الموسيقى بين التدجين والتوثين

مقالات - كتابة: كريم الصياد - ٢٠١٧/٠٧/٢٦
الموسيقى بين التدجين والتوثين
تحميل...

من التحريم إلى اللاهوت الموسيقي

أولاً | الموسيقى كالساحة الثالثة للتحريم

تحدثنا في مقالات سابقة، كـ لاهوت السيمفونية التاسعة وزمن الموسيقى ومكانها والتأويل الموسيقيّ للعالَم، عن جوانب متعلقة باللاهوت الموسيقيّ، وبالذات في المقال الأخير، مثل التشابه بين كينونة الموسيقى وكينونة الإله بحسب تصوراتنا عنه، وعلاقة النظام الكوني بالنظام الموسيقي الرياضي، وإيحاء النظام في الموسيقى بنظام في الطبيعة، وعلاقة الموسيقى الصوفية بمفهوم الفناء الصوفي، وعلاقة الإيمان بنمط الحركة في الموسيقى، وغيرها. لكن التوسّع في هذا الموضوع يتطلب إحاطة مبدئية بالعلاقة بين الموسيقى والدين والفلسفة؛ حيث أن اللاهوت الموسيقي هو أحد مراحل تطور هذه العلاقة.

يمكن القول إن الموسيقى كانت ولم تزل في بعض المجتمعات هي الساحة الثالثة في الأهمية للصدام بين الدين من جهة، وعناصر النشاط النظري الأخرى العلمانية أي الفلسفة والعلم والفن من جهة أخرى، إذا اتفقنا أن هذه الأربعة بما يشمل الدين هي الأنشطة النظرية البشرية الأساسية. وبالطبع كان الصدام مع الفلسفة هو الأقدم، نظرًا لحداثة كل من الموسيقى والعلم الطبيعي مقارنةً بالفلسفة. وإذا كان من المستحيل تقريبًا تحديد متى ظهرت الموسيقى للمرة الأولى في التاريخ بالضبط، فهي على الأرجح أحدث من الفلسفة بمعناها الواسع؛ لأن الفلسفة دراسة وبلورة للتصورات، والتصورات تسبق التطبيقات، والفنون تطبيقات للتصورات. أما العلم بالمعنى الدقيق فمن المعروف أنه تطور في مرحلة متأخرة من التاريخ البشري.

من الطبيعي أن يفوق صدام الدين مع الفلسفة صدامه مع كل من العلم والموسيقى في الأهمية؛ لأن تنظير الفلسفة يمتد إلى كل مناحي الحياة، وبالتالي كان صراع الدين والفلسفة صراعًا بين إرادات تريد كل منها فرض نظام معين على المجتمع. أما صدام الدين والعلم، رغم أنه تلا صدام الدين والموسيقى تاريخيًا كما سبق أعلاه، فإنه أكثر أهمية من الصدام مع الموسيقى؛ لما للعلم من أهمية تقنية في القرون الثلاثة الأخيرة بالذات.

بدأتْ الرحلة الوعرة للموسيقى والدين منذ بكارة النغم؛ فحتى لفظ موسيقى نفسه، الذي نستعمله منذ عصر الترجمة في القرن الثالث الهجري إلى اليوم معرّبًا عن الإغريقية μουσική، ذو نشأة دينية فيلولوجيًا؛ ويعني فن المُوسَاتوهنّ ربّات إغريقيات. تواترت الأساطير قبل عهد هوميروس بين القرنين الثامن والسابع ق.م عن كون أورفيوس نفسه ذا نَسَب إلهي. وبالرغم من صعوبة التحديد التاريخي الدقيق لظهور الموسيقى، فقد تكون أحدث الفنون الأساسية: الأدب والفن التشكيلي والفن الديناميكي، وهي التي تتكون منها بقية الفنون المركبة كالسينما والمسرح والأوبرا، إلخ، حيث أن الموسيقى هي الفن الوحيد بين هذه الفنون الأساسية الذي لا يتوافر في الطبيعة، بل هو مشروط بنشاط الإنسان؛ وقد أوضحنا هذه النقطة باستفاضة في مقال التأويل الموسيقي للعالَم، ومختصرها أن الأدب مثلاً يوجد في كلامنا اليومي، وكثيرًا مما ننطقه بعفوية موزون وربما مقفّىً، إن الجملة السابقة مثلاً وكثيرًا مما ننطقهالمكتوبة هنا بعفوية موزونة على البحر المتدارَك. كذلك الفن التشكيلي متوافر في الطبيعة كمشاهد الشروق والغروب والبحر والغابات إلخ، كما أن الفن الديناميكي ملحوظ في نظام أسراب الطيور وحركتها أو رقص أوراق الشجر الجماعي مع الريح مثلاً. لكن الموسيقى فن اصطناعي في أغلبه، غير طبيعي، يلزمه أن يتدخل الإنسان أولاً بوعي، وما نلحظه مما له علاقة بالموسيقى في الطبيعة هو مجرد أصوات عشوائية، قد تترابط في أشباه جمل لحنية أبسط من أن نطلق عليها ألحانًا، والفارق الكمّي واضح في هذا الوجه بين الموسيقى وغيرها من الفنون الأولية.

وقد كان ديمقريطس من فلاسفة ما قبل سقراط يرى أن الموسيقى أحدث الفنون الأساسية عهدًا وأكثرها بالتالي شبابًا، وأنها نشأت عن الرفاهية لا الحاجة، خلاف أغلب الفنون الأخرى الأساسية. وفي فداحة هذا الضياع من الأصعب أن نكوّن تصورات ملتئمة بصدد موقف الفلسفة والدين من الموسيقى بالذات إذا قررنا الاكتفاء بالوثائق المتبقية. لذلك لا مناص عادةً من اللجوء إلى أنساق بديلة عن النسق المراد بحثه، ومن ثمّ تكوين صورة عبر القراءات التبادلية بين هذه الأنساق. إن كان حريًا بنا أن نبدأ هذا الاستعراض التاريخي بمصر القديمة طبقًا للتسلسل التاريخي لمراحل التطور، فإن قلة المتوافر من وثائق، وطول فترة الحضارة المصرية القديمة التي قد أدت ربما إلى تنوع الآراء بصدد موضوعنا، يجعلان هذه المهمة عبثية نوعًا، ولا تفيد سوى في طرح مجموعة من الفروض، دون برهنة أو تفنيد.

وسنكتفي من الشرق القديم ببضعة أمثلة، لكنها كانت ولم تزل من المحرّكات الأساسية للعقل والخبرة البشريين، مثل كونفوشيوس، وبوذا، والهندوسية، ثم ننتقل مباشرة إلى الإغريق، حيث حفظ لنا التاريخ قدرًا كبيرًا ومفيدًا بالفعل من تراثهم، وربما من هنا أهميتهم.

١ | كونفوشيوس

يُعتقَد من قبَل بعض الباحثين أن كونفوشيوس بالذات كان ملهمًا لأفلاطون في فكرة الجمهورية الشموليةالتربوية، التي تخلو من أخطاء الماضي وتكون مثالاً للدولة. البعض يعبر عن ذلك باليوتوبيا، التي تحمل معنى من درجات استحالة التحقق، بيد أن كلاً من كونفوشيوس وأفلاطون قد خطّط نموذج مدينته الفاضلة نظريًا على أساس مِن الممكن بالفعل، بقطع النظر عن درجة النجاح عمليًا. من أوجه التشابه بين الاثنين فيما يخص التعليم الموسيقي أن كونفوشيوس قد استبعد مقامات معينة واستبقى أخرى؛ بسبب ميوعة وشهوانية المستبعَد وانضباط و(رجولة) المستبقَى، وطبّق أفلاطون المعايير نفسها بعده. يستبعد كونفوشيوس من المقررات التعليمية موسيقى الدْجَنْج  والسونج  والواي  والتشي باعتبارها مفسدة للخلُق.

وفي مبادئ البوذية الأساسية للرهبنة (التعاليم العَشرة) ينصّ المبدأ السابع أن على الراهب ألاّ يستمع إلى الموسيقى، والتعليل أنه إنْ يفعل فقد يصرف انتباهه عن المعاني المقدّسة، التي تتم تلاوتها موسيقيًا أيضًا، بل قد نُقل الكثير من التعاليم البوذية الأساسية في البداية غنائيًا بشكل رئيسي Ibid, p. 172. وتكشف النصوص الأصلية من Pāli Canon، الكتاب الأقدس عند التيرافادا وأقدم نص (تشريعي) بوذي معروف وموجود إلى الآن، كيف أن بوذا كان يعتبر الرقص والغناء والموسيقى شهوات حسية ينبغي قهرها، يقول النصّ (بترجمة الكاتب عن الترجمة الإنجليزية): “لقد كَفّ عن قطع الثمار والنباتات، وكان يأكل وجبة واحدة في اليوم، ويمتنع عن الأكل بالليل، أو في غير وقت الطعام. لقد حال بين نفسه وبين الرقص والغناء والموسيقى والعُروض الموسيقية غير الملائمة، التي تحاول السيطرة على الثقافة، واستعمال مكوناتها بطريقة نفعية، والتي تنتج لنا في النهاية هذا النوع من الاستمتاع بمسؤوليةبصدد الموسيقى على مستوى المواطنين، وتلك السياسة الموسيقيةالتي وضعها الاتحاد السوفييتي على مستوى الحُكم.

وقد أكّد الفيلسوف الأكبر التالي على دامون في مجال موضوعنا ديمقريطس، صاحب المذهب الذرّي، على هذا الرأي؛ فبرغم أنه كان يرى للموسيقى خواصًا مقدّسة، وأن الفنان نبيّ بين الإله والإنسان، وقد يكون كلامه هنا مجازيًا، فقد مال على أي حال إلى ضرورة توجيه التعليم الموسيقي لخدمة أغراض المجتمع. لكن المعيار النهائي الذي يحسم الأمور لديه هو معيار المنفعة العملية؛ فمهما كانت قيمة الفن في ذاته، تظل قيمته بالنسبة لنا معتمدة على طبيعة تأثيره على المجتمع، في نزعة نقدية واقعية، لم تكن في حد ذاتها جديدة على العالَم والتاريخ، فقد تبيّنّاها عند كونفوشيوس من قبل، ولكن مع درجات أعلى في التنظير ونطاق أوسع من الشمول، ودرجة أعلى ربما من القطعية. لا يؤسس هذا المعيار النفعيالاجتماعي فقط للنقد الفني، بل كذلك نقد الإنسان إن جاز التعبير، فاستعمال أفلاطون مثال الحديد السابق يدل على نزعة تشييئية، تنظُر إلى الفرد الإنساني باعتباره شيئًا يمكن، وقد ينبغي، التحكم فيه.

ينسب أفلاطون في الجمهورية كذلك رأيًا لدامون، مفاده أنه من الضروري (تحريم) كل أنواع التجديد الموسيقي بمنطق سدّ الذرائع؛ لأن التجديد في فن الموسيقى يؤثر على استقرار المجتمع، مما يعني أنه باب للفساد، قد يؤدي إلى انهيار الدولة. ويعلن أفلاطون اتفاقه تمامًا مع هذا الرأي.

ويبدو أن الحدثين الأهم في حياة أفلاطون: هزيمة أثينا أمام إسبرطة، وإعدام أستاذه سقراط، قد أكسباه منظورًا قاتمًا أبوكاليبتيًا، يرى العالم منحدرًا بسرعة مخيفة إلى مقبرة، يكفر بالكثير من الحقوق والحريات، ويؤمن فقط بضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في نزعةٍ محافِظة، تلفت الانتباه بقدر تشابهها مع النزوع السلفي المتمدد في النصف الثاني من عمر الحضارة الإسلامية منذ القرن الثامن الهجري وحتى اليوم، وهو ما سنعود إليه لاحقًا. هذا المنظور قد أشعره ربما بقرب نهاية الفنون، وبنوع ما من أفول الغرب على حد تعبير شبنجلر، مما جعله أقرب إلى التضحية بالفن في سبيل الاستقرار والأخلاق. وهذا هو الأساس النظري دائمًا لكل نظرية شمولية في الدولة: المجتمع أهم من الفرد، والمصلحة العامة أهم من الحق الفردي. ولكن لا ننسَ أن الحضارة اليونانية فعلاً قد تغيرت تغيرًا هائلاً بعد وفاة أفلاطون بعقود وازدهار الإسكندر الأكبر. لا نستطيع أن نقول إنها انهارت، لكن من المؤكد أن عالم الإسكندر الإمبراطوري العاصف لم يكن على شيء من حلم أفلاطون الهادئ بمدينة محدودة فاضلة ومستقرة.

هكذا يتضح كيف أن الشمولية في الفلسفة أو الدين هي السبب الحقيقي في الحظر الجزئي أو الكلي للموسيقى، بما يشمل آلاتها ومقاماتها وطرق التأليف، بشكل يذكرنا بقوة بنموذج شوستاكوفتش في معاناته مع الحزب الشيوعي بسبب العديد من أعماله، وهو ما سنعود إليه أيضًا في ختام هذا الاستعراض التاريخي.

لم يختلف أرسطو كثيرًا في نظرته للموسيقى عن أفلاطون، فرغم أنه كان أكثر نسقية بوضوح، وأعمق في التنظير للنقد الفني عمومًا، وأقل ضربًا للأمثلة الأسطورية واستعمالاً للأدب كتعبير عن الفلسفة، وبالتالي أكثر علمية ودقة، فلم يكد يتجاوز أطروحات أفلاطون في النظرة الأخلاقية للموسيقى، وهذا في حد ذاته مستغرَب؛ حيث تجاوز أرسطو أطروحات أفلاطون كلها تقريبًا، بعد عشرين سنة من الدراسة تحت إشرافه، لدرجة نقض أسس نظرية المُثُل نفسها.

يؤمن أرسطو بالأثر الأخلاقي للموسيقى، وأن الموسيقى إما فاضلة أو راذلة، ولهذا فقد أكّد على استبعاد أفلاطون للمقامين الأيوني والليدي واستبقاء الدوري والفريجي للأسباب نفسها. ورغم كل هذا فقد كان أرسطو بطبيعة تكوينه أقل شمولية ودوجماطيقية من أفلاطون، وأكثر استيعابًا للتراث الفلسفي السابق، مما يجعل هذا التوافق بينهما بشأن السياسة الموسيقية ظاهريًا إلى حد ما، إذا فهمنا آراء أفلاطون بأنها لم تكن مجرد تأملات نقدية كأرسطو، بل برنامجًا حقيقيًا للدولة.

٦ | مدرسة الإسكندرية الفلسفية

احتوت مدرسة الإسكندرية جزءًا كبيرًا هامًا، إن لم يكن الأهم، من التراث الفلسفي الهللينستي، أي ما بعد أرسطو حتى بداية العصر الوسيط المبكر. وقد لمعت فيها أسماء شهيرة وبالغة التأثير على التراث الإنساني اللاحق، مثل فيلون وكليمنت وأوريجين وأفلوطين وسواهم. كانت هذه مرحلة محورية في تاريخ الموسيقى بالتالي؛ فهي الحقبة التي شهدت أكبر تلاقح ثقافي بين الشرق والغرب في العصور القديمة فيما نعلم، حيث تمددت إمبراطورية الإسكندر بسرعة مذهلة، وربطت العالم القديم بقاراته الثلاث، وقضت على التصور الإغريقي الكلاسيكي للدولة، تصور دولة المدينة كأثينا أو إسبرطة، التي تجمع شعبًا واحدًا بدين واحد وثقافة واحدة، وأحلت محله تصور الإمبراطورية العالمية ذات المصادر العرقية والثقافات والأديان بالغة التنوع، والتي ورثها ووسعها الرومان فيما بعد لقرون عديدة. ولكن هذه الإمبراطورية المتنوعة نفسها قد قضت أيضًا على تصور سابق مباشرة في الموسيقى، يقول بأنها تنحلّ في التجديدات المتطرفة (هذه الأيام) وأن علينا أن نحافظ فيها على التقاليد السابقة (في الماضي الذهبي)؛ فهذا التصور لا يقوم إلا في المكان الواحد، بمعنى أنه تصور تاريخي بين قديم تقليدي وجديد تحديثي، يتطلب ألا يعرض التغير للمكان. ولكن مع التحول الشديد المفاجئ في تصور المكان لدى الإغريق من دولة المدينة إلى العالم ذاته، فقدَتْ فكرة المحافظة مضمونها التاريخي، واكتسبت بُعدًا جغرافيًا بديلاً؛ فلم يعد الإشكال: “هل نسمح بتجديد الجيل الجديد للفن أم لا؟بل صار: “هل نستمدّ عناصرَ موسيقية مجاورة في المكان أم نكتفي بذاتنا؟ وكيف يمكن في هذا العالم أن نكتفي بها؟صحيح أن المحافظة التاريخية والجغرافية كليهما توجّس من التغيير، ولكن الفارق أن الأولى ممكنة نوعًا مقارنة بالثانية؛ حيث لا مناص مهما بلغت الصعوبات، من تسرب عناصر ثقافية أجنبية في ظل إمبراطورية مؤسسة على فكرة العولمة كإمبراطورية الإسكندر. ساهمت هذه الإمبراطورية فعلاً في نقل عناصر ثقافية محورية في تاريخ الغرب اللاحق من الشرق، كالتصوف الأفلوطيني، والفكر اليهودي، والدين المسيحي ذاته، وهو دين شرقي في الأصل.

الملاحظة الأخيرة في هذا الصدد أن استراتيجية الشمولية نفسها قد تغيرت مع تغير مفهوم المكان؛ فلم يعد من الممكن تقديم تصور شمولي محدد وتعميمه على هذه الإمبراطورية بالغة التعقيد. إن التصورات الشمولية التي قدمها كل من كونفوشيوس وأفلاطون مثلاً لا يمكن وضعها أصلاً على مستوى التصوّر، فضلاً عن تطبيقها، إلا في دولة متجانسة مستقرة في تقاليدها كالصين أو محدودة جدًا كدولة مدينة أثينا، أما العالم الإمبراطوري فلا يحكمه إلا دين مُعَولَم متجاوز للقوميات كالمسيحية أو الإسلام في العصور الوسطى، أو أيديولوجيا عالمية متجاوزة لها كذلك مثل الشيوعية في العصر الحديث. لهذا قد يمكن النظر إلى نشأة المسيحية والإسلام في ضوء الاستجابة إلى هذا التغيّر / التحدّي الحضاري المستحدَث.

ربما كان المدخل الأول تاريخيًا لوضع الموسيقى في الفلسفة اليهودية هو فيلون السكندري (ت ٥٠ م). وفي الواقع فإن فيلون كما سنرى هو المعبّر الأساسي بين نماذج هذه الدراسة عن التأويل الموسيقيّ للعالَم، مع فوارق هامة سترد في حينها. كان فيلون متأثرًا في فلسفته الموسيقية بالإغريق، خاصة بالفيثاغوريين وأفلاطون، أكثر من الدين اليهودي نفسه، كما يرى بعض الباحثين. وقد ربط مثل الفيثاغوريين بين تصور العالمين الأرضي والإلهي من جهة وبين الموسيقى من جهة أخرى، باعتبار الموسيقى ذات أصل مقدس بشكل ما، وذلك عن طريق الكثير من التأويلات التبادلية بين الموسيقى وهذين العالمين، بل بين الموسيقى والتوراة كذلك. فمثلاً يتحدث عن قداسة الرقم 7 في كل من التوراة، حيث استراح الرب في اليوم السابع: يوم السبت، وبين النغمات السبعة الأساسية للسلم الموسيقي، ومثلما يعيد فهم الأساس الهارموني للموسيقى طبقًا للشريعة التي نظمت لليهود طعامهم وشرابهم دون إسراف أو فوضى. اغترب الإنسان بحسبه في هذا العالم الدنيوي، لكنه يستطيع التواصل مع الإله عن طريق التصوف العملي والتأمل والزهد، فيسير الإنسان في طريق الفيض معكوسًا، من المخلوق إلى الخالق، حتى يصل إلى الفناء في الذات الإلهية، وهي فكرة الفناء الفكرة العامة للتصوف في كل الحضارات عمومًا. إن الموسيقى عند أفلوطين مِن طرُق الفيض العكسية الموصلة إلى الكائن الأسمَى؛ بناءً على قدرتها على تحقيق حالة تأمليةجمالية صافية.

بناءً عليه فقد وقفت فلسفة أفلوطين في الموسيقى موقفًا وسطًا بين البوذية والهندوسية؛ فهي من جهة تعتبر الموسيقى لذة دنيوية يجب ألا تصرفنا عن المطلَق الديني، لكنها في الوقت نفسه طقس مهم للتأمل وتطهير الذات وتخيّل عالم من العلاقات المجرّدة يشبه العالم السماوي. بينما اختلفت بوضوح عن المنظورات السابقة الأخرى في أنها دينية بشكل ما لا اجتماعية. لهذا لم يحرّم أفلوطين الموسيقى أو يقلل من شأنها، ولكنه أوضح ضرورة التعامل الأخلاقي معها على الطريقة الأفلاطونيةالأرسطية.

يختلف أفلوطين عن الهندوس في أنه اعتقد أن الجَمَال الناتج عن الموسيقى، لا الموسيقى ذاتها، هو طريق الفناء في المطلَق (البراهما عند الهندوس)؛ فبينما اعتقد الهندوس أن الموسيقى كيان كوني مجرّد قائم بذاته كجزء من العالم الإلهي، وقد تشابهت هذه النظرة مع التوثين الفيثاغوري للموسيقى كما رأينا. لا يبلور أفلوطين نظرية إلى هذا الحد من التكامل والمفارقة بصددها كما فعلت الهندوسية، بل يرى أنها أحَد الفنون، حتى إن كانت أرقاها، لكن الفن عمومًا في استهدافه للجمال خطوة على طريق الفناء الصوفي. وهذا يعني أن الموسيقى نفسها ليست طريقًا ولا خطوة، ليست الموسيقى عمومًا، بل الموسيقى (الجميلة) تحديدًا. لهذا اشترط أفلوطين صفاتٍ جمالية بالإضافة إلى الصفات الأخلاقية في الموسيقى المقبولة لديه. وهي الشروط نفسها التي نجدها فعلاً لدى أفلاطون وأرسطو، لكن الفارق يكمن في قدر التركيز الأفلوطيني على الشرط الجمالي، مقابل التركيز الأكبر عند أفلاطون وأرسطو على الشرط الخُلُقي.

يرى أفلوطين أن الجمال في الموسيقى غير أصلي، ككل شيء في العالم المادي، بل هو مستمَدّ من العالم الإلهي. إن الفن بحسبه ليس وليد المادة، بل هو الصورة التي تتخذها المادة بعد عمل الفنان عليها، وهذه الصورة ذات علاقة بمثال الجمال الأعلى، لكنها ليست هو، بل مجرد محاكاة رديئة له. وهكذا فحين يحل الجمال في العالم المحسوس يفقد أغلب صفائه الذي كان يتمتع به مطلَقًا في العالم العلوي. وبالتالي على الموسيقى أن تكون رقيقة رهيفة روحية، وأن تبتعد عن الفجاجة والوحشية والشهوانية كي تكون وعاء مناسبًا لهذا الحَمْل السماوي أن الله قد خلق المزامير، في حديثه عن مزامير داوود، لكي تكون ذات متعة وفائدة في الوقت نفسه؛ فالموسيقى فطرة في كل الكائنات الحية، وليس في الإنسان فحسب؛ فحتى صغار الحيوانات تنام على ألحان الهدهدة كأطفال البشر. عند البشر يستعمل الناس الموسيقى لأغراض عملية كما للمتعة، فالراعي يجمع بها غنمه، والفلاحون يغنون أثناء عملهم، كما يغنّي عاصرو الكروم والبحارة وسط الأمواج، لكن الموسيقى إذا خلبت الألباب صارت ثغرة في القلب، تتسلل منها الشياطين، وهو ما يوضّح توجهه التدجيني. ولا يكاد الموقف من الموسيقى في اليهودية من هذه الزاوية يختلف عنه في المسيحية كما نرى.

٩ | توماس الأكويني

في الجزء II-II (Secunda Secundae)من الخلاصة اللاهوتية، يصل توماس الأكويني، الذي يتقاسم مع أوغسطين المكانة الأسمى في الفلسفة المسيحية بأسرها، إلى أعلى درجات القطع في منع استعمال المعازف في حرم الكنيسة، حتى لغرض الثناء على الله. يرى الأكويني أن الله يجب ألا يحمَد بالموسيقى والغناء؛ حيث يتعارض ذلك مع قداسته. ويعتبر الموسيقى عنصرًا دخيلاً على الطبيعة المقدسة في الترانيم الدينية يجب الخلاص منه، لحفظ صفاء الجوهر القدسي. وحين نحمد الله فعلينا أن نحمده بالقلب لا باللسان أو بأي صورة مادية أو جسمية. ويستشهد في ذلك بمنع جريجوري العظيم للغناء في المذبح. ويقول الأكويني إن الله قد أثني عليه في العهد القديم بالغناء، أما في عهد الكنيسة فلا يجب أن نتشبه باليهود. إن الثناء بالقلب – بحسبه أَولَى من الثناء بالشفتين؛ حيث تعوق الشفتان القلب عن الإخلاص، ويتشتت انتباه المغنّين عن المعنى القدسي لصالح جماليات الأداء وتفاصيل اللحن. وفي النهاية يقتبس نص أوغسطين من الاعترافات الذي سبقت إليه الإشارة لدعم قضيته.

١٠ | الإسلام

قضية تحريم الموسيقى وإجازتها قضية فقهية بالأساس في الإسلام، وقد افترق الفقهاء بين محرم ومحلل، كما اختلفت درجات التحريم: بين تحريم كلّي يصل إلى درجة تحريم صناعة آلات العزف، وتحريم لموسيقى الآلات دون الغناء، الذي يقتصر على استعمال الصوت البشري فقط، وتحريم للموسيقى والغناء في أداء الشعائر والذّكر الديني فقط وإباحتهما فيما سوى ذلك. ومن أمثلة ذلك الجدل الفقهي بين مذاهب تشريعية مختلفة ما يمكن رصده بين ابن حزم (ظاهري) في المُحَلَّى، حيث أجاز الموسيقى ، وابن تيمية (حنبلي) في مجموع الفتاوَى، حيث حرّمها؛ فكل منهما يناقش النصوص في ضوء آليات الاستنباط، أي في سياق علم أصول الفقه، الذي يمثّل الفلسفة التشريعية، أو فلسفة القانون، عند المسلمين، بالمعنى الواسع لمصطلح فلسفة.

تختلف حالة الإسلام عن المسيحية في هذا الصدد في وجهين أساسيين: الأول أن سلطة الفقيه في الإسلام (عدا نطاق ضيق هو نطاق ولاية الفقيه عند الشيعة الإمامية في القرن العشرين الميلادي) غير مركزية ولا جامعة، وبالتالي هي أقل كثيرًا من سلطة البابا جريجوري العظيم مثلاً، نظرًا لتعدد وتنوع مراكز الفتوى الفردية والمؤسسية في العالم الإسلامي عبر تاريخه. وثانيًا: لم تتطرق الفلسفة الإغريقية إلى أصول الإسلام سوى بقدر محدود، في استفادة علماء الكلام من طبيعيات أرسطو مثلاً، وربما اقتصر التأثير الكبير للفلسفة على التصوف الإسلامي، الذي يعد حتى الآن اتجاهًا أقلّويًا إذا ما قِيس بالأكثرية غير الصوفية. وبالتالي لا يشكل التصوف الإسلامي قدرًا مهمًا من أصول الإسلام، فحتى المؤلفات الأصولية، بالذات في أصول الفقه، التي اعتمدت على تصورات صوفية، مثل إثبات العلل للحكيم الترمذي، هي محدودة العدد والتأثير إلى حد كبير.

نتيجة هذين الوجهين من الاختلاف: أن أهمية تلك الآراء المحرِّمة للموسيقى تظل محدودة بمحدودية تأثيرها في إطار من لامركزية الفتوى، ومما يدل على ذلك استمرار تلاوة القرآن المنغّمة على مختلف المقامات حتى اليوم. النتيجة الثانية هي أن أصول الإسلام تخلو من هذه النظريات الميتافيزيقية بصدد الموسيقى، التي نجد أثرها عند آباء الكنيسة بالذات، مثل التوازي بين النظام الموسيقى والنظام العالمي، ذات الأصل الهندوسيالفيثاغوري المحتمَل؛ فلا نجد فقيهًا كابن الصلاح أو ابن حزم وهو يعرض مثل هذه النظريات أو يستلهمها في فتواه أو رأيه. أما مناقشة أبي حامد الغزالي للمسألة باستعمال مصطلحات صوفية تذكرنا بأفلوطين في إحياء علوم الدينكتاب آداب السماع والوجد، حيث أباح الموسيقى والغناء بالفتوى، فهو داخل في مرحلته الصوفية.

رغم هذه الاختلافات لم تتغير وضعية الموسيقى كثيرًا بين الديانات الثلاث الإبراهيمية؛ ففي أغلب الحالات تتعرض الموسيقى لدرجات متفاوتات من المنع والتحريم، وفي كل الحالات تتعرض للتدجين. وقد رأينا أبعد من ذلك أن هذه الوضعية لا تختلف كثيرًا أصلاً بين الديانات الإبراهيمية وبين البوذية، بل لا تختلف عنها في المذاهب الفلسفية الكبرى ككونفوشيوس وأفلاطون وأرسطو.

ويبدو أن شيوع تلك النبرات التحريمية في الإسلام بصدد مختَلف مظاهر الحياة عمومًا قد جاء نتيجةً لمنظور أبوكاليبتي، سبق أن رأيناه عند أفلاطون، يتخوّف من انهيار الإسلام، وبالذات منذ القرن الثامن الهجري، قرن ابن تيمية، حيث هددت الغزوات الصليبية والمغولية (الهوية) الإسلامية في عقر دارها، وهَدمتْ دُوَلها، مما أشعر المسلمين عمومًا بقرب النهاية، وبضرورة (المحافَظَة) التي تجلت في السلفية المستمرة إلى اليوم عند أغلب المسلمين بشكل أو بآخَر. وقد غيّرتْ هذه النظرة التشاؤمية طبيعة فكر المسلمين إلى حد بالغ، يحتاج إلى دراسة مسهبة مستقلة بطبيعة الحال.

١١ | المثالية الألمانية

قفزة طويلة هي من العصر الوسيط حتى المثالية الألمانية، التي تبدأ بدايتها الحقة مع إيمانويل كانط (+ ١٨٠٤)، وبالرغم من ذلك فهي مبررة أيضًا؛ فلا بد أن القارئ عليم بالإطار العام لتحرر الفنون والآداب من سيطرة اللاهوت في عصر النهضة على أيدي أعلامه الكبار، وكيف أن الموسيقى قد تغلبت بالتالي على محاولات تدجينها الدينية. ما واجهه الموسيقار بعد تحولات عصر النهضة من مواقف تتدرج من تحريم عمله، مثل شوستاكوفتش، إلى تقديس شخصه إلى درجة أعلى مكانة من القدّيسين أحيانًا في حضارة علمانية حديثة كالحضارة الأوروبية، مثل المثلث الذهبي: باخ، موتسارت، بيتهوفن، هذه المواقف بتنوع درجاتها ترجع إلى أسباب اجتماعية وفلسفية أساسًا لا دينية؛ فما شنّه مثلاً هرمان هِسّه في مقدمة لعبة الكريات الزجاجية من هجوم على موسيقى بيتهوفن باعتبارها موسيقى حسّية غير روحانية، هو موقف فلسفي لا ديني؛ لأن القداسة لا تقف من ورائه دافِعًا، وما واجهه شوستاكوفتش من رقابة كان موقفًا اجتماعيًاسياسيًافلسفيًا من الحكومة السوفييتية، وما وصل إليه نيتشه وشوبنهور من تمجيد للموسيقى في نبرات شبه أدبية داخل إطار نظري هو موقف فلسفي أيضًا. وذلك بحيث نلحظ انقراض التدجين الديني تقريبًا في الغرب، مع حضور قدر من التدجين الاجتماعي بالذات إبان الحرب الباردة، وما قبلها بعقود مع ازدهار المذاهب الواقعية.

يكاد يكون من المستحيل تقديم تلخيص وافٍ لفلسفات كانط وفشته وشللنج وهيجل.. إلخ في هذا المقام، ولكن يمكن دائمًا التغلب على اتساع نطاق المادة العلمية بتحديد محور رئيسي يتعلق بأساس المسألة موضوع البحث، بحيث يمكن عرض وجهات النظر بصدده، دون الغرق في تفاصيل الأنساق المتشعّبة. وربما كان محور تصنيف الفنون الجميلة هو المحور الممكن لبحث إشكال التدجين والتوثين؛ فعلى أساسه تتضح مكانة الموسيقى بين الفنون الجميلة عند كل من نماذج الدراسة.

وقد مثّل كانط في نقد ملكة الحكم، كتابه الأساسي في فلسفة الفن وعلم الجمال، امتدادًا بشكل ما لوجهة النظر الإغريقيةالهللينستية القائلة برفع الغناء على الموسيقى الخالصة درجة، فيضع كانط الشِّعر على قمة الفنون ليكون أعلى من الموسيقى؛ نظرًا لقدرة الشعر على تضمن معانٍ محددة، في حين يتعذّر ذلك في الموسيقى، التي هي فن مجرد من المضمون الذهني.

الموسيقى عند شوبنهور فن فريد لا مثيل له؛ لأنه لا يحاكي أي موجود في العالَم، وبالتالي لها استقلالها الخاص عن العالَم وحتى عن الفن. يقول شوبنهور في فقرة كاشفة بذاتها:

إنها الموسيقى، التي تقف فريدةً، منبتّةَ الصلة بكل الفنون الأخرى، وحيث لا نتعرّف فيها على نسخة مكررة لأي كائن قائم في العالم. ولأنها فن شاهق ونبيل إلى حد فائق فإن تأثيرها على الطبيعة العميقة للإنسان عظيم الوقع في المقابل، ولهذا يفهمها الإنسان على وجهَي الشمول والعمق من خلال وعيه الأقصَى كلغة كونية في مجملها

يعتقد شوبنهور أن أهم عناصر الموسيقى الحاسِرة لحجاب الإرادة هو اللحن؛ لأنه هو الذي يناظر تصورات الإنسان وأفعاله. هذا وقد خفض شوبنهور من شأن الهارموني في المقابل، واعتبره تعبيرًا عن مستويات أدنى من مستوى الإنسان في درجات الحياة. إن الشاعر حين يؤلف كلمات الأغنية يقوم بإيهامنا بنوع من التوازي بين الشعريّ والموسيقيّ، وهو وهم بحسب نيتشه؛ لأن جوهر الموسيقى ممتنِع على التعبير الأدبي، كما اتضح في الفقرة المقتبَسة أعلاه. لا يبقى من عمل الشاعر في الحقيقة سوى هذا الإيهام وهذا الترويض للموسيقى كإرادة. الغناء إذن معنى من معاني التدجين التي عرضناها في هذا المقال. هكذا تبدو فلسفة نيتشه معارِضة لتدجين الموسيقى، حين يحجّمها الغناء في تصورات عقليةمنطقية أدبية، وهي التي يراها نيتشه معيقة لحركة الإرادة.

١٣ | مارتن هيدجر

لم يقدّر مارتن هيدجر الخاصية التجريدية للموسيقى من جهة طاقتها التأويلية، بل اعتقد أن الفن مجال لتجلي الكينونة الإنسانية، وهي نظرية معقدة لا مجال لتفصيلها في هذا المقام، لكن المهم منها ها هنا هو أن الشعر عند هيدجر هو التجلي الأهمّ والأسمى للكينونة. “اللغة بيت الكينونة هكذا قال هيدجر. يعتقد هيدجر مؤسس الوجودية الإلحادية، وأحد أهمّ مؤسسي فلسفة التأويل المعاصرين، إن لم يكن أهمهم من زاوية إعادة إركاز أُسس فلسفة التأويل، أن اللغة تتكلم حين نريد أن نعبّر عن معنى ما، ثم لا نجد الكلمة المناسبة التي (نحفظها) تلقائيًا للتعبير عنه. هنا نضطر إلى أن نصمت ونحن نتكلم، وحين نصمت ونحن نتكلم نستمع إلى اللغة نفسها وهي تتكلم. وبالتالي يبدو أن هيدجر قد اعتقد في وجود مستقل للغة، في مقابل مَنْح شوبنهور استقلالاً صريحًا للموسيقى. أما المجال الأساسي الذي يظهر فيه تكلُّم اللغةِ بحسب هيدجر فهو الشعر؛ ففي الشعر نعيد بناء اللغة بشكل حر، بينما نضطر في النثر غالبًا إلى استعمال تعبيرات مألوفة، دون تلاعب بالبنى النحوية، أو الصرفية؛ لأن هدف النثر توصيل فكرة محددة، كما في المقال، أو رصد تسلسل معين من الأحداث، كما في القصة والرواية.

١٤ | الماركسية السوفييتية

عرضنا في مقالنا الأسبق ما وراء الموسيقى أزمة شوستاكوفتش مع السلطات في الاتحاد السوفييتي، وكيف أن سيمفونيته الرابعة بالذات قد واجهت نقدًا لاذعًا في صحيفة البرافدا، لسان الحزب الشيوعي، لدرجة سحبها من برنامج أوركسترا ليننجراد الفيلهارموني لشهر ديسمبر عام ١٩٣٦. لم تعرض السيمفونية رسميًا إلا عام ١٩٦١ بعد وفاة ستالين ببضع سنين. السياسة الموسيقية، تلك الخطة التي وضعها الاتحاد السوفييتي لتطوير الموسيقى، كانت واحدة من أكبر محاولات تدجين الموسيقى خارج إطار الدين، فبرغم ما حققته هذه الخطة فعلاً من أهداف، في تحويل الموسيقى الكلاسيكية إلى ثقافة عامة لدى رجل الشارع وربة المنزل السوفييتيين، إلا أنها أرهبت الموسيقيين، وقيدت إبداعهم. لكن لا ينبغي أن نبالغ في مساوئ هذه السياسة؛ نظرًا لأن أغلب الانتقادات الموجهة ضدها صدرت بالأساس من قبَل المعسكر الأبيض، أو السوفييت الهاربين إلى الغرب، في نوع من الدعاية السياسية المضادّة.

جوهر هذه السياسة النظري هو الأهم في هذا المقام. وإذا كان كونفوشيوس قد تآلف مع الشيوعية الماوية في الصين، ليصنع مزيجًا من الماركسية التراثية أو الكونفوشيوسية المحدثة، فإن ذلك لسبب هام هو أن كلاً من الشيوعية الشمولية (كصورتها في الاتحاد السوفييتي أو الصين، وليس في نسبتها إلى ماركس تحديدًا) وكونفوشيوس يقدّمان برنامجًا شموليًا للدولة، يقوم على استبعاد دور الدين والتأكيد على أهمية العوامل الاجتماعية في تطور الظواهر الإنسانية. هذا التصور يرسي الفن على قواعد الأخلاق والمصلحة العامة. وهي العلاقة نفسها بين الفن والمجتمع التي رأيناها بوضوح عند أفلاطون.

حاول الماركسيون تفسير الموسيقى اجتماعيًا طبقًا للمادية التاريخية؛ حيث نظروا إليها باعتبارها إنتاجًا طبقيًا، فإذا كان باخ وموتسارت معبّرين عن المجتمع البرجوازي المستقرّ في أوروبا المتحوِّلة من الإقطاع إلى الرأسمالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فإن موسيقيين تالين في القرن العشرين كبوب مارلي وجون لينون قد جسّدا الحلم بالتحرر العالمي. وقد امتدّ تحليلهم بناءً على علاقات الإنتاج إلى صناعة الآلات الموسيقية واستعمالها، فشيوع استعمال البيانو مثلاً بدلاً من الأرغن والهاربسيكورد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر فصاعدًا كان له أسباب اقتصادية، كما أسباب فنية[Mtooltip description=” Ibid, p. 89″ /].

لكن الماركسية في أصلها فلسفة غير شمولية في الدولة، قد اتخذتْ من نموذج كوميونة باريس نموذجًا عند ماركس وإنجلز، غير أنها تحولت في التطبيق إلى ماركسية الدولة، وفقدت أساسها الثوريالتحرري. وكما نرى أعلاه في أمثلة التحليل الاقتصاديالاجتماعي للموسيقى، فإن الموسيقى الماركسية إن جاز التعبيرذات وجه تحرري ممكن، رغم أنها تستجيب إلى دواعي الصراع الطبقي، بل لأنها تستجيب له؛ فالطبقات إما مسيطِرة أو مناضلة من أجل تحررها عند الماركسيين.

ثالثًا | طبيعة العلاقة بين الموسيقى والدين والفلسفة (نتائج ختامية)

يمكن مما سبق استخلاص اتجاهات أساسية في فلسفة الموسيقى على عدة محاور:

محور أصل الموسيقى: بعض الاتجاهات اعتبرت الموسيقى إنتاجًا بشريًا وهو الاتجاه الإنساني، دون أن تنسبها إلى مصدر مقدس ميتافيزيقي، مثل كونفوشيوس وبوذا ودامون وسقراط وأفلاطون وأرسطو والمثاليين الألمان وشوبنهور ونيتشه. بعض الاتجاهات اعتقدت في أصلها المقدس، وهو الاتجاه التأليهي، مثل الهندوسية والفيثاغورية وفيلون وأفلوطين. عند هذا الاتجاه الأخير تسبق الموسيقى وجود الإنسان، وتنتمي إلى عالم مفارق، وليس من قبيل الصدفة أن يكون هؤلاء الأربعة سابقو الذكر مباشرةً سالكين في طريق التصوف العامّ: الاتحاد بالبراهما في الهندوسية، التصوف الفيثاغوريالأورفي، التصوف اليهودي عند فيلون، طريق الفيض العكسي عند أفلوطين، بما يدلّ على أن افتراض الأصل المقدس للموسيقى غالبًا ما يتمّ في سياق التصوّف وفكرة الحلول.

محور علاقة اللاهوت بالموسيقى: هناك اتجاه موسيقى اللاهوت كما رأيناه في أوضح صوره ربما عند فيلون؛ حيث يتم تأويل الموسيقى جزئيًا عن طريق اللاهوت، وهو اتجاه مرتبط بـالاتجاه التأليهي أعلاه بصدد أصل الموسيقى. كما أن هناك اتجاهَ لاهوت الموسيقَى، وهو تأويل الإله والدين حسب الموسيقى، أي عكس موسيقى اللاهوت، وقد عرضنا فكرتنا له باختصار في المقال السابق التأويل الموسيقي للعالم. ورغم أن أيًا من شوبنهور أو نيتشه قد قدم تأويلاً موسيقيًا للإله، فإنهما أقرب للاهوت الموسيقي من موسيقى اللاهوت بوضوح.

أخيرًا، محور التدجين والتوثين: بعض الاتجاهات التي رأيناها قد حاولت تدجين الموسيقى بفرض حد خُلقي أو عقائدي عليها، كما عند كونفوشيوس وبوذا وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأغلب تاريخ الديانات الإبراهيمية الثلاث وأخيرًا الشيوعية السوفييتية. وهو اتجاه براجماتي في التعامل مع الموسيقى والاستفادة منها في الحدود المناسبة فقط. كما أن بعض الاتجاهات وثّنتْ الموسيقى بافتراض طبيعة مقدّسة لها، وهي بداهةً الاتجاهات التأليهية بصدد أصل الموسيقى أعلاه، وهي اتجاهات غير براجماتية في التعامل مع الموسيقى غالبًا، أو على الأقل أقل براجماتية كما وجدنا عند فيلون وأفلوطين.

فإذا حاولنا تقديم قراءة تركيبية لهذه المواقف، يمكن لنا الوقوف على التيارين التاليين:

تيار تأليهيتوثيني: يقدّم نوعًا من موسيقى اللاهوت.

تيار إنساني: قد يحاول تدجين الموسيقى (أفلاطون مثلاً)، أو تحريرها (شوبنهور مثلاً)، ورغم أن الأخير لم يقدم اللاهوت الموسيقيّ فإن اللاهوت الموسيقي يمثّل امتدادًا له بشكل ما.

يتضح في هذه النتائج الأخيرة أن كلاً من التدجين والتوثين لم يقدما تأويلاً موسيقيًا للعالَم أو لاهوتًا موسيقيًا؛ فالتدجين يحجّم الموسيقى بطبيعة الحال في الفن، الذي تسيطر عليه الدولة والأخلاق والدين، أما الاتجاه التوثيني فقد ظل مقيَّدًا بعقيدة من العقائد، كالهندوسية أو الأورفية أو التصوف الأفلوطيني، مما ترك الموسيقى جزئيًا على الأقل مادةً للتأويل لا منظورًا له. وبالتالي يحاول اللاهوت الموسيقي تجاوز كل من الموقفين التدجيني والتوثيني، بتأسيس منظور موسيقي لتأويل الطبيعة وما بعدها.

كما يتضح أن أهم أسباب الرقابة على الفن عمومًا، والصدام بين الموسيقى من جانب وكل من الدين والفلسفة من جانب آخَر خصوصًا، ترجع إلى سببين رئيسيين:

الأول، الأخلاق: فالموسيقى تستلب الانتباه وتؤثر على النفس البشرية بأشدّ مما يحقق فن آخَر من الفنون الأربعة الأساسية، ومن هنا حاول كل من الدين والفلسفة ممارسة السيطرة على الموسيقى، والتحكم فيها، كوسيط للتحكم في الأخلاق وتربية النشء. وتتصل السياسة بالأخلاق على مستوى التنظير في النظُم الشمولية.

الثاني، العقيدة: فقد خشي رجال الدين من سحر الموسيقى، واعتقدوا أن كل ما يصرف انتباه الإنسان وشعوره عن موضوعات الدين إمّا حرام أو واجب السيطرة عليه.

بصفة عامة، يمكن القول إن هذه الأنماط من التصادم بين الأنشطة البشرية النظرية الأساسية: الفلسفة، الفن، الدين، العلم، تحدث حين تظهر الشمولية في مذهب من المذاهب في الفلسفة أو الدين تحديدًا، وتنتشر؛ نظرًا لأن الهدف الأول للشمولية هو بسط النفوذ على كل صيغ التفكير والفعل الممكنة، استهدافًا للخلاص الأخروي، أو المصلحة الاجتماعية العامة، أو الاثنين معًا. لذلك يمكن اعتبار هذا المقال أيضًا بحثًا في العلاقة بين الموسيقى والشمولية بعامّة.

في المقالات القادمة نتوسع أكثر في اللاهوت الموسيقي، وفي أوجه التأويل الموسيقي للعالَم، محاولةً لتأسيس تراث عربي فلسفي في الموسيقى، ولبحث مدى استقلال الموسيقى عن الفن، باعتبارها كينونة مستقلة، وكائنًا متميزًا، لا يجعل عالمنا أجمل فحسب، فهذه ليست مهمته، بل يُرينا عالمًا آخَر غير منظور، رغم أنه موضوعي وحقيقي كالعالم المرئي، إذا دخلناه صرنا أقل قدرة بكثير على الانسجام مع عالمنا اليومي، الذي سيصير أكثر رمادية وصمتًا، لا نكاد نجد فيه ما يُسمَع أو يُرَى، ولكن مَن قال أن الموسيقى لا تحتاج إلى شجاعة خاصة، كشجاعة الانتحار؟


الغلاف تفصيلة من لوحة حديقة المتع الدنيوية (١٥٠٠ م) لـ هايرونومس بوش.

المصادر والمراجع

  1. ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم: مجموع فتاوَى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المملكة العربية السعودية، ١٤١٥ ه.

  2. ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد: المحلى، إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، ١٣٥١ هـ.

  3. سمحة الخولي: القومية في موسيقى القرن العشرين، سلسلة عالم المعرفة، عدد رقم ١٦٢.

  4. كريم الصياد: نظرية الحقّ، دراسة في فلسفة القانون والحقّ الإسلامية، القاهرة، ٢٠١٥.

  5. مصطفى النشار : تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، دار قباء، القاهرة.

  6. Aristotle, Metaphysics, trans. by W. D. Ross, Random House, New York, 1941.

  7. Aristotle, Politics, trans. by Benjamin Jowett, Clarendon Press, Oxford, 1920.

  8. Bhikkhu Bodhi (Editor), In the Buddha’s Words: An Anthology of Discourses from the Pāli Canon, Wisdom Publications Inc., USA, 2005.

  9. Clement of Alexandria, Christ the Educator, in: (The Fathers of the Church, Volume 23), Catholic University America Press.

  10. David E. Cartwright, Historical Dictionary of Schopenhauer’s Philosophy, Rowman & Littlefield, London, 2016.

  11. David T. Runia, Helena Maria Keizer (Editors), Philo of Alexandria: An Annotated Bibliography, 1987-1996, Brill Academic Publishers; 2000.

  12. Francis Macdonald Cornford, The Republic of Plato, oxford university press, 1970-3.

  13. Friedrich Nietzsche, Die Geburt der Tragödie. Oder: Griechenthum und Pessimismus, Leipzig, C. G. Naumann Verlag, 1907.

  14. George G. M. James, Stolen Legacy: Greek Philosophy is Stolen Egyptian Philosophy.

  15. Glikman, Isaak, Story of a Friendship, The Letters of Dmitry Shostakovich to Isaak Glikman, trans. Anthony Phillips, 2001.

  16. Guy L. Beck (Editor), Sacred Sound: Experiencing Music in World Religions, Wilfrid Laurier University Press; Ontario, Canada, 2006.

  17. Guy L. Beck, Sonic Liturgy: Ritual and Music in Hindu Tradition, University of South Carolina Press, 2012.

  18. Guy L. Beck, Sonic Theology: Hinduism and Sacred Sound, University of South Carolina Press, 2009.

  19. Hegel, Georg Wilhelm Friedrich, Ästhetik, herausgegeben von Friedrich Bassenge, Aufbau-Verlag Berlin, 1955.

  20. Heidegger, Martin, “Brief über den Humanismus“ (1947), Wegmarken, Frankfurt am Main, 2004.

  21. Heidegger, Martin, Unterwegs zur Sprache, die Gesamtausgabe, Band 12, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 1985.

  22. Immanuel Kant, Kritik der Urteilskraft, Verlag von Felix Meiner, Leipzig 1922.

  23. Ji Yue, Confucius on Music Education, Nebula 5.1/5.2, June 2008.

  24. Jutta Leonhardt, Jewish Worship in Philo of Alexandria, Mohr Siebeck, 2001.

  25. Karl Raimund Popper, The Open Society and its Enemies, two volumes.

  26. Kathleen Freeman, The Pre-Socratic Philosophers, Oxford , Basil Blackwell, 1946.

  27. Lin Yutang (Trans. & Editor), The Wisdom of Confucius, The Modern library, 1938.

  28. Louis H. Feldman, Studies in Hellenistic Judaism, Brill Academic Publishers; 1993.

  29. Oliver Strunk, Source Readings in Music History, W. W . Norton & Company. INC. New York, 1950.

  30. Plato, The Republic, trans. by Benjamin Jowett, Oxford : Clarendon Press, 1888,.

  31. Plotinus, The Enneads, trans. by Stephen MacKenna, Faber and Faber Limited.

  32. Raymond L. Weiss, Maimonides’ Ethics: The Encounter of Philosophic and Religious Morality, University of Chicago Press; 1991.

  33. Regula Burckhardt Qureshi (Editor & Contributor), Music and Marx: Ideas, Practice, Politics, Routledge; 2015.

  34. Schopenhauer, Arthur, Die Welt als Wille und Vorstellung, Erster Band, Berliner Ausgabe, 3. Auflage, 2014.

  35. Siegmund Levarie, Philo on Music, The Journal of Musicology, Vol. 9, No. 1 (Winter, 1991).

  36. St. Augustine, The Confessions, translated and annotated by J. G. Pilkington

  37. Thomas A. Regelski and J. Terry Gates (Editors), Music Education for Changing Times: Guiding Visions for Practice, Springer; 2010, London, New York, 2012.

  38. Thomas Aquinas, Summa Theologica, Part II-II (Secunda Secundae), trans. by Fathers of the English Dominican Province, Benziger Brothers, New York.

  39. Wladyslaw Tatarkiewicz, History of Aesthetics, Vol. I, Ancient Aesthetics, Ρwn—Polish Scientific Publishers, Warszawa, Poland, 1970.

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف