاءً من الدراما الرمضانية التونسية، حيث استعار سانفارا شخصية الفاهم وحماره المكنى بـ سيكو سيكو بقصد مهاجمة إل كاسترو. خلافًا للأخير، لا يحشو سانفارا نصه بأثقال فلسفية أو تأملات وجودية عميقة، لكنه يكتب بسهولة مربكة وإن كانت أفكاره معقدة. تظهر في أسلوبه أيضًا تلك السهولة التي يطلق بها باراته في سجيةٍ وثبات.
بدأت سنة ٢٠١٨ بحرب مثيرة بين كلاي وسمارا، بعد ظهور الأخير في منوعة تلفزية متحدثًا عن الراب، الشيء الذي لم يعجب كلاي فهاجمه بعنف في فريستايل كومبا. انتفض سمارا وكان رده من خلال ألعبي، التي أعقب عليها كلاي بـ سمرقند.
يعرف سمارا مسبقًا بأن التطاول على كلاي كلاميًا لن يمنحه أفضلية المواجهة، لأن كلاي منجم دائم لتوليد الحيل الكلامية وبحوزته مستودع شعرية لاسعة لا ينفذ. الأمر أشبه بأن تلعب بخطة تكتيكية محكمة لتكبح جماح لاعب مارادوني ومهاراته، لذا كانت أغنية سمارا نتاجًا لتوظيف ذكي لعناصر ناجحة وجامعة بين الأداء والتوزيع المصقول، ما منحه خيارات أسلوبية تجنبه مقارعة النص بالنص. مع ألعبي، ساهم سمارا في تصدير بصمة استوديو ٨ستريتس في منزل بورقيبة إلى خارج المدينة، ما جعلها تنافس جديًا التراب العاصمي. أظهر سمارا قدرةً كبيرة على تطويع الأوتوتيون لخامة صوته ناجحًا في تحويله إلى آلة مصاحبة، ما دفع بالكثيرين إلى مجاراته والتخلي عن نبذ الأوتوتيون.
ألعبي هي غنيمة مظفرة للحرب القصيرة التي دارت بين الرابرز وكشفت لنا عن أسلوبين ومدرستين شديدتي الاختلاف، كما أنها شكلت بداية سلسلة أعمال قوية لسمارا، صعّد فيها أسلوبه تباعًا مع يامي وبره شيخ وما دايم والو، التي دفعت أفق الجماليات بعيدًا في ساحة التراب بتونس. كان يمكن لهذه السنة أن تستمر أكثر مع سمارا، لكنه سجن في سبتمبر الماضي ليُحرم متابعوه من إنتاجاته الضاربة.
بعد انتشاره المذهل سنة ٢٠١٨ وحصده لمشاهدات قوية جدًا لأغنيته جُرييا، قام الجزائري سولكينج بإصدار الأغنية المصورة داليدا، التي نزلها قبل صدور ألبومه الأول فاكهة الشيطان، ليحقق نجاحًا مثيرًا زاحم به درايك وكاردي بي وإمِنِم في مصافي التوب ١٠ التابعة لتصنيف وورلدوايد لـ ديزر. مزج سولكينج بين التراب والراي مع مسحة شرقية، متحكمًا بطبقات الصوت الأوتوتيونية وتدفقه الثابت على امتداد الإيقاعات الراقصة، بالإضافة إلى استعادته لإحدى أكثر اللوازم نجاحًا في تاريخ الأغنية الفرنسية، بارول بارول، التي غنتها داليدا سابقا مع آلان دِلون.
في يما، اختار حليوة أن يدشن أول عينات ألبومه لا ستريت بتعاونه مع الرابر التونسي بلطي، وقدم أغنية نموذجية عن هواجس أبناء الأحياء الشعبية في البلدان المغاربية، وتوقهم إلى الهجرة نحو الضفة الشمالية للمتوسط أسوة بأقرانهم الذين سبقوهم.
عدل كلٌّ من حليوة وبلطي صوتيهما بجرعات مختلفة من الأوتوتيون، لكن في حين ظهر الأول مسرفًا وهو ما أضاف ترددًا معدنيًا على صوته، مال بلطي إلى الاعتدال واتجهت خامته نحو الدفء. جمعت يما بين تجربتين شديدتي الاختلاف وتفصل بينهما مسافة زمنية كبيرة، بالنظر إلى كون بلطي من أوائل الرابرز في تاريخ تونس.
صعد التراب بشكل جلي في الجزائر خلال هذه السنة، وأصبحت له أسماؤه الفاعلة إلى جانب سولكينج، على غرار روفا وسافِج بلج اللذين اجتمعا في أغنية مشتركة حملت عنوان أولالا.
تظهر الأغنية مثل مخيلةٍ هلوسية لمدمن حشيش، مع مسحة خفيفة من السوداوية وزخم أصوات في الخلفية تحضر فيها عينات معدلة أوتوتيونيًا. يساير أداء سافِج المترنح الإيقاعات الثقيلة من خلال تمطيط البارات، وحشوها في أغلب الأحيان باستطرادات لا تصيب المعنى بقدر تركيزها على الإيقاعية، خلافًا لروفا الذي يظهر ديناميكية أكبر في تكثيفه لمجالاته الصوتية.
أولالا أغنية تراب نموذجية تكشف لنا عن جماليات محلية نجح كل من سافِج وروفا في تثبيتها، وتقدم لنا تشكيلةً منوعة من فريق ناجح بين الجزائر وتونس، مع صانع البيتات فريزي بيتز، واسماعيل أهراس الذي أصبح مرجعًا إخراجيًا لدي العديد من الرابرز بين تونس والجزائر.
صوتيًا أو بصريًا، يعطي عصام الأولوية للأناقة. في الأغنية البصرية تراب بلدي، خاض ابن الخامسة والعشرين تجربته الإخراجية الأولى، لتنسجم فلسفته البصرية مع الموسيقية: العثور على النظام في الفوضى، وعلى ما هو ملفت في ما هو مهمل. تزخر كل أغنية وفيديو لعصام بأسئلة من قبيل: كيف لم يفكر أحدهم من قبل بتجربة هذه الأفكار التي تبدو واضحة ومغرية جدًا؟ لكن لا يمتلك الجميع العين للتفاصيل والثقة بالأسلوب اللتَين تجعلان عصام ملكًا في مجاله.
يظهر إلجرانداي متمرسًا في توقيع تدفقه بتتابع مثير وعلى سرعات مختلفة، بالإضافة إلى توزيع محكم لعينات صوتية من حفلاته الحية في انطلاقة الأغنية، ما خلق جوًا حيويًا ومرقِّصًا بفعل الحركية الإيقاعية التي ضخها في الأغنية. يراوح الرابر بين الأداء بالعامية المغربية والفرنسية ولهجات أخرى، مبديًا سجيةً وسلاسة في الانتقال بين المفردات وتطويعها لمتطلبات باراته.
تركز منال كثيرًا على العناية بالجوانب البصرية لفيديوهاتها، ما مكنها من تثبيت هويةٍ مشهديةٍ مميزة بتكثيف الألوان والإبهار البصري. تتميز سلاي بحيوية مرقصة من خلال مزج واسع بين الآلات النفخية والوترية والعينات الإلكترونية التي تميزت بعنف إيقاعي. كتب توتو كلمات الأغنية ووضع ألحانها، كما ظهر في الخلفية وراء منال مجاريًا إياها على طبقة صوتية منخفضة، قبل أن يستأثر بآخر فقرات الأغنية متوعدًا الجميع: “٢٠١٩ هي عهدي الجديد”، وبات مؤكدًا أنه لن يخلف الوعد.
تي-فلو ماكينة إنتاجية لا تهدأ، والرابر الأكثر نشاطًا في المغرب إلى جانب يوسف٤٥. يتميز أسلوبه بعدم الاستقرار على بنية واحدة، ما يمنح أغانيه تنويعًا مذهلًا. وسع تي-فلو من تعاوناته وحافظ على وتيرة إنتاج منتظمة تقريبًا، مدافعًا عن حضور مدينته فاس، وهو ما أثبت أن الراب المغربي ليس حكرًا لمركزية مدينة واحدة، لكنه يشتعل في كل من الرباط والدار البيضاء وفاس التي شكلت هلال الراب الخصيب في المغرب.
تلاين من الذرى الإنتاجية لـ تي-فلو، وبمقارنتها مع سابقاتها يو إس إيه وكفى، يظهر لنا أن الأغاني تتوزع على حقباتٍ مختلفة من مسيرة الرابر، رغم أنها إنتاجات متتالية في فترة قصيرة جدًا. يعتمد تي-فلو على الأوتوتيون ليخلق أكثر من شخصية صوتية يظهر بها في أغانيه، كما أنه لم يرتكز في هذه الأغنية على الإبهار التقني من خلال تسريع التدفق على مستويات عدة، لكنه ثبّت أداءه على وتيرة واحدة وكأنه ترتيل خلف الأوتوتيون ملازمًا المضمون الحزين لكلمات الأغنية.
وظف تي-فلو معاجم شديدة التباعد، جامعًا بين المراجع الشعبية (خبز الدار ياكلو البراني) والأدبية الروائية (في إشارته إلى الخبز الحافي وهي رواية لمحمد شكري)، كما شحن باراته بمضامين سياسية مباشرة.
منذ فترة، بدأت تظهر موجة جديدة من الرابرز في تونس تمردوا على المدارس القديمة. توتو وشادي من رواد هذه الموجة المبشرة، ويمكن القول بأن بدايتهما الفعلية كانت سنة ٢٠١٨ من خلال تَيك نوتس، حيث ظهر بأن كل منهما يسير في طريق مختلف عن البقية. نكاد نلمح لديهما تأثرًا بـ فايبا وتجربة الدبو من خلال الأسلوب اللعبي، واختيار بارات محشوة بتطريز كلامي طريف من وحي عامية الضواحي بتونس، لما فيها من استنباط مستمر لتقليعات لغوية جديدة.
أي أي أي هي صنيعة الحرب التي اشتعلت بين ماد وحاري. أظهر ماد تنوعًا مذهلًا ليسطر انتقالات عديدة في بنية الأغنية وطبقات الصوت تشد الأذن من أول استماع. لا يبدو ماد متوثبًا أو في حالة استنفار، بقدر ما هو هادئ ويدير تدفق باراته في راحة مربكة، وهو ما حاول ترجمته بصريًا في الفيديو الذي كان مصقولًا بعناية مع تركيز لألوان محمضة.
ماد يؤكد لنا أن الراب المغربي بات في مستوًى آخر، وله من التنوع والثراء والإنتاج ما يمكنه أن يزاحم العالمية مع أسماء مثل ماد وحليوة وتوتو وتاني وحاري وإنكونو وشايفين وآخرين.
تشا را هي أقوى التعاونات بين الرابرز في المنطقة، وتظهر فيها ترسانة من الأساليب القوية في أوج نضجها مع تشكيلة عصاباتية هادرة جمعت بين شايفين ووِنزة وتوتو وماد ووِست. حققت الأغنية انتشارًا مذهلًا بفضل لازمتها الخفيفة، التي تتصعد فيها الحماسة من خلال المراوحة بين ترديدها بشكل فردي وجماعي، مع إيقاعات مسايرة لجرعات الأدرينالين التي ضخها الشباب من خلال تناوبهم على الأداء.
كيبقاو فيا هي باكورة إنتاج كل من حليوة وإنكونو لسنة ٢٠١٨. اللحن مقتبس عن أغنية تو كاي للثنائي الأمريكي شايك ومايك، مع إضافة عينات صوتية في الخلفية. حققت الأغنية نجاحًا جماهيريًا على يوتيوب، إذ ساهمت التقاطعات الأدائية القوية بين الاثنين في تعزيز السماع المستمر لها.
كانت سنة ٢٠١٨ واعدة جدًا لـ إنكونو، الذي استمر فيها بالإقلاع نحو مراحل متقدمة في مسيرته التي بدأت منذ سنة. حافظ إنكونو على معدل مشاهدات مرتفع لأغانية على قناته على يوتيوب. في أرجاين، وهي العينة الخامسة من تسجيله القصير أليان، يشير الرابر إلى شجرة الأركان المغربية النادرة، متحدثًا عن أسلوبه المتفرد. يعتمد إنكونو على الأوتوتيون بشكل جلي، مع توظيف ذكي للعينات الصوتية التي تظهر في الخلفية كزخارف مرافقة للأداء، مراوحًا بين مستويات عدة من التدفق، ما جعل الأغنية عصية على الملل ومحفزة لتكرار السماع.