إنت بترشد يا قلب اخوك | مأزق ديسات الراب المصري

مقالات - كتابة: عمر غنيم - ٢٠٢٥/١١/١٨
إنت بترشد يا قلب اخوك | مأزق ديسات الراب المصري
تحميل...

لدى ظهوره منذ فترة مع اليوتيوبر محمد عبد العاطي في برنامج مع كامل احترامي، أطلق زياد ظاظا شرارة جدل داخل مشهد الراب المصري، حين أجاب على سؤال عن أسوأ تراك راب سمعه قائلًا: “أي حاجة لأبو الأنوار فظيعة”. لم تمر الجملة مرور الكرام، إذ تبعها تبادل للستوريهات والردود بين ظاظا وأبو الأنوار على إنستجرام.

بعد فيرس من ظاظا في تراك لصديقه كينجو أشار فيه إلى أبو الأنوار بأسلوب ساخر، رد الأخير بتراك ديس صريح بعنوان 8 غرب. سرعان ما تحول الخلاف إلى سلسلة تراكات متبادلة بين الطرفين، انضم إليها بعض المقربين مثل ترك وحسين، لتتسع الدائرة وتتحول إلى معركة مفتوحة على أكثر من مستوى.

ما يميز هذا الخلاف أو البيف أنه ليس حدثًا معزولًا، بل امتداد لنمط متكرر في مشهد الراب المصري حيث تتحول هذه المنافسة إلى مواجهات علنية تتغذى على الاستفزاز والتفاعل الجماهيري ويتغذى عليها ويحفزها جمهور الراب.

أصبحت مثل هذه البيفات جزءًا من ديناميكية المشهد تستخدم أحيانًا كوسيلة لإثبات الهيمنة أو تجديد الزخم حول أسماء معينة، لكنها تكشف أيضًا عن هشاشة المشهد ككل وعدم وعيه بموقعه من السياق الاجتماعي والسياسي المصري الذي يختلف كثيرًا عن المشهد الأمريكي على سبيل المثال.

ثقافة البيف أو الديسّات عنصر متجذر في تاريخ الهيب هوب، خاصةً في الولايات المتحدة؛ وبما أن المشهد الأمريكي يظل المرجع الأساسي لهذه الجنرا، فقد انتقلت عناصره المختلفة إلى المشاهد الأخرى، حتى وإن كانت بعض تلك العناصر غير مناسبة أو غير منطقية في سياقات مختلفة، وهو ما ينطبق بوضوح على المشهد المصري.

تجسد السلسلة الأخيرة من الديسات بين زياد ظاظا وأبو الأنوار هذه الفكرة وتؤكدها، إذ تكشف عن تصور مشوه لدى الرابرز والجمهور وصفحات الراب والفنانين حول موقع مشهد الراب المصري وبيئته.

من المهم هنا المقارنة بين المشهد المصري والمشهد الأمريكي لفهم ثقافة البيف نفسها. المشهد الأمريكي واسع ومتنوع، وغالبًا ما تكون هذه الصراعات جزءًا من نزاع إقليمي بين الشرق والغرب (نيويورك ولوس أنجلوس)، وهما المنطقتان الأكثر تأثيرًا في تاريخ الهيب هوب الأمريكي. كانت أشهر معارك الراب، مثل توباك وبيجي سمولز أو ذا جيم وفيفتي سنت، في أصلها صراعات إقليمية قائمة على فرض الهيمنة. بينما كانت مواجهات أخرى مثل إمينيم وماشين جان كيلي انعكاسًا لصراع بين أجيال مختلفة داخل الراب. في هذا السياق، تكون البيفات منطقية لأنها جزء من بنية أوسع وصراع حقيقي له مبرراته.

أما في مشهد الراب المصري، فلا وجود فعلي لصراعات إقليمية أو جيلية، فالمشهد كما نعرفه اليوم، والذي بدأ فعليًا عام ٢٠١٦ تقريبًا، نشأ كحركة جماعية تمثل صوتًا بديلًا عن الموسيقى السائدة. غالبًا ما كان الرابرز يحملون رؤى متقاربة، ما يجعلهم  بالقول المصري في مركب واحدة.

من هنا تأتي المفارقة في ديس 8 غرب لأبو الأنوار، الذي تضمن في رأيي أحد أغرب التصرفات التي صدرت عن رابر مصري على الإطلاق، حين ناشد أبو الأنوار نقابة المهن الموسيقية التدخل لإيقاف زياد ظاظا بسبب تجاوزاته. يمكن وصف هذا التصرف في سياق الراب بالإرشاد، وهي صفة منبوذة في ثقافة الهيب هوب وخارجها عمومًا، بل تحدّث عنها أبو الأنوار نفسه في تراكات سابقة.

لم يدرك أبو الأنوار أن ما كتبه يعني ضمنيًا أنه يطلب من النقابة إيقافه هو أيضًا، فالنقابة لا تفرّق بينه وبين ظاظا بأي شكل، ولا تعترف أصلًا بفوارق فنية أو جيلية بينهما؛ فالراب المصري رغم نجاحه التجاري الواسع، ما زال بالنسبة للمؤسسة الموسيقية المصرية ابن البطة السودة في المشهد الموسيقي الأوسع، ولا يُؤخذ بجدية حتى اليوم.

يزيد من غرابة الموقف أن كلا الرابرز صديقان لليوتيوبر محمد عبد العاطي الذي ذكرناه في بداية المقال، والموجود حاليًا في السجن بتهمة “تهديد قيم الأسرة المصرية” بسبب محتواه في البرنامج ذاته الذي استضاف زياد ظاظا.

بالنظر إلى سلاسل البيفات المصرية في السنوات الأخيرة، يمكن القول إنها مجرد مشاهد عبثية تشبه عراكًا طفوليًا في فناء مدرسة، لا تحتوي إلا السباب والتجريح. إذ تفتقر لأي أساس فني أو جمالي، ولا تعكس صراعًا حقيقيًا سواء جِيليًا أو إقليميًا أو حتى فكريًا. حتى الإشارة إليها كمعارك فنية محض مبالغة. لكن جمهور الراب، خصوصًا الأصغر سنًا، يتغذى على هذه الخلافات الوهمية ويطالب بها باستمرار، لا لشيء سوى للتسلية؛ غير أن جهل الجمهور بموقع هؤلاء الفنانين داخل المشهد لا يبرر أن يقع الفنانون أنفسهم في السذاجة ذاتها.

لم يقدم أيّ من زياد ظاظا وأبو الأنوار في ديساتهم وجهة نظر واضحة أو مضمونًا فنيًا ذا قيمة، بل اكتفى كل منهما بالشتائم والمعايرة والاستعراض ليتفاقم الأمر إلى الإرشاد والتشهير دون مراعاة العواقب الأمنية لذلك. من ناحية أخرى جاءت التراكات ضعيفة من حيث الأداء والإنتاج والمحتوى، ولا أتصور أن أحدًا قد يرغب في سماعها أكثر من مرة.

حاول زياد ظاظا في هذا البيف – كعادته – اقتباس أسلوب رابر غربي، فاستلهم استراتيجية كندريك لامار في صراعه الأخير مع دريك، القائم على إصدار سلسلة من الديسات المتتالية لإغراق الخصم وتكبيله. بل تجاوز ذلك إلى اقتباس نفس الاتهام الذي وجهه كندريك لدريك بالبيدوفيليا (وهي شائعة متداولة عن دريك)، ليكرر الاتهام نفسه ضد أبو الأنوار دون أي دليل، فقط بهدف تشويه صورته.

تحمل هذه الاتهامات بطبيعتها في السياق المصري تبعات قانونية خطيرة، وقد حذر المحامي الفني خالد متولي عبر صفحته على إنستجرام من سذاجة مثل هذه التصرفات التي قد تؤدي إلى عواقب جسيمة للطرفين.

لا شك أن المشادات الكلامية و”الدهس على الخصوم” من الثيمات الأساسية في الراب، وقد تكون أحيانًا ممتعة وجذابة عندما تأتي في سياق فني قائم على فكرة أو رؤية. لكن حين تتحول إلى ما رأيناه مؤخرًا،  تصبح سيركًا حقيقيًا. على فناني الراب المصريين أن يدركوا أنهم جميعًا في مركب واحد، وأن مثل هذه المعارك الوهمية لا تفيد أي طرف، بل تضر بالجميع، وتشوه صورة المشهد ككل في سياق فني محافظ وسياق سياسي أكثر محافظة.

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف