وصف أصدقاء لي حضروا عروضاً حية لجايكا بأنها شديدة، صاخبة، ممتعة، يغمر فيها جايكا حواس الحضور سمعياً وبصرياً، وأن له حضوراً قوياً على الخشبة يعطي الأغاني بعداً جسدياً معدياً. يعرض جايكا على المسرح برفقة عازفي إلكترونيات يبنون من ورائه خطوطه الصوتية المعقدة بإتقان، ليبنوا مع جايكا زخماً نلاحظه في أغان مثل نكل دستر، تجعل مشاهدته حياً تجربة مجزية جداً.
بدأ جايكا مسيرته الموسيقية، نجح بنقل فنه من خلفيته في الفنون البصرية إلى الموسيقى كأنه ينقل أثاثاً من بيت لآخر. أضاف هذا الانتقال لموسيقى جايكا حساً بصرياً ديناميكياً أصبح أحد الصفات المحددة لها. حيث ترسم تفاصيل الموسيقى من تلون أو تشابه الأصوات، ومن المزج الذي يمنح الأصوات أو يحرمها حرية التحرك باستقلال، ومن الآلات والعينات الصوتية المستخدمة والطبقات الصوتية وتداخلها التي توحي بمزاج نفسي معين أو آخر، ترسم هذه التفاصيل على مخيلة المستمع صوراً سوداوية تلائم الطابع القوطي Gothic الذي غالباً ما يلتزمه جايكا في أعماله البصرية.
أصدر جايكا منذ عشرة أشهر أغنيته الأولى بلاسفمر ثم ألحقها بفيديو. تمنحنا كثرة التقابلات بين الفيديو والأغنية نظرةً على الجسر الذي عبره جايكا من وسط فني لآخر. أول تقابل يسهل على المستمع / المشاهد ملاحظته هو الطابع القوطي السوداوي، حيث صوِّر الفيديو بالأبيض والأسود بكثير من العناصر القوطية من ثياب ودماء ومساحيق بيضاء على جسد جايكا ووجهه، بالمقابل اعتمدت الأغنية على أسطر إيقاعية وعينات صوتية ذات طابع طقوسي وأصوات قليلة التلون. ثاني التقابلات هو ازدحام كل من الأغنية والفيديو بعناصر صوتية وبصرية عديدة يظهر بعضها ويختفي باستمرار على طول الأغنية، كما تتشابه الموسيقى مع الفيديو من حيث الحركة، حيث تتغير المشاهد في الفيديو بوتيرة سريعة نسبياً بينما تستمر حركة جايكا باستمرار وبطء بين المشاهد، البطء الذي يلائم إيقاع الأغنية ويتماشى مع طابعها السوداوي غير العنيف. حرص جايكا في المقابل على عزل الأصوات عن بعضها ليترك لها حريات الحركة بأريحية، الأمر الذي نسمع أثره بوضوح على طول الأغنية. حتى مستوى التشوش البصري الناتج عن تخفيض الإضاءة بشكل متعمد في بعض المشاهد يطابق انخفاض الجودة التسجيلية في بعض المقاطع كبداية الأغنية.
إضافةً لهذه التقابلات أضافت الأغنية عناصر جديدة تميز موسيقى جايكا عن أعماله البصرية، أبرزها العنصر الاحتجاجي الصريح والمحدد في الكلمات: “هل نتحدث عن الفتية السود؟ / كيف يمشون في الشارع ويتعرضون لإطلاق النار / وكيف ستتركون رجال الشرطة بلا حساب / يغسلون الدم عن أيديهم بلا عار”. يقول جايكا إن هذه الاحتجاجية وجدت طريقها لموسيقاه بشكل طبيعي غير مقحم، إذ أنه ابن بركستون منطقة في جنوب غرب لندن لها تاريخ من الصدامات مع الشرطة، أبرزها عصيان مدني في الثمانينات .
شيء آخر يمكن ملاحظته في الأغنية، وسيتكرر ليصبح عنصراً محدداً لموسيقى جايكا هو استعصاؤها على التصنيف. حتى مؤخراً لم يكن جايكا متعاقداً مع شركة تسجيل، فبينما لا يجد مشكلة في إنتاج أعمال يستحيل تصنيفها ضمن أي قالب موسيقي تقليدي، تستصعب ذلك شركات التسجيل. “لا يعرف الناس كيف يتعاملون مع أعمالي (…) إذا كنت شاباً أسود البشرة فمن المفترض أن تكون منخرطاً بالجرايم أو الريجي أو الآر آند بي أو موسيقى متعالية فارغة لن يشغلها في محله صاحب صالون حلاقة في بريكستون.”
عندما صدر مكستايب جايكا الأول ماشين، الذي ضم أغنية بلاسفمر، تبين أن هذا الاستعصاء عن التصنيف لم يقتصر على أغنية واحدة، والأهم من ذلك أنه نتيجة طبيعية لحاجة فنية بحتة. يجمع أسلوب جايكا بين ملامح عدة أصناف موسيقية سواءً من الجانب الآلاتي أو الغنائي أو على مستوى البنية، حيث نرى ملامحاً واضحة للهيب هوب والتريب هوب والغرايم والغرانج والريجي والآر آند بي، تظهر في أغانٍ وتختفي في أخرى. المثير للاهتمام أن هذا الاستخدام الكولاجي لم يقُد إلى نتيجة هجينة تفصح باستمرار عن كونها ناتج مزج عدة أصناف، بل إلى صنف موسيقي جديد متماسك ذو استمرارية تمتد لتشمل كافة أغاني المكستايب دون أن تحد من تنوع واختلاف هذه الأغاني.
بعد أقل من نصف عام أصدر جايكا مكستايبه الثاني سيكيوريتي Security الذي سجله بالتعاون مع عدة موسيقيين. سلطت تعاونات جايكا الضوء على مصادر إلهامه التي بدأت تظهر ميلاً أكثر وضوحاً نحو الموسيقى الإفريقية، كما ساهمت هذه التعاونات بنحت العمل وإكسابه المزيد من الغنى والتنوع. في ثالث أغاني المكستايب بوتا، تعاون جايكا مع فنان الهيب هوب والريجي Serocee، ومع Miss Red التي يتراوح أسلوبها بين الريجي والدانس-هول الثمانيني، لتأتي النتيجة محتويةً لهذه الأصناف الثلاثة بالإضافة لاستخدام ثقيل للبايس. في PMVD تعاون جايكا مع موسيقي الأفروهاوس والأفروبيت ذو الأسلوب القريب Mista Silva، ليقدم عملاً يعتمد أكثر على الصوت الإيقاعي الأفريقي الثقيل بشكل يخلق حالة مزاجية كئيبة وقلقة. وفي مثال أخير تعاون جايكا في وورلد ستار مع المغني Bipolar Sunshine الذي يأتي بخلفية متنوعة بفضل فرقته السابقة Kid British تشمل الريجي والهيب هوب والروك المستقل.
بهذه التعاونات نجح جايكا في Security بأن يقدم استمراريةً لأسلوبه في ماشين بعد تأصيل هذا الأسلوب وزيادة غناه وكثافته، الاستمرارية المنطقية إذ أن العملان يفصلهما ست أشهر فقط. استمر أسلوب جايكا البصري بالاحتداد في الفيلم القصير الذي تلى صدور سكيوريتي وحمل اسمه. للأسف لا توضح الفيديوهات القليلة المتاحة على الانترنت لعروض جايكا الحية في لندن استثمار قدراته البصرية في هذه العروض، الأمر الذي قد يعود لضعف في الإمكانيات المالية نظراً لكلفة وتعقيد عروض مماثلة.
لم يمر بعد نصف عام على صدور سكيوريتي، لكن جايكا عاد لإصدار أغنية 3D التي أعلن بها منذ شهر عن انضمامه لتسجيلات وارب ريكوردز. تحمل الأغنية صوتاً أكثر إلكترونيةً وإيقاعيةً وقابليةً للرقص قد تكون حالة منفردة أو بداية لتوجه أسلوبي جديد. في الحالتين لا يزال جايكا في مرحلة إبداعية غنية وخصبة، تستحق المتابعة باهتمام، خصوصاً لو استمر بنقل أعماله البصرية إلى عروضه الحية كما فعل في حفله ضمن مهرجان مسافات في لندن. لاستمتاع بحفل جايكا وشدته ننصحكم بتحميل والاستماع لسكيوريتي مجاناً من موقع جايكا الرسمي وتفقد الروابط أعلاه للموسيقيين الذي تعاون معهم في سيكيوريتي.
يعرض جايكا في اليوم الثاني من مهرجان مسافات في القاهرة، والذي يستضيفه نادي شهرزاد في وسط البلد في ٢٢ أيلول / سبتمبر الجاري