يا ليتني في باب صنعا | موسيقى الشرق في إسرائيل

مقالات - كتابة: عروبة أيوب عثمان - ٢٠١٧/١٠/١١
يا ليتني في باب صنعا | موسيقى الشرق في إسرائيل
تحميل...

عادةً ما تعبّر الموسيقى عن مكنون إثني وثقافي بعينه، بل إنّها لطالما اعتبرت ساحةً للتفريغ الإثني وشرعنته من واقع الصدام مع ثقافات أخرى في مجتمعات ذات فسيفساء اجتماعية وإثنية متنوّعة. ترك ذاك المصطلح أثرًا تقييديًا في سياق الهوّية الإسرائيلية، لأنه ينزع السمة السياسية عن الإثنية، وكأنه يصبح معادلًا موضوعيًا للقبيلة؛ أي أنّ اليهود الشرقيين يستحيلون مجرّد خلفية فلكلورية أو متحفية، لا يحقّ لهم التعبير عن موقف سياسي أو تنظيم حراك سياسي، مع عدم الاعتراف من جهة السلطة السائدة آنذاك بأن هذه الإثنية هي صنيعة أيديولوجيا سياسية وقومية في نهاية المطاف.

كانت الصهيونية قد نفت طور حياة اليهود غير الطبيعي في الجيتو، وطبّعت النمط الحياتي لليهودي الجديد، حتى من مدخل الرمز والنشيد القومي. تلك “العبرنة” كانت محفوفة بتهجينات مختلفة من الهوية الإسرائيلية، كان أبرزها ما يطلق عليها موطي ريغيف “الإسرائيلية المعولمة”، التي رافعتها السمة الأشكنازية مع انعكاسات من الثقافة المعولمة الغربية. أمّا “الإسرائيلية الشرقية”، فجُبلت في “إسرائيل” على النمط الذي ينازع وجوده الهجيني والبيني بين مفهومي الشرق والغرب، الغرائبية والأصالة، فعلًا ورمزًا. نزع السمة السياسة عن الإثنية، وتذريرها إلى طائفة.

لذلك، كان على الموسيقى الشرقية أن تشقّ طريقها من الأسفل إلى الأعلى كي تصبح معروفة، على عكس أنواع الموسيقى الأخرى التي حققت شعبيتها عبر وسائل الإعلام. اعتبرت الموسيقى الشرقية تهديدًا لطموحهم، فخوّلت الثقافة المهيمنة نفسها لتشذيب وتهذيب الشرقيين كي يحدثوا قطعًا مع ماضيهم وتراثهم وذكرياتهم بلا رجعة. لذلك، اعتبرت موسيقى الكاسيت محاكاة زائفة وهشّة للروك، وأحيانًا تهديداً له، ولم تُعَدّ ظاهرة ثقافية إسرائيلية أصليّة، علمًا أن تلك الموسيقى ازدهرت مع اختراع الكاسيت للتسجيل من قبل شركة فيليبس، وشبكة توزيع الكاسيت التجارية في محطة قطار تل أبيب، وهو ما سمح للسكان المزراحيين بتأليف وتوزيع الموسيقى الخاصة بهم داخل مجتمعاتهم، تحديدًا في الأعراس وحفلاتهم الشعبية.

لكن الصورة بدأت تتبدّل في النصف الثاني من الثمانينيات، لتشهد ردّتها العنيفة في عقد التسعينيات، بعدما أيقن البعض أن النمط الشرقي الخالص مرادف للاغتراب عن الثقافة المهيمنة، وستظلّ الأغنية المزراحية بفعله على الهامش وفي الذيل. لذلك، وقفت على منتصف المسافة بين النمطين المزراحي والإسرائيلي، وكأنّ هنا ثمّة اعترافًا مضمرًا بأنّ كليهما لا يستويان مع بعضهما تمامًا، لكن هذا الانفلات من عقال الهوّية الشرقية تدريجيًا فرّغ عنوان الموسيقى الشرقية من معناه. فماذا يعني أن أجعل من موسيقاي مرآة للثقافة الإسرائيلية الأشكنازية، وأرمي تدريجًا مقابلها نواة موسيقاي الشرقية، وأظلّ أتمسّك بذاك المفهوم؟ يمكننا ملاحظة ذلك في فرقتي تي پاكس، وإثنيك.

قد لا يكون الأمر كذلك تمامًا، إذ جاء القبوع على التماس كردّ فعل على نظرة الثقافة الإسرائيلية المهيمنة لتلك الثقافة على أنها مجرّد تلوث سمعي وبصري. لكن، ورغم بدء التصالح مع هكذا موسيقى؛ إلّا أنّ بثّها على الإذاعة كان متصالحًا مع زاوية خاصة وصورة احتكارية عن ذاك الجيتو الشرقي وتجسيداته المنفوّية:

يا ليتني في باب صنعا داخلي

واشل محبوبي يسلي خاطري

والله القسم هالنجمة ما تنفعك

وما ينفعوك أهلك

ولا دولة تقوم في حجتك

وارجم بروحي فوق روحك

حتى على الله ما نعدمك

ومن أغاني الغربة والحنين إلى الوطن، التي لم تستطع الثقافة الإسرائيلية إلى الآن إلغاءها من وعي يهود اليمن، هذه الأغنية:

يا ريتني طيروا

وأهلي للباب وا

يا طير سارح سلم على الأهل

أمّا في الخمسينات، فكتمت البرمجة الإذاعية الإسرائيلية صدى الموسيقى الشرقية، أو كان يتم استحضاره حصرًا في برامج الفلكلور الإسرائيلية الإذاعية، لكن كان جو عمّار المغني المغاربي الأكثر شهرة في ذاك الوقت في أغانيه، مثل سلامٌ لابن عمي، وأغنية السُكْر، وليالي الصيف. مع ذلك بقيت هذه الأغاني في اتجاه واحد؛ مرسل ومتلقٍ من نفس الطائفة الشرقية، ولم يكن قد تمّ بعد أيّ اختراق حقيقي لهذه الثقافة الموسيقية إلا على يد اليوناني أريز سان الذي جلب معه موسيقى الريبتكو واللايكو (نسخة منقحة عن الريبتكو)، وغيرها من الألحان الشرقيّة. يرجع ذلك إلى أن “علاقات سان ونفوذه المتنامي في الأوساط الفنية أيضًا سمحت له باتخاذ خطوة أكثر جرأةً وأهمية، وهي إدخال ألحان وإيقاعات شرقية صريحة في مقطوعاته وأغانيه، بل والوصول بها إلى أجهزة الإعلام الرسمية والتلفاز والإذاعة وشركات الإنتاج واسعة الانتشار. بعيدًا عن لغز حياة وموت سان، ما هو مؤكد هو كونه قد “لعب دورًا جوهريًا، دون قصد غالبًا، في ولوج موسيقى اليهود من أصول شرقية إلى الحيز الإسرائيلي العام. يبدو أن جاهزية سان الاستثنائية للعب ذلك الدور ترجع لكونه ليس يهوديًا، وبالأخص ليس شرقيًا. بالطبع كانت هناك عوامل سياسية واجتماعية أكبر وأعم. استقرار المشروع الصهيوني وتوسّعه خاصة بعد النكسة، ولاحقًا باتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية، ثم مسارات السلام مع الفلسطينيين، منح النخب الإسرائيلية شعورًا بالأمان، لطّف من حساسيتها الأيديولوجية تجاه التأثيرات الشرقية، وعزز من ثقتها في قدرتها على احتواء موسيقى وثقافة التشريق. عبر إذابتها ثم تسليعها وترويجها، بدلًا من منعها ومحاصرتها كما في السابق.”

إن مصطلح موسيقى المتوسط الذي تم صكّه لهذه الموسيقى المنبوذة، من أجل تخفيف وطأة نسبتها إلى الشرق، فيه من الواقع بقدر ما فيه من المجاز. هو مجاز عن الإدراك المتنقّل للذات، تدمير الهوّيات الحادّة، وتحدٍ لسلسة الرموز الصارمة. لكن هذا الغموض في المصطلحات، والتحفّظ، والإعاقة تعكس برمتها عنصر الإزاحة للحدود نفسها، فاللغة في الحقيقة ليست جاهزة بعد لهكذا تغييرات اجتماعية.

المعبروت في وجه المدينة

اعترت ازدواجية فجّة الموسيقى المزراحية بحدّ ذاتها، فهي من جهة كانت تنازع على شرعية هوّيتها الخاصة بين النحن والهُم، ومن جهة أخرى كانت تحاول الانعتاق نحو حلم النظر إليها على أنّها موسيقى إسرائيلية. بذلك، يرى ريجيف أنها كثيرًا ما استحالت غربية، لكنها كانت مكسوَة برموز وألوان عرقية، إذ كانت تقع شرقيّتها على الحياد.. لا يمكن إغفال أن المعبروت خلقت طبقة إثنية متجانسة، منغلقة على ذاتها، إذ إن استيعاب اليهود الشرقيين فيها خلق فيما بينهم صيغة موسيقية مشتركة ترجع إلى جذورهم، وتتشارك الهمّ ذاته. وضعت هذه المسألة الحجر الأساس للائتلاف بين الجمال والسياسة، على اعتبار أن ما سُميت بسياسة الجمال لموسيقى شرق المتوسط نابعة من حقيقة أن النقد والمستمعين يمتلكون نطاقًا مختلفًا لقياس ما الذي يمكن أن يجعل شيئًا ما صنافية بعينها. تكوّنت التجربة الصهيونية في الشرق من أضداد في وقت واحد: ماهية وعدمها، ركود وتدفق دائم، أبهة قديمة وكينونة تافهة وعابرة، هوية واضحة وفوضى شاملة.

كانت المحاكاة اليهودية لثقافة البادية نوعًا من ترميم الروح، وكنقيض للحياة اليهودية في الدياسبورا، على اعتبار أن البادية هي الروح الشرقية الآخروية الخالصة، والصورة الجذرية التي لا تنطفئ مع الزمن، بل اغتسالًا للذات من شوائب المنفى. كانت محاكاة هشّة وزائفة كوسيلة للتطهير، لطمأنة الذات الصهيونية إلى أصالتها. ما يدلّل على ذلك هو أن “إسرائيل” بعثت بمن ترى فيه مشروع مُستعرِب إلى الصحراء، بهدف تحويله من عبء يهودي غير منتج في الشتات إلى آخر أكثر اتكالية على ذاته، على اعتبار أنه سيكون للبادية وما تحمله من ثقافة الشقاء والنحت في الصخر أثر إيجابي على تقويم سلوك ذاك اليهودي الآتي من الخارج، وفي حوزته مشروع مستعرب.

نرى كثيرًا من ذلك في كليب أغنية إنت عمري لأم كلثوم، التي أعادت اليهودية المغربية، زهافا بن، غناءها. تجلس بن في خيمتها في البادية العربية، مرتديةً لباسًا بدويًا تقليديًا من رأسها حتى أخمص قدميها، وتغنّي “رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا.” في الأغنية خلفية بصرية نسائية سوريالية نوعًا ما، إذ تعزف جوقة من النساء على الجيتار، وهي ترتدي الخمار، وتؤدّي واحدة منهن حركات راقصة فوضوية. في الخلفية أيضًا جِمال وأراضٍ شاسعة ورجال يعتمر بعضهم الكوفية الفلسطينية، وآخرون يرتدون اللباس البدوي المتعارف عليه. تتبادل بن من تحت القناع (البرقع) نظرات الحبّ مع شاب بدويّ، وحين يهمّ بالكشف عن وجهها وتقبيلها، يراه كلّ من شقيق بن ووالدها الذي سرعان ما يحمل السلاح ويقتله.

اللافت في هذه الأغنية أنّ بن استنسخت المفهوم الصهيوني للاستشراق، والذي لطالما كسر القلب الشرقي نفسه، ليدل ذلك على أن الثنائية بين العربي واليهودي رجعت لتحمل توقيع اليهودي الشرقي نفسه. ذهبت بن إلى أسوأ صورة يمكن إسقاطها على الشرق، واحتكار الأخير كمنبع للعصبية القبلية والتخلّف والقتل. صورة تتماهى تمامًا مع بعض من أفلام هوليوود الاستشراقية، الرجل الذي لا يزال يمتطي جملًا في القرن الواحد والعشرين، العالق في طبقات الماضي البعيدة والكثّة. ما فعلته بن هو أن شرقنت وعرقنت نفسها ضمن ذات النظرية المعرفيّة الكولونيالية. لا يمكن أن نعتبر الكليب مذهبًا رومنطيقيًا أو نوستالجيًا بالحنين إلى الماضي العربي، كون الحنين دومًا ما يشترط استلهامًا إيجابيًا من الماضي.

أطلقت بن التي لُقبت بـ أم كلثوم إسرائيل ألبومًا يحمل عنوان زهافا بن تغني بالعربي عام ١٩٩٦، والذي ضمّ أغانٍ لفيروز وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ووردة ووديع الصافي وفريد الأطرش وعمرو دياب ونجوى كرم، وصُوّر على أنه يهدف لتجسير المسافة بين “إسرائيل” والشرق الأوسط تحديدًا في فترة التسوية في التسعينيات. تعبّر الباحثة لورا لوهمان

عبرت إيرينا الروسية الإسرائيلية في مسلسل البرلمان إلى الفريخة، إذ إن لكنتها الروسية القويّة كانت تخترقه تعابير وكلمات عربية. باتت الفريخة بذلك نموذجًا يحمل كمًا لا بأس به من التندّر على الشاشات الإسرائيلية، بل تحوّلت إلى مشكّل هوياتي. أيضًا، كون الاسم يخوّل غير المزراحيين إلى التصنيف الحتمي نحو الفريخة، جنح كثير من اليهوديات الشرقيات إلى تغيير أسمائهن وتمويهها لإزاحة تلك الوصمة من حياتهن. أن يصنف المرء فريحة يعني ذلك الانفتاح على صور نمطية من العجز عن الفهم أو لفظ الكلمات السامية. تعيش الشرقية بذلك في اختبار مستمر لهويتها الإسرائيلية، إذ إنّ الاختلاف في لفظ كلمات OOGA، أو لفظ اسم لايمور بدلًا من ليمور من شأنه أن يكشف هوّيتها الحقيقية. هكذا، تستحيل اللغة مجالًا خصبًا للتصنيف واختراع الهوّيات، بل وتصبح الشرقية ذاتها منفصمة مع ذاتها. لكن حينما تفضحها لغتها، رغم كلّ محاولات الطمس والتستّر، تبدأ فورًا بالرجوع إلى قواعدها وتخلع القناع.

تعاملت المغنية اليهودية اليمنية عوفرا حازا مع المسألة بطريقة مختلفة، إذ أعلنت بكلّ فخر في أغنية الفريخة أنّها فريخة، وأنّ ثمّة مكانًا لها، لكن ليس لديها جَلَد على التفوّه بالكلمات الطويلة: “أينما ستأخذني الأضواء / سأكون هناك بطلاء الأظافر وأحمر الشفاه / حينما يكون بجعبتي وقت لكي أكبر/ ستنتهي الحفلة / لأن في نهاية كل فريخة ثمّة عمارة سكنية، زوج نموذجي، وآلاف الاتجاهات من الدخان.” بين هذين المقطعين، يتضح التيه في شخصية الفريخة، بين نموذج متحرّر مفعم بالحياة يحاول نسيان ماضيه، وبين العودة إلى الرتابة والركود مع شخصية تقليدية للفريحة، لكنّها في المحصلة بين البينين وتصارع على الجبهتين. يجدر الإشارة هنا إلى أن حازا تحوّلت إلى ملكة البوب في “إسرائيل”، وابتعدت كثيرًا عن قوالب الإيقاعات الشرقية، بل ونالت مكانًا عالميًا، إذ غنّت كثيرًا من الأغاني باللغة الإنجليزية والفرنسية مثل Im Nin Alu وYou وGive me asign، لكنها في الوقت ذاته حافظت على مستوى الصورة الكليب على النمط الفلكلوري الشرقي في طلّتها.

تقول شوشانا جباي، تعليقًا على هذه الأغنية: “عندما نبحر، نحن اليهود الشرقيون، في الشبشب داخل قصيدة آسي ديان، نبتهج باستبطان الصورة السلبية التي لصقوها بنا في إسرائيل – بما يعني أننا نصنع إعادة تعيين لذواتنا – “reclaiming”- ونتحمس للاهتمام الإعلامي بنا، فمن المفيد أن نتذكر أن هذا الفعل هو جله عبارة عن استسلام لصورة أبناء الآلهة التي يريد الأشكنازيون احتكارها لأنفسهم. استسلام وخواء أيضًا، لأنه لم يتبقَ بنا أي شيء بخلاف نظرتهم إلينا. إعادة التعيين هذه في صيغتها الشرقية الحالية ليست خطوة واثقة بنفسها أبدًا، وإنما خطوة مهزومة وبائسة تدافع عن نفسها.”

الموسيقى المزراحية بين التديّن والعلمانية

وفّرت الديانة حيزًا مريحًا لليهود العرب يلجون منها إلى عالم الثقافة والسياسة الإسرائيليتين، وكان ذلك واضحًا من خلال النجاح المدّوي الذي حققه حزب شاس الذي يمثّل اليهود الشرقيين حصرًا. كانت جميع الأبواب مغلقة بوجوههم، إلا وجه الكنيس كان مفتوحًا على مصراعيه. على المستوى النظري، سعت الصهيونية إلى إسباغ السمة الدينية على اليهود العرب، قبل وصولهم إلى “إسرائيل” واللقاء معهم في عبدان بما يمثّله من حيّز ثالث، لكنّ الصورة تبدّلت بعد أن حطّوا رحالهم في “إسرائيل”، إذ سعت إلى اقتلاع أيّ روح دينية واستقامة قبلية وعبق شرقي يكتنفهم مقابل علمنتهم، كون الصهيونية لم تستحِل أوروبية إلا بعد أن حمل اليهود حقائبهم وغادروا أوروبا. هذا يعني أن القومية الحديثة تتحوّل إلى الديانة لكي تؤسس نفسها، وتنكر أساسها الديني في الوقت ذاته وتتخيّل نفسها علمانية وحديثة؛ مرد ذلك إلى أنه لا يمكن النظر إلى الديانة والقومية إلّا في سلة واحدة، خصوصًا أن كلتيهما مارستا التهجين والتطهير.

أصبح كثيرون من مغني الموسيقى المزراحية يهودًا أرثوذكسًا. لم يستطع أحد أن ينجح في صوغ توليفة تجمع بين التعبير السياسي والديني إلّا حزب شاس، إلى درجة أن الحزب حوّل بعضًا من الأغاني المزراحية ذات النص المقدّس إلى أغانٍ علمانية لاستقطاب الشباب الشرقي، إذ كان أيضًا ثمّة حاجة أخرى لاستبدال الحاجة الروحية الدينية في بعض الأغاني إلى حبّ دنيوي أرضي.

الجيل الجديد

يمكننا القول إنّ هناك خلقًا لليهودي العربي الجديد عبر الموسيقى العربية؛ جيل شرقي جديد يصنع هوّية من لا شيء، جيل استفاق على ثقافة إسرائيلية، ولم يعِ أبدًا لغته العربية الأم، بل ينطقها بركاكة واضحة. بيد أن الرجوع إلى تلك اللغة في الغناء يمكن اعتباره تعبيرًا سياسيًا وبحثًا دؤوبًا عن الهوّية الأصلية. بمعنى بعدما حوّلتهم “الدولة” إلى مسخ، وحاولوا الذوبان في الهوّية الإسرائيلية لنزع الاعتراف بهم، حلّ الوقت مع “صعود إسرائيل الثالثة” ونهاية “الأحوساليم” تقريبًا إلى التعبير الصارم عن فكرة الاغتراب مع الماضي الصهيوني، بل وهدم الحدود الهشّة لطور الانتقال من الشرق إلى الغرب. يمكن وصف ذلك بعملية ثأر تاريخي من النخب الأشكنازية القديمة، دون أن يعني ذلك بتاتًا تبني الشرقيين موقفًا مختلفًا من الفلسطينيين عن نظرائهم الأشكناز، بل إن أول ما تفعله هذه “الضحية” الشرقية هو غسل نفسها من تلك العقدة وترسباتها، لتتقمّص دور “جلادها” التاريخي وتعيد تدوير العنف ضد الفلسطيني على نحو أكثر تطرفًا في نهاية المطاف، وهو ما يمكن تفسيره بمحاولة إعادة الاعتبار لذاتها وإثبات قدرتها على التحكّم بمصير غيرها.

يوجد كثير من الفرق الشبابية لليهود الشرقيين التي لا زالت تحتفظ بموسيقاها الشرقية، لكن مع كلماتٍ عبرية، مثل فرقة The Libyans الليبيون، والتي تتألف من موسيقيين يهود هاجروا من ليبيا إلى “إسرائيل”. بموازاة ذلك، تعتبر يمن بلوز بقيادة رافيد كحلاني، وفرقة AWA من أهم الفرق اليهودية اليمنية المفعمة بالنبض الشبابي، وتغنّي باللغة العربية – واللهجة اليمنية تحديدًا. الفرقة الأخيرة هي فرقة مكوّنة من ثلاث شقيقات يمينيات أطلقن قبل حوالي عامين ألبومًا من الذخيرة الفلكلورية اليمنية يحمل عنوان حبيب قلبي، والتي تحكي كلماته: “حبيب قلبي ويا عيني/ عجب من عيّبك مني/ حبيب القلب أعياني/ سنة وشهرين وما جاني/ يا ناس رحله وشجاني/ لمن أبكي ويرحمني، منو منكم يساعدني.” يجمع الكليب الذي حقق انتشارًا واسعًا في الأوساط الإسرائيلية، وحقق حوالي تسعة ملايين مشاهدة على اليوتيوب، بين عالمين مختلفين في صورة بصرية حداثوية وملهمة في آن، لباس تقليدي يمني مع رقص شبابي معاصر، امرأة تقليدية تدخّن النرجلية ومن حولها شبان يرقصون؛ فتيات ثلاث يمارسن طقوس البيت المعتادة، وإحداهن تمارس طقوس الحزن إثر الفقدان للحبيب، فيما يسارعن بعد ذلك إلى ارتداء لباس حديث ومشاركة الشبان الرقص. نحن هنا أمام صورتين بترميزات ثقافية واجتماعية مختلفة. شعور الشقيقات الثلاث أنهنّ جزء من قبيلة، من شيء قديم ومثير، دفعهن إلى الغناء باللهجة اليمنية في قالب إيقاعي حديث.

لو وضعنا هذه الأغنية ولجنة بيطون (اللجنة التي عيّنها نفتالي بينت لتعزيز تمثيل ثقافة اليهود الشرقيين وتاريخهم في منهاج التعليم الرسمي) في سياقٍ مشترك، سنجد أن ثمّة تدشينًا لمرحلة جديدة من إعادة تعريف الهوّية الإسرائيلية على عدّة مستويات، ترتبط مع رغبة النخب اليمينية الصهيونية بتكريس موقعها كندّ حقيقي للنخب الأشكنازية القديمة، ما يعزى إلى شراسة سياسات الهوية التي تنزع نحوها النخب الشرقية تحديدًا. حلقة جديدة من الصراع الثقافي والسياسي بين هذه النخب، مادّتها الأساس استقطاب الشرقيين لصالح اليمين واليمين الاستيطاني، فكان العام ٢٠١٥ هو العام الذي وصل فيه ذاك الصراع إلى ذروته بخصوص الهيمنة الثقافية وتعريف من هو الإسرائيلي. حينما فاز حزب الليكود اليميني بالحكم، وعدت وزير الثقافة المغربية، ميري ريجيف، بزيادة نسبة تمثيل الثقافة الشرقية في وسائل الإعلام الاجتماعية الإسرائيلية.

عمومًا، تنعكس الثقافة الشعبية في أي مُجتمع، من بين وسائط عديدة، من خلال المُحتوى الذي يعرضه التلفزيون الخاص بالمُجتمع، إذ استُبدلت الهيمنة المعروفة لشخصية الأشكنازيّ الأسطوري، الشمالي، أبيض البشرة، من الكيبوتس أو من شمال تل أبيب، ببرامج كثيرة تحمل شخصية الإسرائيلي الشرقي القادم من أطراف البلاد، أو بشخصية تحمل “صفات شرقية” والتي أصبحت أكثر شيوعًا ومحبوبة ومطلوبة جدًا. كما وعدت ريجيف بخلق حيز مساوٍ بين الثقافة الشرقية والغربية، وإدخال برمجة إضافية للموسيقى الشرقية.

يمكننا قراءة كل ذلك من زاوية أن الرجوع إلى الساحة بأغانٍ شرقية وعربية خالصة ليس إلّا احتجاجًا سياسيًا على الماضي، وعلى اعتبار أن الماضي هو الأبّ الشرعي للحاضر، يظلّ ذاك الاحتجاج قائمًا لا تنطفئ جذوته مع الزمن، طالما أن هناك جوًا صهيونيًا يمينيًا سائدًا يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يضمن أصوات الشرقيين تحت إبطه من مدخل فتّاك مثل سياسات الهوّية، وهو ما يفسّر ربما النجاح الكبير الذي حققته أغنية حبيب قلبي للفرقة النسائية اليمنية، التي حُفرت في ذاكرتها ووعيها ربما مسألة اختفاء أطفال اليمن في عقد الخميسنيات. لكن ورغم بدء سيرورة تعريف الهويّة الإسرائيلية من جديد، وبدء شرقنة (Mizrahization) السوق الثقافي الإسرائيلي- بتعبير موطي ريجيف – إلا أنّ الإزاحة بنظري تبقى إزاحة هوياتية ثقافية ليس إلّا، بعيدًا عن فضائها السياسي الأوسع الذي يمكن أن تشكّل تهديدًا حقيقيًا وفتاكًا لهويّة سياسية وقومية في آن، أو هدمًا لثنائية عربي – يهودي. حتى أن النقاش المندلع بين الشرقيين يجسد صراعًا بين الهوياتيين والطبقيين، فالأمر لا يتعلق بمعارضة شاملة لسياسة الهوية، وإنما بانتقاد الانسحاب من الصراع بهدف تحقيق إصلاحات ثورية إلى سياسة نيوليبرالية انهزامية تُختزل في ألعاب الوعي، والزخارف الخارجية الكهنوتية.

بذلك، نكون أمام ثلاث مراحل مفصلية في تاريخ تحوّلات الأغنية المزراحية؛ أولها الإنكار واعتبارها موسيقى ضحلة، ولا يمكن لها أن تبوح بظاهرة ثقافية إسرائيلية أصيلة؛ وثانيها التوجّه نحو الذوبان التدريجي في ثقافة البوب والروك الإسرائيلية، لدرجة افتقاد الأغنية لعبقها الشرقي ورمزيتها في التمثيل، وثالثها العودة العنيفة إلى الغناء باللغة العربية كنوع من محاورة الحاضر والاغتراب عن ندوب الماضي التي خلّفها قمع النخبة الأشكنازية القديمة للهوية الشرقية، في ظلّ مكتسبات سياسية تصل بـسياسات الهويّة إلى ذروتها، مع التأكيد على أن الانتماء إلى الثقافة العربية من خلال الأغاني ليس إلّا وجهًا ثقافيًا بحتًا، دون أن يتعارض ذلك أبدًا مع الصهيونية، فمن الممكن أن يكون المرء يمينيًا صهيونيًا للغاية كاره للقومية العربية، لكنه غير مستعد للتنازل عن اختراق صوت أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب لأذنيه!

لا أجد أفضل من أن أختتم ورقتي بهذا الاقتباس: “الثقافة العربية واللغة العربية والمثابرة على فعل ذلك أجبر العرب اليهود على اعتماد العبرية، الأمر الذي انعكس بأشكال عدة على حياتي. في عالمٍ يعاني رهاب الأجانب يصبح الطريق إلى تحقيق الذات عاطفيًا وزاخرًا بالصعاب. لم أعانِ في حياتي من مشكلة الهوية فقط، بل واجهت مشاكل الولاء، فأصبحت أعيش لأجل نفسي، ومنيعًا في وجه الخوف الذي يزرعه المحيط في ذاتي . على الرغم من أنني معلقٌ بين عالمين عدائيين، لا يزال لدي الدافع لكي أقنع الآخرين عندما يقومون بتصنيفي، أو عندما أتحول ضحيةً للمفاهيم الخاطئة. بعد أكثر من عشرين سنة على مشاهدتي علاء الدين، يبدو أنه لم يتغير أي شيء، لكنني لا أزال غير منتمٍ إلى مجموعة، ولا يزال البعض يتحدث عن الشرق الأوسط من دون محاولة فهم تلك المنطقة. ينظر إليّ العديد على أنني غريب ويظهرون لي آراءهم المبنية مسبقًا، وينظرون إلى إعجابي بالعالم العربي والشرق الأوسط كتجاوزٍ للخط الأحمر، بينما أعدّه أنا غنى.”

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف